
ليس تخويفاً ولا رغبة: ما تتعرّض له الأقليات حقيقة لا سيناريو!
وفي العصور الإسلامية الغابرة، وخصوصاً في المراحل التي كانت ترتسم فيها ملامح الدول، كانت الأقليات المادة الرمادية (LA MATIÉRE GRISE) لهذه الدول، فمن بينها الفلاسفة والتراجمة والأطباء، بالإضافة إلى اللغويِّين والنُحّاة والفلكيِّين والمحاسبين الذين تُعهَد إليهم بيوت المال، وهي بالتالي لا يمكن أن تكون إلّا في صُلب نسيج هذه المنطقة، والشاهد الأول على تحوّلاتها. لكنّها دفعت ضريبة التعصّب، واستخدام القيّمين على دول المنطقة في حقبات الأمبراطوريات والممالك والإمارات الكبرى والإمارات المحلية، أساليب الضغط والتشكيك والمضايقة، والعمل على تهميشها بذريعة الحذر والتشكيك بولائها الوطني. فتولّد شعور لدى أبناء هذه الأقليات بأنّهم مواطنون من درجة ثانية. وإذا أجرينا قراءة واقعية للنزاعات والحروب التي حصلت منذ العام 1840 حتى اليوم، لتبيّن لنا على «الورقة والقلم» أنّ الأقليات الدينية والإتنية كانت الضحية الأولى، ومن بينها مَن تعرّض في الحرب الكونية الأولى إلى محاولة الإبادة تجويعاً، على غرار ما يحصل الآن في غزة.
إنّ نمو حركات التطرّف وامتدادها في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً بعد الغزو الأميركي للعراق، لم يكن مفاجئاً في ظل التطوّرات التي حصلت في العالم بعد 11 أيلول 2001، وهي ازدادت حضوراً وامتداداً على إثر تفكيك بنية الدولة بكاملها بذريعة «إجتثاث البعث»، لتصبح بلاد الرافدَين سداحاً مدّاحاً أمام الإرهاب والفوضى، وسوريا اليوم هي أمام مشهد مماثل، ولو أنّ الحدّ الأدنى من هيكلية الدولة لا يزال قائماً، على رغم من إقدام إسرائيل على تدمير جيشها بنسبة 90% على إثر استهداف بنيته العسكرية والقضاء على ترسانته الجوية، البحرية، البرية، ومراكز الأبحاث ومعامل إنتاج الأسلحة، واغتيال عدد من العلماء على غرار ما حصل في العراق، وحصل ويحصل مع علماء إيران.
وإزاء هذا الواقع، نشطت طروحات التقسيم والفدرلة واللامركزية الموسعة كخيار لسوريا الجديدة، خصوصاً بعد أحداث الساحل والسويداء. وهناك إمكانية لتحقيق أي من هذه الطروحات على أرض الواقع، لأنّ العلويِّين والدروز يعيشون في حيِّز جغرافي محدّد ومعروف، يمكنهم من إقامة دويلة تحظى بحمايات خارجية، لكنّ ذلك لا يسري على مسيحيِّي سوريا الذين ينتشرون على امتداد خريطة بلادهم، ويندمجون في مجتمعها ويتفاعلون إيجاباً مع مواطنيهم، وهذا ما يُضاعف خوفهم من الآتي وملامح الغد الغامض وما يمكن أن يحمل إليهم. وهذه الخشية هي التي دفعت برؤساء الطوائف المسيحية في هذا البلد إلى إجراء إتصالات مكثفة بدوائر القرار في العالم، والفاتيكان، والدول المؤثرة، من دون أن تحظى بجواب واضح وحاسم، بإستثناء تدخّلات لدى القيادة الانتقالية في دمشق، تحذّرها من المساس بأمن المسيحيِّين وعدم التعرّض لهم، وهذا الأمر أراحهم بعض الشيء، لكنّه لم ينجح في إزالة مخاوفهم، كَون الوعود قابلة للتبدّل، وأصحابها لا يمسكون جيداً بالأرض والخروقات واردة في أي لحظة. ولذلك، فإنّ المسيحيِّين وسائر الأقليات ما زالوا في دائرة القلق والترقّب، وسمة الحذر المائل إلى التشاؤم يغلب عليهم. وهم في انتظار العهود الدولية والعربية المقطوعة لهم بانتخابات ديمقراطية ومجلس نيابي جديد يحترم التعدّدية والتنوّع، ومن ثم الدستور الجديد وما يتضمّن من بنود تصبّ في هذا الاتجاه ليُحدّدوا مصير بقائهم في سوريا الجديدة: هل يَشطبون من قاموسهم كلمة «هجرة»، أو يُقبلون عليها، خصوصاً أنّ الآف طلبات الهجرة للمسيحيِّين السوريِّين مكدّسة في قنصليات الدول الغربية، فيما يسعى البطاركة والمطارنة إلى الحدّ ما أمكن من هذه النزعة اليائسة التي تتحكّم برعاياهم.
إنّ الزيارة التي قام بها الأمين العام لرئاسة الجمهورية السورية الدكتور ماهر الشرع، موفداً من رئيس الجمهورية أحمد الشرع، لتقديم التعازي بشهداء الهجوم الإجرامي الذي وقع في كنيسة مار إلياس الدويلعة في دمشق في 22 حزيران الماضي، كانت خطوة مرحّباً بها ويُفترض أن تتمّ غداة التفجير، وأنّ حصولها أفضل من عدم حصولها، لكنّها لا تكفي لنزع الخوف من قلوب الناس، وتبديد هواجسهم. والمطلوب ضمانات دستورية وتشريعات قانونية يستند إليها النظام الجديد في سوريا، ليشعر الجميع بأنّهم على طريق سلام مستدام يقود إلى الاستقرار المنشود. فلا تكون الإيجابية المفاجئة استجابة لتمنٍ أو طلب خارجي، كسحابة سرعان ما تزول. وإنّ إسرائيل العنصرية بطبيعة تركيبها تسعى من خلال «الترانسفير» والتضييق إلى تصفير الوجود الفلسطيني على أراضي دولتها المغتصبة والمحتلة من أجل أحادية تريدها، ولذلك لا يضيرها أن تقوم في جوارها بلدان ذات صبغة أحادية، وإذا تعذّر ذلك فبلدان منقسمة إلى فدراليات وكانتونات، تسير بالحدّ الأدنى من الإمكانات، فتبقى لها اليد العليا في إدارة شؤون المنطقة بدعم واضح من الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً والغرب عموماً، وإغضاء عربي لم يَعُد من الصعب تلمّسه. واذا كان وضع المسيحيِّين والشيعة والدروز في لبنان يختلف راهناً عمّا هو عليه الوضع في الدولة الجارة، فإنّ الاتصال الجغرافي والواقع الجيو-سياسي يجعل لبنان أكثر عرضة للعدوى السورية، وهذا الهاجس يستبدّ بأبناء هذه الطوائف، ولا سيما منهم المسيحيّون، لأنّهم منتشرون ديموغرافياً وعقارياً على امتداد الجغرافيا اللبنانية، ومن المتعذّر طمأنتهم بفدرالية تمتلك مقوّمات الثبات بعد الهجرات الداخلية التي تسبّبت بها الحروب فيه وعليه منذ العام 1975، بعكس مناطق وجود الشيعة والدروز المعروفة والمحدّدة. وإنّ السؤال المطروح هو: هل يمكن اللامركزية الإدارية الموسعة أن تشكّل حلاً؟ في الواقع إنّ الأقليات في منطقة الشرق الأوسط، بما فيها لبنان، في حاجة إلى دساتير مدنية تحقق المواطنة قانوناً وشعوراً، وتساهم في نزع الهواجس، وتفتح باب المشاركة الوطنية في إدارة شؤون الدولة على قاعدة المساواة مع الأخذ بالنسب العددية للسكان. إنّ أقسى ما تعانيه الأقليات هو شعور أبنائها بأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية، وهذا ما يُفسّر انكفاءهم وعدم تفاعلهم الإيجابي مع محيطهم، ومَيلهم الدائم إلى الهجرة، في وطن لا يطمئنّون إلى مستقبلهم فيه.
الأشهر المقبلة هي محك المستقبل، والفاصلة بين مرحلة ومرحلة إذا ساعدت التطوّرات المتسارعة على ترسيم هوية سوريا الجديدة وتحديد معالمها. وإلّا، فإنّ الغموض سيبقى يلفّ المشهد الشرق أوسطي مع ما يحمل من مخاطر.
هذا هو الهدف من الإضاءة على هذا الملف، من دون أن تكون من وراء إثارته أي غاية سوى الحرص على التعدّد والتنوّع في المنطقة، والحفاظ على ثقافة الحياة المشتركة بين مكوّناتها، وذلك انسجاماً مع تاريخها الحضاري، وهي منبع الديانات السماوية، والفلسفات القديمة، وإحدى الركائز - الأساس للحضارة الإنسانية الممتدّة منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى البلد
منذ 2 ساعات
- صدى البلد
خالد الجندي: الإسلام دين ينظم شئون الدنيا والآخرة ولا يترك الإنسان للفوضى
قال الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، إن الإسلام دين كامل وشامل لم يترك جانبًا من جوانب الحياة إلا وتناول أحكامه وضوابطه، موضحًا أن الدين الحنيف لا يقتصر على قضايا العبادات فقط، بل يشمل شئون الدنيا والآخرة معًا. وأضاف الجندي، خلال حلقة برنامج "لعلهم يفقهون"، المذاع على قناة "dmc"، اليوم السبت، أن هناك من يحاولون التقليل من شمولية الإسلام بالقول: "ما للإسلام وما للقوانين أو العقود أو القضايا العامة"، معتبرًا أن هذا طرح خاطئ يتجاهل حقيقة أن الدين يتناول مختلف مجالات الحياة بما فيها القوانين والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية. وأشار عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية إلى أن التدين المنضبط هو السبيل لتحقيق حياة منضبطة في الدنيا والآخرة، مؤكدًا أن الانفلات من الدين هو انفلات من الدنيا نفسها، مستشهدًا بقول الله تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، دلالة على أن الإسلام يغطي كافة تفاصيل الحياة. وأوضح الجندي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأمة كل ما يتعلق بتنظيم الحياة، حتى الأمور الدقيقة واليومية، مما يعكس شمولية التشريع الإسلامي، لافتًا إلى أن الفقه الإسلامي له رأي في كل القضايا التي تمس حياة الإنسان. وشدد على أن الإسلام لم يترك الإنسان عرضة للفوضى أو العبث، بل نظم العلاقات الإنسانية كافة؛ بدءًا من علاقة الحاكم بالمحكوم، والمعلم بالطالب، مرورًا بحقوق الوالدين والأبناء، وصولًا إلى الشأن العام الذي يحقق الاستقرار المجتمعي. وأكد الجندي أن الإسلام دين حياة، وأن كل ما يتعلق بالشأن العام يدخل ضمن اهتماماته، وأن إغفال هذا الجانب أو فصله عن الدين يمثل خطرًا على استقرار المجتمع وفهم الناس لحقيقة الرسالة الإسلامية.


صدى البلد
منذ 11 ساعات
- صدى البلد
هل زواج الإكراه زنا؟.. أزهري يوضح الحكم الشرعي
أكد الشيخ طارق نصر، أحد علماء الأزهر الشريف، أن زواج الإكراه لا يُعد زواجًا صحيحًا في الشريعة الإسلامية، مشددًا على أن الزواج في هذه الحالة يفتقر إلى أحد أهم شروطه وهو الرضا، وبالتالي يُعتبر زواجًا غير مكتمل الأركان. الإسلام يشترط رضا الطرفين وخلال لقائه ببرنامج "علامة استفهام" مع الإعلامي مصعب العباسي، أوضح الشيخ طارق أن الإكراه سواء كان على الرجل أو المرأة، مرفوض شرعًا، مضيفًا أن الزواج في الإسلام يجب أن يقوم على المودة والرحمة والاتفاق. هل يعتبر زواج الإكراه زنا؟ وفي رده على سؤال هل يُعد زواج الإكراه زنا؟، أكد الشيخ الأزهري أن هذا النوع من الزواج، رغم بطلانه شرعًا، لا يُعد زنا، نظرًا لوجود عقد زواج شكلي، حتى وإن كان فاقدًا للرضا الحقيقي من أحد الطرفين، خاصة الفتاة التي قد تكون مجبرة عليه. حالات يُجبر فيها الفتيات على الزواج أشار الشيخ طارق نصر إلى أن بعض الفتيات يتعرضن للإجبار على الزواج، مؤكدًا أن هذا يُعد ظلمًا لهن، لكنه لا يُدخل العلاقة ضمن حدود الزنا طالما تم العقد، وإن كان بالإكراه.


صدى البلد
منذ يوم واحد
- صدى البلد
خطيب الجامع الأزهر: الوحدة سبب أمان المجتمع من أعدائه
ألقى خطبة الجمعة اليوم بالجامع الأزهر الدكتور عبد الفتاح العواري، العميد الأسبق لكلية أصول الدين بالقاهرة، عضو مجمع البحوث الإسلامية، والتي دار موضوعها حول (دعوة الإسلام إلى الوحدة). خطيب الجامع الأزهر: شريعة الإسلام أتت لتجعل المؤمنين أمة واحدة قال الدكتور عبد الفتاح العواري، إن شريعة الإسلام أتت لتجعل المؤمنين بالله سبحانه وتعالى، أمة واحدة في مبادئها وعقيدتها وعباداتها، وفي قيمها وأخلاقها، وفي هدفها وغايتها، والقارئ لآيات القرآن الكريم يقف على آيتين من آيات ربنا سبحانه وتعالى، تجسدان لنا معنى الوحدة يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾. وأشار خطيب الجامع الأزهر إلى أن الآية الثانية في سورة المؤمنون، فقد جمع الله بين الرسل والأنبياء، وبين الإيمان وجماعة المؤمنين، لأن في هذا ارتباطا وثيقا؛ فالله أرسل الرسل والأنبياء لأجل أن يتحقق الإيمان به يقول تعالى: ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾. وحذر خطيب الجامع الأزهر من الفرقة، لأن التشتت والتمزق لا يعود بالخير على الأمة، لأن ديننا الحنيف لا يريد لنا أن نكون فرقاء ولا أحزاب متقطعة الأوصال، إنما يريد أمة وجماعة وصفاً واحداً على قلب رجل واحد، كما يحثنا على الوحدة والاستقامة حتى نكون عصا قوية لا يمكن لأي عدو أن يفكر في كسرها، يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، أمر من الله باتباع الصراط المستقيم، وليس هناك صراط مستقيم إلا في هدي النبي ﷺ، فلماذا نغفل ولا نتمسك بهذه الوصية يقول ﷺ: (الوحدة رحمة والفرقة عذاب)، فالوحدة هي الأمن والاستقرار والطمأنينة، وهي السبب في أمان المجتمع من أعدائه. وأكد خطيب الجامع الأزهر على أن يد الله مع الجماعة، كما أن تدبر القرآن الكريم سبب في تحقيق الوحدة لما فيه من الآيات والعبر الدالة على الوحدة، لتعيش الأمة في أمان واستقرار، وعلى أمة الإسلام أن تتوحد في مبادئها وغايتها وأهدافها، مبينا أن الفرقة استهدفت الأمة الإسلامية، في الوقت الذي توحدت فيه "أمم الباطل" عسكريًا واقتصاديًا وعسكريًا. وفي ختام الخطبة دعا خطيب الجامع الأزهر إلى ضرورة العودة إلى مبادئ الإسلام، محذرًا من الاستسلام للخوف كما جاء في الآية: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾، لأن التمسك بالإسلام هو الطريق الوحيد للنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة.