
التبعات الاقتصادية لقرارات ترامب العشوائية على اقتصاد أميركا
يُعد اقتصاد السوق من النماذج الرأسمالية التي تقوم على قواعد واضحة، وعلى رأسها الشفافية وتكافؤ الفرص بين المتعاملين، وهو ما يجعل من النموذج الأميركي أحد أبرز تطبيقاته.
بيد أن هذه القواعد تعرضت لهزة كبيرة مع تولّي الرئيس دونالد ترامب السلطة مجددًا في مطلع عام 2025، إذ اتسمت قراراته، خصوصًا في الشق التجاري، بالعشوائية والارتجال، مما أوجد حالة من الضبابية في المشهد الاقتصادي داخل أميركا، ومع شركائها الأساسيين، وعلى مستوى الاقتصاد العالمي عمومًا.
ارتباك داخلي وارتجال في القرار
لم يكن المستوردون أو المصدّرون الأميركيون على علم مسبق بخطط ترامب بخصوص رفع الرسوم الجمركية ، وهو ما أصاب نشاطهم بالشلل. حتى المنتجون الأميركيون –الذين يُفترض أنهم المستفيدون من تلك الإجراءات– لم يجنوا أرباحًا، لأنهم يعتمدون على استيراد المواد الأولية من الخارج، فتأثروا أيضًا بارتفاع تكاليف الإنتاج.
وذكرت تقارير اقتصادية أن من أبرز مظاهر العشوائية كان الارتفاع المفاجئ في نسب الرسوم الجمركية، فعلى سبيل المثال، ارتفعت الرسوم المفروضة على الصين إلى 145%، بعدما كانت بحدود 20% في بداية عام 2025، كما هدد ترامب مرارًا برفعها إلى 245%، دون الاكتراث بأثر ذلك على الاقتصاد المحلي، قبل أن يتم توقيع اتفاق بين واشنطن وبكين على تخفيف التوترات التجارية بينهما.
وقد تفاوتت ردود أفعال الدول إزاء هذه السياسات بين الرفض، والمعاملة بالمثل، والدعوة إلى التفاوض، لكن موافقة بعض الدول على التفاوض مع إدارة ترامب شجعته على التمادي في نهجه، مما عكس حالة من الفوضى في العلاقات التجارية الدولية.
مزاد جمركي وصراع مفتوح
قرارات ترامب كانت في جوهرها أقرب إلى مزاد مفتوح لفرض الرسوم، خصوصًا تجاه الصين. فكلما ردّت بكين بالمثل، سارع ترامب إلى رفع النسبة أكثر، دون النظر إلى التبعات الاقتصادية.
وأشارت مصادر في الأسواق الأميركية إلى أن هذه القرارات أدت إلى اضطرابات كبيرة، إذ تراجعت مؤشرات أسواق المال ، وارتفعت أسعار الذهب والعملات الرقمية بشكل جنوني، كما انخفضت أسعار النفط بسبب مخاوف من توسع النزاع التجاري.
وتابعت هذه المصادر بأن ترامب لم يعمل على تجهيز القاعدة الإنتاجية الأميركية لتكون بديلًا حقيقيًا للواردات، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم. وكانت النتيجة الحتمية هي التراجع عن العديد من قراراته، ليس فقط مع الصين، بل مع معظم الدول الأخرى.
مفاوضات غير منسّقة
من أبرز الأمثلة على التخبط، تغريدة ترامب في 9 مايو/أيار 2025، التي قال فيها إن فرض رسوم بنسبة 80% على المنتجات الصينية "يبدو قرارًا صائبًا"، بينما كانت المفاوضات الرسمية لا تزال جارية مع بكين.
وانتهت هذه المفاوضات في 12 مايو/أيار بالاتفاق على رسوم بنسبة 30% من الجانب الأميركي و10% من الجانب الصيني. الأمر الذي يثير تساؤلات حول ما إذا كان ترامب على دراية بما يفعله فريقه المفاوض أصلًا.
الصين تلعب أوراق الضغط بمهارة
وفيما اكتفت بعض الدول بالرد بالمثل، استخدمت الصين أدوات ضغط فعالة شملت وقف تصدير المعادن النادرة، وتعليق تسلّم الطائرات من شركة "بوينغ" الأميركية.
ونتيجة لذلك، اضطرت واشنطن إلى التراجع وإعلان ما سُمّي بـ"هدنة" تجارية تستمر 90 يومًا، تُخفّض خلالها الرسوم الأميركية من 145% إلى 30%، مقابل تخفيض الصين لرسومها من 125% إلى 10%.
إعلان
وأشارت وسائل إعلام اقتصادية إلى أن استخدام مصطلح "هدنة" يعكس الطابع العسكري للنزاع الاقتصادي بين القوتين، وهو ما يكشف بوضوح أن ما حصل لم يكن خلافًا تجاريًا عاديًا، بل مواجهة حقيقية تتجاوز الاقتصاد إلى الجغرافيا السياسية.
مؤشرات سلبية في الداخل الأميركي
مع بداية تطبيق الرسوم الجمركية المرتفعة، بدأت التبعات تتوالى داخل الولايات المتحدة، إذ ارتفع معدل التضخم في أبريل/نيسان 2025 إلى 0.2% شهريًا، بعد أن كان 0.1% في مارس/آذار السابق له.
هذا الارتفاع دفع مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي إلى تثبيت أسعار الفائدة، وهو ما أزعج ترامب الذي طالب بتخفيضها، رغم أنها أداة فنية خالصة لا تخضع للمزاج السياسي.
كما أظهرت بيانات وزارة التجارة الأميركية انخفاضًا في إنتاج الصناعات التحويلية بنسبة 0.4% في أبريل/نيسان، وهي أول مرة يسجل فيها القطاع هذا التراجع منذ 6 أشهر، بعدما سجل نموًا بنسبة 0.4% في مارس/آذار الماضي.
وفي السياق ذاته، تحمّلت الشركات الأميركية أعباءً إضافية بفعل زيادة الرسوم، مما دفع بعضها إلى تقليص هوامش الربح، وأشارت تقارير محلية إلى انخفاض مؤشر أسعار المنتجين بنسبة 0.5%، وهي أعلى نسبة انخفاض خلال 5 سنوات، وسط تحذيرات من أن هذه الشركات قد تغادر السوق إذا استمرت في تسجيل خسائر.
كما شهد قطاع الوظائف تباطؤًا واضحًا، حيث أضاف الاقتصاد الأميركي 62 ألف وظيفة فقط في أبريل/نيسان، وهو أدنى رقم منذ يوليو/تموز 2024، وأقل بكثير من توقعات الاقتصاديين البالغة 115 ألف وظيفة.
قواعد غابت عن ترامب
كثيرًا ما يُقال إن ترامب يتعامل مع السياسة كأنه يدير شركة خاصة، فيسعى للصفقات والانتصارات السريعة. لكن إدارة الدول تخضع لقواعد دقيقة، من بينها قاعدة "المعاملة بالمثل" في العلاقات الدولية، والتي تجاهلها ترامب مرارًا، كما تجاهل ضرورة إجراء دراسات واقعية قبل فرض مثل هذه السياسات، آخذًا بعين الاعتبار قدرة الاقتصاد المحلي على التكيف وردود الفعل الدولية.
ما الذي سيحدث بعد "الهدنة"؟
تنتهي فترة "الهدنة" التجارية في نهاية يوليو/تموز 2025، ومعها سنكون أمام مفترق طرق: فإما أن يتم التوصل إلى اتفاقات مقبولة لجميع الأطراف، أو أن يعود ترامب لفرض زيادات جمركية من طرف واحد، وهو ما سيدفع الولايات المتحدة نحو عزلة اقتصادية، ويفتح الباب واسعًا أمام إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي على أسس متعددة الأقطاب.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
قرار إدارة ترامب بشأن جامعة هارفارد يهدد ملكة بلجيكا المستقبلية
تواجه الأميرة إليزابيث، وريثة العرش البلجيكي، احتمالا مقلقا بشأن استمرار دراستها في جامعة هارفارد ، بعدما قامت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإلغاء قدرة الجامعة على تسجيل الطلاب الأجانب الأسبوع الماضي. وألزمت إدارة ترامب الطلاب المقيدين حاليا إما بالانتقال إلى مؤسسات تعليمية أخرى أو مواجهة فقدان وضعهم القانوني في الولايات المتحدة. وقال المتحدث باسم القصر الملكي البلجيكي، لور فاندورن، إن "الأميرة إليزابيث أكملت عامها الأول، وسيصبح تأثير قرار إدارة ترامب أكثر وضوحا خلال الأيام والأسابيع القادمة"، مضيفا أن القصر "يحقق حاليا في الوضع". من جهته، أوضح مدير الاتصالات في القصر، كزافييه بايرت، أن "الأمر لا يزال قيد التحليل، وسننتظر حتى تتضح التطورات المقبلة". وتبلغ الأميرة إليزابيث 23 عاما، وتدرس ماجستير السياسة العامة في جامعة هارفارد، وهو برنامج يهدف إلى تأهيل الطلاب لحياة مهنية في الخدمة العامة. وكانت ملكة بلجيكا المستقبلية قد حصلت في السابق على شهادة في التاريخ والسياسة من جامعة أكسفورد البريطانية. ويمثل القرار الأميركي جزءا من حملة أوسع تقودها إدارة ترامب للحد من الطلاب الأجانب في المؤسسات التعليمية الأميركية، وهو ما يثير مخاوف في أوساط أكاديمية ودبلوماسية على حد سواء. وأعلنت وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم -الخميس الماضي- إلغاء اعتماد برنامج الطلاب وتبادل الزوار في هارفارد، متهمة الجامعة بـ"التحريض على العنف ومعاداة السامية والتنسيق مع الحزب الشيوعي الصيني"، وذلك في أعقاب تصاعد الاحتجاجات الطلابية المناهضة للحرب الإسرائيلية على غزة. لكن القاضية أليسون بوروز من المحكمة الجزئية في بوسطن أوقفت تنفيذ القرار، معتبرة أنه يمثل "انتهاكا صارخا" للدستور والقوانين الفدرالية. من جهتها، قالت جامعة هارفارد في دعواها ضد إدارة ترامب إن القرار يهدد بطرد أكثر من 7 آلاف طالب أجنبي، مما يقوّض مسيرتهم الأكاديمية ويضر بهوية الجامعة بوصفها مؤسسة عالمية.


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
العلاقة تزداد توتراً بين ترامب ونتنياهو.. من يسيطر على الآخر؟
قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال مايو/أيار الجاري، بجولة في الشرق الأوسط شملت السعودية وقطر والإمارات، في تحوّل ملحوظ عن تحالفه غير المحدود في ولايته الرئاسية الأولى مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو. ففي الأيام التي سبقت الزيارة، قام ترامب بالتفاوض على وقف لإطلاق النار مع الحوثيين دون أن يطلب من اليمن وقف هجماته على الأهداف الإسرائيلية، كما أنه سمح بإجراء محادثات مباشرة مع حركة حماس التي تعهد فيها بإدخال مساعدات إنسانيّة عاجلة إلى غزة مقابل إطلاق سراح أسير مزدوج الجنسيّة، حيث يحمل الجنسية الأميركية بجانب الإسرائيلية. هذه التحركات الأميركية، التي جاءت رغم معارضة إسرائيلية شديدة، استطاعت أن تزعزع افتراضات وتهزّ قناعات راسخة منذ زمن طويل بشأن متانة العلاقة الإستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب، وهو جدل طالما شغل المؤرّخين والأكاديميين وخبراء العلاقات الدولية لعقود. من جهة، يرى البعض أن العلاقة بين الطرفين تقوم على تلاعب اللوبي الصهيوني بالنظام السياسي الأميركي من أجل خدمة مصالح الكيان الإسرائيلي. في هذا الطرح قدّم العالمان السياسيان جون ميرشايمر، وستيفن والت حجة قوية مؤيدة لهذا الرأي في كتابهما المهم "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية" (The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy)، حيث استشهدا بالعديد من الأمثلة التي امتدت على مدى عقود تُظهر النفوذ القوي للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، خصوصًا في مدى تأثيره على صنّاع القرار والطبقة السياسية في الكونغرس – من كلا الحزبين الكبيرين – وكذلك على الإدارات الأميركية المتعاقبة. فعلى سبيل المثال، يشير الكتاب إلى تأثير اللوبي الصهيوني والمحافظين الجدد – الذين يفضلون في معظم الأحيان الأولويات والمصالح الإسرائيلية – على إدارة الرئيس جورج بوش الابن خلال فترة التحضير لغزو العراق بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. علاوة على ذلك، فإنه من الصعب جدًا إن لم يكن من المستحيل تفسير التورط العميق للولايات المتحدة فيما يسمى بـ"الحرب الكونية على الإرهاب" وتغيير الأنظمة في الشرق الأوسط لأكثر من عقدين من خلال جدلية المصالح الأميركية البحتة أو الدوافع الجيوسياسية وحدها. ولذا، فإنه مما لا شك فيه أن الكيان الصهيوني قد لعب دورًا رئيسًا في الترويج لهذه السياسات وتعزيزها. في كتابه "القوة اليهودية" (Jewish Power)، يشرح الصحفي ج. ج. غولدبرغ جوهر قوة اللوبي الصهيوني اليهودي في تعزيز المصالح الإسرائيلية. كما تم دراسة هذا التأثير بشكل معمق في كتاب حديث للمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، والذي تتبع تلاعب وسطوة اللوبي الصهيوني على الساسة الأميركيين والبريطانيين، وتأثير ذلك على السياسة الخارجية في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لأكثر من قرن. وعلى العكس من ذلك، أكد المؤلف والمفكر الأميركي نعوم تشومسكي في العديد من كتبه أن الولايات المتحدة هي التي تتحكم وتوجه الكيان الصهيوني لخدمة مصالحها الجيوسياسية في الشرق الأوسط. في هذا السياق، يُعتبر الكيان الإسرائيلي مجرد أداة ضمن مجموعة الأدوات الأميركية الأوسع لضمان الهيمنة الأميركية والتحكم الإمبريالي في هذه المنطقة، بل وعبر العالم أجمع. وهناك بالفعل سوابق تاريخية تدعم هذا الرأي. واحدة منها تعود إلى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 من قبل الكيان الإسرائيلي وفرنسا والمملكة المتحدة، حيث أمر الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور حينها الكيان الإسرائيلي بالانسحاب من سيناء قبل أسبوع من إعادة انتخابه. والمثال الآخر كان أيام حرب الخليج عام 1991، حيث طالبت الولايات المتحدة الكيان الإسرائيلي بعدم الرد على هجمات صواريخ سكود العراقية أثناء الحرب لتجنب إحراج حلفائها العرب. لذلك، فإن السؤال الأكبر في هذه المرحلة يتلخّص في تحديد الطرف الذي يوجّه الآخر. هذا الأمر ليس فقط مهمًا للإجابة عن السؤال، بل إنه أيضًا ضروري في إيجاد تفسير أو تحليل يسعى لفهم كيفية تطور الأحداث في المراحل الحاسمة في منطقتَي غرب آسيا، وشمال أفريقيا. بعبارة أخرى، فإن السؤال الجوهري هو: هل إسرائيل هي من يمسك بخيوط السياسة الأميركية، ويحرك صانعها كما يشاء؟ أم إنها هي الدمية التي تتحرك بخيوط أميركية؟ خلال حملة الإبادة الجماعية التي شنّها الكيان الصهيوني منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، دعمت الولايات المتحدة هذا الكيان بالكامل – حيث زوّدته بأكثر الأسلحة فتكًا، وبتمويل غير محدود، وبغطاء سياسي وحماية دبلوماسية – مما تسبب في إحداث أضرار واسعة النطاق لسمعتها ومكانتها كقوّة عظمى رئيسة مسؤولة عن الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، ومؤسّسات النظام الدولي. رغم أنه من العبث إنكار قوّة تأثير اللوبي الصهيوني على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فإنّ مسألة تقدير من يقود الآخر على مستوى القرارات الحاسمة الكبرى، لا تزال على جانب كبير من عدم اليقين، خاصة في ضوء التحولات السياسية الأخيرة للرئيس دونالد ترامب. بدأ ترامب فترته الثانية ليس فقط كشخص معروف بسياسته المتوافقة مع الرؤى الصهيونيّة، بل كالرئيس الأكثر تأييدًا للكيان الإسرائيليّ في تاريخ الولايات المتحدة. ففي خلال ولايته الأولى (2017-2021)، اعترف ترامب بالقدس عاصمة للكيان – متحديًا عقودًا من السياسة الأميركية المعلنة – بل وأتم نقل السفارة الأميركية خلال عهده إلى القدس. واعترف حينها أيضًا بسيادة الكيان الإسرائيلي على هضبة الجولان السورية، وهو ما مثّل انتهاكًا فاضحًا آخر للقانون الدولي. علاوة على ذلك، أضعفت سياسات ترامب المنحازة، السلطةَ الفلسطينية بشدة من خلال إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن وقطع معظم المساعدات الأميركية عن السلطة الفلسطينية، والمنظمات غير الحكومية الفلسطينية، وكذلك الجمعيّات الخيرية الأميركية والدولية بما في ذلك وكالات الأمم المتحدة التي تخدم اللاجئين الفلسطينيين، مثل الأونروا (UNRWA). وقد فعل كل ذلك رغم أن منظمة التحرير الفلسطينية هي التي شرعنت لعملية أوسلو المترنّحة والفاشلة، والتي دشنت مسار التسوية الذي سيطرت عليه الولايات المتحدة منذ عام 1993، مما منح الكيان الصهيوني وقتًا لترسيخ قبضته على الضفة الغربية. لكن ترامب في نهاية المطاف رئيس يتبنى شعار الصفقات التجارية التبادلية، وهو يحب أن يقدم نفسه لقاعدته "ماغا" (MAGA) التي تنادي بشعار "أميركا أولًا" كقائد قوي ذي نجاحات وإنجازات واضحة. ولذا، فإنه ليس مستعدًا لإضاعة الوقت بانتظار تحقيق وعود نتنياهو الوهمية التي يطلقها باستمرار حول إخضاع المقاومة وجعلها تستسلم. وهي وعود فشل في الوفاء بها مرارًا. عندما انتهك نتنياهو اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقع في 19 يناير/ كانون الثاني 2025 برعاية من فريق ترامب، وأعطى جيشه الدموي أمرًا باستئناف الهجوم الإبادي على غزة في 18 مارس/ آذار، منحه ترامب شهرين إضافيين لتحقيق أهدافه المعلنة، إلا أنه لم يستطع تحقيقها في النهاية. وفي السابع من أبريل/ نيسان، وخلال زيارته البيتَ الأبيض، فاجأه ترامب بإعلان بدء المفاوضات النووية الأميركية الإيرانية. كان نتنياهو يعمل على إقناع الطرف الأميركي بتوجيه ضربات عسكرية مزدوجة ضد إيران، وكان يناقش تفاصيل ذلك مع مستشار الأمن القومي لترامب، مايكل والتز. بيدَ أن ترامب رفض تلك الخطط، بل وأبعد والتز عن منصبه، مقرّرًا بعد ذلك السعي لحل الموضوع النووي من خلال الدبلوماسية، مما أحبط نتنياهو وأزعجه كثيرًا. خلال نفس الزيارة، طلب نتنياهو دعم ترامب لسياسته في سوريا، والتي ينتهجها منذ الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024، حيث قام لأسابيع بعد سقوط الأسد بتدمير معظم القدرات العسكرية السورية المتبقية، ثم شنّ سلسلة من الغارات الجوية والاجتياحات البرية، مستوليًا على أكثر من 400 كيلومتر مربع أضافها إلى هضبة الجولان السورية المحتلة، والتي تبلغ مساحتها 1800 كيلومتر مربع. لم يكن هدف هذه الهجمات مجرد إضعاف سوريا، بل محاولة تفكيكها إلى أربع مناطق عرقية أو طائفية: الدرزية، العلوية، الكردية، والسنية. لكن هذا المخطط الخطير يتعارض بصورة مباشرة مع المصالح الجيوسياسية لتركيا في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية. تركيا، وهي المستفيد الأكبر من تغيير النظام في سوريا والتي رحبت بالحكومة الجديدة واحتضنتها، كانت قد تعرضت إلى تهديدات واستفزازات من العديد من الوزراء الإسرائيليين. أمام دهشة وذهول نتنياهو، لم يدعم ترامب فقط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في هذا النزاع، بل أعلن أيضًا الانسحاب الوشيك لبعض القوات الأميركية من شمال سوريا، كما دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي علنًا للسعي إلى التوصل إلى تسوية مع الجانب التركي. على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، كانت الخلافات السياسية في العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي نادرة للغاية. لذلك، أجبر موقف ترامب الحاسم الكيان الصهيوني على بدء تسوية تفاوضية مع تركيا في سوريا لتجنب التصعيد أو الصراع المباشر. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من الاعتراضات الإسرائيلية الشديدة، أعلن ترامب رفع جميع العقوبات الأميركية والدولية عن سوريا خلال زيارته الأخيرة للسعودية، وهو قرار جاء نتيجة ضغوط مكثفة من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس التركي أردوغان، بدون مراعاة للتحفظات الإسرائيلية. كان للموضوع التجاري والاقتصادي الدور الأبرز في زيارة ترامب للمنطقة. ولقد ظهر الرئيس الأميركي متحمسًا لإظهار النجاح والإنجازات الاقتصادية أمام مؤيديه، حيث سعى إلى إنجاز صفقات أسلحة وعقود تجارية في دول الخليج الثلاث التي زارها. بيدَ أن السعودية كانت قد رفضت تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي في وسط عملية إبادة جماعية مستمرة بلا هوادة في غزة. وكان من ضمن مطالب السعودية لاتفاق التطبيع توفير ضمانات أمنية أميركية وبناء مفاعل نووي مدني. كانت جهود إدارة بايدن السابقة قد استمرت لشهور من أجل تحقيق اتفاق بين الطرفين، إلا أنها باءت بالفشل بسبب رفض الطرف الإسرائيلي دعم حل سياسي مع الفلسطينيين. غير أن ترامب فاجأ الطرف الإسرائيلي وتخلى عن شرط التطبيع وواصل زيارته للسعودية، حيث وقع أكبر صفقة أسلحة في التاريخ. ولذلك كانت المفاجأة على الإسرائيليين كبيرة ومفجعة، وهم الذين كانوا يعارضون هذه الصفقات، ولكنهم لم يستطيعوا منعها. لو كانت هذه الصفقات مبادرة من إدارة ديمقراطية، لكان نتنياهو قد استطاع أن يحشد دعم الجمهوريين لإفشال الصفقة. ولكن لأن المبادرة جاءت من إدارة جمهورية، لم يكن بوسع نتنياهو فعل الكثير حيال ذلك. بالإضافة إلى ذلك، فإنه بعد أسابيع قليلة من زيارة نتنياهو لواشنطن، وجّه ترامب ضربة أخرى له ولشركائه المتطرفين بإعلانه اتفاق وقف إطلاق النار مع الحوثيين في اليمن في 6 مايو/ أيار، دون أن يشترط عليهم وقف هجماتهم على الأهداف الإسرائيلية. كان الحوثيون يستهدفون ملاحة وأجواء ومدن الكيان الصهيوني منذ شهور في محاولة منهم لوقف الإبادة في غزة. أنفقت الولايات المتحدة أكثر من مليار دولار لمحاولة وقف هذه الهجمات، دون نجاح كبير. لم يستطع ترامب تحمّل الخسائر المتراكمة، مما أدى إلى تخليه عن الكيان الصهيوني لإغلاق هذا الملف. كانت السياسة الأميركية الدائمة في المنطقة، بغض النظر عن ماهية الحزب الحاكم في البيت الأبيض، هي منح الكيان الصهيوني حرية التصرف عند التعامل مع الفاعلين من غير الدول (Non-state actors) مثل حماس، وحزب الله، مع كبح الكيان عندما يتعلق الأمر بفاعلين من الدول مثل إيران، نظرًا للمصالح الإستراتيجية الأميركية الأوسع في المنطقة. ومع ذلك، فقد منح ترامب نتنياهو شهورًا من إطلاق اليد لتنفيذ حملة إبادة في غزة – بما في ذلك القيام بالقصف العشوائي الهمجي واتباع سياسة التجويع التي حرمت أكثر من مليونَي فلسطيني في غزة من وصول الغذاء والماء والدواء والوقود منذ 2 مارس/ آذار. كان ترامب حريصًا على تأمين إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وهو حدث إذا ما تم لتباهى به ترامب كإنجاز باهر يُحسب له في السياسة الخارجية، لكن محاولاته في هذا الصدد قوبلت بتصلب مواقف نتنياهو وإصراره على تحقيق "النصر الكامل"، الذي كان من المؤكد أنه سيطيل أمد الحرب، بل ويعرض حياة الأسرى للتهديد بشكل خطير. لذا، وقبل جولة ترامب في الخليج، قام فريقه بفتح محادثات مباشرة مع حماس – التي تصنّفها الولايات المتحدة رسميًا كمنظمة إرهابية منذ عام 1997 – من أجل تأمين إطلاق سراح عيدان ألكسندر، وهو المواطن الأميركي- الإسرائيلي الوحيد الباقي بين الأسرى. بعد ضغط مستمر من الوسطاء، وتعهد مباشر من الطرف الأميركي بتقديم مساعدات كبيرة للفلسطينيين الجائعين في غزة، أطلقت حماس سراح ألكساندر في 12 مايو/ أيار 2025، عشية زيارة ترامب للمنطقة، حيث قُدم الإفراج عنه كبادرة حسن نية تجاه الرئيس الأميركي. أثار هذا التحرك غضب نتنياهو وحكومته اليمينية، لأنه كشف عن استعدادهم للتضحية بالأسرى في سبيل تحقيق التطهير العرقي واحتلال غزة ضمن إقامة مشروع إسرائيل الكبرى. وبدلًا من الاحتفال بإطلاق سراح الأسير الإسرائيلي، اعتبر العديد من الإسرائيليين التعامل المباشر مع حماس خيانة لهم من ترامب. بيدَ أنه لا ينبغي لأحد أن يتسرع في الحكم على هذا السجال السياسي. فإدارة ترامب لا تزال تضم العديد من الصهاينة الذين هم أشد المسؤولين تأييدًا للمشروع الصهيوني بين الحكومات الأميركية على الإطلاق. ولذا، فمن غير الواضح إذا كانت هذه التحولات تشير إلى تغيير طويل الأمد في السياسة الأميركية تجاه المنطقة. ولذلك، تبدو هذه السياسات تكتيكية أكثر من كونها إستراتيجية، حيث تبقى الأهداف النهائية للطرفين هي نفسها، لكن الوسائل قد تتغير من أجل خدمة المصالح الأميركية طويلة الأجل في المنطقة. ربما يكون الاختبار الحقيقي النهائي للإجابة عن سؤال: مَن هو الطرف الذي يقود الطرف الآخر في هذه العلاقة؟، هو في قدرة ترامب على إجبار الكيان الإسرائيلي على وقف حرب الإبادة الجماعية في غزة. حينها سنصل إلى لحظة الحقيقة: هل ستقف الولايات المتحدة إلى جانب مصالحها الأمنية والاقتصادية في المنطقة، أم ستدعم مشروع إسرائيل الكبرى التوسعي والرؤية الدينية المسيانية؟


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
إدارة ترامب تفرض قيودا جديدة على الصحفيين داخل البنتاغون
أصدر وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث ، أمس الجمعة، تعليمات جديدة تُلزم الصحفيين المعتمدين بالحصول على مرافقين رسميين عند دخول معظم مرافق وزارة الدفاع (البنتاغون) في أرلينغتون بولاية فرجينيا. ودخلت الإجراءات الجديدة حيّز التنفيذ الفوري، وهي تمنع دخول الصحفيين إلى مناطق في الوزارة من دون تصريح رسمي ومرافق معتمد، وقد أثارت انتقادات حادة من رابطة صحافة البنتاغون التي رأت في القرار "هجوما مباشرا على حرية الصحافة". وقال هيغسيث في مذكرة إن الوزارة لا تزال "ملتزمة بالشفافية"، لكنها "ملزمة بالقدر نفسه بحماية المعلومات الاستخباراتية السرية والمعلومات الحساسة، والتي قد يؤدي الكشف غير المصرح عنها إلى تعريض حياة الجنود الأميركيين للخطر". وأضاف وزير الدفاع أن أمن العمليات وحماية المعلومات الحساسة يمثلان أولوية قصوى. لكن رابطة الصحفيين قالت في بيانها إن القرار يستند إلى "مبررات أمنية واهية"، مشيرة إلى أن الصحفيين المعتمدين تمكنوا طوال عقود من الوصول إلى مناطق غير حساسة في البنتاغون من دون إثارة قلق بشأن الأمن، حتى في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وتحت إدارات جمهورية وديمقراطية على حد سواء. إعلان ولم يصدر تعليق رسمي من البنتاغون ردا على بيان الرابطة حتى الآن. وتأتي هذه الخطوة ضمن سلسلة من الإجراءات التي تنتهجها إدارة الرئيس دونالد ترامب للتضييق على المؤسسات الإعلامية التي تتهمها بتسريب المعلومات، إذ تم مؤخرا منح 3 مسؤولين إداريين إجازة مؤقتة في إطار تحقيق داخلي في تسريبات. كذلك طُلب من مؤسسات صحفية بارزة مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"سي إن إن" و"إن بي سي نيوز" إخلاء مكاتبها في البنتاغون، ضمن نظام تدوير يسمح بدخول مؤسسات إعلامية أخرى، بينها جهات موالية للرئيس مثل نيويورك بوست وبرايتبارت وديلي كولر ووان أميركا نيوز. وبحسب وكالة رويترز، نشرت الإدارة مؤخرا أجهزة لكشف الكذب في عدد من المؤسسات الحكومية، من بينها وزارة الأمن الداخلي، للتحقيق في تسريبات غير سرية، وهُدّد بعض الموظفين بالفصل إن رفضوا الخضوع للاختبار. ويؤكد البيت الأبيض أن الرئيس ترامب "لن يتسامح مع التسريبات"، وأن من يثبت تورطه فيها "يجب أن يُحاسب".