logo

الليبرالية الإنتقائية – من العَولمة إلى الحِمائية!الطاهر المعز

ساحة التحرير٢٨-٠٣-٢٠٢٥

الليبرالية الإنتقائية – من العَولمة إلى الحِمائية!
الطاهر المعز
وعَدت الولايات المتحدة دُوَلَ أوروبا الغربية، بنهاية الحرب العالمية الثانية، بتعزيز المبادلات التجارية من أجل تأسيس نظام جيوسياسي دولي يسوده السّلام، وأغرقت الولاياتُ المتحدة قارة أوروبا بالدّيُون وبالقواعد العسكرية وبالمؤسّسات الثقافية والفِكْرِية المُحافِظَة، فكانت تلك بداية الإنتشار البطيء للأفكار النيوليبرالية، قبل حوالي ثلاثة عُقُود من ظهور الليبرالية الجديدة الذي ارتبط بانتخاب مارغريت تاتشر في بريطانيا سنة 1979 ورونالد ريغان في الولايات المتحدة سنة 1980، ولم تنجز الولايات المتحدة السلام الذي وعدت به، بل شنّت الحُرُوب العدوانية ونظمت وأشرفت على العديد من الإنقلابات في العالم، وروّجت استخباراتها الأخبار الزائفة وأشرفت على المجازر والقمع في العديد من أجزاء الكوكب.
التقى العديد من الاقتصاديين والفلاسفة الأوروبيين – وهي مجموعة من المُفكِّرين والمُثقّفين المُعادين للشيوعية وللفكر التقدّمي واليساري عُمومًا – ومن بينهم فريدريش فون هايك ( النّمسا 1899 – 1992 ) والسّويسري مايكل هيلبرين والهولندي ويلهلم روبك ( 1899 – 1966 ) والفرنسي جاك روف مع الصحافي الأميركي والتر ليبمان ( 1889 – 1974) في باريس خلال شهر آب/أغسطس 1938، وناقشوا مَعًا 'الظروف اللازمة لاستعادة السلام والحرية في العالم بعد فشل الليبرالية القديمة'، واتفقوا على 'إن تأسيس سوق عالمية قائمة على المنافسة وحربة الأسعار وحرية تنقل رأس المال والسّلع شروط ضرورية لضمان السّلم في العالم'، وأطلقوا على هذه الفكرة إسم 'الليبرالية الجديدة'، وعادت نقاشات المُفكِّرين النيوليبراليين بعد الحرب العالمية الثانية – عندما تحولت أوروبا إلى خراب – ليُعارضوا تدخّل الدّولة وبرنامج كينز الذي دعا إلى 'الحلول التدخلية ' التي اعتبروها سياسات مضادة للدورة الإقتصادية، و'عقبات أمام الأداء السليم لآليات التنظيم الذاتي للسوق'، لكن بقيت هذه الأفكار محصورة في أوساط ضيّقة إلى غاية 'الثورة المُحافِظة' التي تجسّدت في سياسات مارغريت تاتشر ورنالد ريغن، رغم النشاط الفكري والإعلامي الذي مَيّز 'فتيان شيكاغو' ( Chicago Boys ) ويُعتَبَر 'ميلتون فريدمان' أحد أهم رموز هذه المدرسة 'المُحافظة' ( الرّجعية) التي دعمت الإنقلاب العسكري في تشيلي والبرامج الإقتصادية المغرقة في الليبرالية للطغمة العسكرية بقيادة الجنرال بينوشيه…
ظَلَّ الهدف الأساسي لمُنَظِّري 'الليبرالية الجديدة ' هو الإنفتاح الإقتصادي وحرية الأسواق بهدف دمج الدّول في سوق عابرة للحدود الوطنية، وإقامة نظام جديد يرتكز على التجارة الحُرّة، ويتطلب ذلك التحرير الكامل للأسعار واعتماد اقتصاد السوق، وخفض التعريفات الجمركية، وحرية تحويل العملات ( حرية حركة رأس المال) وحوّلت الولايات المتحدة الدّول الفاشية السابقة ( ألمانيا وإيطاليا) إلى مختبرات لليبرالية الجديدة بين سنتَيْ 1948 و 1974، قبل توسيع السوق الأوروبية المُشتركة، وكان لسياسات الولايات المتحدة وسيطرتها على أوروبا – خصوصًا خلال العقدَيْن التالِيَيْن لنهاية الحرب العالمية الثانية – دَوِرٌ كبير في تعزيز الليبرالية الجديدة، فجعلت من الانفتاح التجاري وتفكيك الحواجز التجارية أحد أدواتها المفضلة ( إلى جانب الدّولار والقُوّة العسكرية الضّخمة ) للسيطرة على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، بذريعة ' إعادة بناء النظام العالمي ' بفضل التجارة الحرة وتَدْوِيل اقتصاد السوق، وهو ما تم فَرْضُهُ على العالم، بعد انهيار جدار برلين والإتحاد السوفييتي، وخصوصًا بإنشاء منظمة التجارة العالمية سنة 1995، وأدّت 'العولمة' ( في الواقع بدأت 'العولمة' مع رأس المال الإحتكاري ومع المرحلة الإمبريالية من الرأسمالية، بغزو الأسواق والبحث عن المواد الأولية) إلى إحداث تحولات عميقة في ديناميكيات الإنتاج والتبادل من خلال تجزئة تصنيع السلع عبر العديد من البلدان، بهدف خفض التكاليف، وعلى سبيل المثال، تأتي مكونات الهواتف 'الذّكية' من مناطق مختلفة من العالم ليتم تجميعها في آسيا، وكذلك يتم تجميع السيارات المصنعة بأجزاء من عدة قارات، وأصبح الإنتاج الدولي مجزأ للغاية…
في الأثناء حدثت تغييرات عديدة، فتَضَخَّمَ اقتصاد الصّين واستغلت الصين العولمة وقوانين منظمة التجارة العالمية لِتُطوّر علاقاتها التجارية وتستثمر مبالغ ضخمة في البحث العلمي والإبتكار والتكنولوجيا وأصبحت الصين تدافع عن العولمة وقواعد الليبرالية وحرية التجارة، فيما تعمل الولايات المتحدة على إعاقة العولمة وشن حرب الرسوم الجمركية التي تُهدّد بتفكيك الروابط الاقتصادية المترابطة في مجالات الفلاحة والصناعة والخدمات، وتهدف الولايات المتحدة تشجيع الإنتاج في الولايات المتحدة، وإعادة النّظر في سلاسل القيمة العالمية…
أثارت القرارات الأمريكية ردود فعل من قِبَل مُنتجي المواد الخام والمكونات والمنتجات النهائية، ومن مجموعة بريكس والعديد من البلدان الأخرى غير المُصنّعة التي تخصّصت في الاستخراج أو إنتاج المواد الخام أو تجميع المكونات البسيطة، وهي الدّرجة الدُّنيا في سلاسل القيمة، وهي عُرْضَة للرسوم الجمركية المرتفعة على المدخلات اللازمة لتجميع المنتجات النهائية، فيما تتمتع دول مجموعة السبع والدّول الغنية بمكانة متميزة في المراحل الأكثر تقدما من سلسلة القيمة، ومع ذلك، فهي مُهدّدة بزيادة الرسوم الجمركية على صادراتها من السلع المتطورة ( مثل السيارات)، مما يحد من قدرتها على الوصول إلى أسواق جديدة، فإذا طبقت الولايات المتحدة تعريفة جمركية بنسبة 20% على السيارات المستوردة من ألمانيا، سوف ترتفع أسعارها في السوق الأمريكية، مما يحدّ من قُدرتها على منافسة السيارات الأمريكية، وهكذا، فكلما زادت صادرات الاقتصاد من السلع ذات القيمة المضافة العالية (المكونات الإلكترونية أو المركبات أو الآلات المتخصصة )، زاد تعرضه للحواجز الجمركية الأمريكية، وقد يؤدّي ذلك إلى تعطيل بعض حلقات سلسلة الإنتاج وزيادة التكاليف، مما يعوق القدرة التنافسية لتلك المنتجات في الأسواق العالمية، ويُقصِي الدّول الفقيرة ( المُسمّاة 'نامية' ) من الأسواق ومن سلاسل القيمة المضافة العالية، ويزيد من التفاوت بين البلدان الفقيرة والبلدان الغنية.
‎2025-‎03-‎28
The post الليبرالية الإنتقائية – من العَولمة إلى الحِمائية!الطاهر المعز first appeared on ساحة التحرير.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

نتائج مثيرة عربيًا وعراقيًا .. تراجع تاريخي لأوروبا ودول العالم بمؤشر حقوق العمال 2025
نتائج مثيرة عربيًا وعراقيًا .. تراجع تاريخي لأوروبا ودول العالم بمؤشر حقوق العمال 2025

موقع كتابات

timeمنذ 8 ساعات

  • موقع كتابات

نتائج مثيرة عربيًا وعراقيًا .. تراجع تاريخي لأوروبا ودول العالم بمؤشر حقوق العمال 2025

وكالات- كتابات: كشف 'مؤشر حقوق العمال العالمي'؛ عن تدهور (3) من أصل (5) مناطق عالمية في أوضاع حقول العمال، فيما تدهورت 'أوروبا' بأكبر انخفاض تشهده أي منطقة حول العالم خلال السنوات العشر الماضية. ويُصف 'مؤشر الحقوق العالمي'؛ الصادر عن 'الاتحاد الدولي للنقابات للعام' 2025، أنه: 'يكشف عن نتائج خيانة النظام الذي تم بناؤه بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تأسس على الديمقراطية وحقوق النقابات والعدالة'. ويُقسّم المؤشر البلدان وفق (05) مستويات، من المستوى الأول وهو المستوى الأفضل وصولًا إلى المستوى ما فوق الـ (5)، وتقع معظم البلدان العربية في المستويين الخامس وما فوق الخامس. يضم المستوى الأول والأفضل: (07) بلدان فقط على رأسها: 'النمسا'؛ ويشمل انتهاكات متفرقة للحقوق، أما الثاني يضم: (23) دولة ويصَّنف بأن انتهاكات متكررة للحقوق، ولا توجد أي دولة عربية في هذين المستويين. أما المستوى الثالث يضم (29) دولة، ويتصّف بانتهاكات منتظمة للحقوق، وظهرت ضمنها 'سلطنة عُمان والمغرب' باعتبارها أفضل دول عربية في المستوى، أما المستوى الرابع فيضم: (41) دولة ويصَّنف بانتهاكات منهجية للحقوق ويضم 'لبنان' من الدول العربية. أما المستوى الخامس يضم: (39) دولة وتنصَّف بأنها لا يوجد ضمان للحقوق فيها أساسًا، وبينه (10) دول عربية من ضمنها 'العراق'، أما المستوى ما فوق الخامس فيضم (12) دولة وفيها لا يوجد ضمان للحقوق بسبب انهيار القانون ويضم (06) دول عربية بين الـ (12) دولة وهي 'السودان وسورية واليمن وليبيا وفلسطين والصومال'.

الصين تتهم بيت هيجسيث 'بزرع الانقسام' في آسيا في خطاب 'مليء بالاستفزازات'
الصين تتهم بيت هيجسيث 'بزرع الانقسام' في آسيا في خطاب 'مليء بالاستفزازات'

وكالة الصحافة المستقلة

timeمنذ يوم واحد

  • وكالة الصحافة المستقلة

الصين تتهم بيت هيجسيث 'بزرع الانقسام' في آسيا في خطاب 'مليء بالاستفزازات'

المستقلة/- اتهمت الحكومة الصينية رئيس الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث بمحاولة 'زرع الانقسام' في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وذلك على خلفية خطابه في مؤتمر دفاعي في سنغافورة، حيث حذّر من أن الصين تُشكّل تهديدًا 'وشيك'. ويوم السبت، صرّح هيجسيث بأن الصين 'تستعدّ بشكل موثوق لاستخدام القوة العسكرية لتغيير ميزان القوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ'، وأنها تُجري تدريبات على 'الخطوة الحقيقية' المتمثلة في غزو تايوان. وقال وزير الدفاع الأمريكي في كلمة رئيسية ألقاها في منتدى حوار شانغريلا الدفاعي: 'لا داعي لتجميل الأمر. التهديد الذي تُشكّله الصين حقيقي، وقد يكون وشيكًا'، داعيًا الدول الآسيوية إلى زيادة إنفاقها الدفاعي. ويوم الأحد، أدانت وزارة الخارجية الصينية تصريحاته، واصفةً إياها بأنها 'مليئة بالاستفزازات وتهدف إلى زرع الانقسام'. 'تجاهل هيجسيث عمدًا دعوة دول المنطقة إلى السلام والتنمية، وروج بدلًا من ذلك لعقلية الحرب الباردة لمواجهة الكتل، وشتم الصين بادعاءات تشهيرية، ووصفها زورًا بأنها 'تهديد'.' 'كانت هذه التصريحات مليئة بالاستفزازات وتهدف إلى زرع الفرقة. الصين تستنكرها وتعارضها بشدة، وقد احتجت بشدة لدى الولايات المتحدة.' كما رد البيان على ادعاء هيجسيث بأن الصين تسعى إلى أن تصبح 'قوة مهيمنة' في المنطقة. 'لا تستحق أي دولة في العالم أن تُوصف بالقوة المهيمنة سوى الولايات المتحدة نفسها، التي تُعتبر أيضًا العامل الرئيسي في تقويض السلام والاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.' اتهمت الوزارة هيجسيث بـ'اللعب بالنار' فيما أسمته 'قضية تايوان'. يزعم الحزب الشيوعي الصيني الحاكم أن تايوان مقاطعة صينية، يديرها انفصاليون بشكل غير قانوني، وقد تعهد بضمها. ترفض حكومة تايوان المنتخبة ديمقراطيًا، وغالبية شعبها، احتمال حكم الحزب الشيوعي الصيني. وفي حديثه للصحفيين صباح الأحد، رفض وزير الدفاع الأسترالي، ريتشارد مارليس، انتقاد الصين لهيجسيث. وقال: 'ما شهدناه من الصين هو أكبر زيادة في القدرات العسكرية بالمعنى التقليدي من قِبل أي دولة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية'. وأضاف: 'هذه إحدى السمات الرئيسية لتعقيد المشهد الاستراتيجي الذي نواجهه جميعًا في المنطقة، والذي يواجهه العالم أجمع'. وأكد مارليس أن أستراليا عملت مع شركاء إقليميين، بمن فيهم الولايات المتحدة والفلبين، 'على مدى فترة طويلة من الزمن لدعم النظام العالمي القائم على القواعد'، بما في ذلك عمليات حرية الملاحة، للتأكيد على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. والولايات المتحدة ليست من الدول الموقعة على هذه الاتفاقية. حوار شانغريلا هو مؤتمر سنوي يستضيف العشرات من القادة ووزراء الدفاع والقادة العسكريين من جميع أنحاء العالم، على مدى ثلاثة أيام من حلقات النقاش والخطابات. لكن معظم التفاعلات المهمة تجري على هامش الاجتماعات، من خلال اجتماعات خاصة بين الممثلين. وشهدت السنوات الماضية تبادلًا لاذعًا بين الولايات المتحدة والصين، ولكن من حين لآخر عُقدت اجتماعات مهمة، بما في ذلك العام الماضي مع وزير الدفاع الصيني، دونغ جون، وسلف هيغسيث، لويد أوستن. مع ذلك، لم ترسل الصين هذا العام سوى وفد صغير بقيادة نائب رئيس جامعة الدفاع الوطني التابعة لجيش التحرير الشعبي، الأدميرال هو غانغفنغ. بعد ظهر يوم السبت، صرّح هو أمام لجنة بأنّ المتحدثين حاولوا 'إثارة الفتنة والانقسام والتحريض على المواجهات في المنطقة' من خلال انتقادات للصين. وقال إنّ الوضع البحري في المنطقة 'مستقرّ عمومًا' لكنه يواجه 'تحديات جسيمة'، واتهم دولًا لم يُسمّها بزيادة الوجود العسكري وانتهاك السيادة الإقليمية لدول أخرى 'باسم ما يُسمّى بحرية الملاحة' ودعم 'قوى استقلال تايوان الانفصالية'. تدّعي الصين ملكيتها لجزء كبير من بحر الصين الجنوبي، حيث تتداخل مطالب السيادة بين عدة دول. وقد رفضت حكمًا صادرًا عن محكمة لاهاي بأنّ مطالبها غير قانونية.

اكذوبة تغير المواقف الدولية.. وخاصة الاوربية، تجاه القضية الفلسطينية، ومجازر غزة بالذات!سعد ناجي جواد
اكذوبة تغير المواقف الدولية.. وخاصة الاوربية، تجاه القضية الفلسطينية، ومجازر غزة بالذات!سعد ناجي جواد

ساحة التحرير

timeمنذ 3 أيام

  • ساحة التحرير

اكذوبة تغير المواقف الدولية.. وخاصة الاوربية، تجاه القضية الفلسطينية، ومجازر غزة بالذات!سعد ناجي جواد

اكذوبة تغير المواقف الدولية.. وخاصة الاوربية، تجاه القضية الفلسطينية، ومجازر غزة بالذات! د. سعد ناجي جواد* منذ اسابيع غير قليلة بدأت تنتشر احاديث ومقولات مفادها ان الموقف الدولي، وبالذات الأوربي يشهد تغيرا في نظرته إلى حرب الابادة المستمرة في غزة، وبلغ التفاؤل عند عدد من المتابعين إلى حد انهم تصوروا ان هناك تغيرا جذريا في المواقف الاوربية وان مسالة حل الدولتين ستعود بقوة الى الساحة الدولية. ربما اكون واحدا من اكثر المشككين بهذه الفكرة وارفض ان اصدق هذا الاستنتاج. ورفضي هذا لا ينبع من روح سوداوية او يأس قاتم، ولكنه تشائم ينبع من إيماني بان من أصر على زرع كيان غريب في قلب الامة العربية ولأسباب دينية وسياسية، بل واعتبر ذلك النصر النهائي في الحروب الصليبية (هذا ما اكدته أعمال وتصريحات ظهرت بعد احتلال سوريا وفلسطين والعراق بعد الحرب العالمية الثانية) كلها ادلة على ان هذه العقيدة والفكرة لم تتغير لحد الان، جولا يمكن ان تتغير بسهولة. وقبل تحليل الأحاديث الرسمية التي تقال هذه الايام ومحاولة تحليلها، اسمح لنفسي ان أضرب مثلا اوليا. في مقارنة ما يجري في غزة منذ سبعة عشر شهرا من ابادة جماعية لا تستثني احد، وفي معدل قتل للفلسطينيين يصل إلى سبعين شهيدا يوميا، بل والتركيز على استهداف الأطفال، مع ما حدث ويحدث في أوكرانيا، هل هناك من يستطيع ان يساوي بين الحدثين في معدل الضحايا او حجم التدمير؟ ولكن لننظر كيف تعامل المجتمع الدولي مع ذلك الحدث، ليس فقط الولايات المتحدة، ولكن الدول الاوربية قاطبة. اولا وقبل كل شيء فانها جميعا قاطعت روسيا تماما وفرضت كل أنواع العقوبات الاقتصادية عليها، وقطعت العلاقات الدبلوماسية معها، وحرمتها من التواجد في كل الساحات الدولية وفي كل المجالات وصولا إلى المشاركة في الفعاليات الفنية والرياضية، وجعلت من روسيا دولة منبوذة أوربيا ومن قبل كل حلفاء الولايات المتحدة، والاهم ايدت كل القرارات التي صدرت من المحاكم الدولي لملاحقة القيادات الروسية، بينما اسرائيل لا تزال قادرة على المشاركة في كل الفعاليات الدولية، بل وتشجيعها عندما تتواجد في هكذا فعاليات. (اخرها كان في مسابقة الأغنية الاوربية، حيث كادت الأغنية الاسرائيلية ان تحصد الجائزة الاولى بفضل تصويت مؤيدي الصهاينة لها، وفي الوقت الذي كان فيه هذا الاحتفال يمضي كان الاحتلال يقصف خيام النازحين والمدارس المتهالكة التي يأوون اليها). واذا ما عدنا إلى الوراء وقارنا عدد الشهداء الذي سقطوا من الأشقاء الكويتيين جراء الاجتياح العراقي غير المبرر سنجد انه يشكل اقل من نصف بالمائة مع ما سقط ويسقط من شهدا في غزة لوحدها، والكل يعرف ماذا كانت نتيجة الاجتياح العراقي ومقدار القرارات الدولية التي اتخذت ضد الشعب العراقي والحصار اللاإنساني الذي اُخضِعَ له، والملايين الذي راحوا ضحيته وضحية حربين شنت على العراق وتوجت باحتلاله، كل ذلك لان العراق (اعتدى على دولة مجاورة)، واليوم اسرائيل حولت منطقة يسكنها مليوني إنسان إلى ارض جرداء، وتصر على حرمان سكانها من ابسط متطلبات الحياة وقتلت اكثر من ثمانين الف فلسطيني، ومع ذلك لا يزال هناك في اوروبا صحف وسياسيين وإعلاميين ومحطات فضائية مهمة تتحدث عن (حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها وفي البقاء) وفي الاحتفاظ بالمستعمرات لحماية امنها القومي [كذا]. وغير ذلك من أمور التي لا يمكن تفسيرها إلا بكونها دعم لا متناهي للاحتلال وللقتل اليومي للفلسطينيين. في العودة إلى التصريحات التي اعتُبِرَت (تغييرا جذريا في المواقف الاوربية) فان كل ما ترشح لحد الان هو أقوال فقط، مثل الرغبة في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ودعوة لقبول فلسطين دولة كاملة العضوية في الامم المتحدة (للعلم فقط فانه في عام 2024 صوتت الجمعية العامة، وكذلك مجلس الامن، بأغلبية ساحقة على قبول فلسطين كعضو كامل، ولكن الولايات المتحدة افشلت هذا التوجه باستخدام حق الفيتو). علما بان الغالبية العظمى من الدول التي تحاول الان ان تقنعنا بانها قد غيرت موقفها، خاصة فرنسا وبريطانيا، ما تزال لحد اللحظة تزود دولة الاحتلال بأسلحة ودعم استخباراتي وغيره، وقبلها ساهمت مع الولايات المتحدة، وبدون تفويض دولي في الهجمات على اليمن التي وقفت وتقف إلى جانب غزة. ثم ان بريطانيا الدولة المسؤولة الاولى عن ضياع فلسطين وتأسيس الكيان الغاصب على ارضها، ما تزال لحد الان لم تعترف بخطأها، (في عام 2017 اقامت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي احتفالا كبيرا في الذكرى المئوية لوعد بلفور المشئوم، وتفاخرت بان بلدها أصدر تلك الوثيقة)، وذهبت بريطانيا ابعد من ذلك بان شددت القوانين (التي تعرف بالعقوبات لمن يتهم بمعادة السامية) تصل إلى السجن والغرامة وحتى سحب الجنسية ورفع العلم الفلسطيني ولبس الكوفية اعتبر من ضمن الأفعال التي تستوجب العقاب (لانها تجرح مشاعر الصهاينة). والاهم انها وفرنسا، على سبيل المثال، لم يقدما على كسر الحصار المفروض على غزة وادخال مساعدات إنسانية اليها، وهم قادرون على ذلك. وآخر تطورات الموقف الأوربي (الإيجابية) هو نجاح اليمين المتطرف المؤيد لإسرائيل في الانتخابات الأخيرة في ألمانيا، واليوم مستشار المانيا الجديد ليس لديه اي هم سوى زيادة العقوبات على روسيا وإعلان دعمه لاسرائيل. ان من يريد حقا ان يقف إلى جانب الحق الفلسطيني فعليه اولا وقبل كل شيء ان يقطع علاقاته الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية، مع الكيان الذي توكّد كل المواثيق المواثيق والقرارات الدولية انه كيان محتل، وخاصة تلك الصادرة عن الامم المتحدة، والتي وضعت اغلبها من قبل الدول الاوربية نفسها، مثل القرار 242 و 338، والتي توكّد على ضرورة انسحاب اسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967. وآخر هذه القرارات هو ذلك الذي اصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الاول 2024، والذي دعا إلى اقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. وتصدرت بريطانيا وألمانيا أبرز الدول التي امتنعت عن التصويت ومعهما كندا وأستراليا وإيطاليا وهولندا وبولندا والسويد والنمسا والدانمارك وسويسرا وأوكرانيا. ولعل هذا النموذج يوضح الموقف الحقيقي من مسالة تغير المواقف الاوربية. حدثان أثارا التفاؤل الكبير، الاول جاء في بيان صادر عن أيرلندا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا، دعا إلى منح فلسطين عضوية كاملة بالأمم المتحدة والاعتراف بدولتها على أساس حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، والثاني هو البيان الذي اصدره قادة فرنسا وبريطانيا وكندا، وجاء فيه: 'سنتخذ إجراءات إذا لم توقف إسرائيل هجومها بغزة وترفع القيود عن المساعدات…. [و] نعارض بشدة توسيع العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة.. وإن مستوى المعاناة الإنسانية في غزة لا يطاق'. كما نص البيان على أنه 'إذا لم توقف إسرائيل هجومها العسكري الجديد وترفع القيود التي تفرضها على المساعدات الإنسانية، فإننا سوف نتخذ خطوات ملموسة أخرى ردا على ذلك….. [بالاضافة إلى] رفض توسيع المستوطنات في الضفة الغربية ( امس فقط أعلنت حكومة الاحتلال انها ستبني 22 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية وعلى الحدود مع الأردن)…. [ولوح البيان بان موقعيه قد يتخذون] اجراءات بينها العقوبات… لان رفض اسرائيل تقديم مساعدات أساسية للمدنيين في غزة غير مقبول' . اما وزير الخارجية الفرنسي جان نوبل بارو فلقد اكد في مقابلة مع اذاعة فرانس إنتر 'إن الوضع لا يمكن احتماله؛ لأن العنف الأعمى من جانب الحكومة الإسرائيلية وحظر دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة قد حوّل القطاع إلى مكان للموت، ولن أقول إلى مقبرة' واخيراً وليس اخراً صرح الرئيس الفرنسي ماكرون أن 'قيام دولة فلسطينية' بشروط ليس 'مجرد واجب أخلاقي، بل مطلب سياسي'، من دون أن يوضح ما إذا كان سيعترف بدولة فلسطينية. نعم من وجهة نظري المتواضعة تبقى كل هذه التطورات جيدة على المستوى الشفهيّ، ولكن اذا ما اردنا ان نحللها او نطبقها على ارض الواقع سنجد: اولا انها جاءت بعد اكثر من 17 شهرا من الابادة والتدمير المستمرين، ومن تجويع شعب غزة، (قارن مع المدة التي استغرقها الغرب في اتخاذ قراراته ضد روسيا). ثانيا، واذا ما افترضنا جدلا ان هناك حقيقة (صحوة ضمير) مفاجئة بعد كل هذه المدة، فان لغة البيان المذكور أعلاه توكد عدم جديته، فهو يقول (سنتخذ إجراء) إذا لم ترعو إسرائيل (ونعارض) ما يقوم به جيش الاحتلال، والأخيرة مستمرة في غيها. ثالثا ان هذه الدول لم تتخذ خطوة واحدة لتدلل على انها تعني ما تقول في هذا المجال، مثل سحب السفراء او تعليق التمثيل الدبلوماسي، او ايقاف المساعدات العسكرية او الطلب من السفراء الإسرائيليين مغادرة عواصمهم او رفض دخول وفود اسرائيلية إلى بلدانهم، وهي الاجراءت التي اتخذتها نفس الدول ضد روسيا مثلا وبلمح البصر. ان من سيحقق قيام الدولة الفلسطينية وانهاء الاحتلال هو قدرات الامة العربية إذا استخدمت بصورة صحيحة وفعالة، وقبل ان يحدث ذلك، فان ما سيساعد على حدوثه مهما طال الزمن، هو المقاومة الفلسطينية التي استطاعت ان تلقن الاحتلال وقياداته دروسا لن ينساها. وفي نفس الوقت فان صمودها هو الذي اجبر ويجبر الاطراف المختلفة على طرح مشاريع او في الحقيقة افكار للتسوية، تبقى على الورق وليست للتطبيق. كاتب واكاديمي عراقي ‎2025-‎05-‎31 The post اكذوبة تغير المواقف الدولية.. وخاصة الاوربية، تجاه القضية الفلسطينية، ومجازر غزة بالذات!سعد ناجي جواد first appeared on ساحة التحرير.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store