
أميركا ومخالبها التجارية*دانيال موس
بالنسبة لمنطقة يُشاد بها كثيراً باعتبارها مستقبل الاقتصاد العالمي، كانت التجربة مخيّبة للآمال، واحد تلو آخر، إذ وافق زعماء آسيا على اتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة، قد تكون أفضل قليلاً مما كان متوقعاً قبل أشهر، لكنها في المجمل أكثر صرامة من الصيغ التي كانوا يأملون بها حين راهنوا، قبل عقود، على الوصول إلى السوق الأميركية كركيزة لاستراتيجياتهم التنموية.
أما اليوم، فقد باتت أيام ازدهار سلاسل الإمداد تبدو وكأنها تنتمي إلى عصر ما قبل التاريخ، على الأقل في نظر الدول التي اضطرت إلى الاصطفاف وتقديم التنازلات أمام مطالب البيت الأبيض بفرض تعريفات جمركية مشددة. إنها، بلا شك، عودة إلى حقبة أقل ازدهاراً، إذ تشير تقديرات «بلومبرغ إيكونوميكس» إلى أن مستوى التعريفات الجمركية الأميركية بلغ اليوم أعلى مستوياته منذ ثلاثينات القرن الماضي.
وكان رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا في وقت سابق مصمماً على رفض أي تعريفات، خاصة على السيارات، لكنه انتهى بقبول غرامة بنسبة 15 في المائة. أما رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أعلى مسؤولة في الاتحاد الأوروبي، فقد صرّحت يوم الأحد أن نسبة الـ15 في المائة التي اتفقت عليها الكتلة مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب كانت أفضل ما تمكنوا من تحقيقه.
أما الاقتصادات الرئيسية التي لم تُبرم اتفاقاً بعد، مثل كوريا الجنوبية والهند، فهي تواجه خطر فرض شروط أشد قسوة من تلك التي رضخت لها الدول التي اختارت «الانسجام لتفادي المواجهة».
ويصرّ ترمب على إظهار الخضوع، وهو بالفعل يحصل عليه في جوانب مهمة، إذ تتربع الولايات المتحدة على قمة السلسلة الغذائية التجارية، ولا تزال الاقتصاد الأكبر بفارق كبير.ورغم أن التعريفات الجمركية قد لا تنعش مجتمعات الطبقة العاملة التي يدّعي ترمب دعمها، فإنها تقدم له عرضاً مرضياً من الناحية العاطفية. أما الدول التي رضخت لمطالبه، فبذلك تخفف الضغط عن نفسها، عاقِدة آمالها على تحسن الأوضاع خلال عهد الرئيس الأميركي المقبل.
وفي هذا السياق، من المفيد النظر إلى المسألة من زاوية الدول التي تُشبه «المفترسات الأعلى» في السلسلة الغذائية، تلك التي تتربع على القمة، ولديها القدرة على افتراس اللاعبين الأصغر، كما أوضح ديمتري غروزوبينسكي، المفاوض التجاري الأسترالي السابق، حين قال: «هم يدفعون، إلى حد كبير، ما يشبه أموال الحماية».
ويبدو أن التعريفات الجمركية التي تبلغ نحو 20 في المائة أصبحت هي المعيار المُعتمَد في جنوب شرقي آسيا، استناداً إلى الاتفاقيات المُعلنة مع الفلبين وإندونيسيا وفيتنام.
وفي ما يتعلق بالأخيرتين، فقد تمكّنتا من التفاوض مع الولايات المتحدة لتخفيض النسبة مقارنةً بما كان مطروحاً في أبريل (نيسان) الماضي، إلا أن التعريفات لا تزال مؤلمة.
فبالنسبة لفيتنام، التي تحولت إلى قوة تصديرية صاعدة، قد تنخفض صادراتها إلى السوق الأميركية بنسبة تصل إلى الثلث، وتشير الاتفاقات كذلك إلى جهود أميركية للضغط على الصين، إذ تسعى واشنطن إلى تقييد قدرة الشركات الصينية على إعادة تصدير منتجاتها عبر دول ثالثة. أما الفلبين فقد بدا وكأنها تعرضت لما يشبه الإذلال، إذ التعريفات الجمركية المفروضة على صادراتها كانت أقل بفارق طفيف فقط مما أعلنه ترمب قبل بضعة أسابيع.
ولا يزال العديد من التفاصيل غير محسوم، كما أن الدول لم تتخلَّ بعد عن مساعيها لتحسين الشروط. غير أن القاسم المشترك بين جميع هذه الاتفاقات، إلى جانب مجرد إنجاز صفقة بأي شكل، هو إتاحة الفرصة لترمب للحصول على قدر من المسرح السياسي الذي يطمح إليه، عبر الثناء على الاتفاقات والإشادة بشاغل البيت الأبيض.
وربما عندما يتحوّل الانتباه إلى ساحات أخرى، تتاح الفرصة للحصول على صفقة أفضل قليلاً. فالرئيس الفلبيني فرديناند ماركوس الابن أوضح أنه لم يفقد الأمل. وقبيل لقائه الأخير مع ترمب في البيت الأبيض، حرص فريقه على التأكيد على الروابط التاريخية الوثيقة بين البلدين، إذ كانت الفلبين مستعمرة أميركية سابقاً، وتخوض اليوم مواجهات متكررة مع السفن الصينية في بحر الصين الجنوبي.
وعلى الرغم من ذلك، لم تحصد مانيلا مكاسب تُذكر من الاتفاق، ويبدو أن أفضل رهان أمام ماركوس هو مواصلة العمل مع المفاوضين، بينما ينشغل ترمب بملفات أخرى. وقد ألمح وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيث، إلى احتمال وجود بُعد عسكري ضمن الاتفاق.
وقال غروزوبينسكي، مؤلف كتاب «لماذا يكذب السياسيون بشأن التجارة»: «الذئب بات الآن يطرق أبواباً أخرى»، مضيفاً: «الذلّ أقل إيلاماً من خوض المعركة».
وفي المقابل، تحظى الدول ببعض اليقين بشأن تكلفة الدخول إلى السوق الأميركية، وهي ميزة حيوية في سباق جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
وقد يُعدّ الهروب بحدّ ذاته شكلاً من أشكال الانتصار. ففي حالة فيتنام، على سبيل المثال، لا تزال البلاد تتمتع بقدر معقول من التنافسية حتى مع فرض رسوم بنسبة 20 في المائة، وصحيح أن هذه النسبة مؤلمة، لكنها قد لا تكون كافية لدفع المصنّعين إلى نقل أنشطتهم إلى دول أخرى، وقد يكون الثمن مقبولاً مقابل الحفاظ على الوصول إلى المستهلك الأميركي.
وكانت الإدارة الأميركية قد لمّحت إلى هذا المنطق مسبقاً، قبل ما أسمته بـ«يوم التحرير». ففي مارس (آذار) الماضي، صرّح ستيفن ميران، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في إدارة ترمب، لقناة «بلومبرغ» بأن الدول في نهاية المطاف ليس أمامها خيار سوى البيع للسوق الأميركية، وعليها أن تدفع الثمن للاحتفاظ بهذا الامتياز.
سيول ونيودلهي على الموعد التالي، فقد طرح المسؤولون الكوريون عرضاً يتضمن شراكة في مجال بناء السفن، ضمن إطار اتفاق محتمل مع واشنطن. أما المحادثات مع الصين، التي تُجرى حالياً في السويد، فتبدو قصة مختلفة تماماً، ونأمل أن يتجنب الاقتصاد العالمي أضراراً جسيمة نتيجة هذه التوترات.
والسؤال الذي يطرح نفسه أمام الرئيس الصيني شي جينبينغ الآن هو؛ هل تستحق هذه المواجهة الثمن؟ وإلى أي مدى يستطيع اقتصاد بلاده الصمود؟ وفي ظل تعقيد المشهد، قد تكون مشاهدة فيلم وثائقي يعلّق عليه ديفيد أتينبورو، الإعلامي البريطاني الشهير بصوته المميز وسجله الحافل في تقديم وثائقيات الحياة البرية، تجربة لا غِنى عنها لفهم أبعاد هذه المعركة الاقتصادية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Amman Xchange
منذ 2 ساعات
- Amman Xchange
الاتحاد الأوروبي يُعلق الإجراءات المضادة للرسوم الأميركية 6 أشهر
بروكسل: «الشرق الأوسط» صرّح متحدث باسم المفوضية الأوروبية، الاثنين، بأن الاتحاد الأوروبي سيُعلق حزمتَي الإجراءات المضادة للرسوم الجمركية الأميركية لمدة ستة أشهر، وذلك عقب اتفاق مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب. يُثير الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كثيراً من التساؤلات، بما في ذلك معدلات الرسوم الجمركية على المشروبات الروحية، كما أن الأمر التنفيذي الذي أصدره ترمب الأسبوع الماضي بتحديد الرسوم الجمركية على معظم سلع الاتحاد الأوروبي بنسبة 15 في المائة لم يشمل استثناءات مثل السيارات وقطع غيار السيارات. وقال مسؤولو الاتحاد الأوروبي إنهم يتوقعون صدور مزيد من الأوامر التنفيذية قريباً. وقال المتحدث في بيان: «يواصل الاتحاد الأوروبي العمل مع الولايات المتحدة لوضع اللمسات الأخيرة على بيان مشترك، كما تم الاتفاق عليه في 27 يوليو (تموز)». ومع وضع هذه الأهداف في الاعتبار، ستتخذ المفوضية الخطوات اللازمة لتعليق الإجراءات المضادة للاتحاد الأوروبي ضد الولايات المتحدة، والتي كان من المقرر أن تدخل حيز النفاذ في 7 أغسطس (آب)، لمدة 6 أشهر. والرسوم الجمركية الانتقامية مقسمة إلى قسمين: الأول رداً على الرسوم الجمركية الأميركية على الصلب والألمنيوم، والآخر رداً على الرسوم الجمركية الأساسية التي فرضها ترمب على السيارات.


Amman Xchange
منذ 2 ساعات
- Amman Xchange
الصناعة الألمانية تنفق مزيداً من الأموال للحصول على المعادن النادرة
برلين: «الشرق الأوسط» يضطر القطاع الصناعي في ألمانيا إلى إنفاق مزيد من الأموال من أجل الحصول على المعادن النادرة. وحسب بيانات جمعية الأعمال البافارية، ارتفعت أسعار المعادن النادرة المهمة لعديد من المنتجات -مثل السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح- بنسبة تقارب 9 في المائة في الربع الثاني من هذا العام مقارنةً بالربع الأول. وارتفع سعر التربيوم -المستخدم في إنتاج المغناطيسات وأشباه الموصلات عالية الأداء من بين أشياء أخرى- بنسبة تقارب 28 في المائة، والإتريوم -المستخدم في إنتاج السيراميك عالي التقنية- بنسبة 17 في المائة، والغادولينيوم -الذي تشمل تطبيقاته أيضاً إنتاج المغناطيس- بنسبة 15 في المائة. وقال المدير التنفيذي للجمعية، بيرترام بروسارت: «هذا يُظهر بوضوح حالة عدم اليقين الحالية... علاوة على ذلك تؤدي الضوابط الصينية على صادرات المعادن الأرضية النادرة والمغناطيس إلى ارتفاع الأسعار. هناك حاجة ماسة للاستقرار في هذا المجال». وفي أعقاب الضوابط التي فرضتها الصين خلال تصاعد نزاع الرسوم الجمركية مع الولايات المتحدة، ازداد قلق الشركات الصناعية بشأن توقف الإنتاج، حيث لا يمكن للمحركات الكهربائية وأجهزة الاستشعار على سبيل المثال العمل من دون هذه المواد. وارتفع سعر الذهب بنسبة 15 في المائة، ليكون ارتفاعه أعلى عموماً مقارنةً بالمعادن الأرضية النادرة. يأتي ذلك وسط حرب تجارية أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تسببت في ارتفاع أسعار بعض السلع والتي كان أبرزها المعادن النادرة. وإلى جانب هذا، وبعد اتفاقية التجارة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ذكر وزير المالية الألماني لارس كلينجبايل، أنه يتعين على ألمانيا استخلاص النتائج. وقال كلينجبايل، في تصريحات لمحطة «دويتشلاند فونك» الألمانية، قبل اجتماعه مع نظيره الأميركي في واشنطن: «أعتقد أن نقاط ضعفنا قد انكشفت بالفعل في نزاعنا مع الأميركيين بشأن قضية الرسوم الجمركية. وعلينا استخلاص النتائج من ذلك»، مؤكداً ضرورة العمل بشكل أوثق مع شركاء آخرين مثل كندا وبريطانيا، وقال: «يجب أن نصبح أقوى». وأكد كلينجبايل مجدداً أنه من الجيد حالياً التوصل إلى حل، مضيفاً في المقابل أنه حان الوقت أيضاً أن يتدبر الأوروبيون «ماذا حدث بالفعل في الأسابيع القليلة الماضية؟»، مشيراً إلى أن إنهاءً محتملاً للتجارة العالمية الحرة سيكون بمنزلة «انتكاسة». وأقر كلينجبايل، الذي يشغل أيضاً منصب نائب المستشار الألماني فريدريش ميرتس، بأنه كان يتمنى نتيجة أفضل في المفاوضات مع الولايات المتحدة. وبصفته وزيراً للمالية، يرى كلينجبايل أنه من الضروري الآن معرفة ما هو ممكن لحماية الوظائف والقوة الاقتصادية في ألمانيا، خصوصاً في قطاع الصلب، موضحاً أنه نفسه لديه علامات استفهام حول الاتفاق فيما يتعلق بقطاع الصلب ونظام الحصص المحتمل. وتوجه كلينجبايل، الذي يتزعم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، إلى الولايات المتحدة، الأحد، للقاء وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، يوم الاثنين. وتوصل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مؤخراً إلى اتفاق بشأن النزاع حول الرسوم الجمركية. وينص الاتفاق بين الرئيس دونالد ترمب، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، على فرض رسوم جمركية بنسبة 15 في المائة على معظم صادرات الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة.


الوكيل
منذ 7 ساعات
- الوكيل
"إن بي سي": ترامب يعتزم تجديد المكتب البيضاوي بلمسات...
الوكيل الإخباري- أفادت شبكة "إن بي سي" بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعتزم إدخال بعض التعديلات على ديكور المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، من بينها إضافة المزيد من الزخارف الذهبية. ووفقا للشبكة، ستُضاف الزخارف الذهبية تحديدا إلى سقف المكتب البيضاوي. وتجري حاليا أعمال صيانة دورية مجدولة سنويا داخل المكتب الرئاسي، ومن المتوقع أن تنتهي خلال أسبوعين. اضافة اعلان وكانت إدارة ترامب قد أعلنت في وقت سابق عن مشروع بناء قاعة احتفالات داخل البيت الأبيض بتكلفة تُقدّر بـ200 مليون دولار، على أن يبدأ العمل في سبتمبر المقبل ويُستكمل قبل نهاية ولاية ترامب الرئاسية. تجدر الإشارة إلى أن البيت الأبيض، الذي يُعد المقر الرسمي لرئيس الولايات المتحدة، كان فكرة أول رئيس للبلاد جورج واشنطن، وقد بدأ تشييده عام 1792 وفق تصميم المعماري جيمس هوبن، واكتمل البناء في الأول من نوفمبر عام 1800، وهو اليوم نفسه الذي انتقل فيه الرئيس الثاني جون آدامز إلى المبنى. وقد خضع البيت الأبيض لأعمال إعادة إعمار واسعة بين عامي 1815 و1817 بعد تعرضه لحريق كبير عام 1814.