
دبي مرآة لتحول بوصلة العالم نحو الجنوب الشرقي
جانان غانيش
هل يمكن لأوراق القوة المتبقية بيد الغرب أن تقاوم رياح التغيير العالمي؟
هل بإمكانك نطق اسم «إمبراير» (Embraer) دون مساعدة؟ وهل سبق أن سافرت على متن إحدى طائرات هذا المصنع البرازيلي مع علمك المسبق بذلك؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي على أحد هذين السؤالين أو كليهما فلن يكون ذلك بالأمر الغريب، لكنّها بالتأكيد ستكشف الكثير عن واقع هذه الشركة في عالم صناعة الطيران.
لقد انقضى جيل كامل منذ صاغ جيم أونيل مصطلح «بريكس»، ومر نحو ضعف تلك المدة منذ أن أطلق دينغ شياوبينغ سياسة الانفتاح الصيني على العالم. وعموماً، فقد كان التحول التدريجي لمركز الثقل الاقتصادي والسياسي بعيداً عن دول شمال الأطلسي هو المشهد الخلفي الذي عشته طوال حياتي، وهو ما يدفعني بإلحاح إلى زيارة دبي تحديداً، فهي المرآة الأكثر وضوحاً لتحول بوصلة العالم نحو الجنوب الشرقي.
ورغم كل التحولات، ما زالت صناعة الطيران المدني أسيرة الاحتكار الثنائي بين عملاقي الغرب - إيرباص وبوينغ - في تجسيد واضح تماماً للهيمنة الأوروبية ـ الأمريكية، حتى إن المسافرين المخضرمين أنفسهم لا يملكون سوى تصور ضبابي عن أية قوة ثالثة في هذا المضمار، كما تبين لي مؤخراً أنني كنت أنطق اسم «إمبراير» منقوصاً مقطعاً صوتياً طوال الوقت.
ومع ذلك، تعتبر قصة تراجع النفوذ الغربي عميقة الجذور، مع تفاوت إيقاع هذا التراجع، فثمة مناطق نفوذ غربية ظلت محصنة ضد التغيير. وعلى سبيل المثال، فإن صناعة السلع الفاخرة العالمية تتربع على عرشها الماركات الفرنسية والإيطالية ذاتها التي كان بإمكان أي مراقب في 1990 تحديدها، بينما تحتفظ الجامعات الأمريكية بصدارة المشهد البحثي العالمي وهو ما تؤكده حصيلتها المتواصلة من جوائز نوبل.
يظل الدوري الهندي الممتاز للكريكيت مثالاً لمنافسة رياضية خارج الغرب تستقطب اهتماماً عالمياً جاداً، ولو حاول مراقب خارجي تقييم وضع العالم من خلال اللغة العالمية السائدة وخريطة العملات الاحتياطية، لاستعصى عليه تصديق مقولة «صعود بقية العالم» - تلك الظاهرة التي تتجلى في قطاعات وتغيب في أخرى.
وتشكل استمرارية التفوق الغربي في مجالات عالية الرمزية والظهور خدعة بصرية تحجب عن مواطنيه حقيقة تآكل نفوذهم العالمي، ويتجلى لي مثال على هذا التناقض يزداد غرابة مع مرور الوقت: فبالرغم من تضاعف عدد سكان الكوكب منذ 1975، وتضخم الإنتاج العالمي بالتوازي مع ركود الحصة الأمريكية وانحسار النصيب الأوروبي منه، لا تزال قمة الهرم العالمي للمدن حكراً على عاصمتين غربيتين - لندن ونيويورك - كونهما الوحيدتين اللتين تحتضنان بحق جميع جنسيات العالم بأعداد ذات مغزى، وتستقطبان كافة الفنون بمستويات عالمية، وتستأثران بالشريحة النخبوية من معظم المهن، من التمويل إلى البحوث الحيوية، وهي مفارقة تبدو عصية على المنطق في ظل التوسع الهائل للبشرية وتنوعها المتزايد.
دعوني أتوقع الرد المحتمل على كل ما سبق: «تحلوا بالصبر». التأخر الزمني ظاهرة طبيعية، فالسيارات الصينية لم تحظَ بسمعة عالمية إلى أن أصبحت كذلك بشكل مفاجئ ومؤثر، فلماذا لا ينطبق الأمر ذاته على العلامات الفاخرة من أمريكا اللاتينية أو الجامعات الفيتنامية؟ وستصبح مومباي مدينة «شاملة» بدرجة كافية، هذا إن لم تكن كذلك بالفعل.
قد ينظر المتشككون في مستقبل الغرب إلى أصول مثل إيرباص وبرادا وهارفارد باعتبارها مجرد بقايا من عصر ولى، أشبه بالصداع التالي للسُكر، أو كقطع الفضة الموروثة لعائلة فقدت مكانتها الاجتماعية، ومصيرها الحتمي التبدد مع الزمن، فهي محمية حالياً إما بحواجز دخول مرتفعة كما في صناعة الطيران، أو بالهيبة المرتبطة بالدول التي تمتعت بالثراء الفاحش لفترات طويلة كما في عالم الأزياء - وكلها عقبات يمكن تجاوزها في نهاية المطاف.
وأعتقد أن هذا التأخر الزمني هو جوهر القضية، فبينما يتم تناول التغيير بإسهاب في الكتابات والتحليلات، تُهمل قدرة الأنظمة القديمة على المقاومة والاستمرار، فصحيحٌ أن العالم تجاوز - من الناحية الواقعية - مرحلة الهيمنة الغربية (ويتجلى ذلك في تآكل تأثير العقوبات الأمريكية مؤخراً)، إلا أن ما يمكن وصفه بالنسيج اليومي للحياة من غير المرجح أن يعكس هذه الحقيقة لعقود قادمة، إن حدث ذلك على الإطلاق.
قد تبدو هذه الكلمات وكأنها تباهٍ من منظور العالم الثري، لكنها في حقيقتها تعبير عن هاجس شخصي، فبعد رحلات متعددة في الأشهر الأخيرة، أدركتُ كيف أن استمرار تفوق الغرب في مجالات معينة ذات رؤية عالية يخلق وهماً لدى مواطنيه حول حقيقة تراجع نفوذهم العالمي، وحين توصف منطقة الخليج بأنها درس حي في توازن القوى العالمية المستقبلي، فهو لا يزال درساً غير مكتمل، إذ يصعب الاستعداد بعد لعالم من تراجع الهيمنة الغربية حين تحافظ اللغة الإنجليزية على قوتها، وتتم المدفوعات بالدولار، ويتجول كثيرون وهم يرتدون قميصاً يحمل اسم «بيلينجهام» والرقم «5» على ظهورهم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العين الإخبارية
٠٧-٠٥-٢٠٢٥
- العين الإخبارية
تعريفات ترامب تهدد «خياط العالم».. 20 مليون شخص في خطر
كان من المتوقع أن يكون هذا العام عصيبًا على بنغلاديش، ففي الصيف الماضي، وفي خضم انهيار اقتصادي، أطاح المتظاهرون بالنظام الحاكم في البلاد. وقبل شهر، وبينما كانت الحكومة الجديدة لا تزال تعمل على استقرار اقتصاد بنغلاديش، وردت أنباء كارثية مفادها أن الولايات المتحدة فرضت رسوما جديدة بنسبة 37% على سلع البلاد. وبحسب نيويورك تايمز، تعتمد بنغلاديش على عائدات صادراتها لشراء الوقود والغذاء وغيرها من الضروريات. وسارع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تعليق هذه الرسوم الجمركية على بنغلاديش وعشرات الدول الأخرى، لكن احتمال إعادة فرضها يُقلق العمال الذين يكسبون عيشهم في مصانع الملابس في بنغلاديش. وتقول مورشيدا أختر، البالغة من العمر 25 عامًا، والمهاجرة من شمال بنغلاديش وتعيش بالقرب من دكا، أنها تُعيل أسرتها من خلال ماكينات الخياطة على مدى السنوات الخمس الماضية. وفي أحد الأيام مؤخرًا، تقدمت هي و200 عامل آخر، 70% منهم نساء، بطلب لوظائف جديدة في شركة A4 لصبغ الخيوط، في محاولة منها لتحسين دخلها. وأقرت السيدة بقلقها من الرسوم الجمركية، نظرا لأن عملها فيما بين الوظيفتين تعلق بصناعة الملابس. وقالت، "أخشى أن تنخفض الطلبات على الموظفين في هذه القطاعات بسبب أزمة التعريفات". وبنغلاديش، هي دولة يبلغ عدد سكانها 170 مليون نسمة، مكتظة في دلتا بحجم ولاية ويسكونسن الأمريكية، كانت محط شكوك عبر الزمن على المستوى الاقتصادي بعد نشأتها العنيفة في سبعينيات القرن الماضي. إلا أنها شهدت نموًا منذ ثمانينيات القرن الماضي بفضل صناعة الملابس، وجعل العمال البنغلاديشيون، والنساء منهم على وجه الخصوص، من البلاد "خياط العالم". وفي هذه العملية، أصبح المواطن البنغلاديشي العادي أفضل حالًا من المواطن العادي حتى في الهند، الدولة العملاقة المجاورة. وتعتبر السيدة أختر واحدة من حوالي 4 ملايين بنغلاديشي يعملون مباشرةً في صناعة الملابس للتصدير، وربما يعتمد 5 أضعاف هذا العدد، بمن فيهم زوجها وابنها، على وظائف مماثلة لوظيفتها. وفرض تعريفة جمركية كتلك التي خطط لها ترامب، إلى جانب آثارها الجانبية، مثل التعريفة الجمركية البالغة 145% التي فرضها على البضائع الصينية، من شأنه أن يُعطّل محرّك النمو في بنغلاديش. وقبل أن يُوقف ترامب الرسوم الجمركية، كتب له محمد يونس، الرئيس المؤقت لبنغلاديش والحائز على جائزة نوبل للسلام، رسالة يطلب فيها مهلة 90 يومًا. ووعد يونس بأن بلاده ستشتري المزيد من القطن الأمريكي وسلعًا أخرى للمساعدة في خفض فائضها التجاري، الذي بلغ العام الماضي 6 مليارات دولار. وكان راشد المحمود تيتومير، الخبير الاقتصادي في جامعة دكا، أقل تسامحا مع إجراءات ترامب، حيث وصف التهديد بالرسوم الجمركية بأنه "استعراض قبيح للقوة". وأضاف أن ذلك يأتي في الوقت الذي تواجه فيه البلاد، ركودًا اقتصاديًا وضعفًا اقتصاديًا. وأضعفت أزمة العملة في عام 2024 حكومة الشيخة حسينة، التي تولت الحكم بقبضة حديدية على مدى 15 عامًا. وتسببت إقالتها في فراغ أمني فوري، وبعد تسعة أشهر، لم تضع بنغلاديش بعد خطة لاستعادة ديمقراطيتها. وتُمثل الملابس ما يقرب من 85% من صادرات بنغلاديش، وتُشحن من صادراتها إلى الولايات المتحدة أكثر من أي دولة أخرى. وحتى لو لم يُعِد ترامب فرض الرسوم الجمركية البالغة 37% عند انتهاء فترة السماح التي حددها بنفسه في يوليو/تموز، فستواجه بنغلاديش الرسوم الجمركية البالغة 10% التي فرضها على العالم أجمع تقريبًا. aXA6IDIzLjI2LjYzLjcxIA== جزيرة ام اند امز NL


البيان
٢٧-٠٤-٢٠٢٥
- البيان
دبي مرآة لتحول بوصلة العالم نحو الجنوب الشرقي
جانان غانيش هل يمكن لأوراق القوة المتبقية بيد الغرب أن تقاوم رياح التغيير العالمي؟ هل بإمكانك نطق اسم «إمبراير» (Embraer) دون مساعدة؟ وهل سبق أن سافرت على متن إحدى طائرات هذا المصنع البرازيلي مع علمك المسبق بذلك؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي على أحد هذين السؤالين أو كليهما فلن يكون ذلك بالأمر الغريب، لكنّها بالتأكيد ستكشف الكثير عن واقع هذه الشركة في عالم صناعة الطيران. لقد انقضى جيل كامل منذ صاغ جيم أونيل مصطلح «بريكس»، ومر نحو ضعف تلك المدة منذ أن أطلق دينغ شياوبينغ سياسة الانفتاح الصيني على العالم. وعموماً، فقد كان التحول التدريجي لمركز الثقل الاقتصادي والسياسي بعيداً عن دول شمال الأطلسي هو المشهد الخلفي الذي عشته طوال حياتي، وهو ما يدفعني بإلحاح إلى زيارة دبي تحديداً، فهي المرآة الأكثر وضوحاً لتحول بوصلة العالم نحو الجنوب الشرقي. ورغم كل التحولات، ما زالت صناعة الطيران المدني أسيرة الاحتكار الثنائي بين عملاقي الغرب - إيرباص وبوينغ - في تجسيد واضح تماماً للهيمنة الأوروبية ـ الأمريكية، حتى إن المسافرين المخضرمين أنفسهم لا يملكون سوى تصور ضبابي عن أية قوة ثالثة في هذا المضمار، كما تبين لي مؤخراً أنني كنت أنطق اسم «إمبراير» منقوصاً مقطعاً صوتياً طوال الوقت. ومع ذلك، تعتبر قصة تراجع النفوذ الغربي عميقة الجذور، مع تفاوت إيقاع هذا التراجع، فثمة مناطق نفوذ غربية ظلت محصنة ضد التغيير. وعلى سبيل المثال، فإن صناعة السلع الفاخرة العالمية تتربع على عرشها الماركات الفرنسية والإيطالية ذاتها التي كان بإمكان أي مراقب في 1990 تحديدها، بينما تحتفظ الجامعات الأمريكية بصدارة المشهد البحثي العالمي وهو ما تؤكده حصيلتها المتواصلة من جوائز نوبل. يظل الدوري الهندي الممتاز للكريكيت مثالاً لمنافسة رياضية خارج الغرب تستقطب اهتماماً عالمياً جاداً، ولو حاول مراقب خارجي تقييم وضع العالم من خلال اللغة العالمية السائدة وخريطة العملات الاحتياطية، لاستعصى عليه تصديق مقولة «صعود بقية العالم» - تلك الظاهرة التي تتجلى في قطاعات وتغيب في أخرى. وتشكل استمرارية التفوق الغربي في مجالات عالية الرمزية والظهور خدعة بصرية تحجب عن مواطنيه حقيقة تآكل نفوذهم العالمي، ويتجلى لي مثال على هذا التناقض يزداد غرابة مع مرور الوقت: فبالرغم من تضاعف عدد سكان الكوكب منذ 1975، وتضخم الإنتاج العالمي بالتوازي مع ركود الحصة الأمريكية وانحسار النصيب الأوروبي منه، لا تزال قمة الهرم العالمي للمدن حكراً على عاصمتين غربيتين - لندن ونيويورك - كونهما الوحيدتين اللتين تحتضنان بحق جميع جنسيات العالم بأعداد ذات مغزى، وتستقطبان كافة الفنون بمستويات عالمية، وتستأثران بالشريحة النخبوية من معظم المهن، من التمويل إلى البحوث الحيوية، وهي مفارقة تبدو عصية على المنطق في ظل التوسع الهائل للبشرية وتنوعها المتزايد. دعوني أتوقع الرد المحتمل على كل ما سبق: «تحلوا بالصبر». التأخر الزمني ظاهرة طبيعية، فالسيارات الصينية لم تحظَ بسمعة عالمية إلى أن أصبحت كذلك بشكل مفاجئ ومؤثر، فلماذا لا ينطبق الأمر ذاته على العلامات الفاخرة من أمريكا اللاتينية أو الجامعات الفيتنامية؟ وستصبح مومباي مدينة «شاملة» بدرجة كافية، هذا إن لم تكن كذلك بالفعل. قد ينظر المتشككون في مستقبل الغرب إلى أصول مثل إيرباص وبرادا وهارفارد باعتبارها مجرد بقايا من عصر ولى، أشبه بالصداع التالي للسُكر، أو كقطع الفضة الموروثة لعائلة فقدت مكانتها الاجتماعية، ومصيرها الحتمي التبدد مع الزمن، فهي محمية حالياً إما بحواجز دخول مرتفعة كما في صناعة الطيران، أو بالهيبة المرتبطة بالدول التي تمتعت بالثراء الفاحش لفترات طويلة كما في عالم الأزياء - وكلها عقبات يمكن تجاوزها في نهاية المطاف. وأعتقد أن هذا التأخر الزمني هو جوهر القضية، فبينما يتم تناول التغيير بإسهاب في الكتابات والتحليلات، تُهمل قدرة الأنظمة القديمة على المقاومة والاستمرار، فصحيحٌ أن العالم تجاوز - من الناحية الواقعية - مرحلة الهيمنة الغربية (ويتجلى ذلك في تآكل تأثير العقوبات الأمريكية مؤخراً)، إلا أن ما يمكن وصفه بالنسيج اليومي للحياة من غير المرجح أن يعكس هذه الحقيقة لعقود قادمة، إن حدث ذلك على الإطلاق. قد تبدو هذه الكلمات وكأنها تباهٍ من منظور العالم الثري، لكنها في حقيقتها تعبير عن هاجس شخصي، فبعد رحلات متعددة في الأشهر الأخيرة، أدركتُ كيف أن استمرار تفوق الغرب في مجالات معينة ذات رؤية عالية يخلق وهماً لدى مواطنيه حول حقيقة تراجع نفوذهم العالمي، وحين توصف منطقة الخليج بأنها درس حي في توازن القوى العالمية المستقبلي، فهو لا يزال درساً غير مكتمل، إذ يصعب الاستعداد بعد لعالم من تراجع الهيمنة الغربية حين تحافظ اللغة الإنجليزية على قوتها، وتتم المدفوعات بالدولار، ويتجول كثيرون وهم يرتدون قميصاً يحمل اسم «بيلينجهام» والرقم «5» على ظهورهم.


البيان
١٠-٠٤-٢٠٢٥
- البيان
«فوضى ترامب».. محاولات يائسة لفهم سياسته
جانان غانيش في مطار سيام ريب، تتوه العيون بين السقف ذي التصميم البديع، وأرضية تزهو بلمعان يكاد يكون الأكثر تفرداً في العالم. كيف تمكنت كمبوديا، التي كانت تصنف قبل وقت وجيز ضمن الدول الأقل نمواً، وفقاً للأمم المتحدة، من تشييد منشأة بهذه الحداثة والأناقة، في ثاني أكبر مدنها؟ لا تترك اللافتات المنتشرة في الصالة مجالاً للشك: الاستثمارات والخبرات الصينية هي المحرك الأساسي وراء هذا الإنجاز. وفي أخبار أخرى، تقترح أمريكا فرض تعريفات جمركية قدرها 49% على كمبوديا. أما جارتها فيتنام، فتفرض عليها رسوماً قدرها 46%. وبالنسبة لسنغافورة، فقد لاذت من «المذبحة» بتعريفات 10%، لكنها تخشى على نموذجها الاقتصادي المعتمد على التجارة. وإذا كان جنوب شرق آسيا على خط المواجهة الأمامي في العراك الدائر بين أمريكا والصين، وهي المعركة التي اختار دونالد ترامب شنها، بعدما وصف سابقيه بأنهم كانوا ليّني العريكة مع بكين، فإن هذه التعريفات الجمركية يمكن أن تدفع بالدول المترددة إلى أحضان الصين، فيما ستبدأ الدول الموالية لأمريكا في التحوط. بعبارة أخرى، يتناقض هدف رافعي شعار «اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى»، المتمثل في احتواء الصين مع الهدف الآخر بشأن «يوم التحرير». الآن، دعوني أخمن: هناك سبب ذكي جداً وراء كل هذا، سيجعل كل شيء يبدو معقولاً، إذ دائماً ما يكون هناك سبب. لكن متى سيتوقف العالم عن البحث عن الاستراتيجية العظمى لترامب؟ يتذكر القراء البريطانيون بالدريك، الشخصية التلفزيونية سيئة الحظ، التي لطالما كان لديها «خطة ذكية» في جعبتها. لكن ترامب لا يدعي هذا. عوضاً عن ذلك، تنسب إليه خطط ذكية ممن يجدون صعوبة في تصديق أن العقيدة، والنزوات، والعدمية، عوامل في قمة السياسة. وهكذا لدينا النظرية الأكثر ذكاء من اللازم، وهي أن ترامب، بتعريفاته، يريد فقط الضغط على الدول للتوصل إلى اتفاق لخفض قيمة الدولار. إذا كان هذا هو الهدف، فلماذا لا يستهدف أكبر الاقتصادات؟ (ضم اتفاق بلازا في عام 1985 الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا الغربية وفرنسا واليابان). ما مدى تأثير مولدوفا، التي تواجه تعريفة بنسبة 31%، في أسواق الصرف الأجنبي؟ أو بوتسوانا؟ مهما كان رأي المرء في التعريفات من حيث المبدأ، فإن العشوائية الرياضية التي تم بها التوصل إلى هذه التعريفات، يجب أن تكون دليلاً على أنه لا توجد هنا لعبة شطرنج عظيمة. و«نظرية بلازا» ليست حتى المحاولة الأكثر غرابة في تبرير سياسة ترامب هذا العام. وبسبب اضطرار البعض لتبرير موقفه من أوكرانيا، اقترح بعضهم أن الأمر ربما يكون استخدام استراتيجية «نيكسون معكوسة»، لاستمالة روسيا للابتعاد عن الصين. ويبدو أنه لماذا قد يكون هذا ضربة استراتيجية قاصمة للصين، التي يبلغ عدد سكانها عشرة أضعاف روسيا، أمراً ليس من شأننا التساؤل عنه. وهناك نظرية موازية، تذهب إلى أن التقتير على أوكرانيا، سيحرر الموارد الأمريكية، ويجعلها متاحة للمسرح «الحقيقي» في آسيا. لكن إذا كان هو هدف ترامب، فإنه يجب أن يعزز أوضاع حلفاء أمريكا. لكن بدلاً من ذلك، كان ترامب هو أكثر الرؤساء وضوحاً في أن الضمانات الأمنية الأمريكية لا يمكن الوثوق بها. وإذا كان الأوروبيون يشعرون بأنهم مكشوفون، فلك أن تتصور كيف يشعر الفلبينيون أو اليابانيون حالياً، وكلاهما وقعوا اتفاقية دفاع مشترك مع أمريكا منذ عام 1951. أما بالنسبة لتايوان، التي لا يوجد لديها مثل هذا الشيء، فقد كان جو بايدن (ربما بتهور) صريحاً في استعداده للدفاع عن الجزيرة، بغض النظر عن أي شيء. ترامب ليس كذلك. وهذا خيار محترم. ولكن كيف يتفق ذلك مع فكرة أنه يدخر القدرة والمصداقية الأمريكية لمنطقة المحيط الهادئ؟ إنه لا يتفق. وليس المقصود به ذلك. في نهاية الأمر، هناك الكثير من التناقضات في وجهة نظر ترامب، إلى درجة أنها لا تبرر الحديث عن وجود خطة عظمى. على سبيل المثال، تعتبر تحركاته الحقيقتين التاليتين بأنهما من المسلمات: الصين قوة تساهلت معها الحكومات الغربية لوقت طويل. لكن هل يكون فيكتور أوربان جسر الصين نحو أوروبا رجلاً عظيماً؟ وإذا كانت الاستراتيجية تعني أي شيء، فهي الشعور بترابط الأمور، لكن لا يوجد أي من هذا في ذلك السياق. ومع ذلك، سيواصل العالم محاولته إيجاد أي شكل أو نمط في خضم هذه الفوضى. أعتقد أن الأمر إنما هو آلية تكيف عاطفية بالنسبة للكثيرين. ومن المطمئن، الاعتقاد بأن هناك خطة سرية تقوم على قدم وساق في الأوقات الأكثر إثارة للخوف، حتى وإن لم تكن خطة مستساغة. لكن يعتمل هنا ما هو أكثر من الخوف. ففي النهاية، تواجه المجتمعات الليبرالية صعوبة مع فهم الجهات غير العقلانية، أو حتى الاعتراف بوجودها. وحينما تواجه هذه المجتمعات تلك الجهات، يتمثل رد فعلنا في محاولة إيجاد منطق وراء تصرفاتهم، ويصل الأمر حتى إلى إضفاء صفة منطقية على تصرفاتهم. لكن حري بنا الإشارة إلى أن هذا الانقياد الأعمى وراء الحماس، هو أمر لا يمكن للغرب أن يفعل الكثير حياله الآن. إذا بنيت ثقافة على فكرة العقلانية العالمية، كما ينبغي لنا، فسيصبح من الصعب بمرور الوقت فهم الدوافع الأخرى للسلوك البشري. والأعمال التجارية فاشلة بشكل خاص في هذا الأمر. إن العقلانية الشديدة لأقطاب التكنولوجيا والمال، هي التي ورطتهم في مأزقهم الحالي بشأن ترامب. ليس الأمر أنهم اعتقدوا تحديداً أنه شخص عملي براجماتي مثلهم. بل إنهم يميلون إلى الاعتقاد بأن الجميع على شاكلتهم. وبالنسبة لي، فقد أهدرت ساعات طويلة وكثيراً من الخلايا العصبية، بحثاً عن خطة ترامب العظمى للعالم. هل توجد خطة؟ في واقع الأمر، يوجد لديه اعتقاد راسخ في أن وجود عجز في الحساب الجاري، هو بمثابة «خسارة». ويوجد لديه أيضاً استعداد للتفاوض، بل وحتى قبول شروط لا تناسبه، بهدف أن يعيش المجد اللحظي المرتبط بالتوصل إلى «اتفاق». لكن هل يوجد ما هو أكثر من ذلك؟ توجد لديه رؤية تنطوي على هيكل مالي وأمني جديد، ينافس ذلك الذي أسس له هاري ترومان، وهو ما قد يتحقق في أي لحظة. هل يجدر بي الانتظار والمشاهدة إذن؟ الفكرة مثيرة للضحك، ولدي أيضاً اعتقاد بأن ترامب يضحك كثيراً، لكنه يخفي ذلك.