
أسوأ يوم في تاريخ المسجد الأقصى!
فهذا اليوم شهد تغييرات جذرية غير مسبوقة في المسجد الأقصى، لم تكن متخيلة منذ احتلاله، وثبّتت واقعا جديدا أنهى الوضع القائم في المسجد واقعيا، ولا يمكن تصور وضع أو يوم أسوأ منه إلا فيما لو تمكن الاحتلال من تقسيم المسجد، أو بناء كنيس داخله، لا قدر الله.
هذا اليوم شهد أكبر عدد من المقتحمين في يوم واحد في تاريخ المسجد الأقصى منذ الاحتلال، حيث اقتحمه 3969 مستوطنا حسب إحصاء دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس.
وللمفارقة، فإن جماعات المعبد المتطرفة اعترضت على هذا العدد، حيث اعتبر المتطرف (أساف فريد) أن هذا العدد أكبر من عدد المقتحمين الحقيقي الذي سجله اتحاد منظمات المعبد، وهو 3527، أي بفارق حوالي 400 مستوطن.
وفي الحقيقة فإن تعداد دائرة الأوقاف الإسلامية أكثر دقة؛ لأنها تحتسب المقتحمين جميعا بمن فيهم الذين يقتحمون المسجد باعتبارهم "سياحا"، لا من نشطاء جماعات المعبد المتطرفة فقط، كما تفعل هذه الجماعات.
وهذا حق، لأن ما يسمى "السياحة" في المسجد الأقصى تتم منذ 2003 برعاية جيش الاحتلال دون أي موافقة أو ترتيب مع الأوقاف الإسلامية.
لكن ما تمكنت جماعات المعبد المتطرفة من إنجازه في هذا اليوم لم يكن مقصورا على العدد الأكبر من المقتحمين في تاريخ الأقصى، بل تعداه إلى الكيفية التي جرى بها هذا الاقتحام؛ حيث حفل اليوم بأحداث في غاية الخطورة من المقتحمين؛ فقد استولوا على ساحات المسجد الأقصى المبارك بشكل كامل، واختاروا إقامة ما يسمى "صلاة شماع" التي تعتبر الصلاة الأساسية في الديانة اليهودية في ساحة المصلى المرواني، إلى جانب الجامع القِبلي لأول مرة في تاريخ الصراع أيضا.
وأقيمت صلوات "بركات الكهنة" وصلاة الصباح والظهيرة في المنطقة الشرقية للمسجد الأقصى المبارك، والتي بات الاحتلال اليوم يعاملها باعتبارها كنيسا معنويا غير معلن، ويَمنع المسلمين من الصلاة فيها أو الاقتراب منها حتى في غير أوقات الاقتحامات.
كما كررت جماعات المعبد المتطرفة في هذا اليوم المحاولات المحمومة لإدخال أدوات خاصة للصلاة وعلى رأسها لفائف التوراة، وقد نشر المتطرف (تومي نيساني) زعيم منظمة "بيدينو" المتطرفة صورة لنفسه، وهو يحمل لفائف التوراة الكبيرة ويدور بها في البلدة القديمة؛ احتجاجا على عدم تمكينه من إدخالها إلى المسجد الأقصى.
وبادر بعض أعضاء هذه الجماعات إلى إدخال أداة "التيفلين" التي تلف على الأيدي والرؤوس وتستعمل للصلاة إلى داخل المسجد الأقصى المبارك، بالإضافة إلى أداء ما يسمى "السجود الملحمي" الجماعي.
إلى جانب هذه النقاط المتعلقة بالشكل الديني للمناسبة، باعتبارها تتعلق بذكرى خراب المعبدين؛ الأول والثاني حسب الأسطورة الدينية، جنح المستوطنون إلى "قومنة" هذا اليوم الديني؛ أي صبغه بصبغة قومية، وهذا يجري للمرة الأولى، في مقابل حرصهم المسبق على صبغ المناسبات القومية بصبغة دينية.
فقد لوحظ هذا العام رفع الأعلام الإسرائيلية بشكل جماعي داخل المسجد الأقصى، الأمر الذي يختص به في العادة ما يسمى "عيدَ الاستقلال" ذا الطابع القومي.
إن وضعنا هذه العملية في سياق ما يتم خلال الأعياد القومية بالمقابل كما ذكرنا، فإننا نجد أنفسنا أمام عملية منظمة لخلط طبيعة المناسبات التي يحتفل بها المستوطنون في المسجد الأقصى، وصبغها بشكل موحد جديد "ديني- قومي".
وهذا يهدف لجعل قضية السيطرة على المسجد مسألة لا تخص التيارات الدينية في إسرائيل فحسب، وإنما تجتذب حتى بعض أنصار التيارات القومية العلمانية التي تعتبر مسألة المعبد رمزية تاريخية قومية فقط.
بمعنى آخر: نحن الآن أمام نقطة تحول تاريخية عملت فيها جماعات اليمين الإسرائيلي وتيار الصهيونية الدينية على تحويل الصراع على المسجد الأقصى ليشمل الكل الإسرائيلي بشقيه: المتدين والعلماني، الذي تجمعه قومية الدولة اليهودية حسب رؤية هذه الجماعات.
وذلك بعد أن كان صراعا يبدو محدودا مع قسم صغير من تيار متدين في دولة الاحتلال، كانت تمثله جماعات المعبد المتطرفة المعزولة عن المجتمع والحكم، وبعيدا عن التدخل المباشر للمستوى السياسي في إسرائيل.
هذا التحول الإستراتيجي في شكل الصراع مثّله حرص المقتحمين على أن يكون ممثلو المستوى السياسي الإسرائيلي موجودين على رأس كافة محطات الاقتحام؛ فوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير قاد بنفسه عملية الاقتحام من ثلاث نقاط: بدأها بمنطقة باب القطانين مع المتدينين الحريديم، ثم انتقل لقيادة الاقتحام بل وقيادة صلاة جماعية داخل المسجد الأقصى، وختمها بالانتقال إلى أداء الصلوات في منطقة حائط البراق.
وأما عضو الكنيست عن حزب الليكود، عميت هاليفي، وهو عراب مشروع تقسيم المسجد الأقصى الذي قدمه للكنيست قبل عملية طوفان الأقصى بثلاثة أشهر، فقد قاد عملية رفع الأعلام الإسرائيلية داخل المسجد الأقصى، وذلك برفقة عضوة الكنيست السابقة عن حزب البيت اليهودي شولي موعلام التي قادت غناء النشيد الوطني الإسرائيلي "هاتيكفا" في الأقصى. بينما قاد عضو الكنيست عن حزب الليكود أيضا أوشر شيكليم عملية السجود الملحمي داخل المسجد.
هذا المستوى غير المسبوق من التداخل الإسرائيلي بين الرسمي والشعبي والقومي والديني في قضية المسجد الأقصى المبارك، يجعل أي حديث عن الوضع القائم في المسجد اليوم مجرد وهم.
فمكتب بنيامين نتنياهو الذي اعتاد العبث بهذه القضية لم يتأخر في سخريته المعهودة بإصدار بيان بعد كل ما جرى في المسجد- برعاية المستوى السياسي- ليدعي أن إسرائيل "متمسكة بالحفاظ على الوضع القائم" في المسجد الأقصى.
وهذا التصريح لم يعد اليوم أكثر من هراء لا يهدف إلا لذر الرماد في العيون، حيث يبدو واضحا أن تفسير مكتب نتنياهو لفكرة "الوضع القائم" يختلف عن المعنى القانوني لهذا التعبير، إذ يشير نتنياهو إلى أن فهمه للوضع القائم هو كل واقع جديد يفرضه الاحتلال في المسجد الأقصى، وبالتالي فلا معنى لادعاءات مكتبه بالحفاظ على الوضع القائم والتمسك به.
لا ننسى هنا أن قراري السماح للمستوطنين بأداء الصلوات علنا في المسجد الأقصى عام 2024 ثم السماح بالرقص والغناء علنا في المسجد عام 2025، كلاهما صدرا عن الحكومة الإسرائيلية التي يرأسها نتنياهو- ممثلةً بوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير- فعن أي وضع قائم يتحدث مكتب رئيس الحكومة؟
هذا المنطق الإسرائيلي لا يمكن فهمه إلا في نطاق استخفاف نتنياهو بالمستوى الرسمي العربي والإسلامي الذي يهتم بالتصريحات كما يبدو أكثر مما يهتم بالوقائع على الأرض.
وهذا أمر لم يعد مقبولا ولا مفهوما، إذ لا بد أن يكف المسؤولون العرب والمسلمون عن وضع الرؤوس في الرمال والادعاء أن ما يجري مجرد "سحابة صيف" يمينية متطرفة ستزول مع سقوط حكومة نتنياهو الحالية.
أقصى اليمين المتطرف في إسرائيل بات يحكم الدولة بالكامل، وشكل الآن فيها دولة عميقة عبر التغييرات الجذرية التي قامت بها حكومة نتنياهو الحالية على مدى السنوات الثلاث الماضية، ولا سيما منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة.
وينبغي أن نعلم أن المسجد الأقصى ليس بعيدا عن هذه التغييرات التي تستهدفه الآن بشكل مباشر، وقد بات الاحتلال يشعر بالراحة في تنفيذ هذه الأجندة؛ لأنه لا يجد أي مقاومة في المكان أو في الإقليم كاملا، وهو لا يخفي هذه الراحة.
ففي السابع عشر من شهر يوليو/ تموز الماضي انتشر فيديو لعضو الكنيست السابق عن حزب "زيهوت" موشيه فيجلين، الذي أعتبره للحقيقة أوضح من يكشف نوايا الاحتلال وطبيعة نظرته للمسجد الأقصى دائما، حيث قال في كلمة له في المنطقة الشرقية للمسجد الأقصى: (إن أول من أدرك أننا انتصرنا في هذه الحرب- في المسجد الأقصى- هي الأوقاف الإسلامية).
وأضاف: (قيل لنا على مدار سنوات إن صعودكم إلى جبل المعبد "المسجد الأقصى" سيشعل الشرق الأوسط، والواقع أنه كلما زاد صعودنا إلى المكان وأداء الصلوات بصوت مرتفع بالغناء والرقص، فإن الوضع في الأقصى يصبح بالنسبة لنا أكثر هدوءا، فلم ينفجر الشرق الأوسط ولم يحترق شيء).
محصلة كل هذه الحقائق أن الاحتلال نجح في هذا اليوم في تسجيل محطة انتقالية مركزية في الصراع على المسجد الأقصى المبارك باتجاه فرض هوية يهودية موازية تماما للهوية الإسلامية للمسجد، بل وتسمو عليها في حالات الصراع، وذلك تمهيدا لإيجاد موطئ قدم دائم في المسجد الأقصى يكون بداية السيطرة الكاملة على المسجد، كما جرى في المسجد الإبراهيمي في الخليل.
لن نمل من تكرار أن الحل الوحيد لهذه القضية يبدأ من التأزيم، وكلام فيجلين الذي نقلناه يؤكد هذه الحقيقة، فتأزيم الوضع في القدس شعبيا ورسميا على حد سواء هو الطريق الوحيد- وليس الأمثل فقط- ليشعر الاحتلال أن الاقتراب من الأقصى يجب أن يكون له ثمن مرتفع لا يستطيع دفعه. وإلا فإنه سيتقدم بسرعة غير مسبوقة مستغلا الحضيض الذي تعيشه المنطقة والإقليم إلى أبعد حد قبل أن نستيقظ من الصدمة على واقع جديد لا نحب حتى أن نتخيله، وعند ذلك لن ينفع الندم.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 24 دقائق
- الجزيرة
عائلات الأسرى الإسرائيليين تستقل مراكب بحرية باتجاه غزة
انطلقت صباح اليوم الخميس من عسقلان مراكب بحرية تقل عائلات أسرى إسرائيليين باتجاه قطاع غزة. وتأتي هذه الخطوة في إطار الضغط على الحكومة الإسرائيلية لحملها على التوصل لصفقة مع حركة حماس ، تتضمن الإفراج عن الأسرى الذين تحتجزهم بقطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقالت صحيفة "يسرائيل هيوم" إن الأسطول البحري انطلق من شواطئ مدينة عسقلان، وهو مؤلف من 11 زورقا و3 سفن ويحمل ممثلين عن عائلات الأسرى ووسائل الإعلام. ونقلت عن والدة الجندي الأسير متان آنغريست قولها إن العائلات خرجت على متن الزوارق "كي تكون أقرب إلى أبنائها المخطوفين ولوقف الجنون الحاصل". وقالت "سوف أنادي ابني من على متن الزورق وأخبره أنني إلى جانبه وأن عليه الصمود، ويجب إعادة جميع أبنائنا من غزة وقد مضى وقت طويل". وأضافت "نتنياهو عرقل صفقة تبادل الأسرى مستغلا ألم عائلات المخطوفين. واستغل وجعي وأكد لي أن الاتفاق سيعيد جميع المخطوفين". واعتبرت أن من يريد اتفاقا لا يذهب لاحتلال غزة ويعرض المحتجزين والجنود للخطر، "هذه الليلة ستكون ليلة مصيرية وحاسمة في حياة دولة إسرائيل". ودعت للتظاهر اليوم أمام مقر انعقاد المجلس الوزاري المصغر بالقدس المحتلة. وأضافت أن المتظاهرين سيملؤون الشوارع من هذه الليلة من أجل وقف ما يجري. وقالت عائلات الأسرى -في بيان- إن الإبحار نحو غزة يهدف إلى إسماع صرخة مدوية "بأننا نريد إعادة أبنائنا قبل فوات الأوان".


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
إسماعيل هنية: في ذكرى الرحيل
تأتي هذه الإطلالة على شخصية الشهيد إسماعيل هنية، لا كتعريف عادي بقائد سياسي، بل كتأمل في مسيرة رجل حمل على عاتقه هموم وطنه وشعبه في أصعب الظروف، وظل ثابتا في مواجهة التحديات الكبرى التي عصفت بفلسطين وقضيتها؛ ففي زمن يتسم بالاستهداف والتآمر، يبرز هنية كرمز للمقاومة والوحدة، وقائد صنع بصمته في سجل النضال الفلسطيني، متحديا الحصار والعدوان، محافظا على بوصلة القدس والتحرير رغم كل العواصف. هذا المقال يستعرض محطات حياته، ومواقفه، وإرثه الذي شكل إحدى الدعائم الصلبة للمشروع الوطني الفلسطيني. وُلد إسماعيل هنية من رحم المقاومة، من قلب مخيم الشاطئ للاجئين، ونشأ على خط النار وفي أحضان المأساة. قاد حركة حماس خلال عقدين زاخرين بالتعقيدات والتقاطعات والتحديات، ولم يحِد يوما عن منهجه الوطني الأصيل، منطلقا من فهم عميق لانتمائه الإسلامي، ومُرسِخا بصمته الراسخة على قواعد ثابتة لا تتبدل. من معايشته في مختلف المراحل لمست فيه وجها دائم الابتسام، وسلوكا أخلاقيا رفيعا، وتواضعا جما، وحرصا على صلة الرحم. كان قارئا نهما، واسع الاطلاع، دؤوبا في متابعته السياسية، مميزا في قدرته على صياغة المواقف الوحدوية والإقناع، مدعوما بحفظه لكتاب الله، وتخصصه في اللغة العربية، وسرعة بديهته، وذكائه الاجتماعي، وذاكرته الدقيقة، فضلا عن هدوئه وشُوراه الواسعة، والتزامه بالسياسة العامة لحماس، حاملا مشروع مقاومة أصيلة ذات أفق سياسي. لسنا بصدد التعريف به كقائد، فاسمه قد سُطر في سجل الخالدين بإذن الله ﴿ويتَخذ منكم شهداء﴾، وإنما نلقي إطلالة موجزة عليه كقائد أزمات في زمن الاستهداف والحصار، حين أُغلقت الأبواب، وتعاظمت المؤامرات، وتواصل العدوان، ومع كل ذلك ظل ثابتا على درب القدس، لم تضل بوصلة عينه، ولم تزغ خطاه عن المسار الإستراتيجي، بل بقي قائدا رساليا، يتطلع إلى الفنار وسط أمواج المحن. إعلان وفيه حضرت سير من المؤسسين، وعلى رأسهم الشهيد أحمد ياسين، الذي كان أبو العبد غرسه وتلميذه النجيب. وها هو يُختم له بالشهادة في طهران، رغم بُعده عن ميادين القتال، في طهر يشبه مآلات الأنبياء. في ظل قيادته، ارتقت حماس بفضل الله، ودماء الشهداء، وصمود الأسرى وثبات شعبنا، إلى قوة يُحسب لها حساب. غدت أمل الأحرار في الأمة والعالم، ورافعة مشروع التحرير، كالشجرة الباسقة تسر الزرّاع، ويغيظ بها أعداء الله ومن والاهم. قاد الشهيد هنية حركة حماس، وترأس قائمة "الإصلاح والتغيير" التي فازت في انتخابات 2006، حاصدة 74 مقعدا، ليصبح أول رئيس وزراء من حماس، وأول رئيس وزراء من مخيم لاجئين ومن غزة. قاد الحركة لدورتين، بعد أن كان قائدها في غزة في أحلك المراحل، فحمل الأمل المنعقد عليه وعلى أمثاله، وحاز ثقة شعبنا الباحث عن الخلاص في نفق الاحتلال الطويل، في زمن تفككت فيه مفاصل المؤسسات الفلسطينية، وغرقت فيه القضية في فصول التآمر والخذلان، فكان أبو العبد شعاع الأمل، ونموذج القيادة التي تليق بالقضية وتضحياتها. والده من بلدة الجورة قرب عسقلان، وقد استقر في مخيم الشاطئ بعد نكبة 1948. وعندما بلغ والده الكِبر، رزقه الله بولد فأسماه إسماعيل، مستحضرا قول الله تعالى: ﴿الحمد لله الذي وهب لي على الكِبر إسماعيل﴾، فشب الفتى في كنف والده الشيخ عبدالسلام، وتربى على تلاوة القرآن الكريم والمديح النبوي. ثم حظي برعاية إمام المسجد الغربي، الشيخ موسى غبن، الذي عينه خطيبا لمسجد الشاطئ وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره. وهناك التحق بدعوة الشيخ أحمد ياسين في أوائل الثمانينيات، فكان من أوائل تلامذته والمقربين منه. برَز في الجامعة الإسلامية قائدا طلابيا لافتا، وترأس مجلس طلبتها، كما وصفه الشيخ عبدالله نمر درويش بـ"الملسن"، لحضوره القوي. ومع انطلاقة الانتفاضة الأولى، اعتُقل بعد 15 يوما، ثم أُعيد اعتقاله في 1988، ثم في حملة 1989 الكبرى، وقضى ثلاث سنوات في الأسر، غدا خلالها أميرا للقسم، مميزا بأدواره الثقافية والتنظيمية. كما كان من مبعدي مرج الزهور في 1992، فتعمقت تجربته القيادية هناك، لا سيما في لبنان ومخيمات الشتات. كان تحرير الشيخ ياسين عام 1997 محطة فارقة في مسيرته، إذ لازم الشيخ مديرا لمكتبه، ووصف تلك المرحلة بأنها "الأثمن والأغلى" في حياته، حيث نضجت تجربته وترسخ حضوره السياسي. ثم جاءت انتفاضة الأقصى 2000، فكان من رواد المقاومة رغم المطاردة ومحاولات الاغتيال المتكررة: مع الشيخ ياسين، أو عبر طرود مسمومة، أو على معبر رفح. وبقي في وجدان الناس نموذجا للقائد المتواضع، محط إعجاب الجماهير، فحصل على لقب "أفضل حاكم مسلم" في استطلاع "إسلام أون لاين"، وكان الأكثر قبولا عربيا في استفتاء صحيفة القدس. بعد رحيل الشيخ ياسين والرنتيسي، برز أبو العبد باعتباره القائد السياسي الأبرز لحماس، بفضل شعبيته الواسعة، وعلاقاته الوطنية المتينة، وحضوره الاجتماعي الدافئ، وقيادته المتوازنة خلال عقدين من التحولات. قاد حركة حماس في واحدة من أعقد مراحلها، صامدا في غزة وهو يخوض معارك النزال المتتابعة في "الفرقان"، و"حجارة السجيل"، و"العصف المأكول"، وملحمة تحرير الأسرى في "وفاء الأحرار"، مقاوما التفكك في الضفة والقدس، وحافظ على حضور الداخل رغم تغول مشاريع التهويد. لم يكن قائدا لغزة فقط، بل لفلسطين كلها، ساعيا لاستنهاض الشتات الفلسطيني، موحدا الأقاليم الثلاثة، محولا السجون إلى ساحات صمود لا تنكسر. بنى مؤسسات متينة توفق بين جراح الداخل وقدرات الخارج، وارتقى بالحركة عبر البناء التنظيمي الحقيقي، داعيا إلى الاندماج والتكامل لا التنافس، نحو مشروع تحرري جامع، تظل فيه المقاومة الورقة الأقوى. ولم يغفل عن النواة الصلبة للحركة، تلك التي تحمل روحها وعمقها الإيماني والتربوي. رأى أن تحصين هذه النواة هو الحصن الأخير، وأن تهذيبها قيميا وتجديد أدواتها ضرورة لبقاء حماس كطليعة مقاومة واعية. فبين فقه الميثاق ووثيقة السياسة، وبين صعود الشهداء وتراكم التجربة، تبقى حماس بحاجة لنواة صلبة تقود ولا تنكسر. في زمن الانقسام وتعقيدات ما بعد أوسلو، مثّل أبو العبد حاملا لمشروع وطني جامع، حاول تجاوز إرث الشقاق بين فتح وحماس بمقاربة متوازنة، تجمع بين الثوابت والممكنات. وعلى الرغم من الاعتقالات التي طالته، حافظ على علاقات داخلية مرنة، مجسدا خطابا وحدويا، داعيا إلى شراكة وطنية حقيقية، وبناء منظمة تحرير جديدة. كان صوته صوت العقل والمقاومة، لا يغرق في الشعارات، ولا يتنازل عن الثوابت، ممثلا قيادة توازن بين الواقعية والتحرير، وترتقي لتضحيات الشعب وآماله. أما خارجيا، فقد قاد أبو العبد حماس وسط الحصار الدولي والعداء الأميركي، فأسس شبكة علاقات واسعة مع الجاليات والمنظمات، واخترق الجبهات الدبلوماسية في العالم رغم "الفيتو" الغربي، عبر دبلوماسية ذكية تشبه الحفر في الصخر. ساعده في ذلك التحول الشعبي العالمي تجاه فلسطين، خاصة في ظل تقاعس السفارات الرسمية. وأما إقليميا، فواجه بحكمة الحفاظ على البوصلة وصيانة الإرث موجةَ التطبيع والخذلان العربي، لكنه تمسك بخط المقاومة، مدركا أن الاشتباك السياسي لا يقل أهمية عن خنادق القتال. واجهت حماس، بقيادته، أثمانا باهظة من التهجير والملاحقة والاعتقال، لكنها لم تساوم، وبقيت وفية لقضية الإنسان والأرض. وسيسجل التاريخ أن حماس، بقيادة أبو العبد، مثلت صمام الأمان وعمود الخيمة في زمن الارتباك السياسي والانهيار الأخلاقي. ويبقى التحدي اليوم في تثبيت منهجية مدروسة للعلاقات الخارجية، تقوم على فهم عميق لمنظومة الحلفاء والخصوم، دون الانخراط في معارك لا تخدم فلسطين. لقد جسد الشهيد إسماعيل هنية نموذج القائد الوطني الثابت، الذي لم يتنازل عن الحلم رغم محاولات الاغتيال والتشويه، فبقيت قيادته لحركة حماس حصنا منيعا ومعبرا عن نبض شعبنا. إن إرثه ومواقفه ستظل نبراسا لأجيال المقاومة، تؤكد أن الطريق نحو الحرية لا يُبنى إلا بالثبات والوعي والإيمان. وهكذا، تغدو حياته ملحمة مقاومة وكفاح، يكتبها التاريخ بحروف من نور.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
إعلام إسرائيلي: الخلاف بين نتنياهو وزامير وصل إلى ذروته
سيطرت عملية احتلال قطاع غزة بالكامل على حديث الإعلام الإسرائيلي الذي قال إن الخلاف بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية- ورئيس أركانه إيال زامير ، وصل إلى ذروته بشأن هذه الخطوة التي وصفها البعض بأنها "الأهم في تاريخ الدولة". فقد تصاعد الخلاف بين الرجلين خلال الاجتماع الذي شهد كلمات قاسية بينهما، وانتهى دون أي ظهور مؤشرات على إمكانية التوصل لنقطة وسط. ووفقا لمحللة الشؤون السياسية في القناة 12 دانا فايس، فإن زامير يرفض احتلال القطاع بشدة ويوصي باستغلال مواقع سيطرة الجيش الحالية والعمل بمناطق الحصار والاقتحامات لاستنزاف حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والحفاظ على حياة الأسرى. وتناولت مراسلة الشؤون السياسية في القناة 13، موريا وولبيرغ، الموضوع نفسه مشيرة إلى أن الرجلين رفعا صوتيهما خلال الاجتماع الأخير، وتبادلا كلمات قاسية. فمن جانبه، أكد زامير أنه "من المحظور على الجيش الذهاب لهذه الخطوة لأنها ستؤذي المخطوفين (الأسرى)، بينما قال نتنياهو إن "عمليات الجيش لم تحرر الأسرى حتى الآن، ومن ثم يجب تغيير النهج". ورغم أن الجيش ليس مستعدا حاليا لهذه العملية فإنه ينتظر القرار النهائي الذي سيسفر عنه اجتماع اليوم الخميس بشأن ما يجب فعله خلال الفترة المقبلة، لكنه تلقى بالفعل تعليمات سياسية بالاستعداد لاحتلال القطاع، كما يقول محلل الشؤون العسكرية في قناة "24 نيوز"، يوسي يهوشوع. وأمام هذا الخلاف الكبير في وجهات النظر، لن يكون أمام زامير سوى الاستقالة إن قرر نتنياهو المضي قدما في هذه العملية التي وصفها المحلل السياسي في القناة 13 رفيف دروكر بأنها "إستراتيجية وتعتبر الأهم في تاريخ الدولة". فمن غير المعقول -برأي دروكر- أن يتولى زامير قيادة عملية بهذه الأمور والجميع يعرف أنه ليس مقتنعا بها. وإلى جانب تحذيره من التداعيات المحتملة للعملية العسكرية، تحدث زامير أيضا خلال الاجتماع الأخير عن شرعية إسرائيل التي تآكلت على المستوى والتي قد تتعرض لمزيد من المشاكل في حال محاولة احتلال القطاع بالكامل. وقد لفت محلل الشؤون العسكرية في قناة "كان" روعي شارون إلى أن "رئيس الأركان لم يقل إنه سينفذ كل ما يفرض عليه من أوامر، وفي الوقت نفسه لم يقل إنه سيفعل العكس، ومن ثم فإنه سيحدد موقفه النهائي بعد اتخاذ قرار في اجتماع اليوم". والأكيد، حسب مراسل الشؤون العسكرية في القناة 13 أور هيلر، أن الخلاف بين الرجلين "وصل إلى ذروته، ولا توجد أي مؤشرات على التوصل لحل وسط، فنتنياهو يقول إن مسألة احتلال غزة قد حسمت بينما زامير يعارض الأمر بشدة وصرامة". وتعليقا على هذا الخلاف المتصاعد بشأن العملية، قال الرئيس السابق لشعبة العمليات في الجيش يسرائيل زيف إن ما يجري يكشف إدراك الحكومة بأنها أصبحت عالقة. كما قال الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات عاموس يدلين إن الشخص الذي يقرر احتلال غزة بعملية عسكرية تناسب ما قررته الحكومة "هو عمليا يقرر التخلي عن المخطوفين بل قتلهم". ورغم أن الجيش يمتلك القوة التي تجعله قادرا على احتلال كامل القطاع في غضون شهرين، فإن ذلك سيكون فوق الأرض فقط، برأي المقدم احتياط إيلي مائيري، وهو من مؤسسي حركة "إلى الراية". أما تحت الأرض، فإن الأمر أكثر تعقيدا وسيتطلب وقتا طويلا، حسب مائيري، الذي قال إن إسرائيل "بحاجة لأفق مستقبلي، وإلا فإن هذه العملية ستكبدنا ثمنا باهظا من دماء الأسرى والجنود، وستصل إلى نفس ما هي عليه الآن"، واصفا الأمر بأنه "غير عقلاني".