logo
#

أحدث الأخبار مع #محمدالشيرازي

فكر يصنع الحياة.. المنهج الشيرازي في التغيير والإصلاح
فكر يصنع الحياة.. المنهج الشيرازي في التغيير والإصلاح

شبكة النبأ

timeمنذ 9 ساعات

  • منوعات
  • شبكة النبأ

فكر يصنع الحياة.. المنهج الشيرازي في التغيير والإصلاح

يبرز فكره كنبراس حيّ يشعُّ في دروب التغيير، ويعيد رسم ملامح النهضة برؤية إسلاميّة متجذّرة. لم يكن مشروعه الفكري مجرّد اجتهاد نخبوي؛ وإنَّما كان نداء وعيٍ عميق، ونفخة حياة في جسد أمة أنهكتها الأزمات. فكرٌ يبعث في الأمة روح الحياة؛ ويغرس في الناس الأمل، والعقل، والرسالة... إذا تأمَّلنا بدقَّة في النتاج الفكري الغزير للمرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي (أعلى الله تعالى مقامه)؛ الذي تجاوز بأعداده الألف واربعمائة عنوان، فإننا نكتشف منظومة معرفيَّة متكاملة تسير على نهجٍ فكريٍ متينٍ ومتماسك، يتَّسم بالوضوح والثَّبات، ويخلو من التذبذب أو الارتهان للمتغيرات الفكريَّة العارضة. وهذا النهج ليس نتاج تقليدٍ أو مسايرةٍ للتيارات الفكريَّة العابرة؛ بل هو امتداد حيّ لروح الإسلام الأصيل، واستلهام عميق من ينابيع التراث المحمدي الأصيل، بما يختزنه من قيمٍ راسخة ومعانٍ متجددة. فمنهج المجدد الشيرازي لا يتكئ على النقل السطحي، ولا ينزلق إلى الاستنساخ الفكري، وإنَّما ينهل من جوهر الأصالة، ويعيد قراءة التراث بعينٍ معاصرة، تستخرج منه الجواهر الفكريَّة والدرر العلميَّة التي تلبي حاجات العصر وتجيب عن تساؤلاته المتراكمة. إنَّه منهج يعيد بناء العلاقة بين الماضي والحاضر، من دون قطيعة أو تماهٍ من خلال حضور نقدي واعٍ، يُبقي على الجذور ويُنمِّي الفروع. ومن أبرز ملامح هذه المنهجيَّة التجديديَّة التي انتهجها الإمام الشيرازي، والتي جعلت من مشروعه الفكري متميزًا ومؤثِّرًا في ساحات الفكر الإسلامي، هي: 1. التمسك بجذور الفكر الأصيل. من أبرز السمات التي تشد الانتباه في الفكر الشيرازي هي ذلك التمسك العميق بالأصالة الفكريَّة، الذي يتغلغل في بنية كلِّ فكرة يطرحها، وفي مضمون كلِّ رأي يعرضه؛ فالإمام الشيرازي لا يطرح رأيًا ولا يبني تصورًا معرفيًا إلَّا وقد أسسه على دعائم ثابتة من القرآن الكريم، وأحاطه بسياج من السنَّة النبوية المطهرة المتمثلة بأحاديث الرسول الأعظم محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، مستندًا بذلك إلى أرفع منابع التَّشريع وأوثق مصادر المعرفة الإسلاميَّة. غير أنَّ أصالته لا تقف عند حدود الاستشهاد النصِّي أو الإحالة الشكلية؛ وإنَّما تتجاوز ذلك إلى الغوص العميق في دلالات النصوص، واستنطاقها بمستوى يُخرج منها معاني متجددة، ويكشف عن آفاق معرفيَّة تلامس العقل والوجدان معًا؛ فالنصوص هي مفاتيح لفتح مغاليق الفكر، ومصابيح تضيء دروب الهداية، وتعيد تشكيل الوعي الإسلامي بروحٍ نابعة من عمق التراث ونبض الواقع. إنَّ الأصالة في فكر السيِّد الشيرازي هي حركة حيويَّة متجددة، تنبض بالحياة، وتتجلَّى في كلِّ سطر من كتاباته، وكلِّ مشروع من مشاريعه العلميَّة والثَّقافية. إنَّها أصالة واعية، تتحوَّل إلى رؤية ومنهج، وتصوغ فكرًا إسلاميًا قادرًا على مواكبة العصر والحداثة، من دون أن يفقد جذوره أو يتنازل عن هويته. ولو قدّر لك أن تتصفح أيّاً من مؤلفاته، سرعان ما ستلمس منهجًا علميًّا رصينًا لا يعرف التساهل في الطرح أو التسطيح في الفكرة؛ فليست هناك دعوى تُطلق دون دليل، ولا فكرة تُعرض بمعزل عن أصولها النصيَّة ثمَّ إنَّه لا يكتفي بذكر النصوص على سبيل التزيين أو التبرك؛ وإنَّما يجعلها المنطلق والمنتهى، فيبني فكرته من عمق النص، ويغذّيها بفهم عميق لمقاصده، ويعيد تأصيلها ضمن سياق علمي ومنهجي ينسج بين دلالات اللغة وأبعاد المعنى، ليخرج بفهم ناضج وقراءة متجددة تنبض بالحياة. فكأن القرآن الكريم والسنة المطهرة هما الحقل الذي يزرع فيه أفكاره، والنبع الذي يروي منه مبادئه، فلا تنمو لديه فكرة إلَّا وقد تشبعت بروح الوحي، ولا تثمر رؤية إلَّا وكانت متصلة بجذور الشرع ومقاصده العليا. وهكذا، يصبح النص المقدس في فكره هو الفضاء الذي تتشكل فيه الرؤية، والميزان الذي توزن به المواقف، والمعيار الذي تُقاس به صدق الأفكار، في منهج يزاوج بين الإيمان العميق والعقل المنفتح، وبين الانتماء للنص والانطلاق منه نحو آفاق التجديد والاجتهاد. لا يرى الإمام الشيرازي في الحداثة خصمًا يجب اجتنابه؛ ولكن يتعامل معها من منطلق تقويمي واعٍ، إذ يفرّق بوضوح بين الحداثة التي تنبع من ضرورات واقعية وتُحقق مصلحة الأمة، وبين الحداثة المفرغة من القيم، أو التي تُفرض كنموذج استعلائي يهدد الهوية؛ فهو ينظر إلى الحداثة المنسجمة مع روح الشريعة ومقاصدها على أنها فرصة للتطوير والبناء، لا تهديدًا للأصالة. وقد عبر عن هذا التوازن الفكري بوضوح بقوله: "والتمسك بالأصالة لا يعني رفض الحداثة إذا كانت لها فوائد تستفيد منها الأمة"(الاجتماع: ص144). بهذا الموقف المتزن، يرسّخ نهجًا معرفيًا يجمع بين الثقة بالتراث والانفتاح على المستقبل، ويؤسس لرؤية فكرية قادرة على استيعاب المتغيرات من دون أن تذوب فيها، وعلى الإفادة من مكتسبات العصر من دون أن تتخلَّى عن هويتها. إنَّه موقف الوسطيَّة الواعية، الذي يُبقي على جذور الأمة راسخة، في الوقت الذي يدفعها فيه إلى النهوض والتجدد والعطاء. إنَّ الإمام الشيرازي، بهذا الجمع النادر بين الأصالة والتجديد، يرسم معالم فكرٍ إسلامي حي، يعيد الاعتبار لمكانة الشريعة في بناء المجتمع، من دون أن يتجاهل التحولات الاجتماعية والثقافية، ودون أن يغلق أبواب الاجتهاد أمام الأسئلة المستجدة. فمشروعه الفكري هو محاولة واعية لإحياء دور الإسلام في الحياة، بما يحفظ للإنسان كرامته، ويمنحه أدوات النهوض الفردي والجماعي، ضمن إطار متكامل تتجاور فيه ثوابت العقيدة مع مرونة الاجتهاد، وتتناغم فيه أصول الدِّين مع ضروراته المتجددة. وهكذا، يتحوَّل فكر الإمام الشيرازي إلى جسر حيّ بين الماضي والمستقبل، وإلى خطاب قادر على ملامسة الحاضر من دون أن يفقد ضياء الوحي، وعلى تلبية الحاجات الإنسانية المتغيرة من خلال مرجعيَّة دينيَّة راسخة، ووعي اجتماعي متقد، ورؤية حضارية تنطلق من قلب الإسلام لتخاطب العالم بلغة العقل والرحمة والعدل. 2. العقلية الثائرة. ليس من المستغرب أن يقع كثير من الكتَّاب والمفكرين في خطأ منهجي عند تناولهم لقضايا الأمة، حين تُثقل رؤاهم بروح انهزاميَّة، وتغلب على خطابهم نبرة يأس واستسلام. فتراهم ينقلون للقارئ مشهدًا قاتمًا، تغيب فيه ملامح الأمل وتُغيَّب فيه طاقة التغيير، فيكتفون بوصف الواقع بأبعاده السلبيَّة من دون أن يقدّموا بصيصًا من نور أو مشروعًا للخروج من النفق؛ إنَّهم يرسمون مشهدًا ساكنًا يعمِّق الإحباط، بدل أن يحرّك الوعي أو يشحذ العزائم. أمَّا الإمام الشيرازي، فقد كان على الطرف النقيض من هذا النمط المتشائم؛ إذ كانت نظرته للواقع ممتلئة بالحيويَّة ومشحونة بالإرادة والإيمان بقدرة الأمَّة على النهوض. ولقد كان التفاؤل جزءاً أصيلًا من تكوينه الفكري والنَّفسي، وكان يرى في كلِّ أزمة فرصة، وفي كلِّ عثرة منطلقًا نحو تجاوز الواقع وصناعته من جديد. فروحه كانت نابضة بالأمل كقناعة راسخة تولَّدت من إيمانه العميق بسنن التغيير القرآنيَّة، وبأنَّ النهوض ليس محالًا متى توفرت الإرادة والرؤية والعمل. وكان فكره يتدفق بحيويَّة ثوريَّة تستلهم روح الإسلام في بُعده الحضاري والتغييري، وتسعى إلى استعادة الدور الريادي للأمة في صناعة الحضارة وتوجيه المسار الإنساني. إنَّ ما يميز الإمام الشيرازي في هذا السياق، هو أنه قدَّم مشاريع متكاملة للإصلاح، وأسّس خطابًا يحرّك الهمم ويبث روح النهوض، مستندًا إلى رؤية إسلامية متجذرة، ومتفائلة، وعملية، تُبقي أبواب الأمل مشرعة، وتعيد للأمة ثقتها بنفسها وبمقدراتها. وكتاباته هي صوت يقظ وصيحات نهوض صريحة، تنبض بالإرادة، وتنبّه الضمير، وتفتح أفق التغيير الثوري والجذري. ولم يكن من أولئك الذين يرضون بالحلول الجزئيَّة أو يكتفون بترقيع الواقع المهترئ؛ بل كان يرفض المجاملات الفكريَّة والتسويات السطحيَّة، ويمضي بجرأة العالم وبصيرة المصلح إلى تشخيص العلل العميقة التي تعاني منها الأمة، ثمَّ يقدِّم المعالجات اللازمة بشفافية لا تعرف التردد، ووضوح لا يعرف المداراة. روحه الثوريَّة تتغلغل في كلِّ سطر، كما يسري الدم في العروق، فتمنح القارئ شعورًا باليقظة وتُشعل فيه شرارة التغيير. ولا يكتفي الإمام بأن يحلل الواقع أو ينتقد السلبيات؛ بل يحمّل القارئ مسؤولية التغيير، ويخاطبه كطرف فاعل لا كمتلقٍ سلبي. ومن هذا المنطلق، تتحول كتبه إلى أدوات توقظ في النفوس معاني الكرامة والدور والرسالة، وتدفع الإنسان إلى الانتقال من موقع السخط الصامت إلى ميدان العمل الواعي والإصلاح البنَّاء. وتتجلى هذه الروح الثوريَّة التي تميِّز فكره بأبهى صورها في مؤلفاته المحوريَّة، مثل الاجتماع، والسبيل إلى إنهاض المسلمين، والصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام، وممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين؛ فهذه الكتب تمثل مشاريع عملية متكاملة لإحداث نهضة شاملة، تبدأ من تجديد الفكر، وتمتد لتشمل مختلف مفاصل الحياة: السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة. إنَّ فكر التغيير عند الإمام الشيرازي هو ضرورة عاجلة، وواجب شرعي وإنساني، ورسالة ملحّة على كل من يحمل الإيمان بوعد الله (تعالى) للمستضعفين أن يتصدى لها؛ فالتغيير عنده فعل واعٍ ومخطط، ينبني على وعي بالسنن الإلهية، وفهم دقيق لطبيعة المجتمعات، وإرادة صلبة لا تنكسر أمام العقبات. ولهذا، فإنَّ كتبه ترسم خارطة طريق نحو النهوض، تعتمد على إصلاح الفكر قبل الأنظمة، وبناء الإنسان قبل المؤسسات. إنَّها دعوة للانخراط العملي في مشروع التغيير، يوجهها إلى كلِّ فرد يشعر بمسؤوليته، ويؤمن بأنَّ المستقبل لا يُمنح للأمة إلَّا إذا نهضت لتحققه بوعيها وعملها وتضحياتها. لقد آمن بأنَّ النهضة تبدأ من تحرير الفكر وتطهير الوعي من شوائب التقليد والهيمنة، وتنتهي ببناء مؤسسات عادلة، ومجتمعٍ حيّ، تتوازن فيه الحقوق والواجبات، وتترسخ فيه كرامة الإنسان بوصفه خليفة الله في الأرض؛ ولذا، فإنَّ مشروعه النهضوي كان خارطة طريق لتحرير الأمة، وإطلاق طاقاتها الكامنة، واستعادة دورها في بناء حضارة تقوم على الإيمان والعقل والحريَّة والعدالة. 3. العمق الجماهيري. حين تتأمَّل نصوص المجدد الشيرازي، سرعان ما يتضح لك حضور الجماهير فيها كشركاء فاعلين في صناعة التغيير وصُناع للمصير؛ ففكره كان مشروعًا فكريًا عمليًا نزل إلى صلب الواقع، وامتزج بنبض الشارع وهموم الناس اليوميَّة، وانطلق من إيمان راسخ بقدرة الجماهير على النهوض، وبناء مجتمعٍ يسوده الوعي والتفاعل. لقد آمن بأنَّ الأمة لا تنهض إلَّا حين يتحوَّل أفرادها من متلقين سلبيين إلى قوى فاعلة، حين يُدرك كل فرد مسؤوليته في مسيرة التغيير، ويشعر بأنَّه شريك أصيل في صنع المستقبل؛ لذلك، فإنَّ كتاباته تعكس هذا التوجه، وتدعو إلى المشاركة والمبادرة، وتحث على الإيجابيَّة والفاعليَّة، وتُبرز دور الجماهير كعناصر حيويَّة لا غنى عنها في أي مشروع نهضوي. بهذا المعنى، يصبح فكره جسرًا يربط بين النظريَّة والتطبيق، وبين الفكرة والواقع، وبين القائد والمجتمع، وبين الماضي والحاضر والمستقبل، ليشكّل بذلك نموذجًا ملهمًا للفكر الإسلامي المعاصر الذي يستمد من جذوره ليؤسس لمستقبل مشرق تشترك فيه الأمة جمعاء، بكلِّ فئاتها، في بناء حضارتها وإعادة مجدها. إنَّ الجماهيريَّة في فكره هي قناعة عميقة راسخة بأنَّ الأمة بكامل مكوناتها – من طبقات وفئات متعددة – تمثل المفتاح الأساسي والحقيقي لأي نهوض ونهضة؛ لذلك، يرتكز مشروعه الفكري على الثقة الكاملة بقدرة الجماهير على التحول من حالة التلقي الساكن إلى حالة الفعل الواعي والالتزام المجتمعي، باعتبارها القوى الحقيقيَّة القادرة على صناعة التغيير وتمكين الأمة من استعادة دورها الحضاري والتاريخي. لذلك، كان يضع تأكيدًا بالغًا على أهمية التنظيم الجماهيري كآلية أساسية وفاعلة في مسيرة الإصلاح والبناء؛ فهو يرى في التنظيم المنهجي والمنظم الخيار الأنجح والأكثر قدرة على مواجهة التحديات الحضارية التي تعصف بالأمة، والأداة الأهم لخوض المعركة الحضارية التي تستهدف استعادة مكانة المسلمين ودورهم الفاعل في العالم. وهذا الموقف يظهر بوضوح في كتابه (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، وكذلك في العديد من مؤلفاته الأخرى التي تتناول موضوع العمل الإسلامي والمنهجية التنظيمية. إنَّ الإمام الشيرازي لا يؤمن بالنخبوية المنغلقة التي تحصر العمل في دوائر ضيقة ومعزولة عن نبض الواقع وحياة الجماهير، ويعتبر هذه الاستراتيجية خاطئة وعقيمة بطبيعتها؛ لأنَّها لا تُنتج إلَّا الغربة الفكرية والانفصال عن جوهر المجتمع، ممَّا يقود حتمًا إلى الفشل في تحقيق أي نهضة أو تغيير حقيقي. في تصوره، لا قيمة للتنظيم إذا لم يكن متجذرًا بعمق في حياة الجماهير، متفاعلًا مع حاجاتهم وآمالهم، ومتجاوبًا مع همومهم اليوميَّة. تمامًا كما أنَّ السمكة لا تستطيع العيش خارج الماء الذي هو بيئتها الطبيعية، فإن التنظيم الاجتماعي والسياسي إذا انفصل عن واقع الناس، أصبح كائنًا بلا روح، ومشروعًا بلا حياة، عاجزًا عن النهوض أو إحداث أثر ملموس. إنَّ التنظيم في رؤيته لا يتحقق إسلاميته الحقيقية إلَّا عندما يكون متجذرًا في واقع الناس، قريبًا من الفقير، حاضرًا إلى جانب المظلوم، ومساندًا للمحتاج. هو تنظيم ينصهر في نسيج الأمة، يعمل لخدمتها لا ليصنع وصاية عليها، ويقودها في مسيرة التقدم دون أن يتعالى أو ينفصل عنها. بهذه الروح الجماهيرية الأصيلة، كان الإمام الشيرازي يطمح إلى بناء نهضة حقيقية تمتد جذورها في عمق حياة الناس اليومية، وتستمد من تفاعلها الحيوي مع المجتمع قوةً وحيوية، لتثمر مستقبلًا يليق بعزة الأمة وكرامتها، ويعيد إليها مكانتها في مسار الحضارة والإنسانية. لقد أراد أن يكون التنظيم الإسلامي نموذجًا حيًا للتكامل بين الفكر والعمل، بين القيادة والجماهير، بين الطموح والواقع، ليكون بذلك قاعدة صلبة ترتكز عليها حركة النهضة الشاملة التي تحرر الإنسان وتنهض بالمجتمع في آنٍ واحد. 4. بساطة التعبير وثراء المعنى. من السمات المميزة في فكر الإمام الشيرازي، تكمن في تلك القدرة النادرة والفريدة على الجمع بين العمق العلمي والرصانة الفكرية من جهة، والبساطة في الطرح وسهولة الفهم من جهة أخرى، من دون أن ينزلق إلى السطحية المبتذلة أو التعقيد المفرط الذي يُبعد القارئ عن جوهر الفكرة؛ فكتاباته كانت أدوات تواصل حقيقية تهدف إلى أن تُفهم، وتصل إلى القلوب والعقول، وتترك أثرًا واضحًا في وعي المتلقي. هذا الأسلوب الذي يتقنه يُعرف عند الأدباء بـ"السهل الممتنع"؛ وهو نمط من التعبير يبدو بسيطًا وسلسًا على الظاهر، لكنه في أعماقه يحمل حكمة راسخة، وعمقًا فكريًا راقيًا يتطلب من القارئ تدبره وتأمله. وهذا التوازن الدقيق بين السهولة والعمق هو ما جعل فكر الإمام قريبًا من جمهور واسع، سواء كانوا من العلماء أو العامة، وحافظ على استمراريته وقوته عبر الزمن؛ إذ يُسهم في بناء جسر تواصل بين المعرفة العالية والواقع الحياتي للأفراد والمجتمعات. وقد تجلت هذه السمة المميزة في مختلف مؤلفات الإمام الشيرازي بشكل واضح، سواء في موسوعاته الفقهية الضخمة التي تناول فيها أبواب الفقه وأصوله، مثل الموسوعة الفقهية وأصولها، والتي وُجهت بشكل رئيسي إلى كبار العلماء وطلبة الاجتهاد في الحوزات العلمية والجامعات الدينية، أو في مؤلفاته الأكاديمية المتخصصة في مجالات متعددة كفقه الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والإدارة، والحقوق، التي استهدف من خلالها النخبة الفكرية والمختصين. إنَّ هذه التنوعات في مضامين مؤلفاته عززت من قدرته على مخاطبة شرائح مختلفة من القراء بأسلوب علمي رصين، يعكس تماسك الرؤية وثراء المعرفة، مع المحافظة على وضوح الرسالة وسهولة الوصول إليها. وهذا التوازن بين التخصصية والعمومية، وبين العمق والبساطة، جعل من فكر الإمام الشيرازي مرجعًا متكاملًا يخاطب أبعادًا متعددة من حياة الأمة، ويرسخ مكانته كأحد أبرز المفكرين المعاصرين في الحقل الإسلامي. ومما يلفت الانتباه بوضوح أن هذا العمق العلمي والفكري لدى الإمام الشيرازي لم يشغله عن هموم عامة الناس، ولم يجعله يقتصر على مخاطبة النخبة وحدها؛ بل كان حريصًا على تأليف مؤلفات تناسب ثقافات واحتياجات مختلف شرائح المجتمع؛ فقد أولى عناية خاصة للأطفال، وقدم لهم كتبًا تربوية على شكل قصص مبسطة، تحمل في طياتها رسائل قيمة بأسلوب جذاب وسلس يسهل استيعابه ويصعب نسيانه، ما يعكس وعيه بأهمية بناء الوعي منذ الصغر. إنَّه بحق كاتب الأمة بكلِّ فئاتها وأطيافها، يدرك أنَّ النهضة الحقيقية لا تقوم على طبقة واحدة أو فئة محددة، ولا تُبنى الحضارة من طرف منفرد، ولكن تتطلَّب تنوعًا فكريًا واسعًا يستوعب الجميع، ويخاطب كلَّ عقل بحسب مستواه وقدرته على الفهم؛ فمشروعه الفكري هو مشروع شامل يراعي الفروق ويحتفي بالتنوع، ليضمن بذلك شمولية التأثير وعمق الانتشار، مؤمنًا بأنَّ نهضة الأمة لا تتحقق إلَّا بتكاتف كل أبنائها ومشاركتهم الفاعلة في بناء المستقبل. وبفضل هذا التوازن الدقيق، أصبح فكره ممتدًا وشاملاً، يتغلغل في أوساط القاعدة الشعبية كما يصل إلى قمم النخبة المثقفة، مؤثرًا في الإنسان العادي كما في العالم المتخصص؛ ذلك لأنَّه كان يؤمن إيمانًا راسخًا أن الحقيقة لا تكتمل ولا تتحقق فعاليتها إلَّا عندما تصبح مفهومة وراسخة في وجدان وعقل الجميع، من مختلف المستويات والطبقات، فتتحول إلى قوة دافعة حقيقية للنهوض والتغيير. وهكذا يبرز فكره كنبراس حيّ يشعُّ في دروب التغيير، ويعيد رسم ملامح النهضة برؤية إسلاميّة متجذّرة. لم يكن مشروعه الفكري مجرّد اجتهاد نخبوي؛ وإنَّما كان نداء وعيٍ عميق، ونفخة حياة في جسد أمة أنهكتها الأزمات. فكرٌ يبعث في الأمة روح الحياة؛ لأنه يستمد نوره من القرآن الكريم ونص وسلوك المعصوم (عليه السلام)، ويغرس في الناس الأمل، والعقل، والرسالة. وبناءً على ما سبق، يبقى فكر الإمام الشيرازي (أعلى الله تعالى مقامه) مدرسة متدفّقة بالعطاء، ومشروعًا متجددًا لا يندثر. * مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

الامام الشيرازي.. مشروع يقظة أمة
الامام الشيرازي.. مشروع يقظة أمة

شبكة النبأ

time٠٩-٠٤-٢٠٢٥

  • صحة
  • شبكة النبأ

الامام الشيرازي.. مشروع يقظة أمة

اليقظة عند الامام الشيرازي هي ايقاظ الامة من حالة الانفصال عن الواقع وانتشالها من الركود والجمود عبر تحريك عوامل الوعي والفهم للتحديات. وترتبط اليقظة عنده بالحركة الإيجابية والتقدم في الحياة. فالأمة تنام كما ينام الأفراد، ونوم الأمة جمودها ثم سيطرة سائر المبادئ عليها، فإذا كان مبدأ الأمة حياً دبت... لم تكن مشاريع المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) فردية، أو سلطوية، بل كانت منهج أمة، ولم تكن أهدافه صغيرة أو قصيرة المدى، بل كانت بحجم الأمة الإسلامية ونهضتها الحضارية الشاملة، كان يرى أن التضحية بالطموحات الشخصية أو الصغيرة هي الخطوة الأولى لنهضة الأمة، لذلك كان حياته وسيرته ونتاجاته ومؤسساته وأفكاره وكتبه بحجم طموحاته. وهكذا يصبح الإنسان عظيما عندما يسبق الزمن، ويستثمر الزمن ويعيش حياته بكل طاقتها، ولذلك كان يتساءل دائما، كيف نستطيع أن نتخلص من التخلف، وكيف نستطيع أن ننهض؟ في كتابه (نحو يقظة إسلامية)، تساءل سماحته ماذا نعمل وكيف ننقذ أنفسنا، وهل نستجيب للإصلاح، وكيف نتخلص، وأين المفر وما هو سبيل النجاة، وهذه الأسئلة هدفها التخلص من التخلف، وإرشاد المسلمين إلى التقدم ونجاة أنفسهم من حياة الذل والمهانة التي يعيشونها، ونجاة الشعوب من الطواغيت والجبابرة والدكتاتوريين، وقد أصبحت الأمة الإسلامية راكدة جامدة نائمة تحتاج الى يقظة واعية تنهضها من نومها العميق. اليَقَظَة هي حالة دماغية متكررة يوميا، يكون فيها الفرد واعيًا ومشاركا في الاستجابات المعرفية والسلوكية تجاه العالم الخارجي مثل الاتصال والتأمل والأكل وغيرها. واليَقَظَة هو عكس حالة النوم. وكذلك فإن اليقظة تعني القدرة على الاستجابة الواعية للمثيرات الخارجية، بحيث يكون الفرد واعيا واعيا وعيا مباشرا لردود افعاله على هذه المثيرات، مثل مشاعره وانفعالاته وأكله وشربه وكلماته. فالإنسان الذي يأكل بدون وعي قد يصبح مريضا، وكذلك الذي يقرأ بدون وعي وانتباه قد تصبح تنحرف عقائده، لذلك اليقظة هي القدرة على الوعي بالواقع وفهمه انعكاساته وارتداته فهما صحيحا، بحيث يكون قادرا على إدارة سلوكه بطريقة سليمة. واليقظة عند الامام الشيرازي هي: ايقاظ الامة من حالة الانفصال عن الواقع وانتشالها من الركود والجمود عبر تحريك عوامل الوعي والفهم للتحديات. وترتبط اليقظة عنده بالحركة الإيجابية والتقدم في الحياة. فالأمة تنام كما ينام الأفراد، ونوم الأمة جمودها أولاً، ثم سيطرة سائر المبادئ عليها ثانياً، فإذا كان مبدأ الأمة حياً، دب فيها الروح ثانياً، لتنهض، وإلا يقضى عليها بالموت. والمسلمون ناموا ثم جمدوا، وحيث إن الإسلام مبدأ حيّ فلا بد له من يقظة جديدة، وهذه تحتاج إلى طائفة من المفكرين والعاملين، يحيون الإسلام من جديد، وذلك بكسر طوق الجمود، ولا يكون ذلك إلا بالتكتل، والعمل الجاد، والتضحية، وكلما مال جانب إلى البرودة والجمود وجب أن يحرك إلى الحرارة والحركة، حتى اليقظة العارمة وهي مقدمة الحياة، وهناك الرخاء والسعادة والسيادة والسلام. فالقصد من اليقظة الإسلامية هو إيقاظ الأمة من حالة الانفصال عن الواقع وانتشالها من الركود والجمود، ومن ثم تحريك عوامل الوعي لفهم تحديات الواقع، لذلك ترتبط اليقظة بالحركة الإيجابية في الحياة، أما عدم الحركة فهي الركود والخمول أو الوقوع في أوهام الشيطان، أو حبائله. فأن تنام الأمة كما ينام الأفراد يعني جمودها الأمة بحيث تصبح دون وعي تابعة لمبادئ أمم أخرى، ومرتهنة لأيديولوجيات أخرى، فإذا كان ذهن الأمة حيا فتحيى فيها الروح لتنهض، وإلا قُضِيَ عليها بالموت، وهكذا تموت الأمم، كما تحدَّث القرآن الكريم عن التاريخ وقوانينه في حياة الأمم وموتها: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) الأعراف34، (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ، مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)الحجر3/5، (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) الإسراء16. فما هي الأفكار التي طرحها الإمام الشيرازي من أجل نهضة الأمة من ركودها، ويقظتها من نومها، ومنها: أولا: اللين المتزايد هذا المبدأ من أهم المبادئ التي يراها الإمام الشيرازي تساهم في يقظة الامة، فإن الحركي اللّين، هو الذي يلتف الناس حوله، والعنيف ينفض الناس عنه، فالناس بطبعهم يميلون للأمن، ويشمئزون من العنف، لذلك يستطيع اللين أن يجمع الأصدقاء والأعداء، ويقلل الخصوم ويستوعبهم، فالعنف يستنزف الناس ويؤدي الى نفورهم واحباطهم وبالتالي يخرج الحركة من أهدافها، وأما اللين المتزايد فينهض بها، فإذا اتسعت صدور القادة لمختلف المشاكل الواردة برز معنى الإسلام الحقيقي. وجملة (اللين المتزايد) يذكرها الإمام الشيرازي في كتابه اليقظة الإسلامية ويعني اللين الكثير، ويسميه في مكان ثانٍ (اللاعنف المطلق)، ومن اللين المتزايد سعة الصدر، فإذا اتسعت صدور القادة لمختلف المشاكل الواردة رأى الناس الإسلام السمِح الذي يمكن الاستظلال بظله. وإن حدث العكس ينفض الناس من حول الإسلام. وهذا المعنى يؤكده الحديث الوارد عن الامام الصادق (عليه السلام): (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية). التضحية وتحمل المكاره والصعوبات فإن الإنسان الباني، يلاقي صعوبة حسد الاصدقاء، وتألب الأعداء، وعدم انصياع الأمور له، فإذا تحمَّل المكاره تمكن من التقدم وتقديم الحياة، وإلا وقع في حلقة مفرغة من المشاكل لا تزيده إلا جموداً وتأخراً، وفي الأثر، وتحمّل المكاره والصعوبات تعني كذلك التضحية تعني ما يملكه الإنسان من مكاسب ومصالح خاصة، وأن يتحمل ذلك حتى يصل إلى هدفه، فهذا هو الطموح الكبير الذي لا تحدّه الطموحات والأهداف الشخصية، والعداوات الشخصية والفئوية. الأمة تتشقق وتتآكل وتركد ثم تموت هلاكا بسبب النزاعات والصراعات والصدامات، لذلك فالتضحية تكون هنا بالتواضع والصبر على الخصوم وترك التكابر وإيقاف التعاند، وفي الأثر (إنكم لا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون، ولا تبلغون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون). التضحية معناها أن يستعد الإنسان لأن يعمل للوصول إلى الهدف، سواء كان بذلاً للمال أو تفكيراً في الامر، أو تركاً للمنصب أو عملاً جسدياً، أو بذلاً للنفس، أو غير ذلك وكثيراً ما تكون التضحية بغير بذل النفس، والمسلمون اليوم يحتاجون إلى التضحية بكل شيء. وعندما يميل الحركيون نحو السلطة والمال ونحو ما تشتهيه الأنفس، سوف تضمحل الأمة وتموت. وذلك بأن يعرف مبدأ الطريق، والهدف، ومقدار الحاجة في السلوك من القوى والطاقات، ومقدار ما يتطلبه السلوك من التضحية، وقدر إمكاناته، وطاقة المعوقات والاعداء، وكيفية إمكان التغلب عليها. وهذه الرؤية يعبر عنها الإمام الشيرازي بعدة أمور: الفهم: على كل مسلم، أن يفهم العالم، فهماً دقيقاً، فإنه بدون الفهم، يكون التأخر، سواء في مستوى الفرد أو في مستوى الجماعة، والفهم ميزان العمل. والفهم هي قدرة أوسع من العلم، فالإنسان الفاهم تكون عنده بصيرة يرى من خلالها الواقع بحيث يفهم الأمور على بشكل جيد، لا تأخذه الأوهام هنا وهناك، ولا تخدعه الدعاية والتضليل وما يظهر في وسائل الاعلام وشبكات التواصل، فعلى الإنسان أن يكون فاهما حتى يستطيع أن يرصد الواقع وأن يسير في طريق الأهداف التي تناسب الواقع وليس الأهداف التي تكون خاضعة للأوهام أو الاهواء. والأوهام في ذهنه تشكلها الأشياء التي يرغبها ويهواها، مثل الرغبات السلطوية والمالية، وكذلك فإن القدرة على الفهم والتحليل النقدي تغيب عندما تأخذه الانفعالات والعواطف، فالأوهام البليدة تصنع الجمود وتحجب اليقظة. رؤية كاملة للمستقبل: فإن المستقبل له موازين خاصة، إذا عرفها الإنسان عرف المستقبل، وإذا لم يعرفها ضيع المستقبل، فإذا عرف الإنسان المستقبل تمكن أن يضع الخطوط العريضة له، لكي يأمن من النكسة والتجمد والسقوط، ويلزم أن يعرف العامل للإسلام أن المجتمعات سواء منها المتقدمة أو المتأخرة تحمل بين طياتها بذور الإنقلاب.. لا نقصد بذلك الانقلاب العسكري، وانما التغيير المفاجئ ضد الحركات القديمة، فعندما تصبح الحياة جامدة وراكدة وتعيش الجمود سوف تأتي أجيال أخرى جديدة تنقلب على هذه الحركات، وكما رأينا كيف انقلبت الأجيال الجديدة ضد هذه الحركات القديمة في بعض الدول، لماذا لأن هذه الحركات ركنت إلى التخلف والركود والذهاب وراء المشتهيات والسلطويات. وأيضا التفكير بالمستقبل، يعنى أن لا يفاجأ بتطورات الزمن والتطورات المحتملة، بل يقضي على التطور المعاكس، ويقوي التطور الملائم، فعندما سقط صدام ونظامه لم تكن الحركات الإسلامية جاهزة لهذا الحدث وهذا التغيير الكبير في العراق، لأن هذه الحركات لم يكن لها دراسة وإدارة مستقبلية وفهم للمستقبل من أجل مواجهة هذه التحولات الكبيرة والفجائية. فتوقع التطورات المحتملة هو حماية وتحصين للأمة، يقضي على المضادات لأن الهجوم الأيديولوجي أو الحركي للحركات المنحرفة التي تهجم على البلاد متواصل. استشراف الخطأ والصواب والنجاح والفشل في المؤسسات والحركات، بأن يطلع على نقاط الضعف في الحركات الفاشلة، فيتجنبها. فالإصرار على الخطأ والبقاء عليه هو بمثابة دمار للمجتمع وللبلد وللمؤسسة فاستشراف الخطأ يؤدي الى اليقظة والوعي بالواقع والاستزادة منه، فإذا كان هناك إصرار على ارتكاب نفس الأخطاء، سوف يحدث التململ بين أفراد المجتمع ومن ثم الركود والجمود، ثم حدوث الانقلاب المفاجئ من قبل الأجيال الجديدة، وهذه هي دورة الحياة. فالأمة الراكدة بعد حين سوف يتم الانقلاب عليها، بواسطة حركة مضادة او انقلاب عسكري، وقد يكون هناك حكم دكتاتوري، يحكم هذه البلاد بسبب الخمول والركود، ولذلك يجب استشراف واكتشاف الخطأ والصواب. الإحاطة والتحوط بالمفكرين واللازم على القائد، أن يحيط نفسه بجملة من المفكرين ويصبر على معاكستهم الفكرية، وعلى إهانة أفكاره الموجهة منهم، فإن ذلك أحمد عاقبة من الامعات الذين يؤمرون فيطيعون، لانعدام الرصيد الفكري عندهم، وانعدام جرأتهم في اظهار آرائهم المخالفة لرأي القائد. فالمفكر المحيط بالقائد سوف يعاكسه، ويشاكسه، لأن مهمة المفكر هي أن يستكشف الخطأ من الصحيح، فالقيادة القديرة، هي التي تستكشف الأخطاء المحتملة، من خلال التحوط بوجود مفكرين حقيقيين واقعيين. اما القائد الذي يطرد المفكرين او يهمشهم، ويحيط نفسه بالمتملقين، فإنه سيسقط خلال فترة معينة في الحضيض، لأنه يستبد برأيه فلا يكتشف المخاطر او الكوارث، وعن الإمام علي (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها). فالامعات الذين يحيطون القائد هم الذين يتسببون بسقوط القائد وسقوط الأمة. خامسا- البديل الصالح المواكب للعصر إن الإسلام لم يحرّم شيئاً إلا لضرر فيه، ثم لم يكتف بذلك، حتى وضع له بديلاً يسد الحاجة كاملاً، وهو خال عن الأضرار التي من أجلها حرّم الإسلام ما حرم، فالسلبية جزء، والإيجابية جزء آخر، وبعض القيادات الإسلامية، اكتفت بالسلبية، من دون أن تفتح إلى جانبها الإيجابية، ولذا اتهم الإسلام بالجمود، واتهم حملته بالرجعيين، فمن الضروري على القادة الإسلاميين أن يحلوا المشكلة، بجعل بديل صالح مواكب للزمن بل سابق عليه، تجاه كل محرم إسلامي. سادسا- خطة مئوية: على القادة الإسلاميين، أن يوسعوا فكرهم وتخطيطهم إلى أبعد مدى ممكن، ولو إلى مائة عام. فقد كان الإمام الشيرازي رحمه الله مهتما بحاضر الأمة، ولكنه كان يخطط للمستقبل، بعد أن يئس الناس من الخمول والركود ويئس الحركيون، وانسحبوا واعتزلوا الحركة وجلسوا في بيوتهم وهم ينتظرون الحل من الآخرين. لكن الامام الشيرازي يرى انه لابد ان نخطط للنهضة الاسلامية ونضع خطة مئوية تستوعب مئة عام قادمة، وهذه هي قواعد النجاح الان وفي المستقبل أيضا، فعلى القادة ان يوسعوا صدورهم وأن يخططوا الى ابعد مدى ولو إلى مئة عام، بالاعتماد على قانون التراكم، حيث تنشأ وتسقط الحضارات والأمم والمجتمعات تحت هيمنة هذا القانون، وقد طرح الامام الشيرازي ذلك القانون تحت عنوان: (قانون تراكم القطرات والذرات). وذلك: (فأولاً) يلزم عليهم أن لا يتركوا العمل إذا لم يروا الثمر العاجل، بل إن كان احتمال اقتطاف الثمر بعد مائة عام عملوا، لذلك اليوم، فإن عدم العمل يوجب عدم الثمر أصلاً، وأيهما خير الثمر بعد مائة عام أو عدم الثمر إطلاقاً؟ كالذي يزرع شجرة وينتظر ثمارها بعد عشرين سنة ولا ينتظر الثمار فورا، أو هو يزرع والأجيال القادمة أولاده وأحفاده يحصدون ما زرع هو قبل عقود من السنين، نحن نحصد ما زرعه آباؤنا، ونزرع ما يحصده أبنائنا. (وثانياً) يلزم عليهم أن يخططوا لمائة عام ــ مثلاً ــ فيقولوا مؤسستنا تفتح ألف مدرسة في ألف بلد غربي، إلى مئة عام، فإن التخطيط الواسع المدى الزماني يوجب استنفاد الطاقات على مدى الزمن مما يوجب الآثار المطلوبة، بخلاف التخطيطات الموقتة بأزمنة قصيرة، وهكذا التخطيط بطاقتهما وإمكانياتهما، وذلك يوجب توسعة رقعة الإسلام، وسهولة تطبيقه أكثر فأكثر. سابعا- تربية الكوادر الإصلاحية: فإذا رأى المصلح أو الجهة جمودا لناس وخوفهم، وترهلهم، ويأسهم، يجب عليه أن يتحرك هو، وإلا لزم أن يقف إلى الأبد. وظاهرة الجمود لا تخص غير العاملين، بل العاملون كثيراً ما يقفون عن العمل بحجج وأعذار واهية أوهاها» لماذا أعمل؟ وما هي الفائدة؟ ولماذا زميلي في العمل لا يعمل؟ وأنا لا أقدر، والمجتمع غير قابل، ولماذا حتى يقطف ثمره الآخرون؟ ولذا يحتاج الامر في أكثر الأحيان إلى تجديد في صفوف العاملين، حينما يترهل العاملون القدامى. على مختلف الجهات وما أشبه، بقصد تقويم المنحرف وتقوية المستقيم كما بأن يفتح باب الصداقة والمودة معهم، فإن ذلك يوجب تخفيف العداء، وتبعاً لتخفيف العداء يتسع أفق العمل، وكذلك توجب الإستفادة من مختلف القوى والتيارات في المجتمع. تاسعا- بحر من العمل: هناك مسلمون كثيرون تنهار قواهم إذا رأوا ضحالة الأعمال الإسلامية، وأمامهم البحار الهائجة من الآخرين، فاللازم على المفكر المنفرد، أو الجبهة القليلة القوى ان يعمل من هذه المناهج بما يستطيع ويتوكل على الله في العمل، مهما رأى العمل قليلاً، والقوى المنافسة أمامه، كثيرة فإنه لا يسقط الميسور بالمعسور، ما لا يدرك كله لا يترك كله، وقد قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) (إذا أمرتم بشيء فأتوا منه ما استطعتم). فلا يهولن الإنسان العامل، ما يراه أمامه من بحر من العمل، فإذا رأى أنه لا يقدر على نزفه ييئس ويستسلم، بل يأخذ بجانب من العمل، ثم يوسعه ويعمقه، حتى يأتي بالثمار الطيبة. وعن الامام علي (عليه السلام): (فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ). وهذا هو جوهر ما علينا عمله وان تكون لنا ذخيرة من العمل الصالح، فترك الساحة للآخرين والانسحاب منها يعني باننا نفسح المجال للهجمات الثقافية والأيديولوجيات المنحرفة ان تسيطر على الساحة، وان ينتشر اليأس والإحباط بين الناس. لكن الإمام الشيرازي وهو نموذج للإنسان العامل والمثقف الحركي أسس مئات المؤسسات الخيرية والثقافية والتعليمية والخدمية ووسائل الاعلام، وألّف مئات الكتب، وتخرج من مدرسته الآلاف من الكوادر العاملة المنتشرين في كافة انحاء العالم والمؤسسات، هو قدوة ونموذج لليقظة والحركة والاجتهاد من اجل نهضة الامة وتحررها، وذلك استمده بالتفكير القائم على التوكل على الله سبحانه وتعالى، والتوسل بالرسول الاكرم واهل بيته (صلوات الله عليهم اجمعين)، والتمسك بالتعقل الحكيم والصبر الجميل والحلم العظيم.

في ذكرى وفاته الأليمة: الإمام الشيرازي رجل التضحيات
في ذكرى وفاته الأليمة: الإمام الشيرازي رجل التضحيات

شبكة النبأ

time٣٠-٠٣-٢٠٢٥

  • سياسة
  • شبكة النبأ

في ذكرى وفاته الأليمة: الإمام الشيرازي رجل التضحيات

كان سماحة السيد الشيرازي يهدي ضيوفه الابتسامة المشرقة، وفي نفس الوقت يغذيهم بالأفكار القوية والمواقف المتشددة والمتنمّرة في ذات الله، ولا أنسى ردّه السريع والمفاجئ على أحد الأخوة يشتكي عدم إطلاق الحريات من قبل النظام الحاكم وأنهم "لايسمحون لنا بالكتابة"، فقال له بحرم: "أنت اكتب وينشرون لك"، إنها الطريقة الذكية والعملية لمواجهة الانحراف بهدف الإصلاح... { الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}. صدق الله العلي العظيم المصلحون والمؤسسون والرجال الناجحون يخلفون بعد موتهم آثاراً تعكس شخصياتهم، كأن تكون مؤلفات، او مؤسسات، او مواقف، او افكار، كلها تملأ الساحة الفكرية والثقافية والاجتماعية، يتداولها الناس المحبون، وهو أمرٌ حسنٌ، الحُسن الآخر في معرفة كُنه شخصياتهم، وفلسفة حياتهم التي كانت قاعدة لتلك الافكار والمواقف والاعمال، مثلاً؛ هنالك حالات نفسية خاصة مثل "الانفعالية"، أو نقيضها، أو "الانطوائية"، او نقيضها. والمرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي الذي نعيش هذه الايام ذكرى وفاته في أيام عيد الفطر السعيد عام 2001 للميلاد، هو أحد أولئك الرجال الذين نحتاج معرفة دقيقة وكاملة لشخصيتهم حتى يكون فهمنا لافكاره ومواقفه بشكل أدق وأعمق، ليس للمقربين والمحبين وحسب، وإنما لجميع افراد الأمة ممن تهمه تلك الافكار النهضوية والإصلاحية. لا تأخذه في الحق لومة لائم السمة الأبرز في شخصية المرجع الراحل؛ تمسكه بالحق كمعيار لأعماله وافكاره ومشاريعه، أما ردود الفعل، والانعكاسات في الواقع الاجتماعي فيتركه لاصحابه، لا يخوض فيه، ولا يشغل باله ووقته في الردّ إلا بمقدار التوضيح وإلقاء الحجة فقط، وكان مصداق القول: "قول الحق لم يدع لي صديقاً" المنسوب للصحابي الجليل؛ أبي ذر الغفاري، فقد عرف المرجع الراحل الحقّ، وعرف أهله، فتمسّك بهم، وكان النموذج في الاقتداء برسول الله، والأئمة المعصومين في منهج حياتهم. له الفضل في تأسيس أول حركة داخل المجتمع تعمل لنشر الوعي والثقافة الاسلامية تحت لواء المرجعية الدينية، فكانت البداية في "الهيئات التي تعمل لصالح الدين والدنيا، مثلاً؛ هيأة لتزويج العزاب، وهيأة للتبليغ السيّار في مختلف البلاد والقرى، وهيأة لإدارة المستوصف الصحي، وهيأة لتوزيع الكتب الى مختلف بلاد العالم، وتسمى برابطة النشر الاسلامي"، ويتحدث سماحته في كتابه "عشت في كربلاء"، عن وجود حوالي مائة هيئة لها أسماء واختصاصات، وأعضاء يصل عدد بعضها الى تسعمائة شاب، كما يشير الى الهيئات الحسينية المعروفة بنشاطها وأعمالها. ومن ثم الارتقاء الى المرتبة الأعلى في تنظيم عمل هذه الحركة على شكل خلايا سرية في بداية الأمر في بدايات الستينات من القرن الماضي، تحمل فكر النهضة والتغيير والإصلاح الجذري في المجتمع والأمة، وليكون سماحته الرائد في تأسيس "حركة اسلامية" ذات قواعد دينية، و رؤى إصلاحية وحضارية. هذه الخطوة الرائدة كلفته الكثير من التشكيك والتجديف والتسقيط في أجواء مشحونة بالنشاط السياسي في العراق آنذاك، ذو الطموحات العالية باتجاه الحكم والهيمنة، إذ لم يكن معهوداً تأسيس حركة منظمة وسط المجتمع دون إطار سياسي، والأنكى من هذا بالنسبة للآخرين؛ ارتكازها على المشروعية الدينية لا الايديولوجية، فكانت الشعارات رسالية –سماوية، والأهداف إنسانية، ليكون الامتداد الطبيعي لرسالة الإسلام، وللرسالات السماوية في أن {يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، و{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}. و"ليثيروا دفائن العقول". قول الحق رافق حياته مثل ظله، لاسيما اذا تعلق الأمر بالدماء ومصير الأمة ومستقبلها، ومن أبرز قول حق له؛ موقفه من الحرب العراقية- الايرانية التي دامت ثمان سنوات عجاف، أراقت دماء حوالي مليوني انسان، وأهدرت قدرات وثروات من بلدين هما الأغنى في العالم، بما لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فكان رأيه وقف إطلاق النار من موقع القوة عام 1982، بعد تحرير كافة الاراضي الايرانية من احتلال الجيش العراقي آنذاك، وفرض شروط تعيد الحقوق والكرامة للبلد المعتدى عليه، بيد أن الرأي الآخر لم يكن كذلك بناءً على اجتهادات ورؤى تختص بأصحابها. هذه المواقف كانت تترجم عند الطرف المقابل على أنها ذات منطلقات سياسية، ونوايا وأهداف ترنو الى الحكم والسلطة، بينما كان المرجع الراحل يؤكد في أحاديثه ومؤلفاته على القواعد الدينية لهذه المواقف، وأنه لم يأت بشيء من بناة أفكاره، عندما كان يتحدث عن السلام والحرية والمساواة لبناء الانسان والمجتمع، كما فعل رسول الله ومن بعده أمير المؤمنين والأئمة من بعده، صلوات الله عليهم. ولكن! تبقى المشكلة عصيّة على الحل في الفهم خارج الصورة الذهنية للحكم والسلطة، كما نلاحظ فهم الانظمة السياسية على طول الخط لأي حركة اعتراض جماهيرية على أنها "بدوافع سياسية"، حتى وإن كان الاعتراض لتوفير الكهرباء والماء للنساء والأطفال داخل البيوت لانقاذهم من الصيف اللاهب، أو توفير العلاج لانقاذ المرضى من الموت. الحزم والثبات على المبادئ اذكر شاهداً واحداً على تمسك المرجع الديني الراحل بمبدأ مواجهة الطغيان والديكتاتورية مهما كلف الثمن، في حديث أدلى به خلال استقباله جمعاً من طلبة العلوم الدينية، وكنت أحد الحاضرين، وكان يتحدث عما يلاقيه المجاهدون في سجون الطغاة من تعذيب لانتزاع الاعتراف والكشف عن أسرار العمل التنظيمي، او لثنيهم عن المواصلة، وقال بالحرف الواحد: "ربما يأتي يوم عليكم تتعرضون للاعتقال ويأتون بشخص يشبهني ويقولون لكم: هذا السيد محمد الشيرازي يأمركم بالتخلّي عن عملكم الرسالي فلا تصدقوه". ثمة مبادئ لم يحد عنها المرجع الشيرازي طيلة حياته، بل كانت حياته كلها قائمة عليها على طول الخط، مثل السلم، والهجرة، والعمل، والتبليغ والإرشاد، والأخلاق، وهو يعرف حق المعرفة أن ثمة مبادئ تعارض السلم، والهجرة، والعمل، والإرشاد، والأخلاق وغيرها مما يكلف الكثير من الجهد، بينما الحرب، والغدر، والكذب، و سياسة الأمر الواقع، لا تكلف اصحابها الكثير سوى بذل بعض الاموال لشراء الذمم والإرادات والعقول و زجّها في دهاليز السياسة والمصالح الاقتصادية العالمية. كان سماحة السيد الشيرازي يهدي ضيوفه الابتسامة المشرقة، وفي نفس الوقت يغذيهم بالافكار القوية والمواقف المتشددة والمتنمّرة في ذات الله، ولا أنسى ردّه السريع والمفاجئ على أحد الأخوة يشتكي عدم إطلاق الحريات من قبل النظام الحاكم وأنهم "لايسمحون لنا بالكتابة"، فقال له بحرم: "أنت اكتب وينشرون لك"، إنها الطريقة الذكية والعملية لمواجهة الانحراف بهدف الإصلاح والتغيير، لا انتظار الآخرين يفرشون الارض بالورود ليمشي عليه المثقف والمفكر و يطرح مواقفه و رؤاه للناس. وفي الختام أجدني عاجزاً عن الإلمام بهذه الشخصية الفذّة وأنا لم أعاصره سوى فترة قصيرة جداً قياساً برجال سبقوني بالإيمان والعمل الرسالي، وأقطع أنهم أغنى منّي معرفة بتفاصيل حياته، ولكن؛ "ما لا يُدرك كله لا يُترك جلّه" لأكون أديت جزءاً بسيطاً من الحق والأمانة، سائلاً المولى القدير علو درجات المرجع الشيرازي الراحل، وأن يجازيه الجزاء الأوفى على كل ما قدمه وعمله لوجهه –تعالى- وعلى كل تضحياته الجسام، في أمواله، وسمعته، ومقامه الاجتماعي الدنيوي، وأن يوفقنا لما فيه مرضاته، إنه سميعٌ مجيب.

الإصلاح الاجتماعي.. رؤى قرآنية معاصرة في التغيير
الإصلاح الاجتماعي.. رؤى قرآنية معاصرة في التغيير

شبكة النبأ

time٠٩-٠٣-٢٠٢٥

  • سياسة
  • شبكة النبأ

الإصلاح الاجتماعي.. رؤى قرآنية معاصرة في التغيير

الإصلاح الاجتماعي ضرورة حياتية لابد من إقامتها في المجتمعات اسلامية وغير إسلامية فالمجتمع الذي يسعى للمثالية عليه أن يحقق الإصلاح الاجتماعي على جميع الأصعدة. التعاون بين الأفراد يُساعد على تحقيق الإصلاح، وإلى جانبه يجب نبذ التباغض والعداء والتحاسد. لم يكن الدستور الإلهي بمنأى عن الإصلاح الاجتماعي، وقد حمل... يتطلَّع الإنسان بطبيعته الفطرية التي جبله الله تعالى عليها إلى الإصلاح، فالإصلاح غريزة فطرية غرسها الله تعالى في ذات الإنسان؛ فصار ينشدها ويحثُّ عليها ويسعى في الوصول إليها، ومن جهته هو اجتماعيٌّ بطبعه؛ إذ يشعر بحاجته إلى المجتمع وهمُّه أن يكون مؤثراً فيه، فانسجامه في المجتمع يتطلب منه أن يرتبط بالآخرين، وكذلك يفتح مسامات وأخاديد لارتباط الآخرين به، وكذلك يكون الجميع تحت أُطر القانون العام الذي يخضعون له، لأنَّهم من دون قانون سيعيشون تحت نير الفوضى وتأخذهم أمواج الفتن فتنحلُّ عُرى تواصلهم وتواشج أواصرهم. والإصلاح الاجتماعي يقع على عاتق صاحب المسؤولية، وقد وضع الإسلام الحنيف المسؤولية على الجميع، فقد جاء ذلك على لسان خاتم الأنبياء وسيدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قوله: "كلُّكُم راعٍ وَكُلُّكُم مسْؤولٌ عَنْ رعيَّتهِ"، فوُضِعت المسؤولية على الجميع، فكان الإصلاح الاجتماعي مسؤولية تضامنية يأخذ بحجزتها الجميع، وفي ذلك يقول السيد محمد الشيرازي (قدس سره): "الاجتماع الذي يحتاج إليه الإنسان، يضم جهتين: التعاون: حيث كل واحد من أفراد الإنسان يحتاج إلى غيره في مأكله ومسكنه ومشربه، وسائر شؤونه. وأيضاً جهة دفع التباغض والتحاسد والعداء: حيث إنَّ الاجتماع بحاجة إلى قوانين تدفع مشكلاته، وبما إنَّ الإنسان بكل أصنافه؛ أي الشعب والنخبة، والدكتاتور، لا يتمكن من وضع القوانين الصحيحة والمتكاملة، فلابدَّ أن يكون الواضع للقوانين بهذه المواصفات الكاملة، هو الله سبحانه وتعالى، وبذلك يتمكن الإنسان من أن يعيش حياة سعيدة" فينطلق السيد الشيرازي من التواشج المجتمعي لبيان تفاعلات الترابط بين أواصره التي بها لا يمكن للقوى الخارجية أن تفرض عليه سيطرتها ما دام متكتِّلاً ويشدُّ بعضه بعضاً. فأشار -سماحته- إلى ضرورة التعاون بين قوام المجتمع ابتداءً من التعاون بين الافراد إلى الأسرة إلى الجماعات إلى المؤسسات إلى الدولة إلى المحيط الدولي إلى القارة إلى العالم، وبما إنَّ الإنسان خُلق محتاجاً لغيره؛ فكان عليه إبداء التعاون مع الآخرين، لأنَّ التعاون يُبرز الوجه المشرق للمجتمع وتتبد فيه التناحرات. وكذلك أشار -سماحته- إلى الجهة الثانية التي بها يزداد فتل العضد في الأمَّة وفي المجتمع، وهي: دفع التباغض والتحاسد والعداء، إذ كل مجتمع مهما علا طولاً أو هبط أفقاً يُشتته التباغض والحسد والعداء، وبالتالي يسهل السيطرة عليه ونفث السموم بين أفراده. وهذه الرؤية هي رؤية قرآنية، فقد ذكر القرآن الكريم مواضع عدَّة للإصلاح، وجاءت كلمة الإصلاح قرينة لمفاهيم أخرى في القرآن الكريم وجعل كلمة الإصلاح قوام تنفيذ الأخرى، منها: 1-التوبة مع الإصلاح: جاء الصلح قرين التوبة واشترط الله تعالى بلزوم الإصلاح للتوبة، ومن دونه لا تُقبل، وهذا ما جاء في قوله تعالى: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(المائدة/39)، وقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(الأنعام/54)، فالتوبة من الظلم تستلزم إصلاحاً لتقويم ما اعوجَّ بسبب ظلمهم. وهذه الآية فيها من الرؤى المعاصرة الكثير، لأنَّها جاءت في سبيل الاطلاق في سياق الشرطيَّة، وجاء جواب الشرط بالـــ(فاء +إنَّ) التوكيدية لبيان شدَّة الأمر وثقل التوبة، فاحتاجت إلى إصلاح لتخفيف الوطء. 2-الإيمان مع الإصلاح: يطلب الإنسان الرقي في حياته ليصل إلى أسمى درجة في المجتمع، وهذا شامل لكل مناحي الحياة الإنسانية، فالعقيدة تبدأ بالإسلام، ولمَّا يترقى الإنسان بالتزاماته وتأديته لفروض الله وطاعته والتسليم المطلق لله تعالى ويتمسَّك بما جاء به الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يرقى إلى درجة الإيمان، ولكنَّ الله تعالى أشار إلى شرط لا بدَّ من وجوده لتحقق ماهيَّة الإيمان، وذلك في قوله: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(الأنعام/48)، فالإيمان بلا إصلاح يكون أجوفاً وربما لم تتحقق درجته، فاللّازمية والملزومية بين الإيمان والإصلاح كالروح مع الجسد؛ ما إن ينفك أحدهما عن الآخر يموتان كلاهما، حيث تنماز الأولى بالتجردية وعدم القدرة على الماديات، وينماز الآخر بالماديَّة وعدم القدرة على الماورائيات والمجردات، فالارتباط بينهما لابدّ منه. لو تدبرنا بتسلسل الآيات المباركات لوجدنا فيها من المراقي والسلالم التي يتدرج بها الإنسان ليصل إلى الأفضلية، فمن التوبة إلى الإيمان إلى التقوى، وكل شِقٍ من هذه المراقي يتصل الإصلاح بها اتصالا يكاد يكون مباشراً باشتراطه معها، فالتقوى إيضاً اشترط الله تعالى معها الإصلاح، فلا تقوى لمن لا يسعى ويعمل على إصلاح المجتمع، وجاءت التقوى مع الإصلاح في قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)(الأعراف/35)، (تابَ وأصلح)، (آمن وأصلح)، (اتقى وأصلح) والواو بين اللفظين تفيد الترتيب والتشريك والبيان، فقد قدَّم الله تعالى الأهم على المهم، ولكن أشار إليه باللزومية التي لا تتحقق الأولى إلى بوجود الثانية، وهذه الآية المباركة وجهت النداء إلى (بني آدم) فكل بني البشر يقعون تحت طائلة الخطاب، فالتقوى لا تقتصر على الدين وإنَّما التقوى بالعدل التقوى بالاحسان، التقوى بالقسط، التقوى من الظلم، التقوى من الحيف،....إلى آخره. 4-الخلافة والإصلاح: وهذه مرتبة أرقى من سابقاتها، فالذي يتوب ويؤمن ويتقي يحصل على التأهيل للوصول إلى الخلافة السلطوية، وهذه (الخلافة) هي الأخرى يلزم بتلابيبها الإصلاح، فمتى ما انفكَّ عنها الإصلاح سقطت الأهلية عن الخليفة، وجاءت الخلافة مع الإصلاح في قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(الأعراف/142)، فنبي الله هارون (عليه السلام) وصل إلى مرتبة الأهلية، ومع ذلك يوصيه النبي موسى (عليه السلام) بالإصلاح لما للإصلاح من أهميَّة كبيرة، ولعلَّ وصيته لأخيه هارون (عليهما السلام) من باب (إيَّاكِ أعني واسمعي يا جارة) لأنَّ النبي هارون لا يحتاج إلى الوصية. إذا وصل الإنسان إلى درجة التأهل للخلافة؛ بهذا سيقع على عاتقه تحمُّل المسؤولية، وسيكون بيده سلطة، فعليه أن يعفو عن المسيء مع إصلاحه، وإلى ذلك أشار الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده الشريف لمالك الأشتر (رضوان الله عليه): "وأشعِر قَلْبَكَ الرَّحمةَ للرَّعيَّة واللُّطْفَ بِهِم" لأنَّ الناس تحت يد السلطان سيكونون ضعفاء؛ فعليه أن يقدِّم العفو والصفح قبل العقوبة، وقد جاء العفو مع الإصلاح في قوله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (الشورى/40)، فالإصلاح يجب ان يُرافق العفو والصفح، لأنَّ العفو من دون اصلاح سيؤدي إلى التمادي بالأخطاء وتكرار الظلم. نستنتج مما سبق: 1-الإصلاح الاجتماعي ضرورة حياتية لابد من إقامتها في المجتمعات -اسلامية وغير إسلامية- فالمجتمع الذي يسعى للمثالية عليه أن يحقق الإصلاح الاجتماعي على جميع الأصعدة. 2-التعاون بين الأفراد يُساعد على تحقيق الإصلاح، وإلى جانبه يجب نبذ التباغض والعداء والتحاسد. 3-لم يكن الدستور الإلهي بمنأى عن الإصلاح الاجتماعي، وقد حمل رؤى إصلاحية صالحة للتنفيذ في كل زمان ومكان. 4-السُّلَّم التكاملي للإصلاح يبدأ من الفرد الذي يقلع عن الذنوب بالتوبة ثمّ يترقى إلى الإيمان بفكرة الإصلاح ثمَّ يترقى ليصل إلى دفع الأضرار بالتقوى ثمَّ يترقَّى إلى الوصول للأهلية التكاملية التي تؤهله للحصول على المسؤولية السلطوية. 5- الإصلاح لازم لكل المناحي الحياتية للإنسان وهو مغروس بفطرته وينشده في كل زمان ومكان. 6-كل التطورات التي حصلت عليها الشعوب بدأت بالإصلاح الاجتماعي والثورة على الطائفية والتنابز والتناحر إلى التعايش وقبول الآخر تحت شعار: (الوطن للجميع).

مركز المستقبل ناقش.. دور السياسات الحكومية في بناء المواطنة عند أجيال العصر الرقمي
مركز المستقبل ناقش.. دور السياسات الحكومية في بناء المواطنة عند أجيال العصر الرقمي

شبكة النبأ

time٢٥-٠٢-٢٠٢٥

  • سياسة
  • شبكة النبأ

مركز المستقبل ناقش.. دور السياسات الحكومية في بناء المواطنة عند أجيال العصر الرقمي

انعدام الثقة بالنظام السياسي انعكس في عزوف الأجيال الجديدة عن المشاركة السياسية وولد فجوة بين الأجيال والمفاهيم الحكومية ادى الى ضعف الوعي بأهمية المواطنة وتزايد حالات الفردية والانعزال عن المشهد المجتمعي. فهناك غياب واضح للحوار الفعال بين الحكومة والشباب، أدى إلى تزايد الإحباط والانفصال فالأجيال التي تنمو بلا ذاكرة... عقد مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية ملتقاه الفكري في مقر مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام تحت عنوان "السياسات الحكومية وبناء المواطنة في أجيال العصر الرقمي"، بمشاركة واسعة من مدراء مراكز دراسات بحثية، وأكاديميين، وإعلاميين، حيث تم مناقشة تأثير التحولات الرقمية على الأجيال الجديدة وتحديات بناء المواطنة في ظل التطورات التكنولوجية المستمرة. قدّم الورقة البحثية في الملتقى الباحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية الاستاذ حيدر عبد الستار الاجودي، الذي ناقش في ورقته الأبعاد المختلفة لهذا الموضوع، مشيرًا إلى تحديات بناء هوية وطنية تتماشى مع التطورات التكنولوجية، فضلاً عن التأثيرات السلبية لغياب السياسات الرقمية الشاملة على الشباب العراقي. وابتدأ حديثه قائلا: "يشهد العالم تحولًا جذريًا بفعل الثورة الرقمية، حيث أصبحت التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من حياة الأفراد، خصوصًا الشباب، وأصبحت التكنولوجيا قوة رئيسية تشكل وعي الأجيال الجديدة وتؤثر على قيمهم وسلوكياتهم. ومع ذلك، فإن العراق يعاني من فجوة كبيرة بين السياسات الحكومية ومتطلبات العصر الرقمي بسبب عدم مواكبة هذه التحولات، مما أدى إلى تفاقم أزمة الانتماء الوطني بين الشباب. هذه الأجيال باتت أكثر انجذابًا للعوالم الرقمية وعالم التكنولوجيا ومن يديرها، بينما تضعف ارتباطاتها بالهوية الوطنية والمواطنة. فكيف يمكن إعادة صياغة السياسات الوطنية لضمان اندماج الأجيال الرقمية في مشروع وطني جامع؟.. تأتي هذه الورقة البحثية لتحليل هذا التحدي وتسليط الضوء على ضرورة إعادة صياغة السياسات الحكومية لتعزيز الانتماء الوطني وقسمت البحث الى جانبين. الجانب الاول: التخلف الحكومي في مواكبة العصر الرقمي رغم أن التكنولوجيا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياة الأفراد، إلا أن العراق يفتقر الى خطط استراتيجية طويلة الأمد لدمج التكنولوجيا في عملية بناء المواطنة ومن اعتماد مفرط على النهج التقليدي في التعامل مع التحديات المجتمعية، دون الالتفات إلى التحولات الجذرية التي أحدثتها التكنولوجيا في حياة الأفراد. يظهر هذا التخلف في عدة أوجه منها: تعاني البنية التحتية في العراق من نقص حاد في تطوير خدمات الإنترنت والاتصالات عالية السرعة بشكل متكافئ بين الحضر والريف ما يحد من قدرة الشباب على التفاعل الرقمي الإيجابي في الاستثمار في البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وكما اشار السيد محمد الشيرازي في كتابه الحرية في الاسلام: "الإعلام والثقافة هما وسيلتا التوجيه الأهم في زماننا. إذا استُخدما في نشر الوعي والقيم الصالحة، فإنهما سيبنيان مجتمعًا قويًا." مما يؤكد على اهمية الاستثمار الحكومة في البنية التحتية الرقمية لتكون وسيلة لتوجيه الشباب نحو القيم الوطنية. كما ان غياب السياسات الرقمية الشاملة وعدم وضوح استراتيجية دمج التكنولوجيا في نظم التعليم والثقافة، مما يجعل العراق متأخرًا عن دول المنطقة، فالمناهج التعليمية لا تزال تقليدية، تفتقر إلى أي برامج تدعم التعليم الرقمي أو تعزز القيم الوطنية من خلال أدوات التكنولوجيا الحديثة، وانعدام دورات تدريبية على البرمجيات والتقنيات الحديثة، مما يجعل الشباب العراقي أقل قدرة على المنافسة في سوق العمل الرقمي. وقد أكد السيد محمد باقر الصدر في كتابه اقتصادنا: "إن الأمة الحية هي التي تعطي الأولوية للتربية والتعليم لأنها الوسيلة الأولى لبناء الفرد الذي يستطيع النهوض بمسؤولياته تجاه مجتمعه". وهذا يؤكد الحاجة الى اصلاح شامل للمناهج التعليمية لدمج التكنولوجيا في بناء الهوية الوطنية. تعتمد الحكومة العراقية بشكل أساسي على الإجراءات الأمنية التقليدية ذات الطابع العسكري والبوليسي لتحقيق الاستقرار في حين تغيب الاستراتيجيات التي تركز على بناء الإنسان. بينما تهمل استراتيجيات الأمن الناعم التي تركز على الاستثمار في التعليم والثقافة وبناء العلاقات الاجتماعية، وتنمية القيم الأخلاقية. فبدلا عن اعتبار التكنولوجيا تهديدا أمنيا، يجب تبني سياسات تستثمر فيها كأداة لتعزيز الهوية الوطنية، فالأمن الحقيقي لا يتحقق بالقوة وحدها، بل بالتربية الصالحة وبناء الإنسان على أسس من الأخلاق والوعي. هذه الرؤية توضح الحاجة إلى سياسات تعتمد على الأمن الناعم لبناء مجتمع مستقر ومتوازن. تزايد استخدام الأجيال الصاعدة للتكنولوجيا وغياب السياسات التي تعزز الانتماء الوطني أدى إلى بناء هوية مرتبطة بمنصات التواصل أكثر من ارتباطها بالوطن. فهناك غياب مبادرات تعزز الانتماء للوطن. وأصبحت التكنولوجيا تُشكّل هوية ثقافية، خاصة مع الانفتاح الكبير على ثقافات عالمية تتناقض أحيانًا مع القيم المحلية. والاعتماد على المنصات الرقمية العالمية مثل "يوتيوب" و"تيك توك" و"فيسبوك" كوسائل أساسية للمعرفة والاتصال جعله الاجيال الجديدة أقل تعلقًا بالثقافة الوطنية. اضافة الى تراجع الثقة بالمؤسسات الحكومية نتيجة فشلها في تقديم خدمات حديثة ومتطورة. فإذا شعر الإنسان بأنه ينتمي إلى وطن يحميه ويعطيه حقوقه، فإنه لن يبحث عن بديل آخر، وسيعمل بإخلاص لصالح مجتمعه. مما يبرز أهمية تقديم سياسات حكومية تعزز شعور الشباب بالأمان والانتماء للوطن. كما ان أعدادا متزايدة من الشباب يهاجرون فعليًا أو رقميًا للبحث عن فرص في فضاءات رقمية دولية أكثر تطورًا. والاعتماد على محتوى رقمي عالمي بدل المحتوى المحلي أدى إلى تراجع الاهتمام بالقضايا الوطنية. نتيجة انعدام الفرص وضعف الثقة بالمؤسسات يدفع الشباب إلى البحث عن بدائل في الفضاء الرقمي أو الهجرة خارج الوطن. فالإنسان العراقي بحاجة إلى مشروع ثقافي يعيد له ثقته بذاته، ويجعله جزءًا من مشروع وطني جامع. هذا يؤكد ضرورة تطوير سياسات ثقافية ورقمية تعيد ثقة الشباب بمؤسسات الدولة. اضافة الى غياب برامج توجيهية ثقافية ملائمة للعصر الرقمي تعزز القيم الأخلاقية أدى إلى تزايد الانخراط السلبي في بيئات رقمية غير منضبطة. وقد أكد السيد محمد الشيرازي: "التكنولوجيا ليست مجرد أدوات، بل هي قوة قادرة على تغيير القيم والمجتمعات. علينا أن نوجهها بما يخدم هويتنا وثقافتنا". هذا يبرز الحاجة إلى توجيه التكنولوجيا لخدمة الهوية الوطنية. ولإعادة بناء المواطنة وتعزيز الانتماء الوطني بين الأجيال الجديدة، فلا بد من تبني سياسات حكومية تتسم بالشمولية والاستدامة. وان انعدام الثقة بالنظام السياسي انعكس في عزوف الأجيال الجديدة عن المشاركة السياسية وولد فجوة بين الأجيال والمفاهيم الحكومية ادى الى ضعف الوعي بأهمية المواطنة وتزايد حالات الفردية والانعزال عن المشهد المجتمعي. فهناك غياب واضح للحوار الفعال بين الحكومة والشباب العراقي، مما أدى إلى تزايد الإحباط والانفصال بين الطرفين. فالأجيال التي تنمو بلا ذاكرة وطنية قوية هي أجيال عائمة، تبحث عن انتماء بديل. يعكس هذا أهمية تقديم رؤية حكومية تعزز شعور الانتماء لدى الأجيال الجديدة". ومن اجل تقويم الورقة البحثية واثراءها بالاراء تم طرح سؤالين امام السادة الحضور للمناقشة: السؤال الاول/ كيف تؤثر التكنولوجيا الرقمية على سلوكيات اجيال العصر الرقمي في ظل غياب سياسات حكومية واجتماعية تواكب التقدم السريع؟. السؤال الثاني/ ما هي الاستراتيجيات المطلوبة لتعزيز المواطنة والانتماء الوطني في ظل التحولات الرقمية المتسارعة؟. مع التطورات المتسارعة في التكنولوجيا والاتصال، يبرز تساؤل جوهري: أين هي مبادرات الشباب في استثمار هذه الأدوات لتعزيز روح المواطنة؟ إن استحضار تجارب الماضي، وتحديدًا ما شهده النصف الثاني من القرن العشرين، يكشف عن دور محوري لعبه الشباب، لا سيما الطلاب والاتحادات الشبابية، في التأثير على المشهد السياسي والاجتماعي. لقد كان لهذا الدور صدى واسع في إحداث تغييرات جوهرية، ليس فقط على مستوى المشاركة السياسية، بل حتى في إعادة تشكيل الأنظمة الحاكمة في بعض الدول. واليوم، وفي ظل هذا العصر الرقمي، نلحظ أن الشباب في العديد من الدول يواصلون التأثير في صنع السياسات وإحداث التحولات المجتمعية، مستثمرين ما توفره التكنولوجيا من أدوات للتعبير والتأثير وصناعة الوعي. المواطنة بين البعد المادي والروح المعنوية - د. علاء الحسيني/ باحث في مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات: المواطنة مفهوم متعدد الأبعاد، يجمع بين الجانبين المادي والمعنوي. في ظل التطورات الرقمية المتسارعة، يبدو أن الجانب المادي للمواطنة مغيب إلى حد كبير بين الأجيال الرقمية التي نشأت في عصر التحولات التكنولوجية. فبينما تتطلب المواطنة مشاركة فاعلة في بناء الوطن والتأثير في مستقبله، يظل هذا الدور غير واضح المعالم في ظل غياب المبادرات الحقيقية التي تعكس هذا الالتزام. أما على الصعيد المعنوي، فإن الروح الوطنية مترسخة بعمق في وجدان المواطن العراقي، كما أثبتت التجارب خلال الأزمات التي مر بها العراق، حيث اندفع الشباب وكبار السن بدوافع أخلاقية ودينية ووطنية لحماية البلاد والنهوض بها. لكن هذه الروح بحاجة إلى تعزيز وترسيخ في ثقافة الأجيال الحالية، بما يضمن استمرار تأثيرها في المستقبل. من جهة أخرى، تفتقر الدولة إلى استراتيجية وطنية واضحة لتعزيز المواطنة، إذ أن المبادرات القائمة غالبًا ما تكون شكلية وقصيرة المدى، ولا تؤدي إلى نتائج ملموسة. المطلوب هو تبني رؤية استراتيجية طويلة الأمد، لا تعتمد على الحكومات المتعاقبة فقط، بل تتبناها الأحزاب والمؤسسات الفاعلة لضمان استمراريتها واستقرارها مع مرور الزمن. في مقدمة هذه الاستراتيجيات تأتي مسألة تكريس حرية الرأي والتعبير، حيث ينبغي أن تُحترم كحق أساسي، وأن تتوفر مؤسسات قادرة على قيادة التغيير في طريقة التعامل معها، بعيدًا عن المنظور الأمني التقليدي، وبما يعزز ثقافة الحوار والتعبير المسؤول. إلى جانب ذلك، تبرز الحاجة إلى تأسيس منصات رقمية وطنية، قادرة على التأثير الإيجابي في الوعي العام، بما يتماشى مع المتغيرات الرقمية والذكاء الاصطناعي الذي بات يشكل جزءًا أساسيًا من واقعنا. في النهاية، المطلوب هو إدراك أن هذه التحولات لا ينبغي أن تتحكم في خياراتنا، بل علينا أن نوجهها لخدمة مصالحنا الوطنية وتعزيز قيم المواطنة الحقيقية، عبر استراتيجيات واعية وإرادة سياسية ومجتمعية جادة. الورقة تناولت تداخلاً بين السياسات الاقتصادية والثقافية دون وجود حدود واضحة تفصل بينهما، مما يستدعي ان يكون هناك تحديد أكثر وضوحًا لهذه الحدود. بالإضافة إلى ذلك، لوحظ غياب السياسات الأمنية، خاصة تلك المتعلقة بالأمن السيبراني، والتي تُعد ذات أهمية كبيرة في عصرنا الحالي. في الماضي، كانت الدول تعيش ضمن حدودها الجغرافية، وكانت وسائل الاتصال محدودة، بدءًا من الراديو مرورًا بالتلفزيون ووصولًا إلى القنوات الفضائية، ثم الإنترنت بشكل تدريجي. كانت التأثيرات الثقافية والأخلاقية محدودة في ذلك الوقت، ولكن مع التطور التكنولوجي الهائل، أصبحت هذه التأثيرات تزداد بشكل ملحوظ على المجتمعات. وفي ظل التطورات الرقمية المتسارعة، باتت التكنولوجيا تشكل قوة مؤثرة في تشكيل الوعي المجتمعي والثقافة الوطنية، لكن غياب رؤية واضحة من قبل الحكومات لمواكبة هذه التحولات أدى إلى تأثيرات ثقافية وأخلاقية عميقة. إن الأمن السيبراني لم يعد مجرد مسألة تقنية، بل أصبح قضية وطنية تمس الأمن القومي، حيث لم تعد الدول تعيش في عزلة كما في الماضي، بل أصبح كل فرد يمتلك نافذة مفتوحة على العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما أوجد تحديات جديدة تتعلق بالهوية والانتماء. على سبيل المثال، بعد طفرة التكنولوجيا في العراق شهد العراق بعد عام 2015 طفرة رقمية هائلة غيّرت من طبيعة التفاعل الاجتماعي والثقافي، ولكن في ظل غياب استراتيجيات حكومية واضحة، بات هذا التطور يشكل خطرًا على القيم الوطنية. فقد حدثت زيادة كبيرة في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى تغييرات جذرية في المجتمع العراقي من النواحي الثقافية والأخلاقية والقيمية. ومع غياب رؤية حكومية واضحة تجاه هذه الطفرة التكنولوجية، أصبح لكل فرد صوت خاص يتفاعل من خلاله مع العالم، مما أثر على الأمن القومي والثقافي والديني للبلاد. حتى الدول الرائدة في التكنولوجيا، مثل الولايات المتحدة، تعيش حالة قلق من الهيمنة الرقمية التي تمارسها قوى أخرى كالصين، وهو ما يظهر في محاولات السيطرة على الخوارزميات التي تتحكم في توجهات الأفراد. على الرغم من أن الأمريكيين هم من طوروا الذكاء الاصطناعي، إلا أن هناك محاولات جادة للسيطرة على الخوارزميات التي توجه المعرفة وتؤثر على أفكار المليارات من الأشخاص حول العالم. كان من المفترض أن تعمل التكنولوجيا والعولمة على زيادة التعددية الثقافية والمعرفية، ولكننا نلاحظ تركيزًا هائلًا للقوة المعرفية في أيدي عدد قليل من الأشخاص الذين أصبحوا يتحكمون في تدفق المعلومات. هذا الأمر غائب عن فهم العديد من الحكومات، بما في ذلك الحكومة العراقية. لقد أدى هذا الواقع إلى تركز المعرفة والسلطة في أيدي شركات وأفراد يتحكمون بملايين العقول، مما يعمّق الفجوة بين التقدم التكنولوجي والقدرة النفسية والثقافية على استيعابه، كما أشار المفكر ألفين توفلر بقوله: "من يملك المعرفة يملك السلطة". اليوم، نرى انعكاسات هذا التغير على الأجيال الناشئة، حيث بات الأطفال يكتسبون ثقافات وافدة دون توجيه أو إدراك لأثرها على الهوية الوطنية. فهناك فجوة كبيرة بين التقدم التكنولوجي والتطور النفسي والثقافي للإنسان، فالتكنولوجيا تتقدم بسرعة، لكن الإنسان لا يواكب هذا التقدم نفسيًا وثقافيًا، مما يؤدي إلى استلاب ثقافي وتبعية معرفية نحو الغرب. اليوم، نلاحظ أن الأجيال الشابة تتشكل ثقافيًا من خلال التأثيرات العالمية، مما يجعلها تفقد هويتها الوطنية والدينية. على سبيل المثال، أصبحت اللغة الإنجليزية والمصطلحات الأجنبية جزءًا من حياتهم اليومية، حتى دون تعليم رسمي، وذلك بسبب تأثير ألعاب الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي. في ظل غياب قيادة وطنية قادرة على توجيه المجتمع، أصبح المجتمع العراقي يعاني من اغتراب داخلي، حيث يشعر المواطنون بانتماء أكبر إلى الشبكات الافتراضية أكثر من انتمائهم لوطنهم. هذا الوضع يتطلب وقفة جادة من الحكومة العراقية لتعزيز التربية الرقمية والإعلامية والثقافية، وإلا فإن المستقبل سيشهد مزيدًا من التيه والضياع الثقافي نتيجة الغزو الثقافي الهائل. إن العراق اليوم بحاجة إلى نهج جديد يعزز التربية الرقمية والثقافية، ويحصّن المجتمع من التبعية الثقافية العشوائية. لا يكفي الحديث عن التعليم الرقمي، بل لا بد من ترسيخ "التربية الرقمية" التي تدمج بين القيم الوطنية والمعرفة الحديثة. إن غياب هذا التوجه سيؤدي إلى مزيد من الاغتراب داخل الوطن نفسه، حيث يصبح الفرد بعيدًا عن هويته، متأثرًا بأنماط ثقافية لا تمتّ لواقعه بصلة. إن الوقوف أمام هذه التحديات ليس خيارًا، بل ضرورة وطنية لحماية الهوية العراقية من الذوبان في موجة العولمة الرقمية. لذا، يجب على الحكومة أن تدعم المنظمات غير الحكومية والمبادرات الاجتماعية التي تعمل على تحصين الهوية الثقافية والعقائدية للمواطن العراقي، وإلا فإن الهوية الوطنية ستتآكل بشكل كبير في السنوات القادمة. واقع وتحديات التحول الرقمي في العراق - د. خالد العرداوي/ مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية: يواجه العراق تحديات كبيرة في التحول الرقمي، رغم وجود اهتمام رسمي ومحاولات متفرقة لتطوير التعليم الرقمي، إلا أن هذا الاهتمام لا يواكب سرعة التحولات التكنولوجية العالمية. مناهج التعليم الرقمية موجودة، لكن نقص الأجهزة، وضعف الكوادر البشرية المدربة، وغياب المناهج الحديثة الفعالة تمثل عقبات رئيسية. على سبيل المثال، في عام 2010، قامت تركيا بتوزيع الأجهزة اللوحية على طلابها لتحل محل الكتب التقليدية، بينما لا تزال البنية التحتية الرقمية في العراق ضعيفة. أما على مستوى السياسات الحكومية، فهناك تصور بأن التكنولوجيا تشكل تهديدًا أمنيًا، إلا أن الواقع يشير إلى أن العراق أكثر انفتاحًا على العالم الرقمي مقارنة بدول الجوار، حيث تُفرض قيود مشددة على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في بعض الدول الإقليمية. المفارقة أن الحكومة تخشى التمرد الميداني أكثر من النشاط الرقمي، مما يعكس فهماً غير دقيق للتهديدات الرقمية. اجتماعيًا، أدى غياب التخطيط الاستراتيجي إلى خلق فراغ زمني لدى الشباب، مما دفعهم إلى قضاء أوقاتهم في العالم الافتراضي، بينما في الدول المتقدمة، يكون الانخراط في الأنشطة الرقمية منظّمًا ومتوازنًا مع الأنشطة الواقعية. إضافة إلى ذلك، تواجه الهوية الوطنية العراقية تحديات في ظل انقسام المجتمع على أسس طائفية وعرقية، مما أدى إلى فقدان هوية وطنية جامعة، وهو ما دفع الكثيرين إلى تبني مفهوم "المواطنة العالمية" كبديل للهويات المحلية المتصارعة. ينبغي توظيف التكنولوجيا لتعزيز الهوية الوطنية عبر مبادرات وطنية ذكية تستثمر في المحتوى الرقمي الموجه، وإعداد كوادر بشرية مؤهلة لقيادة التحول الرقمي على المستويات الإدارية والتعليمية، وتوسيع الاهتمام بالتحول الرقمي في قطاعي التربية والإدارة بحيث يكون الطلاب أكثر انخراطًا في الأدوات الرقمية داخل المدارس وليس فقط في منازلهم، اضافة الى الاستثمار في البنية التحتية الرقمية على غرار التجارب الناجحة في المنطقة، مثل تجربة السعودية التي أصبحت ضمن الدول الرائدة في الذكاء الاصطناعي. إن التحول الرقمي لم يعد خيارًا، بل ضرورة تفرضها طبيعة العصر. وإذا لم يتبنَّ العراق استراتيجية واضحة لمواكبة هذا التطور، فإنه سيواجه تحديات كبيرة على مستوى الهوية والثقافة والسيادة الرقمية. لا بد من تحرك وطني شامل لإدارة هذا التحول بطريقة تحقق التقدم دون المساس بالقيم والثوابت الوطنية. - صادق الطائي/ كاتب وباحث اكاديمي: ليس جميع الحكومات تدرك أهمية مجاراة التحولات الرقمية، حيث لا تتبنى بعضها تكنولوجيا العصر الرقمي بشكل حقيقي. في الأنظمة الدكتاتورية، على سبيل المثال، لا يكون هناك رغبة في تشجيع أو تبني هذه التكنولوجيا، لأنها قد تؤثر على سلوكيات الأفراد والمجتمعات وتساهم في تنظيم لقاءات دولية يمكن أن تكون خارج سيطرة النظام. من جهة أخرى، الحكومات التي تعتمد على الانتخابات الدورية، يكون همها الأكبر كسب الأصوات وصناعة إنجازات سريعة يمكن أن تؤثر بشكل واضح في الدورة الانتخابية القادمة. قبل التأكيد على السياسات الرقمية، يجب أولًا بناء وتعزيز الحس الوطني في المجتمع. فبوجود حس وطني قوي، يمكن لأي حكومة، مهما كانت نوعها، أن تدرك أهمية التكنولوجيا الرقمية في تحسين سلوك الأفراد والمجتمع. من خلال ذلك، يمكن تحفيز الأجيال على تبني التغيير الرقمي السريع، ليكون لديهم شعور بالانتماء إلى عصر رقمي ومواكبة التحولات المستقبلية التي تطلبها هذه التكنولوجيا. تحديات التشظي والهوية الوطنية في العراق - علي حسين عبيد/ كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية: تواجه المجتمعات العالمية ومن بينها العراق، ظاهرة التشظي التي تعمل القوى الغربية على تكريسها عبر سياسات مدروسة تمنع التكتلات والوحدات السياسية، لكونها تشكل تهديدًا للنموذج الغربي. هذه الظاهرة انعكست بوضوح على الشعوب التي تفتقر إلى قدرة التوحد أو إبراز هوية وطنية قوية. في العراق، تعاني الطبقة السياسية من غياب الوعي بالهوية الوطنية، بل قد ترى في تناميها تهديدًا لمصالحها، لأن ترسيخ الشعور الوطني بين الشباب والمجتمع قد يؤدي إلى انتفاض ضد هذه النخب السياسية. في المقابل، يواجه المواطن العراقي تحديًا آخر، حيث يجد نفسه وسط عالم مفتوح من المعلومات والثقافات والتيارات الفكرية، مما أدى إلى تآكل جذور الهوية الوطنية داخله، دون إدراك واضح لحجم المشكلة. بذلك، يساهم الطرفان، الحكومة والمجتمع، بشكل غير واعي في إضعاف الهوية الوطنية. لذا، لا بد من تبني سياسات واضحة من قبل الجهات الرسمية لتعزيز الانتماء الوطني، بالتوازي مع جهود فردية ومجتمعية تسعى لترسيخ الهوية الوطنية كجزء من الوعي الجمعي، لمواجهة محاولات التفكيك التي تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي. - الاستاذ حامد الجبوري/ باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات: تمثل التكنولوجيا الرقمية ركنين أساسيين: الجانب التقني البحت، والجانب الثقافي الذي يعكس هوية المجتمعات. ويمكن توضيح ذلك من خلال مثال الطبيب الهندي، الذي يتقن مهنته العلمية بدقة، لكنه في الوقت ذاته يحافظ على عاداته وتقاليده. هذا التوازن بين التطور التقني والتمسك بالهوية الثقافية هو ما نفتقده في مجتمعاتنا، حيث تفتقر الثقافة المحلية إلى مقومات الصلابة القيمية، مما يجعلها عرضة للاختراق والانحلال في مختلف المجالات، سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو اجتماعية. الهيمنة التكنولوجية اليوم بيد شركات عملاقة مثل جوجل، أبل، مايكروسوفت، ميتا، وإكس، التي لا تمتلك فقط النفوذ المالي، بل تتحكم أيضًا في السياسات الدولية وتوجهات المجتمعات الرقمية وفقًا لأيديولوجياتها. في ظل هذا الواقع، يصبح السؤال المطروح: هل يمكن لمجتمعاتنا أن تضع سياسات حكومية تتحدى هذه القوى الرقمية وتحافظ على ثقافتها وقيمها دون أن تقع في فخ الاستهلاك والانقياد؟. المواطنة بين الانتماء والتأثير الثقافي - الاستاذ حسين علي/ باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات: الوطن ليس مجرد أرض نعيش عليها، بل هو كل مكان نشعر فيه بالراحة، سواء على المستوى المادي أو المعنوي، وهو يتجسد في العائلة، الأصدقاء، والمجتمع الذي ينتمي إليه الفرد. المواطنة تبدأ من الأسرة، إذ تنشأ داخل الطفل مفاهيم الانتماء منذ الصغر. حيث تنشأ فكرة المواطنة لدى الاجيال من خلال البيئة الأسرية، مما يعكس دور العائلة في غرس حب الوطن. لكن في المقابل، نجد أن التأثيرات الثقافية الخارجية تلعب دورًا في تغيير هوية المواطن العراقي، خاصة بين فئة المراهقين، حيث يتجه الكثير منهم إلى تبني ثقافات دخيلة، مثل ثقافة البوب الكورية، مما يضعف ارتباطهم بقيمهم الوطنية. لمعالجة هذا التحدي، يمكن تبني ثلاث استراتيجيات لتعزيز المواطنة: إدراج دروس إلكترونية في المناهج التعليمية لتعريف التلاميذ بالمواطنة وأهميتها. إقامة مؤتمرات إلكترونية يشارك فيها شخصيات محبوبة ومؤثرة لتعزيز الهوية الوطنية. تعزيز المواطنة داخل الأسرة عبر برامج إلكترونية تتيح للأفراد مشاركة تجاربهم الوطنية وتشجيع الانتماء منذ الطفولة. بهذه الخطوات، يمكننا بناء وعي وطني قوي يحافظ على الهوية العراقية في مواجهة التحديات الثقافية المعاصرة. - الاستاذ باسم الزيدي/ مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث: المواطنة مفهوم متجدد يتطور مع الزمن، بدءًا من المواطنة القومية التقليدية وصولًا إلى المواطنة العالمية. واليوم، في عصر الرقمنة، ظهر مصطلح "المواطنة الرقمية" الذي يجمع بين الانتماء الوطني ومتطلبات العصر الرقمي، حيث أصبح الفضاء الرقمي جزءًا لا يتجزأ من حياة الأفراد والمجتمعات. المواطنة الرقمية تعني تعزيز الشعور بالانتماء في ظل التطورات التكنولوجية، مع ضمان الحقوق والواجبات في البيئة الرقمية، مما يستوجب تدخلًا حكوميًا فاعلًا لحماية هذه الهوية وتطويرها، من خلال نشر الوعي الرقمي، وتعزيز الأمن السيبراني، وتحقيق العدالة الرقمية عبر توفير فرص متكافئة للوصول إلى التكنولوجيا. ورغم أهمية هذه التحولات، تواجه المواطنة الرقمية تحديات كبيرة، أبرزها خطر الذوبان في هوية رقمية عابرة للحدود قد تضعف الانتماء الوطني. لذا، لا بد من سياسات حكومية تعزز الهوية الرقمية الوطنية دون أن تعزل المجتمعات عن التطورات العالمية. من بين الحلول المطروحة، تحديث المناهج التعليمية بحيث تواكب التحولات الرقمية مع التركيز على تعزيز الهوية الوطنية، إضافة إلى ضرورة إشراك القطاع الخاص في عملية التطوير التكنولوجي بدلاً من احتكارها حكوميًا. كما أن تطبيق الحوكمة الرشيدة، من خلال تعزيز الشفافية والمساءلة وضمان العدالة الرقمية، يعد ركيزة أساسية لضمان تحول رقمي يحقق التوازن بين الانفتاح العالمي والحفاظ على الخصوصية الوطنية. إن التحول الرقمي لم يعد خيارًا، بل ضرورة، ولا يمكن تحقيقه دون تكامل بين الدولة والمجتمع لضمان تفاعل الأجيال الرقمية مع بيئتها الوطنية دون فقدان هويتها في عالم يتغير بسرعة. الرقمنة بين التبني والتحذير - د. خالد الاسدي/ باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث: في عالم اليوم، حيث يتجه الجميع نحو الرقمنة والتطور التكنولوجي، يجب علينا أن نفهم كيف نتعامل مع هذه التحولات. القرآن الكريم جاء تبيانًا لكل شيء، بما في ذلك كيفية التعامل مع التطورات الجديدة، وقد أشار إلى ذلك في قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام، عندما كان يشاهد الظواهر الطبيعية ويختبرها ليصل إلى التوحيد، فكان يبين فساد عبادة الشمس والقمر والنجوم عندما كانت تغيب. هذا الموقف يعلمنا أنه يجب علينا تبني أي شيء جديد بعد أن نتعلمه، ولكن مع الحذر من أضراره وفساده. الرقمنة هي من أهم هذه التحولات التي يجب أن نتعامل معها بحذر وحكمة. أولًا، يجب علينا تعلم هذه التقنية بشكل جيد، ثم نبين لأبنائنا جوانبها السلبية ونحذرهم منها. من جهة أخرى، على الحكومات أن تتحمل مسؤولية كبيرة في تعليم الأجيال الجديدة هذه التقنيات من المراحل الأولى من التعليم. يجب أن تكون الرقمنة جزءًا من الثقافة التعليمية اليومية في المدارس، بحيث لا نراها كشيء ضدنا، بل فرصة للتطور والتقدم. إذا لم نواكب هذه التحولات، فلن نتمكن من السير مع بقية العالم، بل سنظل في موضع التخلف. الاستاذ محمد علي الطالقاني: في الوقت الذي يتجه فيه العالم بأسره نحو الرقمنة والتكنولوجيا، يواجه الجيل الحالي تحديات ثقافية كبيرة. فنجد أن تأثيرات هذه التحولات الرقمية تظهر بشكل واضح في سلوكيات الأفراد، خصوصًا في الأجيال الشابة. أصبح من المألوف أن نجد مصطلحات حديثة تنتشر عبر الإنترنت وتتحول إلى لغة يومية، حتى أن الفرد يشعر بالانفصال عن مجتمعه إذا لم يتبع هذه التوجهات. وقد أصبح الإدمان على العالم الافتراضي يؤثر سلبًا على التفاعل الاجتماعي الحقيقي، مما يؤدي إلى عزلة اجتماعية وتغيير في أنماط التفكير. ورغم أنني أستخدم التكنولوجيا بشكل مكثف في حياتي اليومية، مثل الذكاء الاصطناعي والانترنت، إلا أنني أرى أن التوازن بين الثقافة الشخصية والتكنولوجيا هو المفتاح. التكنولوجيا ليست بالضرورة عائقًا أمام تقدم المجتمع إذا كان الفرد متمسكًا بثقافته ومؤثرًا إيجابيًا على من حوله. فالتقنية تُعد أداة يمكن الاستفادة منها وتوظيفها لصالح الفرد والمجتمع إذا كانت ضمن إطار ثقافي سليم. وفي ختام الملتقى الفكري أجمع المشاركون على ضرورة إعادة صياغة السياسات الحكومية لتبني استراتيجية شاملة تدمج التكنولوجيا في المنظومة التعليمية والثقافية، مع التأكيد على أهمية توجيه محتوى هذه الأدوات الرقمية لتعزيز القيم الوطنية. والتأكيد على أهمية تطوير برامج تربوية تساعد في بناء مواطنة رقمية، تعزز الاستقرار المجتمعي، وتبني جسورًا من الثقة بين الشباب والمؤسسات الحكومية. كما تقدم مدير الجلسة الاستاذ حيدر الاجودي بالشكر الجزيل والامتنان إلى جميع من شارك برأيه حول الموضوع سواء بالحضور او من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وتوجه بالشكر الى الدعم الفني الخاص بالملتقى الفكري الاسبوعي. * مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store