
"إسرائيل" بين أوروبا والذات: أزمة هوية في قلب التحالف الغربي
شهدت الساحة الأوروبية في الأيام الأخيرة تصعيدًا دبلوماسيًا غير مسبوق تجاه إسرائيل، تجلّى في خطوات سياسية وإشارات مؤسسية توحي بتحول نوعي في العلاقة التاريخية بين الطرفين. بريطانيا أعلنت تعليق المحادثات حول اتفاقية التجارة الحرة الجديدة، فيما أبدت فرنسا دعمها العلني لإعادة النظر في اتفاقية الشراكة الأوروبية – الركيزة الأساسية للعلاقة المؤسسية بين إسرائيل والاتحاد. أما ذروة التصعيد فجاءت على لسان "كايا كالاس"، الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية، التي أعلنت توفّر دعم كافٍ لمقترح وزير خارجية هولندا بطرح مستقبل الاتفاقية مع إسرائيل للنقاش مجددًا.
ما يزيد من رمزية اللحظة أن دولًا اعتادت دعم إسرائيل بشكل غير مشروط – كألمانيا والمجر وبولندا – بدأت هي الأخرى بتوجيه انتقادات مباشرة. حتى المستشار الألماني فريدريش ميرتس، المعروف بولائه العميق لإسرائيل، لم يتردد في التعبير عن تحفظاته على سلوك الحكومة الحالية.
في هذا السياق، تبرز أسئلة مركزية:
هل باتت أوروبا ترى في حكومة نتنياهو خطرًا استراتيجيًا على المشروع الإسرائيلي الذي ساهمت هي نفسها في تأسيسه؟
وهل نحن أمام بداية مسار جديد يعيد تعريف علاقة القارة العجوز بإسرائيل، أم أنها مجرد محاولة محسوبة لإعادة توجيه دفة الحكم في تل أبيب قبل أن تغرق السفينة؟
منذ انطلاق الحرب على غزة، تبنّى الاتحاد الأوروبي خطابًا مزدوجًا: دعم "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، مع انتقاد "الاستخدام غير المتناسب للقوة". لكن مع تجاوز الحرب عتبة الـ18 شهرًا، وإطلاق عمليات "عربات جدعون" التي وظّفت الحصار والتجويع كأدوات حرب ممنهجة، بدأت دول أوروبية رئيسية – مثل فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وأيرلندا – برفع سقف خطابها وصولًا إلى التهديد بالاعتراف بدولة فلسطينية، واستدعاء القانون الدولي الإنساني بشكل أكثر حزمًا.
لكن هذه الانتقادات لا تنطلق من موقع معادٍ لإسرائيل، بل من داخل مشروعها الغربي الأصلي. فإسرائيل لم تكن، بعد الحرب العالمية الثانية، مجرد نتاج صهيوني، بل مشروعًا أوروبيًا-أطلسيًا في شرق المتوسط. ومن هذا المنطلق، فإن التحرك الأوروبي لا يستهدف إضعاف إسرائيل كدولة، بل يسعى إلى لجم الانحراف الذي تقوده حكومة نتنياهو وتحالفه من المستوطنين نحو هوية "دينية-قومية" مغلقة تخرج إسرائيل من المنظومة الليبرالية الغربية.
بمعنى آخر، ما نشهده ليس تصدعًا في العلاقات بقدر ما هو محاولة حثيثة لتعديل المسار، والحفاظ على إسرائيل كما أرادها الغرب: ليبرالية، يهودية، مرتبطة بالقيم الغربية، لا عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا يُثقل كاهل حلفائها أمام شعوبهم.
لفهم أبعاد الموقف الأوروبي، لا يمكن تجاهل البُعد الأمريكي. فالصمت الذي تلتزمه إدارة دونالد ترامب إزاء التصعيد الأوروبي لا يعكس بالضرورة ترددًا أو عدم اهتمام، بل يوحي بتوزيع مدروس للأدوار بين ضفتي الأطلسي. الرئيس ترامب، الذي يسعى لإعادة ترتيب علاقات بلاده في الشرق الأوسط – خاصة بعد زيارته الأخيرة للسعودية والإمارات وقطر – يركّز على احتواء التمدد الصيني، ويترك للأوروبيين دور "الشرطي السيئ" في معادلة الضغط على إسرائيل.
اليوم 08:52
اليوم 08:35
فما لا تستطيع واشنطن فعله علنًا من انتقادات أو تحذيرات، يمكن للأوروبيين طرحه دون أن يُحسب على البيت الأبيض. وعليه، يمكن قراءة التصعيد الأوروبي باعتباره امتدادًا لصيغة تنسيق غير مُعلن، يهدف إلى دفع إسرائيل لتعديل مسارها دون المساس بجوهر الدعم الغربي لمشروعها.
التحرك الأوروبي يتجاوز حدود التصريحات الرمزية. فالاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل، واتفاقية الشراكة (الأسوسيا)، الموقعة عام 2000، تمنحها امتيازات اقتصادية وتكنولوجية هائلة. أي مراجعة لهذه الاتفاقية أو التهديد بإلغائها، يمثّل تهديدًا استراتيجيًا لمكانة إسرائيل داخل النظام الغربي.
كما أن خطوة الاعتراف الأوروبي المحتمل بدولة فلسطينية لا تقتصر على البُعد القانوني، بل تعني فعليًا نزع الشرعية السياسية عن السياسات الإسرائيلية في غزة والضفة، وإعادة القضية الفلسطينية إلى موقعها كقضية ذات أولوية دولية بعد سنوات من التهميش.
الداخل الإسرائيلي: المواقف الأوروبية كعامل تفجير داخلي
في الداخل الإسرائيلي، يُقرأ الموقف الأوروبي بطرق متباينة:
1. اليمين الحاكم يتبنّى رواية المؤامرة، ويرى أن أوروبا تحاول إسقاط حكومة منتخبة، وتدعم الفلسطينيين، خصوصًا حماس، في موقف يُفضي إلى إطالة أمد الحرب وتعميق خطاب "إسرائيل المحاصرة".
2. المعارضة ترى في المواقف الأوروبية شهادة إدانة لحكومة نتنياهو، وتستخدمها سياسيًا لتأكيد أن نتنياهو يجرّ إسرائيل نحو عزلة غير مسبوقة، بل تعتبر هذه المواقف جزءًا من حملة انتخابية مبكرة تُهدّد شرعيته.
3. المؤسسة الأمنية باتت تدق ناقوس الخطر، محذّرة من أن استمرار الحرب دون غطاء شرعي دولي قد يدخل إسرائيل في أزمة استراتيجية، لا تتعلق فقط بتحقيق أهداف الحرب، بل بفقدانها موقعها داخل المنظومة الليبرالية الغربية. لكن هذه المؤسسة لا تزال عاجزة عن فرض رؤيتها بسبب تراجع وزنها السياسي بعد إخفاق السابع من أكتوبر.
وبذلك، لم يعد الموقف الأوروبي مجرد عامل خارجي، بل تحول إلى عنصر فاعل في المعادلة الداخلية الإسرائيلية، يهدد تماسك الائتلاف الحاكم ويعيد خلط الأوراق السياسية.
تطرح الحرب على غزة تحديًا وجوديًا للعلاقات الأوروبية-الإسرائيلية. فإذا ما استمرت حكومة نتنياهو في تجاهل الرسائل القادمة من العواصم الأوروبية، وتمادت في إعادة تعريف إسرائيل خارج النسق الليبرالي، فقد نكون أمام بداية تفكك في البنية التقليدية للتحالف الغربي حول إسرائيل.
لكن في المقابل، قد ينجح الضغط الأوروبي – بالتنسيق غير المباشر مع إدارة ترامب – في دفع المؤسسة الإسرائيلية نحو إعادة ضبط مسارها السياسي، وتثبيت هويتها الليبرالية اليهودية، المهددة من قبل الصهيونية الدينية الصاعدة.
يبقى السؤال الحاسم:
هل ستساهم التحولات الأوروبية في وقف حرب الإبادة على غزة وإفشال مخططات التهجير، أم أن أقصى ما تطمح إليه أوروبا هو إنقاذ المشروع الإسرائيلي من جنون حُماته الجدد؟
بين تعديل المسار وإنقاذ المشروع، تبدو أوروبا وكأنها تخوض معركة على إسرائيل أكثر مما تخوض معركة من أجل الفلسطينيين.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


منذ ساعة واحدة
نقابة موانئ فوس جنوب فرنسا توقف شحنة أسلحة إلى "إسرائيل": لن نشارك في الإبادة
منع الاتحاد العام لعمال الموانئ في خليج فوس، جنوب فرنسا، اليوم الأربعاء، تحميل شحنة عسكرية فرنسية من إنتاج شركة "يورولينك"، كانت متجهة إلى "إسرائيل"، وكان من المقرر أن تُنقل يوم الخميس عبر ميناء مرسيليا (فوس). ويأتي هذا التحرك بعد تحقيق نشره موقع "ديسكلوز" الاستقصائي، كشف عن وجود شحنة مكوّنة من 19 منصة نقّالة تحتوي على 14 طناً من وصلات الذخيرة، يُعتقد أنها مخصصة لرشاشات يستخدمها "الجيش" الإسرائيلي. وأكد الاتحاد أنّ عمال الميناء لن يقوموا بتحميل الشحنة على متن السفينة المتجهة إلى ميناء حيفا، مندداً بـ"تواطؤ فرنسا في دعم الترسانة العسكرية الإسرائيلية." وندّد البيان بأنّ "وصلات يورولينك هذه تُعدّ قطع غيار لرشاشات يستخدمها "الجيش" الإسرائيلي في مواصلة مجازره ضد الشعب الفلسطيني". ووجّه الاتحاد رسالة حاسمة قائلاً: "نكررها مراراً،لن نكون جزءاً من الإبادة الجماعية التي تُدبّرها الحكومة الإسرائيلية." من جهتها، أعلنت نقابة "CGT" التي تمثل عمال موانئ فوس، أنّ هذا التحرك يندرج ضمن موقفها الراسخ من أجل السلام ورفض الاستغلال الرأسمالي والحروب في العالم. اليوم 17:12 اليوم 11:32 وكان موقع "ديسكلوز" قد كشف أنّ السفينة الإسرائيلية "كونتشيب إيرا" التابعة لشركة "زيم" كانت ستنقل هذه الشحنة مساء الخميس إلى ميناء حيفا. وتضمنت الشحنة قطعاً معدنية تُستخدم في تجميع خراطيش رشاشات نيجيف 5، التي تُنتجها شركة "يورولينكس" في مرسيليا وتُرسل إلى الصناعات العسكرية الإسرائيلية (IMI)، التابعة لمجموعة "إلبيت سيستمز" (المورد الرئيسي "للجيش" الإسرائيلي). ووفق التحقيق، هذه الشحنة، هي الثالثة من نوعها منذ بداية عام 2025، رغم الدعوات الدولية لتعليق تصدير الأسلحة إلى "إسرائيل" بسبب استخدامها ضد المدنيين في غزة. وكانت شحنات مماثلة قد خرجت في 3 نيسان/أبريل و22 أيار/مايو حيث تبيّن أنّ المكونات المورّدة متوافقة مع الأسلحة التي استخدمها "الجيش" الإسرائيلي خلال ما عُرف بـ"مجزرة الدقيق" في شباط/فبراير 2024، حيث استشهد أكثر من 100 فلسطيني خلال انتظارهم قافلة مساعدات إنسانية. ورغم تصريح وزير القوات المسلحة الفرنسي، سيباستيان ليكورنو، بأن تراخيص التصدير الممنوحة لشركة "يورولينكس" لا تسمح إلا بإعادة تصدير المكونات إلى عملاء أجانب، وأن "الجيش" الإسرائيلي غير مخول استخدامها، فإن التحقيق أكد عدم وجود أي آلية رقابة حقيقية تضمن ذلك. وتعيد هذه القضية فتح النقاش حول شفافية صادرات السلاح الفرنسية، وهو ما يتناقض مع تصريحات المسؤولين الفرنسيين وعلى رأسهم الرئيس إيمانويل ماكرون، عندما دعا إلى وقف تزويد "إسرائيل" بالأسلحة، قائلاً: "لا يمكن أن نطالب بوقف إطلاق النار ونستمر في توريد الأسلحة."


LBCI
منذ ساعة واحدة
- LBCI
فيتو أميركي ضد مشروع قرار في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في غزة
استخدمت الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي حقّ النقض (الفيتو) ضدّ مشروع قرارٍ يدعو لوقف إطلاق النار في غزة وإتاحة وصول المساعدات الإنسانيٍة بدون قيود إلى القطاع المحاصر، في خطوة برّرتها واشنطن بأنّ النصّ يُقوّض الجهود الدبلوماسية الجارية لحلّ النزاع. وقالت المبعوثة الأميركية لدى الأمم المتحدة دوروثي شيا قبيل التصويت إنّ "من شأن هذا القرار أن يُقوّض الجهود الدبلوماسية الرامية للتوصّل إلى وقف إطلاق نار يعكس الواقع على الأرض ويُشجّع حماس. كذلك فإنّ هذا القرار يرسي مساواة زائفة بين إسرائيل وحماس".


LBCI
منذ ساعة واحدة
- LBCI
بتهمة العنصرية... انطلاق محاكمة 13 شخصا ضد نجمة عالمية
انطلقت محاكمة ثلاثة عشر فردا الأربعاء أمام القضاء الفرنسي، كانوا قد نشروا رسائل وُصفت بالعنصرية ضد مشاركة المغنية الفرنسية-المالية آية ناكامورا في حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024. وحضر ثلاثة متهمين فقط أمام محكمة باريس الجنائية، بينما يمثَّل العشرة الآخرون بمحاميهم. لم تكن آية ناكامورا حاضرة أو ممثلة في الجلسة. المتهمون الثلاثة عشر الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و31 عاما، مقربون من حركة الهوية Les Natifs ("لي ناتيف" أي "الأصليون")، المنبثقة من حركة Génération identitaire ("جيل الهوية") الصغيرة (التي حُلّت عام 2021)، والمعروفة بترويجها لنظرية المؤامرة المعروفة بـ"الاستبدال الكبير". ويُحاكم المتهمون بتهمة التحريض العلني على الكراهية أو العنف على أساس الأصل أو العرق أو الأمة أو العرق أو الدين، أو بتهمة التواطؤ في التحريض على الكراهية. في 9 آذار 2024، بعد أن نشرت مجلة "ليكسبريس" الفرنسية خبر مشاركة المغنية في حفل افتتاح الأولمبياد، نشرت حركة "الأصليون" صورة لافتة عنصرية على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد حمل اللافتة حوالى عشرة من أعضاء الحركة في جزيرة سان لويس على ضفاف نهر السين في باريس، وكُتب عليها "الأمر مستحيل يا آية، هذه باريس، وليست سوق باماكو"، في إشارة إلى أغنيتها الناجحة "دجادجا" ومسقط رأسها في مالي. نشرت هذه الرسالة على مواقع التواصل الاجتماعي منصة "ليفر نوار" الإعلامية اليمينية المتطرفة، والمعروفة الآن باسم "فرونتيير". ندد حساب "لي ناتيف" على "إكس" بما قال إنه "استبدال الأناقة الفرنسية بالابتذال، وإضفاء طابع إفريقي على أغانينا الشعبية، وطرد السكان الأصليين لصالح الهجرة غير الأوروبية". بعد تلقي بلاغات في آذار 2024 من منظمتين، هما الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية (ليكرا) ومنظمة "اس او اس راسيسم" SOS Racisme، أوكلت النيابة العامة في باريس التحقيق إلى المكتب المركزي لمكافحة جرائم الكراهية على الإنترنت. في 20 آذار، قدمت المغنية الفرنسية-المالية شكوى أيضا. آية ناكامورا (30 عاما)، واسمها الحقيقي آية دانيوكو، نشأت في أولني سو بوا بالقرب من باريس. وهي المغنية الفرنسية الأكثر استماعا في العالم. كان أداؤها في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في 26 تموز 2024 من أكثر اللحظات مشاهدةً في هذا الحدث.