
من "فيسبوك" إلى "تيك توك" – كيف تُعاد هندسة وعي المجتمعات؟
ففي حين تُستثمر المنصة في دول آسيوية وأوروبية وأميركية في تعزيز المحتوى التعليمي والإبداعي وتنمية المهارات، يغلب على نسختها المصرية – والعربية عموماً – محتوى يتسم بالتفاهة والسطحية، يتراوح بين الإيحاءات الفجة والمشاهد المثيرة والتمثيليات الساخرة من القيم الأسرية والاجتماعية. هذه الظاهرة لا يمكن قراءتها كمجرّد انعكاس لذوق عامّ أو فروق ثقافية، بل هي مؤشّر على إعادة توجيه ممنهجة لبوصلتنا القيمية.
الأمر لا يقف عند حدود الترفيه المبتذل؛ فالمنصة باتت تروّج لأنماط سلوك تهدم مفهوم العمل الجادّ والإنجاز الفعلي، لتحلّ محلّها ثقافة "الترند" اللحظي، والربح السريع بلا إنتاج حقيقي. ومع كلّ مقطع ينتشر، تتسلل رسالة ضمنية بأنّ النجاح يقاس بعدد المشاهدات والإعجابات، لا بقيمة الجهد أو المحتوى.
هذا التباين بين النسخ العالمية ونسختنا الإقليمية يفتح الباب أمام تساؤلات جادّة: هل نحن أمام صدفة بريئة نابعة من خصوصية اجتماعية؟ أم أنّ الخوارزميات موجّهة عمداً لدفع مجتمعاتنا نحو دوائر مغلقة من الاستهلاك الرقمي السطحي، كجزء من مشروع أوسع لإعادة تشكيل الوعي والسلوك في المنطقة؟
منذ أكثر من عقد، شهد العالم العربي انفجاراً رقمياً مع صعود "فيسبوك" وغيره من منصات التواصل، لتصبح ساحات التعبئة الشعبية والحشد السياسي. أدّت هذه المنصات دوراً بارزاً في إشعال شرارة "الربيع العربي"، لكنها كانت أيضاً المدخل إلى مرحلة جديدة من إعادة تشكيل الوعي الجمعي. فمن ساحات التظاهر المفتوحة إلى الفضاءات الافتراضية، بدأ التحوّل من الحشد الثوري إلى التوجيه الخفي للمجتمعات.
اليوم، نجد أنفسنا أمام نسخة أكثر نعومة وخفاءً من هذا التأثير، تجسّدها منصة مثل "تيك توك". لم تعد المسألة تتعلّق فقط بحرية التعبير أو كسر احتكار الإعلام التقليدي، بل أصبحت مرتبطة بإدارة دقيقة للمزاج العام والقيم والسلوكيات، من خلال محتوى مصمّم خصيصاً لجذب الانتباه وإعادة برمجة الأولويات.
الانتقال من "فيسبوك" الثوري إلى "تيك توك" الترفيهي ليس مجرّد صدفة زمنية؛ إنه مسار مدروس، حيث تحوّلت أدوات الحشد من خطاب سياسي مباشر إلى ترفيه مُعلّب يفرغ طاقات الأجيال في دوامة من المقاطع القصيرة واللحظات الزائفة. في هذه المساحة الجديدة، يصبح التحكّم في اتجاهات الفكر والسلوك أكثر انسيابية وأقلّ إثارة للشبهات، بينما يستمر المشروع الأوسع لإعادة صياغة هوية المنطقة ووعي شعوبها بوتيرة ناعمة ولكن ثابتة.
لم يكن مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" الذي تردّد في الخطاب السياسي الأميركي والإسرائيلي منذ مطلع الألفية مجرّد شعار للاستهلاك الإعلامي، بل كان تعبيراً عن رؤية استراتيجية متكاملة تهدف إلى إعادة رسم خرائط المنطقة جيوسياسياً وديموغرافياً وثقافياً. هذه الرؤية، التي استندت إلى نظرية "الفوضى الخلّاقة"، لم تعد تعتمد فقط على القوة العسكرية أو التدخّل المباشر، بل تبنّت أساليب أكثر نعومة وأطول أمداً، حيث تُزرع البذور في العقول قبل أن تُفرض على الخرائط.
29 تموز 12:03
3 حزيران 09:13
في هذا السياق، تحوّلت المنصات الرقمية إلى مسرح أساسي لتنفيذ هذه الاستراتيجية. فكما كانت الحروب التقليدية تفتح الأبواب لإعادة تشكيل السلطة والنفوذ، باتت الحروب الناعمة على الشاشات تمهّد الأرضية لإعادة تشكيل الهوية والثقافة. من "فيسبوك" الذي أدّى دور الشرارة الأولى في تحريك الشارع، إلى "تيك توك" الذي يُعيد صياغة السلوكيات والقيم اليومية، يمكن رؤية خيط واحد يربط بين أدوات الحشد المباشر وأدوات الترويض الناعم.
إنّ ما نشهده اليوم ليس مجرّد صدفة في مسار تطوّر المنصات الرقمية، بل هو جزء من إعادة تموضع واسعة لآليات النفوذ في المنطقة. واللافت أنّ هذا التحوّل يجري في العلن، تحت لافتة "حرية التعبير" و"المحتوى الترفيهي"، بينما يحمل في جوهره عملية إعادة صياغة للعقول والأولويات بما يتماشى مع مصالح من صاغوا مشروع "الشرق الأوسط الجديد" في غرف التخطيط المغلقة.
في بدايات العقد الثاني من الألفية، برز "فيسبوك" كمنصة الحشد الثوري الأبرز، حيث وفّر فضاءً مفتوحاً للشباب للتعبير عن آرائهم وتبادل الدعوات للتظاهر، بعيداً عن الرقابة التقليدية للإعلام الرسمي. لقد ساعد في كسر جدار الخوف، وربط بين أفراد وجماعات من مختلف المدن والقرى، ليصبح وقوداً أساسياً لشرارة "الربيع العربي".
لكن خلف صورة الحرية والانفتاح، كان هناك بعد آخر أقلّ وضوحاً وأكثر تأثيراً. فقد أظهرت الخوارزميات قدرة هائلة على تضخيم الانقسامات، ودفع النقاشات نحو الاستقطاب الحادّ، وتغذية مشاعر الغضب والتوتر. وبالتوازي، أدّت جهات دولية وإقليمية دوراً في تدريب بعض النشطاء على أساليب الحشد الرقمي وإدارة الحملات عبر المنصة، مما جعلها أداة سياسية بامتياز.
ومع انحسار الموجة الثورية، تحوّل "فيسبوك" من ساحة أمل للتغيير إلى مختبر لتفكيك الروابط الاجتماعية. فغياب البدائل المؤسسية، والانزلاق نحو صراعات الهوية والطائفية، فتح المجال أمام استغلال المنصة لإعادة تشكيل المجال العامّ بما يخدم مشاريع الهيمنة والنفوذ. هكذا، أتمّ "فيسبوك" انتقاله من كونه محفّزاً للثورات إلى أداة لإدارة الفوضى، وربما تكريسها.
إذا كان "فيسبوك" قد أدّى دور شرارة الحشد الثوري، فإنّ "تيك توك" يمثّل اليوم مرحلة أكثر نعومة وخطورة من إعادة تشكيل الوعي. فالتطبيق الذي اكتسح الهواتف في المنطقة، وخصوصاً في مصر، لم يعد مجرّد منصة لمقاطع مرحة أو رقصات عابرة، بل تحوّل إلى فضاء ضخم يغلب عليه المحتوى المبتذل والسطحي، الموجّه أساساً نحو شرائح شابة واسعة.
في قلب هذه الظاهرة، برز ما يُعرف بـ "التوبيرز" – نجوم تيك توك – الذين يجذبون ملايين المتابعين عبر مقاطع إيحائية أو ساخرة من القيم الاجتماعية، ويحقّقون أرباحاً طائلة من دون إنتاج ذي قيمة حقيقية. هذه الثقافة الرقمية تُرسّخ مفاهيم الربح السريع والنجاح اللحظي، مقابل تهميش ثقافة العمل الجادّ والإبداع المنتج.
الخطر الحقيقي يكمن في أنّ هذا الانحدار القيمي لا يحدث في فراغ، بل في سياق أوسع من توجيه الخوارزميات نحو ما هو مثير وصادم، مع غياب شبه كامل للمحتوى الهادف والتعليمي في النسخة العربية للتطبيق. وبالمقارنة، تُظهر نسخ التطبيق في بلدان أخرى حضوراً قوياً للمحتوى العلمي والفني والتنموي، ما يطرح تساؤلات جدّية حول ما إذا كان هذا التباين مجرّد مصادفة ثقافية أم جزء من هندسة ممنهجة لإبقاء مجتمعاتنا أسيرة الترفيه السطحي والفوضى الناعمة.
المواجهة لا تكون بالمنع الأعمى أو الرفض الانفعالي، بل برؤية استراتيجية تحصّن المجتمع من الداخل:
- ترسيخ التربية الرقمية في المدارس والجامعات كجزء من المنهج، لفهم المنصات والتعامل الواعي مع محتواها.
- الاستثمار في إنتاج محتوى عربي مؤثّر وهادف ينافس على جذب الانتباه بقوة المحتوى السطحي نفسه.
- إنشاء آليات رقابة ذكية تحمي الوعي من الانحدار، من دون أن تخنق حرية التعبير.
فالوعي ليس ترفاً فكرياً، بل هو الحصن الأخير للمجتمع. وإذا سقط، لن تُسعفنا التكنولوجيا ولا الشعارات في استعادة ما ضاع.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى البلد
منذ ساعة واحدة
- صدى البلد
زهرة رامي تكشف عن تأثرها بحلقة محمد عبد العاطي عليها
كشفت الفنانة والإعلامية زهرة رامي عن تفاصيل شخصية مؤثرة مرّت بها مؤخرًا، من خلال منشور على حسابها الرسمي بموقع 'فيسبوك' وكتبت زهرة في منشورها: "أنا بعدّي بفترات اكتئاب شديد.. وفي نوبة خطيرة منهم اتفرجت على حلقة محمد مع عبدالعاطي، والحلقة دي أنقذتني حرفيًا. شُفت الإنسان ده بعين تانية، واتفرجت على الحلقة 3 مرات من الانبهار". ورغم أنها لم تكن من متابعي البودكاست من قبل، إلا أن الحلقة غيّرت نظرتها تمامًا، ما دفعها لاحقًا لاستضافة عبدالعاطي في برنامجها، مؤكدة أنها تلقّت بعدها رسائل عديدة من الجمهور أبدت إعجابًا كبيرًا بشخصيته وطريقته في التفكير. ودافعت زهرة بشدة في منشورها، قائلة: 'أي حد هيكتبلي إنه تافه أو مش محترم، هتأكد إنه ما تفرجلوش أصلًا، لأنه ببساطة مافيش شتيمة بتبان لو ماكنتش موجودة جواك'، معربة عن استيائها من الشتائم والاتهامات التي وُجّهت لها بسبب دعمها له. وتساءلت في نهاية منشورها عن السبب وراء التحقيق معه، مؤكدة أن محتواه على يوتيوب متمنتج ومسجّل مسبقًا، ولا علاقة له بمنصات أخرى مثل «تيك توك». المخرج يسري نصر الله أعاد نشر البوست عبر حسابه الشخصي، في دعم واضح لكلمات زهرة وموقفها. المنشور أثار حالة واسعة من التفاعل بين الجمهور، ما بين متعاطف مع قصة زهرة وتقديره لجرأتها، وبين من يرى أن الدفاع عن شخصية مثيرة للجدل مثل عبدالعاطي هو أمر يستوجب الحذر.


الميادين
منذ 3 ساعات
- الميادين
"قمم التاريخ" معرض فني بمناسبة عاشوراء في طهران
تحت عنوان "قمم التاريخ"، افتتح أول أمس الثلاثاء، في مكتب الفنون التابع لمنظمة الإعلام الإسلامي في طهران، معرض فني يتمحور حول عاشوراء ويضم 10 سرديات قصيرة على شكل لوحات ومنمنمات. وتم اختيار المعرض من أرشيف مركز الفنون البصرية التابع للمكتب، بحسب ما أفادت وكالة "مهر". وشهد حفل الافتتاح حضور عدد من المسؤولين الثقافيين والفنانين والرسامين والمصورين. وفي كلمته خلال الفعالية، أوضح مدير مركز الفنون البصرية، محمد نصر آباد أن: "هذه الأعمال هي ثمرة سنوات من الجهد لمجموعة من الرسامين والمصورين الموهوبين، وقد تم جمعها لعرضها في هذا المعرض. من أرشيف المركز، تم اختيار 100 عمل فني من اللوحات والمنمنمات، تتمحور حول مفاهيم عاشوراء، أنجزها 40 فناناً، وتُعرض بأسلوب سردي فريد من نوعه". وأضاف أن: "ما يميز هذا المعرض عن غيره هو ارتباطه بفناني المسرح والسينما والتلفزيون، حيث تمت كتابة سرديات مختلفة على مدى فترات زمنية متعددة لترافق هذه الأعمال الفنية وتُعرض إلى جانبها". ويضم المعرض المفتوح حتى 24 آب/أغسطس، 10 سرديات تحمل عناوين منها: "بداية الملحمة"، و"صحراء الحرية"، و"فتح الدم"، و"مرآة النبي"، و"قصة الرأس"، وغيرها. وتشمل كل سردية مجموعة من الأعمال المرتبطة موضوعياً، كتبها فنانون وشخصيات من مجالات السينما والمسرح والتلفزيون والإذاعة، سبق لهم المشاركة في مشاريع تتعلق بعاشوراء. ويضم المعرض أعمالاً لـنحو 40 فناناً، منهم: مرتضى أسدي، وكاظم خليفة، ومرتضى حسيني، وجواد حميدي، وأحمد رضا رحيمي، وغيرهم.


الميادين
منذ 3 ساعات
- الميادين
إيران: إطلاق مهرجان إعلامي احتفاء بالمقاومة
أطلق "بيت الصحفيين" في طهران رسمياً مهرجان "قصة الصمود"، والذي يسلط الضوء على الدور الحيوي للسرديات الإعلامية في تعزيز الوحدة الاجتماعية والصمود الوطني. ويهدف المهرجان إلى تكريم الجهود المؤثرة للصحفيين والمذيعين وصانعي المحتوى الذين وثقوا صمود وتضحيات الشعب الإيراني خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على الأراضي الإيرانية. وبشعار "لكل صمود قصة" يؤكد المهرجان على أهمية الإعلام في تشكيل الرأي العام في أوقات الأزمات. كما "يسعى إلى تقييم وتكريم الأداء المهني لأولئك الذين رووا وسجلوا مشاهد المقاومة، كمثال على النشاط الإعلامي الملتزم، وأيضاً تعزيز مرونة المؤسسات الإعلامية، وتوثيق التجارب الإعلامية القيمة، ودعم خطاب وطني مقاوم يعزز التماسك الاجتماعي في ظل الحروب النفسية والهجينة"، وفق وسائل إعلام إيرانية. ويركز المهرجان أيضاً على "دعم الإعلاميين والمبدعين في إنتاج محتوى ملهم يعزز ثقافة المقاومة والصمود وتحديد وتمكين رواة الأزمات القادرين على المساهمة في تعزيز الصمود الوطني، وتحسين جودة الإنتاجات الإعلامية في مواجهة التهديدات الثقافية والأمنية". وينقسم المهرجان إلى 3 فئات رئيسية تشمل وسائل الإعلام المطبوعة ووكالات الأنباء، ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائل التواصل الاجتماعي. وتم الإعلان مؤخراً عن فتح باب التقديم للمشاركة في مهرجان "قصة الصمود"، داعياً الصحفيين، والنشطاء الإعلاميين، والمنتجين في مجال الصوت والصورة، والمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، والكتاب للمشاركة. وتُقبل المشاركات حتى 8 آب/أغسطس الجاري، ويُشترط أن تعكس الأعمال المقدمة مواضيع الصمود والمقاومة، وأن تكون قد نُشرت بعد انتهاء الحرب التي استمرت 12 يوماً.