logo
خوسي موخيكا.. نهاية رجل شجاع

خوسي موخيكا.. نهاية رجل شجاع

الجزيرةمنذ 12 ساعات

"هذا ليس وداعًا، إنها تحية إلى الأبد".. (المغني الشعبي الكوبي سيلفيو رودريغيز).
لطالما اقترنت صورة خوسي موخيكا، رئيس الأوروغواي السابق، في أذهان الناس بسيارته الفولكسفاغن العتيقة ذات اللون الأزرق الفاتح.
كانت وسيلته الأثيرة للتنقل بين مزرعته المتواضعة في ضواحي العاصمة مونتيفيديو ومقر عمله في القصر الجمهوري، حينما انتُخب رئيسًا للبلاد عام 2010.. تحوّلت هذه السيارة إلى أيقونة ورمز للنقاء السياسي والزهد في السلطة، ولم يفرط فيها حتى عندما عرض عليه أحد الأثرياء العرب مبلغ مليون دولار لبيعه إياها.
في الثالث عشر من مايو/ أيار، غادر موخيكا هذا العالم في سنّ التاسعة والثمانين، وقد خلّف إرثًا سياسيًا وإنسانيًا تردّد صداه خارج حدود الأوروغواي الضّيقة.
احترف موخيكا السياسة في ميعة شبابه، وفي منتصف ستينيات القرن الماضي ساهم في تأسيس حركة التحرير الوطني المعروفة بالتوباماروس، وهي فصيل ماركسي راديكالي، استوحى نضالاته من الثورة الكوبية، ونفّذ عمليات مسلحة ضد رموز السلطة ومؤسسات الدولة، تلقى موخيكا خلال إحداها ستّ رصاصات.
بمظهره الرثّ، وبساطته الشديدة، انتُخب موخيكا نائبًا في البرلمان عن حزب حركة المشاركة الشعبية، ثم اكتسب عضوية الكونغرس قبل أن يعيَّن وزيرًا للزراعة في أوّل تحالف لقوى اليسار يصل إلى السلطة
وفي مطلع السبعينيات اعتقل أكثر من مرّة، وتمكن في إحدى المحاولات من الهرب بمعية مائة وخمسة من رفاقه عبر نفق قبل أن يعاد اعتقاله. لاحقًا، قال موخيكا إنه تعلّم الكثير خلال سنوات العزلة الأربع عشرة التي قضاها في السجن بين التعذيب والعزل الانفرادي، والحديث إلى الحشرات حتى لا يصاب بالجنون.. وفي عام 1985، استعاد خوسي موخيكا ورفاقه حريتهم بموجب عفو صدر بعد انتهاء حقبة الحكم العسكري في الأوروغواي.
بمظهره الرثّ، وبساطته الشديدة، انتُخب موخيكا نائبًا في البرلمان عن حزب حركة المشاركة الشعبية، ثم اكتسب عضوية الكونغرس قبل أن يعيَّن وزيرًا للزراعة في أوّل تحالف لقوى اليسار يصل إلى السلطة.
لم يغير هذا "الرقي" الاجتماعي والطبقي شيئًا في سلوك وعادات موخيكا، ولم يتأثر بشعبيته الجارفة وافتتان المواطنين بشخصيته، بل إنه ظل وفيًا لنهجه المتواضع في الحياة حتى عندما أصبح -وهو في سن الرابعة والسبعين- رئيسًا للأوروغواي، في فترة شهدت صعود نجم اليسار في أميركا الجنوبية، وشكل محور ممانعة للتمدد الأميركي في القارة التي لطالما اعتبرتها الإدارات الأميركية المتعاقبة ساحة خلفية لها، في إطار تحالفاتها المشبوهة مع الدكتاتوريات والأنظمة العسكرية.
كُثر هم من شككوا في أهلية موخيكا لإدارة دفة البلاد في سياق اجتماعي واقتصادي بالغ التعقيد؛ إذ عاب عليه خصومه ماضيه في العمل المسلح، وأسلوبه الخطابي الحاد، وانتقاداته اللاذعة لتفشي ثقافة الاستهلاك في المجتمع، وهي انتقادات رد عليها بالقول إن أسوأ عيوبه هو جهره بما يفكر به، وإن "الديمقراطية الحقة هي تلك التي تسمح بإشراك الناس في اتخاذ القرارات بشكل يومي".
لكن الرئيس المسنّ فاجأ خصومه مثلما فاجأ مريديه! استجاب بداية لنصائح مستشاريه بضرورة الاهتمام بمظهره الخارجي، فوافق على تصفيف شعره الكثّ، والاعتناء بهندامه.. لكن الأهم من كل هذا هو أنه أطلق مبادرات غير مسبوقة للرفع من الحد الأدنى للأجور، ومحاربة الفقر والهشاشة الاجتماعية، ومكافحة البطالة، وتحقيق المساواة، والرفع من حجم الاستثمارات في قطاع الصحة، وتعزيز الحريات الفردية.. وفوق هذا وذاك، تبرع بقسط كبير من راتبه لتمويل برنامج للسكن الاجتماعي.
حينما غادر موخيكا السلطة في 2015، كانت شعبيته قد أدركت أعلى مستوياتها بعد أن شارفت على نسبة 70%، لكنه لم يكن راضيًا تمام الرضا عن حصيلته، خصوصًا في مجال مكافحة الفقر.. أقر متحسرًا بأن الواقع عنيد، وبأنه لم يستطع تغيير العالم، لكنه سعى جاهدًا من أجل توزيع عادل للثروات.
إعلان
لا جدال في كون خوسي موخيكا -الذي أطلقت عليه الصحافة الدولية عام 2011 لقب "أفقر رئيس دولة في العالم"- رمزًا للنزاهة السياسية، ونظافة الكف، والتواضع، والزهد في السلطة. كان دائمًا ما يردد أنه "اختار العيش بمتاع خفيف" وأن "الفقير هو ليس ذاك الذي لا يملك الكثير، بل من يظل يشتهي المزيد ولا يكتفي بما لديه".
سيحفظ التاريخ لموخيكا أنه شرع أبواب بلاده في وجه اللاجئين السوريين عام 2014، في وقت اختارت أوروبا فيه إغلاق حدودها لمنع تدفق موجات اللاجئين الفارين من بطش نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، وتركتهم في مواجهة قدرهم ليقضوا غرقًا قبالة سواحلها الجنوبية. وفي لفتة إنسانية لا تخلو من نبل وشهامة، استجاب لطلب الرئيس الأميركي باراك أوباما باستقبال عدد من معتقلي غوانتانامو في بلاده.
ظل موخيكا بعد اعتزاله العمل السياسي يحرث إلى جانب رفيقة دربه لوثيا توبولانسكي أرض مزرعته بجرّار متهالك، ويعتني بالزهور في فناء منزله، إلى أن انتشر المرض الخبيث في جسده. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2024 أعلن أمام حشد من الجماهير خلال تجمع انتخابي في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة أن "المباراة وصلت إلى نقطة النهاية ".. كان ذلك إيذانًا بأن وقت استراحة المحارب أزف.
سُئل خوسي موخيكا في أواخر أيامه عن الموت فأجاب: "لا أحد يزهد في الحياة، لكن لا تأخذنك الرهبة من الموت".

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

خوسي موخيكا.. نهاية رجل شجاع
خوسي موخيكا.. نهاية رجل شجاع

الجزيرة

timeمنذ 12 ساعات

  • الجزيرة

خوسي موخيكا.. نهاية رجل شجاع

"هذا ليس وداعًا، إنها تحية إلى الأبد".. (المغني الشعبي الكوبي سيلفيو رودريغيز). لطالما اقترنت صورة خوسي موخيكا، رئيس الأوروغواي السابق، في أذهان الناس بسيارته الفولكسفاغن العتيقة ذات اللون الأزرق الفاتح. كانت وسيلته الأثيرة للتنقل بين مزرعته المتواضعة في ضواحي العاصمة مونتيفيديو ومقر عمله في القصر الجمهوري، حينما انتُخب رئيسًا للبلاد عام 2010.. تحوّلت هذه السيارة إلى أيقونة ورمز للنقاء السياسي والزهد في السلطة، ولم يفرط فيها حتى عندما عرض عليه أحد الأثرياء العرب مبلغ مليون دولار لبيعه إياها. في الثالث عشر من مايو/ أيار، غادر موخيكا هذا العالم في سنّ التاسعة والثمانين، وقد خلّف إرثًا سياسيًا وإنسانيًا تردّد صداه خارج حدود الأوروغواي الضّيقة. احترف موخيكا السياسة في ميعة شبابه، وفي منتصف ستينيات القرن الماضي ساهم في تأسيس حركة التحرير الوطني المعروفة بالتوباماروس، وهي فصيل ماركسي راديكالي، استوحى نضالاته من الثورة الكوبية، ونفّذ عمليات مسلحة ضد رموز السلطة ومؤسسات الدولة، تلقى موخيكا خلال إحداها ستّ رصاصات. بمظهره الرثّ، وبساطته الشديدة، انتُخب موخيكا نائبًا في البرلمان عن حزب حركة المشاركة الشعبية، ثم اكتسب عضوية الكونغرس قبل أن يعيَّن وزيرًا للزراعة في أوّل تحالف لقوى اليسار يصل إلى السلطة وفي مطلع السبعينيات اعتقل أكثر من مرّة، وتمكن في إحدى المحاولات من الهرب بمعية مائة وخمسة من رفاقه عبر نفق قبل أن يعاد اعتقاله. لاحقًا، قال موخيكا إنه تعلّم الكثير خلال سنوات العزلة الأربع عشرة التي قضاها في السجن بين التعذيب والعزل الانفرادي، والحديث إلى الحشرات حتى لا يصاب بالجنون.. وفي عام 1985، استعاد خوسي موخيكا ورفاقه حريتهم بموجب عفو صدر بعد انتهاء حقبة الحكم العسكري في الأوروغواي. بمظهره الرثّ، وبساطته الشديدة، انتُخب موخيكا نائبًا في البرلمان عن حزب حركة المشاركة الشعبية، ثم اكتسب عضوية الكونغرس قبل أن يعيَّن وزيرًا للزراعة في أوّل تحالف لقوى اليسار يصل إلى السلطة. لم يغير هذا "الرقي" الاجتماعي والطبقي شيئًا في سلوك وعادات موخيكا، ولم يتأثر بشعبيته الجارفة وافتتان المواطنين بشخصيته، بل إنه ظل وفيًا لنهجه المتواضع في الحياة حتى عندما أصبح -وهو في سن الرابعة والسبعين- رئيسًا للأوروغواي، في فترة شهدت صعود نجم اليسار في أميركا الجنوبية، وشكل محور ممانعة للتمدد الأميركي في القارة التي لطالما اعتبرتها الإدارات الأميركية المتعاقبة ساحة خلفية لها، في إطار تحالفاتها المشبوهة مع الدكتاتوريات والأنظمة العسكرية. كُثر هم من شككوا في أهلية موخيكا لإدارة دفة البلاد في سياق اجتماعي واقتصادي بالغ التعقيد؛ إذ عاب عليه خصومه ماضيه في العمل المسلح، وأسلوبه الخطابي الحاد، وانتقاداته اللاذعة لتفشي ثقافة الاستهلاك في المجتمع، وهي انتقادات رد عليها بالقول إن أسوأ عيوبه هو جهره بما يفكر به، وإن "الديمقراطية الحقة هي تلك التي تسمح بإشراك الناس في اتخاذ القرارات بشكل يومي". لكن الرئيس المسنّ فاجأ خصومه مثلما فاجأ مريديه! استجاب بداية لنصائح مستشاريه بضرورة الاهتمام بمظهره الخارجي، فوافق على تصفيف شعره الكثّ، والاعتناء بهندامه.. لكن الأهم من كل هذا هو أنه أطلق مبادرات غير مسبوقة للرفع من الحد الأدنى للأجور، ومحاربة الفقر والهشاشة الاجتماعية، ومكافحة البطالة، وتحقيق المساواة، والرفع من حجم الاستثمارات في قطاع الصحة، وتعزيز الحريات الفردية.. وفوق هذا وذاك، تبرع بقسط كبير من راتبه لتمويل برنامج للسكن الاجتماعي. حينما غادر موخيكا السلطة في 2015، كانت شعبيته قد أدركت أعلى مستوياتها بعد أن شارفت على نسبة 70%، لكنه لم يكن راضيًا تمام الرضا عن حصيلته، خصوصًا في مجال مكافحة الفقر.. أقر متحسرًا بأن الواقع عنيد، وبأنه لم يستطع تغيير العالم، لكنه سعى جاهدًا من أجل توزيع عادل للثروات. إعلان لا جدال في كون خوسي موخيكا -الذي أطلقت عليه الصحافة الدولية عام 2011 لقب "أفقر رئيس دولة في العالم"- رمزًا للنزاهة السياسية، ونظافة الكف، والتواضع، والزهد في السلطة. كان دائمًا ما يردد أنه "اختار العيش بمتاع خفيف" وأن "الفقير هو ليس ذاك الذي لا يملك الكثير، بل من يظل يشتهي المزيد ولا يكتفي بما لديه". سيحفظ التاريخ لموخيكا أنه شرع أبواب بلاده في وجه اللاجئين السوريين عام 2014، في وقت اختارت أوروبا فيه إغلاق حدودها لمنع تدفق موجات اللاجئين الفارين من بطش نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، وتركتهم في مواجهة قدرهم ليقضوا غرقًا قبالة سواحلها الجنوبية. وفي لفتة إنسانية لا تخلو من نبل وشهامة، استجاب لطلب الرئيس الأميركي باراك أوباما باستقبال عدد من معتقلي غوانتانامو في بلاده. ظل موخيكا بعد اعتزاله العمل السياسي يحرث إلى جانب رفيقة دربه لوثيا توبولانسكي أرض مزرعته بجرّار متهالك، ويعتني بالزهور في فناء منزله، إلى أن انتشر المرض الخبيث في جسده. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2024 أعلن أمام حشد من الجماهير خلال تجمع انتخابي في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة أن "المباراة وصلت إلى نقطة النهاية ".. كان ذلك إيذانًا بأن وقت استراحة المحارب أزف. سُئل خوسي موخيكا في أواخر أيامه عن الموت فأجاب: "لا أحد يزهد في الحياة، لكن لا تأخذنك الرهبة من الموت".

في نقد يسار اليسار ونظرية عالم بلا أسوار
في نقد يسار اليسار ونظرية عالم بلا أسوار

الجزيرة

time١٣-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

في نقد يسار اليسار ونظرية عالم بلا أسوار

تُعَدّ حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية من أبرز المحطات التاريخية التي أسهمت في تشكيل ملامح الفكر الغربي الحديث، إذ فتحت الباب أمام نقد السلطة الدينية، وأرست مفاهيم الفردانية والحرية الدينية. ومع ذلك، فإن تطوّر الفكر الغربي الحديث لم يكن حصيلة هذه الحركة وحدها، بل جاء نتيجة تراكمات أوسع، شملت عصر النهضة، والثورة العلمية، والتنوير. ومع مرور الزمن، بات اليسار الغربي، الذي انطلق في بداياته من منطلقات إنسانية وأخلاقية، عرضة لاختطافٍ من قبل تيارات راديكالية، دفعت به نحو مطالبات تتناقض مع كينونة الإنسان، وتفكّك البنى الأخلاقية والمجتمعية التي شكلت أساس المجتمعات الغربية، تحت شعار "عالم بلا أسوار". بنى التيار اليساري، في معركته ضد المؤسسة الدينية والسلطوية، سرديته على قيم الفردانية والعدالة والمساواة. ومع مرور العقود، تطورت هذه السردية، وبدأت تنحرف عن اعتدالها اليسار والطريق نحو الفردانية بنى التيار اليساري، في معركته ضد المؤسسة الدينية والسلطوية، سرديته على قيم الفردانية والعدالة والمساواة. ومع مرور العقود، تطورت هذه السردية، وبدأت تنحرف عن اعتدالها، متأثرة بالتحولات الفكرية والمدارس الفلسفية التي بالغت في تمجيد الفرد على حساب الجماعة، حتى وصلنا اليوم إلى لحظة مفصلية، يشهد فيها اليسار الراديكالي حالة من الانحدار القيمي. إذ تحوّل من مدافع عن الحريات والحقوق إلى حامل لأفكار مثيرة للجدل اجتماعيًّا، تقوم على فردانية متطرفة، خالية من أي جذور مرجعية مستقرة، ومنفصلة عن روح المجتمع ومسؤولياته. اليافعون وضبابية الهوية في الخطاب الراديكالي منذ ظهور اليسار الحديث، كان الشباب واليافعون أكثر الفئات تأثرًا بخطابه، نظرًا لما يمتازون به من توق إلى التغيير، وسرعة في تقبّل الجديد. هذه القابلية جعلتهم في مرمى خطاب اليسار الراديكالي، لا سيما في قضايا ذات طابع هوياتي معقّد، وهي التي يُروَّج لها اليوم ضمن سرديات الحرية الفردية والحقوق الجندرية، ما ولّد لدى بعض اليافعين مفاهيم ضبابية عن الذات، وهويات مشوشة لا تستند إلى مرجعية مجتمعية واضحة، وهذا أدى إلى حالة من التنافر مع المحيط الاجتماعي، وارتباك في التوازن بين الخصوصية الفردية والمسؤولية الجماعية. تصدُّر فصيل من اليسار المتطرف للمشهد اليومَ جعله رمزًا لفكر منفلت، بلا قيود ولا ضوابط، وفردانية مفرطة تسعى لهدم ما تبقى من أسوار معنوية تحفظ للإنسان إنسانيته المساواة بين الجنسين: من الشراكة إلى التنميط لطالما تبنّى اليسار خطاب المساواة بين الجنسين، وساهم في تمكين المرأة وتعزيز مشاركتها في المجتمع، وهو إنجاز لا يُنكر. غير أن اليسار الراديكالي شوّه هذه المكاسب، من خلال خطاب إعلامي ونظري يُروّج لمساواة مطلقة تتجاهل الفروق البيولوجية والنفسية، وتسعى إلى تنميط الأدوار الإنسانية تحت مبدأ "التماثل الكامل". المفارقة أن هذا الخطاب، في كثير من الأحيان، ترافق مع ارتفاع معدلات العنف ضد النساء، وتزايد حالات الاستغلال والاعتداء، ما يطرح تساؤلات جادة حول فاعلية هذه الأطروحات في تحسين واقع المرأة، بل وقد يُظهر أنها أضرت بها أكثر مما أفادتها. يُقال إن كل شيء إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده، ويبدو أن هذا ما حدث مع اليسار في نسخته الراديكالية، التي أضرت باليسار المعتدل ذاته، وشوّهت صورته الفكرية والتاريخية. فقد كان لهذا التيار -في لحظة ما- دور في إخراج الغرب من جمود الفكر وسلطة الكهنوت، غير أن تصدُّر فصيله المتطرف للمشهد اليومَ جعله رمزًا لفكر منفلت، بلا قيود ولا ضوابط، وفردانية مفرطة تسعى لهدم ما تبقى من أسوار معنوية تحفظ للإنسان إنسانيته. المطلوب اليوم ليس تبنِّي هذا الخطاب أو الترويج له، بل إعادة التوازن للعقل الغربي، عبر شراكة عقلانية بين يمين اليسار ويسار اليسار المعتدل، تحافظ على المكتسبات، وتمنع الانزلاق نحو التطرف بجميع صوره.

هل أخطأ رئيس كولومبيا في تحدّي ترامب؟
هل أخطأ رئيس كولومبيا في تحدّي ترامب؟

الجزيرة

time٢٩-٠١-٢٠٢٥

  • الجزيرة

هل أخطأ رئيس كولومبيا في تحدّي ترامب؟

في أسرع أزمة دبلوماسيّة دامت ساعات معدودات مساء الأحد الماضي، تداولت وسائل الإعلام العالمية بشكل واسع تطورات الحرب الكلامية على شبكات التواصل الاجتماعي، بين رئيس كولومبيا غوستافو بيترو ونظيره الأميركي ترامب، على خلفية ظروف عمليات الترحيل القسري للمهاجرين غير النظاميين. وقد مثّلت مواقف الرئيس الكولومبي بيترو وردوده سابقة في التعامل مع الرئيس ترامب، اعتبرها البعض مجرّد تصريحات شعبوية وبطولات وهميّة، انتهت بالانصياع لأوامر ساكن البيت الأبيض، واعتبرها قليلون، مواقف جريئة وغاية في الشجاعة، قد تكلّف كولومبيا وتيارها اليساري خسارة تاريخية! تأتي المعركة بين الرئيس الكولومبي ونظيره الأميركي بعد سلسلة من التصريحات المستفزة والمُهينة للرئيس ترامب لأغلب قادة منطقة القارة الأميركية، وبعد أسبوع واحد من تولّي هذا الأخير منصبه كرئيس للولايات المتحدة، في فترة ثانية، بدا منذ انطلاقها أكثر تجبّرًا تُجاه بلدان كثيرة، من بينها منطقة أميركا اللاتينية، صاحبة أكبر عدد من المهاجرين غير النظاميين في الولايات المتحدة. لم يكن انطلاق حملات الترحيل القسري للمهاجرين غير النظاميين من الولايات المتحدة نحو بلدان أميركا اللاتينية هو السبب المباشر في انفجار المعركة بين الرئيس بيترو والرئيس ترامب، كما تُروّج لذلك أغلب وسائل الإعلام العالمية، نقلًا عن الرواية الأميركية. فقد كانت التفاصيل المُهينة التي تمّ بها الترحيل هي السبب الحقيقي للمعركة، حيث صوّرت التلفزيونات البرازيلية صفوف المُرحّلين مقيدين بأصفاد حديدية في أرجلهم، كما لو كانوا مجرمين خطيرين، وهم يغادرون الطائرات العسكرية الأميركية التي حطّت بهم في مطار برازيلي، وكشفت التصريحات بعد ذلك أن ظروف الرحلة الطويلة كانت مُضنية، تمّ فيها احتجاز الركاب ثلاث ساعات داخل الطائرتين في بنما، ولم تُفعّل خلالها أجهزة التهوية، رغم وجود أطفال على متنها. وفُهمت هذه المعاملة على أنها رسالة مقصودة من البيت الأبيض لسكان نصف القارة الجنوبي ورؤسائهم. ومع انطلاق طائرتين عسكريتين أميركيتين نحو العاصمة الكولومبية، في مشهد يُنذر بتكرار السيناريو البرازيلي، أمر الرئيس بيترو بمنعهما من النزول، ومغادرتهما التراب والفضاء الكولومبي على الفور، وكانت تلك شرارة الحرب مع الرئيس ترامب الذي كان يقضي أول عطلة نهاية أسبوع له كرئيس في قصره بميامي. وكما كان مُتوقعًا، هدّد الرئيس الأميركي مباشرة نظيره الكولومبي بجملة من العقوبات على بلده، عبر رفع الرسوم الجمركية على كل الواردات الكولومبية، وحرمانه شخصيًا وحرمان أعضاء حكومته وكل المتعاطفين معهم، من التأشيرة الأميركية. في المقابل، جاءت ردود الرئيس الكولومبي على نفس القدر من القوة والحسم، في معركة الند للند مع أكثر رؤساء العالم غطرسة. ولم يكتفِ الرئيس بيترو باتخاذ نفس قرارات خصمه في الاتجاه المعاكس، وإنما أمطره بتغريدات مُطوّلة، وُصفت بـ"مُحاضرات" في تعليم مبادئ السيادة والكرامة الإنسانية، مؤكدًا على ضرورة احترام الكولومبيين ورفض إهانتهم بالشكل الذي أهين فيه أشقاؤهم البرازيليون. وعلى خلفية تداعيات المعركة الكلامية بين الرئيسين، سارعت إدارة كلا البلدين للتدخل وتدارك الموقف والتراجع عن رفع الرسوم الجمركية من الجانبين، في انتظار مراجعة باقي النقاط، مع استمرار رحلات ترحيل المهاجرين غير النظاميين. وفي الوقت الذي تدافعت فيه وسائل إعلام اليمين الأميركي، لإغراق التغطية الإعلامية للحدث بصورة انصياع الرئيس الكولومبي لأوامر ترامب وتصوير أن ما قام به هو اندفاع غير مدروس من يساري حالم، انطلقت وسائل الإعلام اليميني الكولومبي في ماراثون نقد لاذع لأداء الرئيس بيترو واستهزاء بـ"تطاوله" على "سيّد القارة"، الرئيس الأميركي. وقد وصلت درجة الغضب على الرجل، بصحفية في محطة "كاراكول" اليمينية ذائعة الصيت، أن ناشدت الجيش الكولومبي للتحرك ضد الرئيس ووضع حدّ لولايته. في الوقت الذي اتهمه البعض الآخر من الغاضبين بلعب دور البطولة في معارك خاطئة، على غرار مواقفه من الحرب على غزة. وهي في الحقيقة مواقف لقيت رواجًا، بفضل العناوين الرنانة المُنذرة بالأضرار الفادحة التي ستلحق بالاقتصاد الكولومبي وغلق الأبواب الأميركية أمام الكولومبيين، في إطار العقاب الجماعي الذي لوّح به الرئيس الأميركي. غير أن كل هذه الانتقادات لم تأبه بالرسالة الأساسية التي من أجلها انتفض الرئيس الكولومبي ودخل بسببها حربًا مجهولة النتائج مع خصم شرس، ألا وهي "احترام المواطن، ولو كان مهاجرًا غير نظامي"، في الوقت الذي أكد فيه المتحدث الرسمي للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، بعد مرور أقل من يوم على الحادثة، على "ضرورة احترام كرامة الشخص وحقوقه" في عمليات الترحيل، في إشارة لا تخطئها العين إلى الخروقات الأخيرة التي تقوم بها الولايات المتحدة . ولعلّ المؤلم في الأمر، أن جانبًا كبيرًا من الطبقات الفقيرة الكولومبية تردد رواية الإعلام اليميني دون تدبّر، وتحتل مساحة واسعة في النقاش على شبكات التواصل الاجتماعي، متبنية الهجوم على الرئيس بيترو ومتهمة إياه بالاندفاع في مواجهة ترامب، وكأنها تحثه على عدم نُصرة المستضعفين، الذين يشبهونهم. ولعلّ الأمر الأشد إيلامًا ربما، هو أن الرئيس بيترو واعٍ تمام الوعي بأن الولايات المتحدة وإسرائيل، هما دولتان فوق النقد في ثقافة المجتمع الكولومبي، كما صرحت بذلك الخبيرة الكولومبية في العلاقات الدولية ساندرا بوردا، لمحطة البي بي سي، وبالتالي فقد ارتكب "خطيئتين"، من المؤكد أنه سيدفع ثمنهما غاليًا! قد تعتبر الأغلبية أن الخطوة التي أقدم عليها الرئيس بيترو، في مواجهة رئيس بحجم ترامب، في كل الأحوال تندرج ضمن باب الاندفاع غير المسؤول، وبالتالي فإنه منهزم عاجلًا أم آجلًا. لكن ماذا كسب الرئيس البرازيلي سيلفا دا لولا بدبلوماسيته وتعقّله إزاء الإهانة التي ارتكبتها إدارة ترامب تُجاه المهاجرين البرازيليين؟ وماذا جنت رئيسة المكسيك كلوديا شينباوم من "الأعصاب الباردة" التي رفعتها كعنوان مرحلة في معركتها اليومية مع تهديدات ترامب؟ حتى رئيسة هندوراس، شيومارا كاسترو، لم تفلح تهديداتها لترامب بطرد القاعدة العسكرية الأميركية من تراب بلدها، في كبح رسائل التقزيم لها ولحكومتها! على الأرجح، لم يقصد أن ينهج الرئيس بيترو أسلوب الشعبوية في مواجهة ملك الشعبوية ترامب، لكن يبدو أن التعقل والدبلوماسية لا يجديان معه نفعًا، ووحدها الشعبوية تصلح أسلوب تعامل معه! فمن كان يتصور أن يفرض ترامب رسومًا جمركية تصل 50% على واردات السلع الكولومبية، ثم يتراجع أمام تهديد خصمه المتواضع بتفعيل مبدأ المعاملة بالمثل؟

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store