
ثقافة ما تحت الدولة
لماذا تهفو قلوب مَن يدعون إلى بناء دولة حديثة إلى سماع صهيل خيول الماضي وقوى ما تحت الدولة القادمة من بعيد؟ أو هل هناك تناقض بين الشوق المجتمعي لعنف البطل الشعبي خارج إطار القانون وبين الرغبة النخبوية في بناء دولة عربية حديثة؟ أو بصورة أوسع: هل يعمل الناس في بلادنا نهاراً في إدارة الدولة الحديثة وينامون ليلاً في أحضان عالم أساسه استخدام القوة خارج إطار شرعية الدولة؟ يظهر التناقض واضحاً عندما تكون المؤسسات نفسها الباحثة عن الحداثة هي نفسها المموّل والمنتج لأفلام ومسلسلات تؤصّل ثقافة القبول بالعنف خارج إطار القانون.
فكيف تدّعي الدولة أنها القوة الوحيدة التي تحتكر الاستخدام المشروع لأدوات العنف، كما يقول ماكس فيبر، وذلك في الصباح، ثم تغرق عقول مواطنيها في المساء بمسلسلات لدراما شعبية تجعل من الخروج على القانون بطولة، ومن أدوات الدولة وسيادة القانون مشهداً جانبياً تابعاً في الحبكة الأوسع لقصة المسلسل. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس نظرياً، بل يخص الأسس الثقافية لبناء الدولة الحديثة: هل يمكن بناء دولة حديثة مع تمركز قُوى ما تحت الدولة من الطائفة و«الشلة» وغيرها في منتصف دائرة الضوء؟
هنا أضرب مثلين لتوضيح فكرة ما تحت الدولة، من مسلسلات مصرية عُرضت منذ أعوام. فمثلاً مسلسل «اللي ملوش كبير» أصبح فيما بعد فيلم «الخديوي»، الذي عُرض منذ أعوام في مصر، ومن بعده «جعفر العمدة» و«ملوك الجدعنة»، إلى مسلسل «العتاولة»، كلها أعمال فنية رمضانية تحظى بمشاهدات الذروة، تحتاج إلى تفكيك وقراءة هادئة للإجابة على الأسئلة السابقة الخاصة بالاحتفاء بفكرة العنف خارج القانون في الثقافة الشعبية، وتبِعاته على فكرة بناء الدولة الحديثة، أو بمعنى أدق: هل يمكن لشتلة شجرة الدولة الحديثة القادمة من أوروبا أن تمد جذوراً في ودياننا أو صحارينا؟
سأركز بشكل تلغرافي على «الخديوي» في المسلسل والفيلم، فهو شخصية تقدم نفسها على أنها «تأخذ حق الناس المظلومة» من خلال شركة أمن أو ميليشيا صغيرة تخطف سيدة من زوجها تاجر السلاح لتُحرّرها من ظلمه وعنفه (ولا توجد مؤسسات لحماية المرأة من العنف الأُسري سوى اللجوء إلى بلطجي ليخلّصها من محنتها). الخديوي رجل لا يثق بالقانون، فيأخذ بيده ما عجزت عنه أدوات الدولة، لا يعمل بمفرده، بل له بلطجي آخر منافس (رفعت الدهبي). أما الدولة والقانون فتتمثل في الضابط محمود الرحاوي الذي يظهر على استحياء، لا ليفرض سلطة القانون، بل ليذكّر المشاهدين بأن هناك دولة على الورق، لا أكثر، تتدخل هذه الدولة في نهاية المسلسل للقضاء على البلطجي بعد خراب مالطة.
هذه النوعية من الدراما تعزز نوعاً من «التعاطف مع مشاعر الناس»، وكأن وظيفة التلفزيون هي التنفيس عن الإحباط الشعبي، لا تعميق الإيمان بالقانون وبالدولة الحديثة.
الصورة نفسها تتكرر في «جعفر العمدة»، حيث تُختزل الدولة في أقسام شرطة لا تملك من أمرها شيئاً، ويُبنى النظام بالكامل على العُرف، على الرجولة، على قوة الصوت. جعفر، مثل كثيرين في وعينا الثقافي، ليس مجرد رجل، بل نظام بديل. العدالة تأتي من فمه لا من المحاكم، والنظام يُرسم في بيته لا في الدستور.
هنا، يدخل العنف في وعينا الجمعي عبر باب الثقافة، لا عبر فوهة البندقية. يصبح العنف مشروعاً حين يلبس عباءة النبل الشعبي، ويتحول الخارج على القانون إلى رمز للعدالة، لا تهديدٍ لها. هكذا يُصنع الغطاء الثقافي للعنف: لا بالدعاية المباشرة، بل بالألفة الدرامية.
هذه الأفلام والمواد الترفيهية تنتج بعضها شركات محسوبة على الدولة. أي أن الدولة تُدين الميليشيا وتُنتج هذه الشركات خطاباً يبرّر وجودها. الدولة تتحدث عن «فرض القانون»، فتخرج أعمال تُظهر القانون كحائط مهترئ. وكأن الدولة ترعى وادي السيادة صباحاً، وتهمس هذه الأعمال في حضن الميليشيات في المساء.
ترى في ظل هذا التناقض البنيوي في الثقافة، كيف لنا أن نبني مؤسسات الدولة الحديثة والتي تحتكر أدوات العنف، حسب تعريف ماكس فيبر للدولة وشرعية العنف.
ما يحدث في اليمن ولبنان والعراق ليس بعيداً عن هذا الإطار، لكنه نسخة مسلّحة من الثقافة نفسها. الحوثي ليس ظاهرة عسكرية فحسب، بل ثقافية. وكذلك «حزب الله»، بل كل من رفع شعار «نحن نحمي ونرعى»؛ لأن الدولة لم تفعل. الثقافة هي البحر الذي تسلح فيه مؤسسات الدولة الحديثة، وإذا انتقل هذا الدور لتمجيد بطولات فردية و«جدعنة»، خارج إطار الدستور والقانون، يصبح العنف الاجتماعي والمؤسسات الرديفة هما الملاذ، وفي ذلك تقويض لفكرة الدولة نفسها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


المغرب اليوم
٢٨-٠٤-٢٠٢٥
- المغرب اليوم
ثقافة ما تحت الدولة
لماذا تهفو قلوب مَن يدعون إلى بناء دولة حديثة إلى سماع صهيل خيول الماضي وقوى ما تحت الدولة القادمة من بعيد؟ أو هل هناك تناقض بين الشوق المجتمعي لعنف البطل الشعبي خارج إطار القانون وبين الرغبة النخبوية في بناء دولة عربية حديثة؟ أو بصورة أوسع: هل يعمل الناس في بلادنا نهاراً في إدارة الدولة الحديثة وينامون ليلاً في أحضان عالم أساسه استخدام القوة خارج إطار شرعية الدولة؟ يظهر التناقض واضحاً عندما تكون المؤسسات نفسها الباحثة عن الحداثة هي نفسها المموّل والمنتج لأفلام ومسلسلات تؤصّل ثقافة القبول بالعنف خارج إطار القانون. فكيف تدّعي الدولة أنها القوة الوحيدة التي تحتكر الاستخدام المشروع لأدوات العنف، كما يقول ماكس فيبر، وذلك في الصباح، ثم تغرق عقول مواطنيها في المساء بمسلسلات لدراما شعبية تجعل من الخروج على القانون بطولة، ومن أدوات الدولة وسيادة القانون مشهداً جانبياً تابعاً في الحبكة الأوسع لقصة المسلسل. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس نظرياً، بل يخص الأسس الثقافية لبناء الدولة الحديثة: هل يمكن بناء دولة حديثة مع تمركز قُوى ما تحت الدولة من الطائفة و«الشلة» وغيرها في منتصف دائرة الضوء؟ هنا أضرب مثلين لتوضيح فكرة ما تحت الدولة، من مسلسلات مصرية عُرضت منذ أعوام. فمثلاً مسلسل «اللي ملوش كبير» أصبح فيما بعد فيلم «الخديوي»، الذي عُرض منذ أعوام في مصر، ومن بعده «جعفر العمدة» و«ملوك الجدعنة»، إلى مسلسل «العتاولة»، كلها أعمال فنية رمضانية تحظى بمشاهدات الذروة، تحتاج إلى تفكيك وقراءة هادئة للإجابة على الأسئلة السابقة الخاصة بالاحتفاء بفكرة العنف خارج القانون في الثقافة الشعبية، وتبِعاته على فكرة بناء الدولة الحديثة، أو بمعنى أدق: هل يمكن لشتلة شجرة الدولة الحديثة القادمة من أوروبا أن تمد جذوراً في ودياننا أو صحارينا؟ سأركز بشكل تلغرافي على «الخديوي» في المسلسل والفيلم، فهو شخصية تقدم نفسها على أنها «تأخذ حق الناس المظلومة» من خلال شركة أمن أو ميليشيا صغيرة تخطف سيدة من زوجها تاجر السلاح لتُحرّرها من ظلمه وعنفه (ولا توجد مؤسسات لحماية المرأة من العنف الأُسري سوى اللجوء إلى بلطجي ليخلّصها من محنتها). الخديوي رجل لا يثق بالقانون، فيأخذ بيده ما عجزت عنه أدوات الدولة، لا يعمل بمفرده، بل له بلطجي آخر منافس (رفعت الدهبي). أما الدولة والقانون فتتمثل في الضابط محمود الرحاوي الذي يظهر على استحياء، لا ليفرض سلطة القانون، بل ليذكّر المشاهدين بأن هناك دولة على الورق، لا أكثر، تتدخل هذه الدولة في نهاية المسلسل للقضاء على البلطجي بعد خراب مالطة. هذه النوعية من الدراما تعزز نوعاً من «التعاطف مع مشاعر الناس»، وكأن وظيفة التلفزيون هي التنفيس عن الإحباط الشعبي، لا تعميق الإيمان بالقانون وبالدولة الحديثة. الصورة نفسها تتكرر في «جعفر العمدة»، حيث تُختزل الدولة في أقسام شرطة لا تملك من أمرها شيئاً، ويُبنى النظام بالكامل على العُرف، على الرجولة، على قوة الصوت. جعفر، مثل كثيرين في وعينا الثقافي، ليس مجرد رجل، بل نظام بديل. العدالة تأتي من فمه لا من المحاكم، والنظام يُرسم في بيته لا في الدستور. هنا، يدخل العنف في وعينا الجمعي عبر باب الثقافة، لا عبر فوهة البندقية. يصبح العنف مشروعاً حين يلبس عباءة النبل الشعبي، ويتحول الخارج على القانون إلى رمز للعدالة، لا تهديدٍ لها. هكذا يُصنع الغطاء الثقافي للعنف: لا بالدعاية المباشرة، بل بالألفة الدرامية. هذه الأفلام والمواد الترفيهية تنتج بعضها شركات محسوبة على الدولة. أي أن الدولة تُدين الميليشيا وتُنتج هذه الشركات خطاباً يبرّر وجودها. الدولة تتحدث عن «فرض القانون»، فتخرج أعمال تُظهر القانون كحائط مهترئ. وكأن الدولة ترعى وادي السيادة صباحاً، وتهمس هذه الأعمال في حضن الميليشيات في المساء. ترى في ظل هذا التناقض البنيوي في الثقافة، كيف لنا أن نبني مؤسسات الدولة الحديثة والتي تحتكر أدوات العنف، حسب تعريف ماكس فيبر للدولة وشرعية العنف. ما يحدث في اليمن ولبنان والعراق ليس بعيداً عن هذا الإطار، لكنه نسخة مسلّحة من الثقافة نفسها. الحوثي ليس ظاهرة عسكرية فحسب، بل ثقافية. وكذلك «حزب الله»، بل كل من رفع شعار «نحن نحمي ونرعى»؛ لأن الدولة لم تفعل. الثقافة هي البحر الذي تسلح فيه مؤسسات الدولة الحديثة، وإذا انتقل هذا الدور لتمجيد بطولات فردية و«جدعنة»، خارج إطار الدستور والقانون، يصبح العنف الاجتماعي والمؤسسات الرديفة هما الملاذ، وفي ذلك تقويض لفكرة الدولة نفسها.


بلبريس
١٤-٠٤-٢٠٢٥
- بلبريس
ميمونة الحاج داهي: هكذا يُدار تفكيك العدالة والتنمية من الداخل والخارج
بلبريس - ليلى صبحي في تدوينة تحليلية مثيرة نشرتها على صفحتها بموقع "فايسبوك"، سلطت الباحثة والفاعلة السياسية ميمونة الحاج داهي الضوء على ما وصفته بـ"حروب الوعي السياسي" التي يشهدها المغرب في الآونة الأخيرة، في سياق إعادة تشكيل الصورة الذهنية لحزب العدالة والتنمية في وجدان الرأي العام. ورأت داهي أن ما يجري ليس مجرد سجال نقدي أو تقييم موضوعي لتجربة الحزب في تدبير الشأن العام، بل هو "حملة هجومية مركبة" تتخذ طابعًا إعلاميًا وسياسيًا متداخلاً، هدفها إضعاف صورة الحزب وتشويه رصيده الأخلاقي والسياسي، في إطار ما يشبه "إعادة هندسة للخريطة السياسية عبر الشيطنة الناعمة". واعتبرت أن هذه الحملة لا تندرج ضمن منطق التعددية في الرأي أو التنافس الديمقراطي المشروع، بل تعكس استراتيجيات تستهدف "إفراغ الساحة من أي منافس سياسي فعلي"، من خلال إنهاك صورة العدالة والتنمية والتشكيك في شرعيته، دون تقديم بدائل حقيقية، بل فقط من خلال خطاب سلبي يُقدّم "الآخر" كفاشل من أجل تلميع صورة "البديل". وأشارت داهي إلى أن هذا النمط من الاستهداف يعكس ما سماه المفكر بيير بورديو بـ"العنف الرمزي"، حيث يتم تدمير الخصم لا بالوسائل المباشرة، بل عن طريق المساس برمزيته ومصداقيته لدى الجماهير، في عملية منظمة تستثمر التراكمات النفسية السلبية للمواطنين، وتُدار أحيانًا من داخل الحزب ذاته، عبر ما وصفته بـ"النقد الذاتي المستدرج". وفي إشارة إلى تصريحات بعض الوجوه السابقة في الحزب، اعتبرت أن هذا النقد الداخلي لا يرقى إلى المراجعة الجادة، بل يشكل محاولة لاختراق الحزب من الداخل وتحويله إلى ذات تنقض نفسها بنفسها، في مسار يهدف إلى تقويض بنيته التنظيمية والرمزية. واستحضرت داهي في تحليلها تصنيف ماكس فيبر لأخلاقيات العمل السياسي بين "أخلاق الاقتناع" و"أخلاق المسؤولية"، معتبرة أن النقد الموضوعي لتجربة العدالة والتنمية يجب أن ينطلق من تقييم واقعي لنتائج تدبيره، بعيدًا عن الاختزال والتبسيط، لا سيما أن الحكم عليه يجب أن يشمل عناصر التجربة ومسؤولياتها وسياقها العام. وتطرقت التدوينة أيضًا إلى دور وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، التي اعتبرتها أصبحت "أدوات للتعبئة النفسية السريعة" بدل أن تكون فضاءً للنقاش العمومي الرصين. وأكدت أن هذه الوسائط تُستخدم لتضخيم الرسائل المشفرة، وإعادة صياغة الصور والانطباعات، في ما يشبه "حربًا ناعمة على الوعي الجماعي". وحذرت المتحدثة من خطورة تحويل السياسة إلى ساحة لتصفية الحسابات الشخصية، أو إلى مسرح لإعادة توزيع النفوذ عبر تسفيه الخصوم، معتبرة أن هذا النهج يؤدي إلى زعزعة ثقة المواطنين في العمل السياسي، ويعزز مظاهر العزوف واللامبالاة، ما يُفضي إلى هشاشة في المشروعية السياسية. واختتمت ميمونة الحاج داهي تدوينتها بتشديدها على أن الخطر الحقيقي لا يكمن في فشل حزب معين، بل في نجاح "عقلية الإقصاء" التي تبني شرعيتها على أنقاض صورة الآخر، ما ينتهي إلى إنتاج سلطة بلا جذور، وفقدان للرؤية الديمقراطية الناضجة. وأكدت أن وحده المشروع السياسي الصادق، القائم على الإقناع والوضوح، قادر على إعادة بناء الثقة العامة، وإعادة الاعتبار للفعل السياسي كأفق وطني مشترك، وليس مجرد سلعة انتخابية عابرة.


بالواضح
١١-٠٤-٢٠٢٥
- بالواضح
الدين بين قبضة الدولة ومنابر الجهالة: من يملك حق التأويل؟
بقلم: نعيم بوسلهام لطالما شغلت العلاقة بين الدين والسلطة حيزاً كبيراً في النقاش العمومي والفكري داخل المجتمعات الإسلامية، حيث ظل السؤال المحوري يتأرجح بين من له الحق في الحديث باسم الدين، ومن يملك سلطة تأويله وتوجيهه في المجال العام. وإذا كانت المجتمعات الغربية، كما أشار عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، قد أسست لفكرة احتكار الدولة للعنف الشرعي كأحد مقومات الدولة الحديثة، فإن المشهد في كثير من الدول الإسلامية يشهد بروز ما يمكن تسميته بـ'نظرية احتكار الدولة لاستعمال الدين'، حيث تعمل السلطات الرسمية على ضبط وتوجيه المجال الديني وفق رؤية مركزية، تُقصي فيها الفاعلين الدينيين خارج مؤسساتها الرسمية. ففي السياق الإسلامي، كان يُنظر تاريخياً إلى العلماء باعتبارهم حراس الشريعة، ومصدراً للشرعية الأخلاقية والاجتماعية. وقد تُوجه لهم بين الفينة والأخرى انتقادات تتعلق باحتكارهم للحديث في الشأن الديني، وهو ما يعتبره البعض من مظاهر الجمود أو الإقصاء للنقاش العمومي. لكن في ظل ما يسمى بعصر التخصص، ألا يصبح من المفارقات الكبرى أن نعيب على المتخصصين تناولهم لقضايا اختصاصهم، ونفتح الباب بالمقابل أمام غير المؤهلين للخوض في قضايا ذات حساسية عقدية وفكرية؟ إن المشكلة، في جوهرها، ليست في 'احتكار العلماء' للدين، بل في غياب الأطر الديمقراطية لتنظيم الحقل الديني، بحيث يكون خاضعاً للتداول والمساءلة والنقد، دون أن يتحول إلى ساحة فوضى أو أداة في يد السلطة. بالمقابل وفي كثير من النماذج العربية، انتقل دور الدولة من مجرد 'رعاية' الشأن الديني، إلى التحكم الكامل فيه عبر آليات متعددة: تعيين خطباء المساجد، توجيه الخطب، حظر بعض الكتب أو الشخصيات الدينية، وتشكيل مجالس علمية ذات طابع رسمي. هذا الشكل من 'التأميم' لا يختلف في بنيته العميقة عن 'احتكار العنف الشرعي' في نظرية فيبر، حيث تتحول الدولة إلى الجهة الوحيدة المخولة بتحديد ما هو 'دين وسطي'، وما هو 'تطرف'، بل وما هو 'إسلام سياسي' وما هو 'إسلام شرعي'. وإذا كان المعارضون للحركات الإسلامية يتهمونها بـ'تسييس الدين'، فإن ما يحدث في المقابل هو نوع من 'تحزيب' الدين الرسمي لصالح السلطة، بحيث يصبح الدين مجرد أداة من أدوات إنتاج الطاعة السياسية، بدلاً من كونه منظومة قيمية تهدف إلى تحقيق العدالة والكرامة الإنسانية. إن خطورة احتكار الدولة للدين لا تكمن فقط في إقصاء الأصوات المعارضة، بل أيضاً في تجميد الاجتهاد وتجفيف منابع الحيوية الفكرية في المجال الديني. كما أن هذا الاحتكار قد يدفع بعض التيارات إلى البحث عن شرعية بديلة خارج الإطار الرسمي، ما قد يفتح الباب للتطرف والتأويلات المنفلتة. في المقابل، فإن ترك المجال مفتوحاً دون ضوابط علمية يؤدي بدوره إلى فوضى دينية، حيث يصبح كل من امتلك حساباً على وسائل التواصل، أو راكماً قدراً من الشعبية، 'مفتياً' يُستفتى و'عالماً' يُقتدى به، وهو ما يعيدنا إلى جدلية: من يحرس الدين من الجهالة؟ ومن يحرسه من التوظيف السلطوي؟ يبذو اليوم أن الحاجة ماسة إلى تصور جديد للمجال الديني، يقوم على مبدأ التخصص من جهة، ومبدأ استقلال الحقل الديني عن السلطة التنفيذية من جهة أخرى. ولعل الحل يكمن في صيغة مدنية عقلانية، تجعل من الدين مجالاً للنقاش العام، دون أن يتحول إلى أداة في يد السلطة، أو مطية في يد الجهلة والباحثين عن النفوذ. إن تحرير الدين من قبضة الدولة لا يعني فصله عن الحياة، بل تحريره من الاستخدام السلطوي الذي يحوله إلى أداة تطويع، بدلاً من أن يكون منبعاً للوعي والتحرر.