logo
إستراتيجيات صناعة الجهل

إستراتيجيات صناعة الجهل

الغد٠٧-٠٥-٢٠٢٥

استقر في وجدان العامة، وحتى عند كثير من العلماء المعاصرين، افتراض مفاده أن باب الاجتهاد تم إغلاقه منذ نهاية القرن الثالث الهجري، وهو افتراض مثّل 'منطقة راحة' للسلطة بفرعيها؛ السياسية والدينية، ما أدى إلى استتباب حالة التحالف بينهما.
اضافة اعلان
وفي واقع الأمر فإن باب الاجتهاد لم يغلق أبدا، بل ظل قائما، وقد تطور في فترة ما بعد القرن الثالث الهجري، لكن الذهنية العربية والإسلامية تغيرت كثيرا، ومن باب أولى أن نقول إنها نحت منحى 'أسطوريا'، مبتعدة عن الجدل العلمي لمصلحة حالة من الترهل الفكري الذي بدأ في رسم مسار صناعة الجهل وتعميمه في العالم الإسلامي ككل، وهي الحالة التي ما نزال نعيشها حتى اليوم، والتي أسهمت في تعطيل جميع مظاهر الازدهار الفكري والتنمية المجتمعية.
وإذا أردنا أن نلقي مزيدا من الضوء على معضلة العقل العربي المستقرة اليوم، فربما من المفيد العودة إلى المفكر مالك بن نبي في تنظيراته لـ'إنسان ما بعد الموحدين'، وهو الذي استغرق كثيرا في دراسة الحالة الإسلامية، وتمظهراتها المميزة، ولم يعمد إلى التساهل في التصنيف، خلافا لكثيرين لجأوا إلى إمساك العصا من المنتصف. الإنسان في الحضارة الإسلامية لم يكن واحدا في نظرية ابن نبي، فثمة بنية فكرية ثقافية بدأت بالظهور في أعقاب انهيار دولة الموحدين في الأندلس، وسمت عالمنا الإسلامي بأكمله بالانحطاط والتخلف، فـ'إنسان ما بعد الموحدين'، وفق ابن نبي، هو الذي يعيش بعد 'هجرة الحضارة'، وفي منطقة 'السكون'، حيث يفقد الفعل الحضاري شروطه وتتفكك الروابط الجامعة بين الروح والعقل والغريزة.
ولكن، ما كان لهذه الحالة أن تستتب وتزدهر لولا كثير من الممارسات التي كرستها عن طريق السلطة السياسية والدينية، والقوى الفاعلة في المجتمعات، فخلال القرون التي تلت، 'ازدهر' علم صناعة الجهل، عن طريق التعليم والمعلومات المضللة، خصوصا ما يتعلق بـ'إعادة صياغة التاريخ'، وفق ما تقتضيه الحاجة، بالتغيير أو بالتجاهل، وتضخيم الخرافات على حساب التفكير العلمي المنطقي.
لعل أخطر ما تم التواطؤ عليه في هذا السياق، هو 'التأسيس' لسيادة 'التحليل العاطفي'، بدلا من العلمي، واستثمار مشاعر الخوف والغضب، بدلا من الموضوعية والعقلانية، ما يبعد الأفراد والمجتمعات عن المنطق ويعزز الجهل في كثير من الميادين التي تتطلب فهما عميقا يتأسس على التفكير النقدي.
كتّاب كثيرون؛ غربيون وعرب، تناولوا إستراتيجيات صناعة الجهل، وآثار تغييب التفكير النقدي على اتخاذ القرارات، وكيفية تشكيل الثقافات والروايات وإنتاج الجهل في المجتمع، وتأثير السلطة والإعلام والقوى الفاعلة في تشكيل 'الوعي' الجماهيري، أو ما قد يُظن أنه وعي، وتشكيل الثقافة والتعليم وتأثيرهما على الحراك والتدافع الاجتماعي.
لكن، يبقى الدين واحدا من أهم السياقات التي تم استخدامها لفرض حالة 'سكونية' أبقت المجتمعات تحت سيطرة 'الجهل'، وذلك من خلال تأثيراته واحتكاره من قبل طبقات وجماعات معينة، ومن خلال احتكار تفسيراته التي غالبا ما جاءت 'نفعية' لمصلحة حالة سياسية أو اجتماعية، أو لمصلحة تغليب جهة أو جماعة على غيرها، منطلقة كأداة للسيطرة على الفكر وتنميطه ضمن مستويات منخفضة تمنع الأفراد من التفكير النقدي أو استكشاف وجهات نظر جديدة.
في التاريخ؛ نقرأ أنه وبعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على بدء معركة صفين بين جيشي علي ومعاوية ومقتل حوالي 100 ألف مسلم، بحسب ابن كثير، بدأت الكفة تميل لمصلحة جيش علي. عندها؛ تفتق عقل عمرو بن العاص عن أكبر خدعة سيتم تبنيها واستخدامها كثيرا، عندما طلب من معاوية أن يأمر جيشه برفع المصاحف على رؤوس الأسنّة. بعدها دب الخلاف في جيش علي، ورجحت كفة معاوية!
المشكلة ليست في الماضي، بل في الحاضر، فنحن حتى اليوم، ما نزال نرفع المصاحف على رؤوس الرماح كلما أردنا أن نمارس نفاقا اجتماعيا أو سياسيا، فنمنحه لبوسا دينيا باطلا يحشد لنا أتباعا من الحمقى الغوغاء المتعامين عن أهدافنا الحقيقية!

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

هل خالفت سلطة اقليم البترا شروط عطاء النقل الداخلي للزوار؟
هل خالفت سلطة اقليم البترا شروط عطاء النقل الداخلي للزوار؟

رؤيا نيوز

timeمنذ 9 ساعات

  • رؤيا نيوز

هل خالفت سلطة اقليم البترا شروط عطاء النقل الداخلي للزوار؟

اشتكى عدد من زوار البترا عدم توفر وسائط نقل مجهزة لذوي الاعاقة ، بخلاف ما كان مسؤولي البترا يصدرون من تصريحات حول تشغيل باصات بسعات ركاب مختلفة تراعي في تجهيزاتها الشروط اللازمة لنقل الزوار من ذوي الاحتياجات الخاصة. وكانت السلطة قد اعلنت عن احالة عطاء تشغيل باصات نقل السياح والزوار داخل الاقليم على شركة نقل ، رغم عدم التزامها بشروط العطاء من حيث سعة الباصات المختلفة ، او الشروط اللازم توافرها لنقل الزوار من ذوي الاحتياجات الخاصة ، بموجب العقد الذي اطلعنا عليه. ولم تراعي الشركة المحال عليها العطاء على ما يبدو ، الالتزام بشروط العقد المبرم في اعقاب احالة العطاء ، والذي نص صراحة على عدد الباصات المطلوب توفيرها وسعة الركاب في كل نوع من الانواع ، والشروط التي لا بد من توفرها وعلى وجه الخصوص نقل الزوار من ذوي الاحتياجات الخاصة. حيث لم توفر الشركة المحال عليها العطاء سوى باصات كوستر سعة 22 راكب وبدون ان تكون مجهزة لنقل الزوار من ذوي الاحتياجات الخاصة. كما ان بعض المسارات المقررة لهذه الباصات تتطلب وجود باصات بقدرة وقوة عزم تؤهلها للسير على الطرق ذات الطبيعة الصعبة في حالات الصعود الى اماكن مرتفعة في البترا. وبرزت عدم قدرة الزوار من ذوي الاعاقة على استخدام الباصات لعدم توفر شروط اساسية فيها. وهو الامر الذي يتنافى مع توجهات الاردن في تقديم كل ما يلزم من خدمات وتسهيلات لذوي الاعاقة في مختلف المؤسسات والاماكن وضمان عدم التمييز. ونستلهم من كلمة جلالة الملك عبدالله الثاني في افتتاح اعمال القمة العالمية الثالثة للإعاقة 'GDS 2025″، التي عقدت في برلين بتنظيم من الحكومتين الأردنية والألمانية والتحالف الدولي للإعاقة في الثاني من نيسان الماضي. حيث اكد جلالته ضرورة العمل المشترك والالتزام واتخاذ الإجراءات لضمان أن يعيش الأشخاص ذوو الإعاقة حياتهم بكرامة وسعادة وأمل. وبين جلالته أن الشمولية لا تقتصر على ضمان إمكانية وصول الأشخاص ذوي الإعاقة لمختلف المرافق، بل تشمل أيضا الاعتراف بالإمكانات الكامنة في كل إنسان، وتوفير البيئة التي يمكن للجميع المساهمة فيها. وهنا يبرز السؤال حول كيفية احالة العطاء على شركة خالفت الشروط الفنية للعطاء ولم تقم بالوفاء بالتزاماتها بتسير باصات بسعة ركاب مختلفة على المسارات المقررة والموضحة في العقد المبرم بين الفريقين. ما يستدعي من الجهات الرقابية الايعاز لادارة سلطة البترا وقف العمل بالاتفاقية الى حين وفاء الفريق الثاني بالالتزامات والشروط المترتبة عليه في العقد. وكان من الواجب عند وضع الشروط الفنية الخاصة في العطاء ان يتم النظر الى توافر باصات بالمواصفات التي طلبتها السلطة فيما يتعلق بخدمة الزوار من ذوي الاحتياجات الخاصة من عدمه في الاسواق من خلال استشارة وكلاء باصات في المملكة او مخاطبة الشركات الصانعة والاستفسار حول ما اذا كان هنالك امكانية لاجراء تعديل على الباصات للوفاء بالشروط. فهل تم احالة العطاء دون التأكد من وجود باصات تتوفر فيها مواصفات خاصة ، ام تمت الاحالة بناء على التزام شركة النقل فقط ، دون وجود ضمانات حقيقية لتحقيق تلك الشروط ، وما لتأثير ذلك على رفع قيمة احالة العطاء وفقا لشروط لم تتوفر على ارض الواقع؟ وفي توضيح من الناطق الاعلامي لسلطة اقليم البترا ردا على استفسارنا حول الموضوع قال : تم استحداث هذه الخدمة في عام 2022 كإضافة نوعية لخدمات الزوار في مدينة البترا، وكمبادرة تهدف إلى تخفيف الازدحام خلال مواسم الذروة السياحية. وقد لاقت هذه الخدمة استحسان الزوار، ولا تزال تعمل حتى تاريخه، ضمن جهود مستمرة تبذلها سلطة إقليم البترا لتقديم أفضل تجربة ممكنة للسياح. تقوم هذه الخدمة بنقل الزوار من البوابة الخلفية – التركمانية إلى مركز الزوار، وقد توسعت لتشمل حالياً الوصول إلى 'القرية الثقافية النبطية' دعماً لترويج منتج سياحي جديد وتيسير زيارته. خدمة نقل ذوي الاحتياجات الخاصة متوفرة في هذا الحقل السياحي ولكن لتعذّر وجودها في كل باص فقد إرتأتْ السلطة فيمن يُرسى عليه قرار الإحالة بأن تكون متوفرة في كل باص من باصات النقل السياحي، على أنها الان متوفرة في باص واحد فقط ويتم الترتيب لهذه الخدمة من خلال طلبها في مركز الزوار وساعة وصول من يحتاجها يجدها في خدمته على بوابة الخروج، ولكن السيارات الكهربائية تحل محلها في نقل هذه الفئة من الزوار من وإلى الموقع على الرغم من توفرها في النقل السياحي. وتجدر الإشارة إلى أنه وضمن المواصفات الجديدة لحافلات النقل السياحي التي سيتم شراؤها من خلال منحة النمو الأخضر، ستُجهز الحافلات لتكون ملائمة لذوي الإعاقة، إضافة إلى تخصيص سيارات كهربائية مجهزة لخدمتهم.

الذي ينتج المعرفة هو الذي يسميها..!
الذي ينتج المعرفة هو الذي يسميها..!

الغد

time١٠-٠٥-٢٠٢٥

  • الغد

الذي ينتج المعرفة هو الذي يسميها..!

كنتُ أفكر بعد الكتابة في مقال سابق عن "الإبستيموسايد"، أو "الإبادة المعرفية" في استهلاكي أنا نفسي للمصطلح المُنتج في الغرب. ولا يتعلق الأمر، كما لا بد أن يكون واضحا، بمعنى مفردتي "إبادة" و"معرفة" العربيتين الأصليتين، وإنما بالمفهوم الناتج عن صك المفردتين في مفهوم واحد يُمكن أن تُكتب عنه مجلدات. لكنني فكرت: كيف يمكن سوى استهلاك المنتجات المفاهيمية الغربية عندما يكون الذي يُنتج المعرفة –مثل كل منتج آخر- هو الذي يُسمّيها؟! اضافة اعلان هذه الحقيقة لا تتحدث عن العلاقة الوثيقة بين المعرفة واللغة فحسب، وإنما تتحدث أيضًا عن البنية التحتية للسلطة التي تحتكر الحق في تمثيل الواقع، وتسميته، وتحديد معناه، وإعادة إنتاجه لغويًا ومفاهيميًا. وقد ارتبط إنتاج المعرفة بمشروع الهيمنة والسيطرة، سواء كان ذلك من حيث المضامين والمناهج، أو –الأهم- من حيث القدرة على التسمية، وتحديد ما يُعتبر "علمًا"، وما يُقصى إلى الهوامش باعتباره أسطورة، خرافة، أو معتقدات "لاعقلانية". وبذلك، لا تكون المعرفة أداة لاكتشاف العالم، بل هي، في عمقها، أداة لإعادة تشكيله وفرض نظام رمزي يُعيد إنتاج علاقات القوة. هكذا لا تعود التسمية فعلا لغويا محايدا، وإنما سلطويا بامتياز، حيث الذي يحتكر سلطة التسمية يمتلك معها القدرة على تعريف الظواهر وتأطيرها ضمن بنى اجتماعية وسياسية مقصودة. ومن التطبيقات المعاصرة وصف حركة تحرر وطنية في الجنوب العالمي بـ"التمرد" أو "التهديد الأمني"، وبذلك تجريدها من مشروعيتها الأخلاقية والسياسية، وتحويلها إلى "حالة أمنية" تستوجب القمع. وعلى النقيض، تمنح تسمية العمليات الاستعمارية بـ"نشر الديمقراطية" أو "تحرير الشعوب" لها غطاءً معرفيا وأخلاقيا يُبرئ الفاعل الاستعماري من المساءلة، ويمنح مشروعه بعدا رساليا مزيفا. مارست القوى الاستعمارية، تاريخيًا، هذا النوع من السيطرة المزدوجة: السيطرة على الأرض والناس، والسيطرة على اللغة والمفاهيم. وامتد مشروعها أبعد من احتلال الجغرافيا إلى إعادة رسم الخرائط، وتسمية الشعوب، وتصنيف الثقافات، وتجريد أنماطها المعرفية الأصلية من الشرعية. كان الاستعمار مشروعًا إبستيمولوجيًا أيضًا، سعى إلى إبادة المعارف المحلية لفرض نموذجه المعرفي بوصفه الشكل الوحيد للعلم والعقلانية. وسمّى نفسه "العالم الأول"، وأُسند لغيره صفة "العالم الثالث"، وعلق "التقدم" على مدى الاقتراب من نموذجه، فيما اعتُبرت كل مخالفة له شكلًا من أشكال "التخلف"، أو "اللاعقلانية"، أو حتى "الإرهاب". كما يحدُث، انخرطت شرائح من النخب العربية –بدافع الانبهار بالغرب أو تحت ثقل الهيمنة الرمزية التي خلّفها الاستعمار وما بعده– في عملية استهلاك وتسويق غير نقديين لتعريفات الآخر. وتم تداول مفاهيم مثل "الحداثة"، و"الاستقرار"، و"الديمقراطية"، و"حقوق الإنسان" كما صيغت في المركز، ليس كمفاهيم نسبية وقابلة لإعادة التأويل، بل كحقائق معيارية يتم بها تصنيف المجتمعات إلى "عقلانية" و"لاعقلانية"، أو "متقدمة" و"متخلفة". وتداولت النخب هذه المفاهيم غالبًا كمحفز على اكتئاب انتحاري سببه القطع بعجز الذات. والبعض اتخذ من العجز المحتوم ذريعة لتثبيط محاولات تغيير الحال وتسليط الضوء على جراح الذين يحاولون للحكم بسفاهة المحاولة وإدانتها -إلى حد إعلان الشماتة الصريحة بدلًا من التعاطف المفتعَل. الآن، تتجلى التبعية المعرفية بأوضح صورها في خطاب بعض النخب عند توصيفها لحركات المقاومة في المنطقة. إنها تستعير مفرداتها من القاموس الاستعماري بالضبط، فتصف المقاومة بـ"الميليشيات الخارجة عن القانون" أو "الجماعات الإرهابية" أو "القوى العبثية" و"المغامرة". والتسويغ هي أن عملها يقوض "الاستقرار" ويهدد "الأمن" يغامر بفقدان "السلام". وهذه أيضا مفاهيم مستوردة مع تأويلاتها المرفقة من منتجها الأجنبي. إنها تعني –حسب منشور الاستخدام المرفق- القبول بالأمور على حالها، كما يقدّرها الآخرون والمصالح المرتبطة بهم للإقليم وأهله. وبدلًا من فهم المقاومة كفعل سياسي وأخلاقي مشروع مبعثه تحرير الإرادة والسعي إلى استعادة السيادة، يتم تقديمها في الخطاب العام كمصدر للتهديد، بحيث تفقد شرعيتها الرمزية والوطنية. وما يتغاضى عنه هؤلاء هو أن المنطقة لم تشهد أمنًا ولا استقرارًا ولا سلامًا منذ أيام الاستعمار المباشر وما تلاه من استمرار الهيمنة الاستعمارية الأجنبية وتبعياتها –ماديا ومعرفيا وثقافيا. المؤسف أن هذا التداول لمصطلحات المستعمر وتعريفاته ليس مجرد انزلاق لغوي بقدر ما هو تعبير عن انخراط أعمق في بنية التبعية المفاهيمية. وتتضاعف سُمّيته حين يصدر عن نخب تعرِض خطابا إصلاحيا أو عقلانيا في ظاهره، لكنه في العمق يبرّر السياسات التي تتماهى مع مصالح القوى المهيمنة، مقابل السماح للذين يطبقونها بـ"الاستقرار" في مراكزهم. من المنطقي أن تقتضي استعادة السيادة امتلاك القدرة على تسمية الذات بمفرداتها الخاصة إذا كانت تريد أن تكون ذات شخصية أصيلة منسجمة مع حقيقتها. ويقتضي التحرر الشامل امتلاك القدرة على إعادة تعريف المفاهيم، وإنتاج معرفة تصف السياق المحلي وتعكس همومه وأحلامه كما تعرفها بالخبرة المباشرة. عندئذ فقط ربما يبدأ العالم العربي مشروعه لاسترداد سلطته المعرفية، واللغوية -والسياسية.

إستراتيجيات صناعة الجهل
إستراتيجيات صناعة الجهل

الغد

time٠٧-٠٥-٢٠٢٥

  • الغد

إستراتيجيات صناعة الجهل

استقر في وجدان العامة، وحتى عند كثير من العلماء المعاصرين، افتراض مفاده أن باب الاجتهاد تم إغلاقه منذ نهاية القرن الثالث الهجري، وهو افتراض مثّل 'منطقة راحة' للسلطة بفرعيها؛ السياسية والدينية، ما أدى إلى استتباب حالة التحالف بينهما. اضافة اعلان وفي واقع الأمر فإن باب الاجتهاد لم يغلق أبدا، بل ظل قائما، وقد تطور في فترة ما بعد القرن الثالث الهجري، لكن الذهنية العربية والإسلامية تغيرت كثيرا، ومن باب أولى أن نقول إنها نحت منحى 'أسطوريا'، مبتعدة عن الجدل العلمي لمصلحة حالة من الترهل الفكري الذي بدأ في رسم مسار صناعة الجهل وتعميمه في العالم الإسلامي ككل، وهي الحالة التي ما نزال نعيشها حتى اليوم، والتي أسهمت في تعطيل جميع مظاهر الازدهار الفكري والتنمية المجتمعية. وإذا أردنا أن نلقي مزيدا من الضوء على معضلة العقل العربي المستقرة اليوم، فربما من المفيد العودة إلى المفكر مالك بن نبي في تنظيراته لـ'إنسان ما بعد الموحدين'، وهو الذي استغرق كثيرا في دراسة الحالة الإسلامية، وتمظهراتها المميزة، ولم يعمد إلى التساهل في التصنيف، خلافا لكثيرين لجأوا إلى إمساك العصا من المنتصف. الإنسان في الحضارة الإسلامية لم يكن واحدا في نظرية ابن نبي، فثمة بنية فكرية ثقافية بدأت بالظهور في أعقاب انهيار دولة الموحدين في الأندلس، وسمت عالمنا الإسلامي بأكمله بالانحطاط والتخلف، فـ'إنسان ما بعد الموحدين'، وفق ابن نبي، هو الذي يعيش بعد 'هجرة الحضارة'، وفي منطقة 'السكون'، حيث يفقد الفعل الحضاري شروطه وتتفكك الروابط الجامعة بين الروح والعقل والغريزة. ولكن، ما كان لهذه الحالة أن تستتب وتزدهر لولا كثير من الممارسات التي كرستها عن طريق السلطة السياسية والدينية، والقوى الفاعلة في المجتمعات، فخلال القرون التي تلت، 'ازدهر' علم صناعة الجهل، عن طريق التعليم والمعلومات المضللة، خصوصا ما يتعلق بـ'إعادة صياغة التاريخ'، وفق ما تقتضيه الحاجة، بالتغيير أو بالتجاهل، وتضخيم الخرافات على حساب التفكير العلمي المنطقي. لعل أخطر ما تم التواطؤ عليه في هذا السياق، هو 'التأسيس' لسيادة 'التحليل العاطفي'، بدلا من العلمي، واستثمار مشاعر الخوف والغضب، بدلا من الموضوعية والعقلانية، ما يبعد الأفراد والمجتمعات عن المنطق ويعزز الجهل في كثير من الميادين التي تتطلب فهما عميقا يتأسس على التفكير النقدي. كتّاب كثيرون؛ غربيون وعرب، تناولوا إستراتيجيات صناعة الجهل، وآثار تغييب التفكير النقدي على اتخاذ القرارات، وكيفية تشكيل الثقافات والروايات وإنتاج الجهل في المجتمع، وتأثير السلطة والإعلام والقوى الفاعلة في تشكيل 'الوعي' الجماهيري، أو ما قد يُظن أنه وعي، وتشكيل الثقافة والتعليم وتأثيرهما على الحراك والتدافع الاجتماعي. لكن، يبقى الدين واحدا من أهم السياقات التي تم استخدامها لفرض حالة 'سكونية' أبقت المجتمعات تحت سيطرة 'الجهل'، وذلك من خلال تأثيراته واحتكاره من قبل طبقات وجماعات معينة، ومن خلال احتكار تفسيراته التي غالبا ما جاءت 'نفعية' لمصلحة حالة سياسية أو اجتماعية، أو لمصلحة تغليب جهة أو جماعة على غيرها، منطلقة كأداة للسيطرة على الفكر وتنميطه ضمن مستويات منخفضة تمنع الأفراد من التفكير النقدي أو استكشاف وجهات نظر جديدة. في التاريخ؛ نقرأ أنه وبعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على بدء معركة صفين بين جيشي علي ومعاوية ومقتل حوالي 100 ألف مسلم، بحسب ابن كثير، بدأت الكفة تميل لمصلحة جيش علي. عندها؛ تفتق عقل عمرو بن العاص عن أكبر خدعة سيتم تبنيها واستخدامها كثيرا، عندما طلب من معاوية أن يأمر جيشه برفع المصاحف على رؤوس الأسنّة. بعدها دب الخلاف في جيش علي، ورجحت كفة معاوية! المشكلة ليست في الماضي، بل في الحاضر، فنحن حتى اليوم، ما نزال نرفع المصاحف على رؤوس الرماح كلما أردنا أن نمارس نفاقا اجتماعيا أو سياسيا، فنمنحه لبوسا دينيا باطلا يحشد لنا أتباعا من الحمقى الغوغاء المتعامين عن أهدافنا الحقيقية!

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store