logo
صنم الرأسمالية ينهار عالمياً

صنم الرأسمالية ينهار عالمياً

ورثت أمريكا تركة الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، وعلى رأسها بريطانيا، لكنها لم تعتمد في توسعها على الجيوش فحسب، بل على منظومة اقتصادية مصاغة بعناية تحت اسم 'الرأسمالية'.
هذه المنظومة قُدّمت للعالم لا كنظام اقتصادي فقط، بل كعقيدة لا تقبل التشكيك، وفُرضت على الدول قسرًا، تحت التهديد بالعقوبات أو التدخل العسكري. ومعها أصبح الدولار، مجرد ورقة بلا غطاء ذهبي منذ سبعينيات القرن الماضي، بمثابة 'الوثن المقدس' الذي يجب على البشرية أن تتعامل به، رغم أنه لا يحمل أي قيمة ذاتية خارج كونه أداة للهيمنة.
لكن هذا الصنم بدأ يتشقق، بل ينهار بصمت.
الزلزال الأول جاء من قلب المعقل ذاته، حين وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أول مرة ثم ثانية، حاملاً فكراً مناهضاً للعولمة والرأسمالية التي كانت تُقدّسها أمريكا لعقود. فرض رسوماً جمركية ضخمة، انسحب من اتفاقيات تجارية، وحاصر منافسيه تجارياً، غير آبه بالقيم الليبرالية التي طالما استخدمها سلفه كغطاء للتوسع.
هذا الانكفاء الأمريكي لم يكن معزولاً؛ بل تزامن مع حركة عالمية متصاعدة لإعادة النظر في النموذج الرأسمالي ذاته. الصين مثلاً، طورت نموذجاً اقتصادياً هجينا يرفض الخضوع الكامل لحرية السوق، ويعتمد على تدخل الدولة القوي في توجيه الاقتصاد، وها هي تنافس أمريكا في كل المجالات. روسيا، من جانبها، نجحت رغم العقوبات الغربية في بناء اقتصاد مقاوم يعتمد على الطاقة والتبادل المباشر بالعملات المحلية، بعيداً عن الدولار.
حتى الاتحاد الأوروبي، الحليف التاريخي لواشنطن، بدأ في البحث عن بدائل اقتصادية ومصرفية، منها 'إنستكس' لتجاوز العقوبات الأمريكية على إيران، وأبدى استعداده لاستخدام اليورو في التبادلات الدولية بدل الدولار.
أما في أمريكا اللاتينية، فتتوالى الانتخابات التي تأتي بقوى يسارية ترفع شعار 'التحرر من الهيمنة الاقتصادية الأمريكية'، كما حصل في بوليفيا والبرازيل وكولومبيا. إفريقيا أيضاً تشهد يقظة متزايدة، حيث بدأت دول مثل مالي وبوركينا فاسو بالتحرر من التبعية الفرنسية والأمريكية، وبدأت تتجه شرقًا، نحو الصين وروسيا.
العملات البديلة تتكاثر، وتزايدت الدعوات لإنهاء الاعتماد على الدولار في المبادلات الدولية، حتى في أوساط حلفاء واشنطن. مجموعة 'بريكس' تسير بخطى حثيثة نحو إنشاء عملة موحدة، وها هي الهند والصين وروسيا تبرم اتفاقيات تجارية بالروبل واليوان.
الرأسمالية الأمريكية لم تعد الحلم الذي يسعى إليه العالم، بل أصبحت عبئًا، مرادفًا للفقر لدى الجنوب العالمي، والتقشف لدى الأوروبيين، والركود لدى الأمريكيين أنفسهم. كل المؤشرات تشير إلى أن هذا النموذج الذي كان يُروّج له كـ'نهاية التاريخ' يواجه نهايته هو.
ولو تأملنا بنية الاقتصاد الأمريكي نفسه، لوجدنا أنها أقرب إلى الانكشاف منها إلى الصلابة. الديون الفيدرالية تتجاوز 34 تريليون دولار، وعملة الدولار لم تعد مرتبطة بأي غطاء مادي، وإنما مدعومة فقط بـ'الثقة' و'الطلب الإجباري'، المفروض على دول العالم، وفي مقدمتها دول الخليج. هذه الدول، التي تملك أكبر احتياطيات النفط والغاز في العالم، تبيع ثرواتها بالدولار الأمريكي حصراً، وتعيد ضخ العائدات في البنوك الأمريكية وسندات الخزانة، وكأنها 'صمام الأمان' الأخير للاقتصاد الأمريكي.
إنها حلقة مغلقة من التبعية المالية، تجعل واشنطن قادرة على طباعة ما تشاء من الدولارات، ثم استرداد قيمتها الحقيقية من عرق وموارد الشعوب الأخرى. وهنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا تبقى دول الخليج، تحديدًا، تحت العباءة الأمريكية؟ لماذا لا تتجه نحو الانفكاك من هذا الارتهان؟ لماذا لا تستثمر ثرواتها في بناء صناعاتها الوطنية وتنويع أسواقها وتحقيق استقلالها الاقتصادي الفعلي؟
الجواب المؤلم أن العلاقة بين واشنطن والخليج لم تُبنَ فقط على المصالح الاقتصادية، بل على شبكة عميقة من الأمن، والتحالفات، والنفوذ، والتداخل السياسي والعسكري. الولايات المتحدة لم تكن حليفًا اقتصاديًا فقط، بل وصيًّا فعليًا على مسار القرار الخليجي في كثير من المراحل. وحين حاولت بعض الدول كسر هذا النمط، وجدت نفسها في عزلة سياسية أو ضغوط داخلية أو حملات تشويه إعلامي.
لكن الرياح تغيّرت، والعالم لم يعد كما كان. هناك اليوم فرصة حقيقية أمام دول الخليج لإعادة صياغة موقعها من الخريطة الجيوسياسية، بالاستفادة من تعدد الأقطاب، ومن تصدع مركزية واشنطن. المطلوب فقط هو الإرادة، والشجاعة، والتفكير خارج الصندوق الأمريكي الذي حاصر المنطقة عقودًا طويلة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محمد محسن الجوهري

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"نيورالينك" ترفع تقييمها إلى 9 مليارات دولار بعد جولة تمويلية جديدة
"نيورالينك" ترفع تقييمها إلى 9 مليارات دولار بعد جولة تمويلية جديدة

اليمن الآن

timeمنذ 31 دقائق

  • اليمن الآن

"نيورالينك" ترفع تقييمها إلى 9 مليارات دولار بعد جولة تمويلية جديدة

أعلنت شركة "نيورالينك" التابعة لإيلون ماسك عن جولة تمويلية جديدة جمعت خلالها 600 مليون دولار، مما رفع تقييم الشركة إلى 9 مليارات دولار مقارنة بخمسة مليارات في 2023، وفقاً لوكالة "رويترز". وتعمل الشركة حالياً على اختبار رقاقة إلكترونية تزرع في المخ لمساعدة مرضى إصابات النخاع الشوكي على التحكم بالأجهزة الإلكترونية، بعد نجاح أول تجربة زراعة للرقاقة في تمكين مريض من تصفح الإنترنت وتحريك مؤشر الحاسوب. وحصلت الرقاقة مؤخراً على تصنيف "اختراق" من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية.

أسعار الصرف في عدن وصنعاء
أسعار الصرف في عدن وصنعاء

اليمن الآن

timeمنذ 43 دقائق

  • اليمن الآن

أسعار الصرف في عدن وصنعاء

شهدت أسعار صرف العملات الأجنبية، اليوم الأحد 1 يونيو 2025، تفاوتًا حادًا بين مناطق الحكومة الشرعية ومناطق سيطرة جماعة الحوثي، في ظل استمرار الانقسام المالي والنقدي في البلاد. ففي العاصمة المؤقتة عدن، بلغ سعر صرف الدولار الأمريكي 2534 ريالًا يمنيًا للشراء، و2552 ريالًا للبيع، فيما سجل الريال السعودي 665 ريالًا للشراء و668 للبيع. أما في العاصمة صنعاء، فسجل الدولار الأمريكي 535 ريالًا للشراء و537 للبيع، بينما بلغ سعر صرف الريال السعودي 139.80 ريالًا للشراء و140.20 للبيع.

كهرباء عدن فساد بالمليارات ومعاناة شعبية قد تخرج عن السيطرة .. تقرير
كهرباء عدن فساد بالمليارات ومعاناة شعبية قد تخرج عن السيطرة .. تقرير

اليمن الآن

timeمنذ ساعة واحدة

  • اليمن الآن

كهرباء عدن فساد بالمليارات ومعاناة شعبية قد تخرج عن السيطرة .. تقرير

تعيش العاصمة عدن ظلام دامس وانقطاعات كهربائية متواصلة ولفترات طويلة ما أثار غضب شعبي عارم لكل قاطني 'العاصمة عدن' الذين باتوا يتظاهرون باستمرار في مختلف شوارع عدن مطالبين بتحسين الأوضاع المعيشية والخدمية وفي مقدمتها الكهرباء. فساد مهول بكهرباء عدن بالمليارات ومعاناة تولد ثورة قادمة وتشهد 'عدن' أزمة كهرباء خانقة تتداخل بشكل كبير مع الانهيار الاقتصادي الشامل الذي تعاني منه المحافظة بشكل خاص والمحافظات المحررة عموما، حيث أدت التقلبات المستمرة في أسعار الصرف وعدم استقرار العملة المحلية والفساد الكبير في قطاع الكهرباء إلى التأثير سلبًا على استقرار الخدمة الكهربائية وصل إلى شبه انعدامها. وأرجع اقتصاديون تدهور قطاع الكهرباء في عدن إلى الفساد المستشري كعامل رئيسي وراء تفاقم الأزمة، مؤكدين أن الابتزاز والصفقات المشبوهة، إلى جانب غياب الرقابة وسوء الإدارة، جعلت القطاع رهينة لهذه التجاوزات. اقرأ المزيد... اليافعي يلتقي الشباب الإعلامي أعضاء مبادرة تأهيل خط أبين الدولي 1 يونيو، 2025 ( 1:35 مساءً ) 'ثورة النسوان في عدن' 1 يونيو، 2025 ( 1:25 مساءً ) ويرى مراقبون ان ذلك الفساد يمثل توجه دول العدوان السعودي – الإماراتي التي أعطت الضوء الأخضر باستمرار الفساد المهول بكل القطاعات بمناطق سيطرتها وخاصة بقطاع الكهرباء ما نتج عنه استمرار الانطفاءات الكهربائية بشكل كبير رفع معه حجم معاناة أبناء 'عدن' خاصة في موسم الصيف الأشد حرارة ووطأة على الناس. ومن نماذج فساد الكهرباء بعدن كان تقرير صادر عن الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة الموالي لحكومة الفنادق قد كشف عن تجاوزات جسيمة منها عقد شراء طاقة كهربائية بقدرة 100 ميجاوات على متن سفينة عائمة من شركة 'برايزم انتر برايس'، بقيمة 128 مليون دولار ولمدة ثلاث سنوات. وأوضح التقرير أن العقد تضمن بنودًا مجحفة لصالح الشركة المتعاقد معها على حساب المصلحة العامة، حيث تم دفع 12.8 مليون دولار كدفعة مقدمة دون ضمانات بنكية، ما يعرض حقوق قطاع الكهرباء للخطر في حال إخلال الشركة بالتزاماتها. وأكد التقرير أن التعاقد تم دون مناقصة عامة وبمشاركة شركات محدودة، ما يخالف قانون المناقصات ويهدر فرص تحقيق وفورات مالية للدولة. وأشار التقرير إلى أن العقد حملت بنوده تجاوزات أخرى، منها إلزام قطاع الكهرباء بدفع 17.8 مليون دولار لتنفيذ خطوط نقل ومحطة تحويل بزيادة تفوق 10 ملايين دولار عن العروض المقدمة من شركات أخرى. وشدد التقرير الذي نشرته وسائل إعلام مختلفة على أن الفساد في قطاع الكهرباء مؤخرا كلف الخزينة العامة 107 ملايين دولار سنويًا إضافية. إلى ذلك كشفت مصادر إعلامية (في وقت سابق) عن تورط حكومة فنادق الرياض الموالية لدول العدوان السعودي – الإماراتي في صفقة فساد جديدة تتعلق بقطاع الكهرباء، مما أدى إلى تكبيد الخزينة العامة أكثر من 15 مليون دولار في مناقصتين متعلقتين بتوريد الوقود لمحطات الكهرباء في عدن والمحافظات المجاورة. ووفقاً لوسائل إعلام فإن هناك سطو لعصابة فساد رئيس حكومة فنادق الرياض السابق معين عبدالملك، مشيراة تحديدا إلى المدعو أنيس باحارثة، مدير مايسمى بمكتب رئيس حكومة فنادق الرياض الحالي. ومن أبرز الاختلالات التي كشفت عنها تقارير محلية وخارجية بالإضافة إلى ماذكر تمثلت في: تعاقدات توريد مشتقات نفطية بقيمة 285 مليون دولار لعام 2022، مع تجاوزات واضحة لقوانين المناقصات. وكذا من ضمن الإختلالات وأجوه الفساد بقطاع الكهرباء بعدن عقود تحديث مصفاة مع شركة صينية بقيمة 180.5 مليون دولار دون حاجة فعلية. إضافة إلى مسألة الاختلالات التشغيلية في السفينتين 'أميرة عدن' و'لؤلؤة كريتر' واستئجار بواخر لنقل المشتقات النفطية، ما تسبب في هدر مالي كبير. ويضاف إلى ذلك شراء طاقة كهربائية من شركة 'برايزم إنتر برايس' بقيمة 128.05 مليون دولار بشروط مجحفة، تضمنت دفع 12.8 مليون دولار مقدماً دون ضمانات. وما بين تقارير الفساد ودعم دول العدوان السعودي – الإماراتي لأوجه الفساد المعلنة يعاني أبناء العاصمة عدن ويلات ارتفاع الحرارة في ظل عدم وجود كهرباء تخفف عنهم المعاناة وفي ظل انعدام شبه تام لمعظم الخدمات الأساسية وهو الأمر الذي جعلهم يخرجون مرارا للتظاهر في شوارع المحافظة .

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store