
التدافع بين الناس سنة ربانية وسبيل للتمكين في الأرض
إيطاليا تلغراف
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
إن سنة التدافع متعلقة بالتمكين تعلقًا وطيدًا «فالله تعالى يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو – مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة – فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان، ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة… فمن هنا يقع التدافع بين الحق وأهله، والباطل وحزبه، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً» (1).
«وهي سنة فطرية جارية بين الناس حفظًا لاستقامة حال العيش، واعتدالاً
لميزان الحياة» (2).
لقد ورد تقرير هذه السنة الربانية في القرآن الكريم بصفة عامة ولكن جاء التنصيص عليها في آيتين كريمتين منه (3):
الآية الأولى: قوله تعالى في سورة البقرة: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251].
الآية الثانية: قوله تعالى في سورة الحج: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].
والملاحظ أن آية البقرة تأتى بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل المتمثل في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيل الله تعالى الآية بقوله: (وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة: 251]، (مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلَّهم) (4).
وتأتى آية الحج بعد إعلان الله تعالى أنه يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم – سبحانه – بقتال عدوهم، ويختتم الآية بتقرير الله تعالى لقاعدة أساسية: (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].
إن من الضروري للأمة الإسلامية أن تعي سنة الله تعالى في دفع الناس بعضهم ببعض: «لتدرك أن سنة الله تعالى في تدمير الباطل أن يقوم في الأرض حق يتمثل في أمة، ثم يقذف الله تعالى بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» (5).
إن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضى به، وقلوب تحنو عليه، وأعصاب ترتبط به.. إنه يحتاج إلى الطاقة البشرية، الطاقة القادرة القوية، والطاقة الواعية العاملة.. إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سنة الله تعالى في الحياة الدنيا سنة ماضية (6): (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) [فاطر: 43].
وهكذا يتضح أن سنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي كذلك من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية, وما على الأمة إلا أن تعى هذه السنة، لتستفيد منها وهي تعمل لعودة التمكين الذي وعدت به من الله رب العالمين (7).
ولذلك يهتم القرآن الكريم بتعليم المسلمين ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم، ويبين بكل جلاء ووضوح سنن الله تعالى في الآفاق والمجتمعات والأمم، ويبين كيفية وقوع هذه السنن وما هي الأسباب التي تتخذ، فعندما أراد الله لبنى إسرائيل أن ينصرهم على عدوهم ويمكن لهم في الأرض سبق ذلك التمكين وذلك النصر أمور ذكرها الله في قصة طالوت عليه السلام.. وقد أجاد سيد قطب – رحمه الله – في بيان هذه الحقائق فقال: (والعبرة الكلية تبرز من القصة كلها، هي أن هذه الانتفاضة- انتفاضة العقيدة – على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلى القوم عنها فوجًا بعد فوج في مراحل الطريق على الرغم من هذا كله، فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبنى إسرائيل نتائج ضخمة جدًا، فقد كان فيها العز والنصر والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل، والذل تحت أقدام المتسلطين، ومن خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية، كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين من ذلك:
1- أن الحماسة الجماعية، قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها فيجب أن يضعوها على محك التجربة، قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة.
2- أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الثائر في نفوس الجماعات، ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول.
أ- فإن كثرة بنى إسرائيل هؤلاء قد تولَّوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم، ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيهم، وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت.
ب- ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى وضعفوا أمام الامتحان الأول، وشربوا من النهر، ولم يجاوز معه إلا عدد قليل.
ج- وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية، فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاونت العزائم، وزلزلت القلوب.
د- وأمام هذا التخاذل ثبتت القلة القليلة المختارة، واعتصمت بالله، ووثقت بوعده، وهي التي رجحت الكفة وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين.
لقد تمت تصفية بنى إسرائيل ثلاث مرات، وخلاصة الخلاصة، هم الذين صدقوا الله في الجهاد فصدقهم الله وعده، وأنزل عليهم نصره.
3- في ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة، وكلها واضحة في قيادة طالوت – تبرز فيها:
أ- خبرته بالنفوس.
ب- عدم اغتراره بالحماسة الظاهرة.
ج- عدم اكتفائه بالتجربة الأولى.
د- محاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة.
هـ – فصله للذين ضعفوا، وتركهم وراءه.
و- ثم – وهذا هو الأهم – عدم تخاذله، وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة، ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة فخاض بها المعركة.
4- والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة.. أن القلب الذي يتصل بالله، تتغير موازينه وتصوراته، لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود، فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها، ما يراه الآخرون الذين قالوا: (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف إنما حكمت حكمًا آخر، فقالت: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ثم اتجهت لربها تدعوه: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما هو في يد الله وحده، فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه.
وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقًا، وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح، وهكذا يثبت أن التعامل مع الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون!.
ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة، فالنصوص القرآنية – كما علمتنا التجربة- تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن، وبقدر حاجته الظاهرة فيه.
ويبقى لها رصيدها المذخور، تتفتح به على القلوب، في شتى المواقف، على قدر مقسوم (8).
إن القرآن الكريم يحتاج منا إلى تأمل وتفكر عميق، وسنجد خبرات لا تعد ولا تحصى في كل شئون الحياة الدنيوية والأخروية، وتمد العاملين من أجل الإسلام بالصبر والثبات.
إن دعاء القلة المؤمنة (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ليس خاصًا بها، بل يصلح لكل فئة مجاهدة صابرة، تقف أمام أعدائها، وهناك لفتة في ترتيب فقرات الدعاء الثلاثة: الصبر وتثبيت الأقدام والنصر، فكل فقرة مبنية على ما قبلها وترتيبها ترتيبًا مرحليًا، فعند مواجهة الأعداء يحتاج المجاهد أولاً إلى الصبر- بمفهومه الشامل وميادينه المتعددة – فإذا صبر حاز المرحلة الثانية وهي ثباته وتثبيت قدميه، ولن تثبت الأقدام إلا عند الصابرين وإذا ثبتت الأقدام واستبسل المجاهد في القتال نصره الله على الأعداء، ونلاحظ في الدعاء الالتفات إلى أهمية الحالة النفسية والناحية المعنوية، وتقديمها على الحالة الخارجية المادية، ولذلك قدم الصبر على المعركة، وعلى تثبيت الأقدام فيها، كما نلاحظ تناسقًا وتنسيقًا بين موقفي اغترافهم من النهر اغترافًا، بينما يطلبون إفراغ الصبر عليهم إفراغًا، وصبّه عليهم صبًا، ولعل في هذا إشارة أخرى: فمن استعلى على الدنيا وحاجاتها، لم تتعبده ملذاتها، من حرم نفسه من بعض متاعها ومباحاتها، ابتغاء وجه الله، عوّضه الله عن ذلك، وأمده الله بمدد من عنده، فها هي القلة المؤمنة امتنعت من الشرب من النهر، واستعلت بذلك على متاع الدنيا ومباحاتها، فعوّضها الله عن ذلك الصبر حيث أفرغه عليهم إفراغًا، ونلاحظ: أن داود عليه السلام خرج من وسط الجيش المجاهد، فمن ميدان المعركة بدأ أمره، وترقى في طريق القيادة والملك والحكمة والمسئولية، وفي هذا إشارة إلى أن العمل هو الذي يخرج القادة، والميدان هو الذي يكشف عن المواهب، فالقائدان طالوت وداود ظهرا من وسط الناس، وقدمهما للناس الميدان والعمل والواقع، فهذه هي طريقة القادة الذين يقودون الأمة إلى طريق النصر والتمكين (9).
ومن حكمة الله تعالى في قتل داود لجالوت، أن داود كان فتى صغيرًا من بنى إسرائيل، وجالوت كان ملكًا قويًا وقائدًا مخوفًا… ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجرى بظواهرها، إنما تجرى بحقائقها، وحقائقها يعلمها هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا بواجباتهم، ويفوا الله بعهدهم ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده.
وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.
إن انتصار بنى إسرائيل على جيش طالوت نوع من أنواع التمكين التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم, وإن النظرة المتأملة للقرآن الكريم تكسب الذين يسعون لتحكيم شرع رب العالمين تجارب بشرية ضخمة, وتمدهم بتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله، وتورّث أجيال الأمة ميراث الأنبياء والمرسلين في نظرتهم للواحد الديان، والحياة، والكون، وحقيقة الإنسان ومناهج التغيير التي خاضوها في هذه الحياة.
المصادر والمراجع:
( ) في ظلال القرآن، سيد قطب، (2/742).
(2) انظر: التمكين للأمة الإسلامية لمحمد السيد محمد، ص 218.
(3) المصدر نفسه، ص 219.
(4) الفخر الرازي، مفاتيح الغيب (3/514).
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، (2/1091)
(6) انظر: لقاء المؤمنين لعدنان النحوي (2/117).
(7) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، محمد السيد محمد، ص 225.
(8) في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/260- 263).
(9) انظر: مع قصص السابقين في القرآن، صلاح الخالدي، (1/332).
(10) فقه النصر والتمكين، علي محمد الصلابي، ط1، مكتبة التابعين، القاهرة، 2001، ص 85-90.
إيطاليا تلغراف
السابق
بين توجيهات الملك وصمت الحكومة: أين هي العدالة الاجتماعية؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


التلفزيون الجزائري
منذ 3 ساعات
- التلفزيون الجزائري
بلمهدي يستقبل الأمين العام للمجلس السويدي للإفتاء
استقبل وزير الشؤون الدينية والأوقاف، السيد يوسف بلمهدي، اليوم الخميس بالجزائر العاصمة، الأمين العام للمجلس السويدي للإفتاء، السيد حسان موسى. وقد شكل هذا اللقاء، الذي جرى بمقر الوزارة بحضور إطارات من الإدارة المركزية، 'فرصة لتبادل الرؤى حول سبل تعزيز التعاون في مجال الشؤون الدينية، لا سيما ما يتصل بتأمين الحياة الروحية للجالية المسلمة بالسويد، ودعم جهود التأطير الديني المعتدل الذي يعكس صورة الإسلام السمحة ويستجيب لانشغالات المسلمين في أوروبا'، يبرز المصدر ذاته. وبهذه المناسبة، قدم الوزير للأمين العام للمجلس السويدي للإفتاء – وهو من أصول جزائرية – نسخًا من مصحف الجزائر بطريقة برايل، حيث لاقى هذا المصحف استحسانًا كبيرًا من الضيف'، يضيف البيان. وعبر السيد حسان موسى، الذي كان مرفوقًا بعضو مجلس الإفتاء للنساء في السويد، السيدة يمينة البشير، بدوره 'عن شكره وامتنانه لوزير الشؤون الدينية والأوقاف، ولرئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، الذي رعى هذه الطبعة، في دلالة واضحة على العناية الكبيرة التي توليها الجزائر لخدمة كتاب الله ونشره بمختلف الوسائط'، مثلما أشار إليه نفس المصدر.


الشروق
منذ 4 ساعات
- الشروق
بلمهدي يستقبل الأمين العام للمجلس السويدي للإفتاء
استقبل وزير الشؤون الدينية والأوقاف، يوسف بلمهدي، اليوم الخميس 7 أوت، الأمين العام للمجلس السويدي للإفتاء، حسان موسى، الذي كان مرفقا بعضو مجلس الإفتاء للنساء في السويد، يمينة البشير. وحضر اللقاء عدد من إطارات الإدارة المركزية للوزارة. ويأتي هذا اللقاء، الذي جرى بمقر الوزارة، لتبادل وجهات النظر حول سبل تعزيز التعاون في الشؤون الدينية. وقد ركّز الحديث بشكل خاص على 'تأمين الحياة الروحية للجالية المسلمة في السويد، ودعم جهود التأطير الديني المعتدل الذي يعكس الصورة السمحة للإسلام، ويستجيب لانشغالات المسلمين في أوروبا'، وفقا لما أفادت به الوزارة. وأهدى الوزير للأمين العام للمجلس السويدي للإفتاء، حسان موسى، -وهو جزائري الأصل- نسخًا من مصحف الجزائر المخصص للمكفوفين والمكتوب بطريقة برايل. وهي الهدية التي لاقت استحسانا كبيرا من ضيف الجزائر، والذي عبّر عن شكره وامتنانه للوزير وللرئيس عبد المجيد تبون، الذي رعى هذه الطبعة، في دلالة واضحة على العناية الكبيرة التي توليها الجزائر لخدمة كتاب الله ونشره بمختلف الوسائط، يضيف ذات المصدر.


خبر للأنباء
منذ 5 ساعات
- خبر للأنباء
مقتلة بني قريظة: بين دراية القرآن... ورواية المؤرخين (2)
تُعدّ حادثة بني قريظة من أكثر الأحداث التاريخية التي أثارت جدلاً في دراسة السيرة النبوية، خصوصاً في ظل الروايات التي تزعم أنّ النبي ﷺ أمر بقتل جميع رجالهم وسبي نسائهم وأطفالهم. هذه الروايات وُظفت لاحقًا من قِبل خصوم الإسلام لتصويره ديناً عنيفاً (انظر: ابن إسحاق، السيرة النبوية؛ الواقدي، المغازي). غير أنّ القرآن الكريم – المصدر الأول للمسلمين – لم يشر من قريب أو بعيد إلى وقوع مذبحة جماعية بحق يهود بني قريظة، بل اكتفى بالإشارة إلى هزيمتهم وانكسارهم ونقضهم العهد (سورة الأحزاب، الآية 26). التحقيق في صحة هذه المرويات يُظهر أنها ارتبطت أساساً برواية واحدة مصدرها عكرمة عن ابن عباس، ورُويت لاحقًا بسلاسل متأخرة نسبيًا (انظر: ابن هشام، السيرة، ج2، ص 242). النقد الحديث لهذه الروايات يبرز إشكالات في السند والمتن، إذ يلاحظ أنّ روايات القتل الجماعي ظهرت في سياق الصراع السياسي في العصور الأموية والعباسية، حيث جرى استدعاء صورة "الحسم الكامل" كأداة أيديولوجية لتبرير العنف السياسي (انظر: شاخت، أصول الفقه الإسلامي؛ موتسكي، دراسات في حديث النبي). من زاوية سياق الحدث التاريخي، تشير الوقائع إلى أنّ بني قريظة كانوا حلفاء للمسلمين قبل أن ينقضوا العهد أثناء حصار الأحزاب، وهو ما اعتُبر خيانة عسكرية في زمن حرب. لكن الشواهد الأثرية والتاريخية لا تدعم فكرة قتل جميع رجال القبيلة دفعة واحدة. بل هناك ما يدل على أنّ العقوبات استهدفت قيادات محددة متورطة مباشرة في الخيانة (انظر: الصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد). دراسة هذه الحادثة باستخدام مناهج البحث النقدي، خصوصاً علم نقد الرواية التاريخية، تكشف أنّ الحكاية الشائعة أقرب إلى البناء الأدبي اللاحق منها إلى التقرير التاريخي الدقيق. حتى المستشرقين المنصفين مثل وليم مونتغومري وات أشاروا إلى أنّ تصوير الحادثة كمذبحة شاملة يعكس مبالغات كتاب السيرة الأوائل (Muhammad at Medina). خاتمة: أهمية مناهج البحث النقدي في دراسة مقتلة بني قريظة تُبرز دراسة حادثة بني قريظة بعيون منهجية نقدية حديثة ضرورة إعادة قراءة المصادر التاريخية بمنهجية دقيقة تعتمد على مقارنة النصوص، وفحص الأسانيد، وتحليل السياقات الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بالأحداث. علم نقد الرواية التاريخية يُمكّن الباحث من التمييز بين الروايات التي قد تكون محرفة أو مبالغًا فيها، وبين تلك التي تحمل دلالات موثوقة. كذلك، فإن علم التاريخ الاجتماعي يضيء على الظروف المحيطة بجماعة بني قريظة وعلاقاتها السياسية والدينية مع يثرب (المدينة)، مما يعزز فهم أعمق للوقائع بعيدًا عن الاستقطاب المذهبي أو السياسي. إنّ اعتماد هذه المناهج لا يُسهم فقط في تنقية السرد التاريخي بل يُعيد أيضًا بناء الصورة الحقيقية للأحداث بما يدعم الموضوعية العلمية، ويصون الشخصيات التاريخية من التشويه غير المبرر، خاصة في سياق بحثٍ يهدف إلى فهم جوهر الدين الإسلامي وتاريخه دون تزوير أو تحامل. *من صفحته على الفيسبوك