
انسحاب القوات الأميركية من المنطقة غير وارد
ولعل تحريك حاملة الطائرات الأميركية «كارل فينسن» من مياه المنطقة قبل أيام - بينما بقيت حاملة الطائرات «نيميتز» - يكشف عن إعادة تموضع محسوبة، لا عن نية للانسحاب الكامل. فوفق تصريحات الأدميرال براد كوبر، الذي تسلم مؤخراً قيادة «القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم)»، فإنه لا توجد خطة حالية لسحب القوات بشكل جذري، بل إن الأمر يخضع لتقييم مستمر وفق الظروف الميدانية. كوبر أكد أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ أن «النهج اليوم هو التقييم المستند إلى الظروف»، موضحاً أنه ملتزمٌ خلال ولايته إعادةَ النظر المستمرة في حجم القوات وتوزيعها في ضوء التطورات. ومن هذه العبارة يمكن استنتاج أن الجيش الأميركي يرى في قواعده وقدراته البرية والجوية والبحرية المنتشرة عنصراً رئيسياً في سرعة الرد على أي طارئ.
التاريخ القريب يؤكد أن الأزمات في الشرق الأوسط تتكرر بتواتر يصعب تجاهله؛ من التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران، مروراً بتهديدات الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر، والتهديدات لمضيق هرمز، وصولاً إلى التحديات المستمرة في العراق وسوريا. ووفق الجنرال فرنك ماكينزي، القائد السابق للقوات الأميركية في المنطقة بين عامي 2019 و2022، فإن «الإبقاء على وجود عسكري مدروس يخدم مصالح الولايات المتحدة، كما يمنح دول المنطقة عنصر استقرار إضافياً في مواجهة التهديدات». كلام ماكينزي ينطوي على تقدير مبني على خبرة ميدانية واسعة؛ إذ يرى أن أي انسحاب متسرع سيضر بقدرة واشنطن على الردع ويضعف شبكات التعاون الأمني مع الحلفاء.
ولا يقتصر الأمر على الدفاع فقط. فالقوات الأميركية في المنطقة تضطلع بمهام حماية الملاحة البحرية، لا سيما عبر نقاط الاختناق الاستراتيجية مثل مضيق هرمز، وتأمين تدفق الطاقة إلى الأسواق العالمية. كما أنها تلعب دوراً أساسياً في عمليات مكافحة الإرهاب، خصوصاً في ظل مؤشرات على عودة نشاط خلايا «داعش» في بعض المناطق. هذه النقطة أكدها ماكينزي صراحةً حين قال إن «الحرب ضد (داعش) لم تنتهِ بعد»، مشيراً إلى أن القوات الأميركية لا تخوض القتال بنفسها، لكنها تمثل دعماً حاسماً لشركاء محليين ينفذون عمليات ميدانية لمنع عودة التنظيم. وهنا تبرز أهمية البقاء العسكري بوصفه عنصرَي «ردع» و«استقرار» معاً.
من جانبه، قدّم السيناتور أنغوس كينغ، من ولاية ماين، الذي عاد مؤخراً من زيارة للعراق، شهادة ميدانية أخرى تعكس تقدير الحلفاء المحليين أهمية الوجود الأميركي. فقد نقل عن مسؤولين عراقيين رغبتهم الواضحة في بقاء القوات الأميركية بوصفها عاملَ توازن ضد شراسة الجماعات المسلحة الموالية لإيران، خصوصاً في ظل التحضير لانتخابات مرتقبة قد تفرز مزيداً من التوترات الداخلية. وأشار كينغ إلى أن «القوات الأميركية يُنظر إليها على أنها قوة استقرار في هذا التوقيت الدقيق».
ورغم الأصوات الداعية إلى خفض الوجود العسكري بحجة التكلفة العالية (بعض المصادر العسكرية يشير إلى أن تكلفة الإبقاء على القواعد والجنود في المنطقة تتجاوز 20 مليار دولار سنوياً)، فإن كثيرين يرون أن تلك النفقات تبقى أقل من تكلفة فراغ أمني قد يفتح المجال أمام دول أو جماعات إرهابية لملئه.
مصادر عسكرية عدة تؤكد أن دولاً - مثل قطر والكويت والبحرين - تتمسك بشراكاتها الدفاعية مع واشنطن، وتعدّ القوات الأميركية الضمانة العملية ضد أي مغامرة أو تهديد مفاجئ. أما فكرة التعويل فقط على القدرات الجوية والبحرية المتحركة، من دون قواعد ثابتة، فتبدو مغرية نظرياً، لكنها تصطدم بواقع أن سرعة الاستجابة والعمليات المشتركة تقتضيان نقاط ارتكاز جاهزة.
في المقابل، يرى قادة عسكريون أن عدد القواعد يمكن مراجعته، وربما إعادة توزيع القوات، لكن من الخطأ الاعتقاد أن المنطقة باتت أقل حاجة إلى هذه القوات. ولا يمكن أيضاً إغفال البعد الجيوسياسي الأوسع: فواشنطن، وفق مصادر أمنية مطلعة، تدرك أن إعادة توزيع ثقلها العسكري لتلبية التحديات في آسيا لا يعني غلق الباب أمام الشرق الأوسط الذي بقي لسنوات مسرحاً لتنافس القوى. وكل انسحاب من دون بديل مدروس قد يترجَم إلى توسيع نفوذ روسيا أو الصين أو إيران. وما دامت الأزمات في هذه البقعة من العالم تتكرر بتسارع يصعب ضبطه، فإن منطق الإبقاء على حضورٍ عسكري أميركي مرنٍ وفعالٍ يبدو أقرب إلى الواقعية من الدعوات الطوباوية إلى الانسحاب الكامل.
هكذا تكشف النقاشات الحالية عن أن القاعدة الأهم التي استقرّت لدى كبار القادة العسكريين والأمنيين الأميركيين هي أن «الأمن لا يتحقق بالفراغ»، وأن الوجود المدروس أفضل بكثير من مغامرة الانسحاب ثم العودة لاحقاً بتكلفة أعلى.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربية
منذ 12 دقائق
- العربية
من دمشق... هنا الرياض
في أجواء سياسية واقتصادية مشحونة بالتوترات الإقليمية والآمال الوطنية، أعلنت المملكة العربية السعودية في 24 يوليو/تموز 2025 عبر منتدى الاستثمار السوري السعودي في دمشق عن توقيع 47 اتفاقية ومذكرة تفاهم قيمتها تقارب 24 مليار ريال (6.4 مليارات دولار)، في خطوة وصفتها وسائل الإعلام بأنها تحول نوعي في علاقات البلدين الاقتصادية. ومن بين تلك الاتفاقيات تخصيص أكثر من 11 مليار ريال (2.93 مليار دولار) لمشروعات البنية التحتية والعقارات، تتضمن إنشاء ثلاثة مصانع جديدة للإسمنت، فيما يبلغ حجم الاستثمارات في قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات نحو أربعة مليارات ريال (حوالي مليار دولار). وتشمل الاتفاقيات توقيع مذكرة تفاهم بين سوق دمشق للأوراق المالية ومجموعة تداول السعودية لتعزيز التعاون في مجال التقنيات المالية، إضافة إلى مشروع سكني تجاري في حمص تنفذه شركة «بيت الإباء» تعود عوائده لصالح برامج الدعم الاجتماعي. ويتوزع الاستثمار السعودي على قطاعات الطاقة والعقارات والصناعة والبنية التحتية والخدمات المالية والصحة والزراعة والاتصالات وتقنية المعلومات والمقاولات والتعليم، وتشير التقارير إلى أن أكثر من عشرين جهة حكومية سعودية وما يزيد على مئة شركة من القطاع الخاص شاركت في المنتدى، ما يشي بنية سعودية حقيقية لاجتراح شراكة استراتيجية طويلة الأمد، خصوصاً بعد موافقة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على تأسيس مجلس أعمال سعودي سوري. هذا الزخم الاقتصادي يتجاوز حدود الاستثمار ليشكّل موقفاً سياسياً داعماً للشرعية السورية الناشئة بعد سقوط حكم بشار الأسد وتولي الرئيس الانتقالي أحمد الشرع السلطة. فعلى الرغم من أن الحكومة الجديدة ما زالت تتلمس طريقها وسط مصاعب أمنية واقتصادية واجتماعية، فإن ضخ مليارات الدولارات من السعودية إلى دمشق يضخ في شرايين الدولة موارد حيوية تدعم قدرتها على إعادة الإعمار وتوفير الخدمات وتحريك عجلة الاقتصاد، وهو عملياً «إعادة دمج» لسوريا في الفضاء العربي ومساندة لرغبتها في بناء مؤسسات حديثة. المنتدى الاستثماري جاء بعد أيام قليلة من قصف إسرائيلي عنيف على دمشق في 16 يوليو/تموز؛ إذ استهدفت الطائرات الإسرائيلية مقر هيئة الأركان في ساحة الأمويين ومواقع أخرى وهي مؤشر على سياسة إسرائيلية عدوانية تهدف إلى الضغط على الحكومة السورية عبر استثمار الفوضى الأمنية في الجنوب. في هذا السياق، يعد الإعلان السعودي رسالة سياسية مزدوجة؛ فمن جهة يؤكد أن دمشق ليست وحيدة وأن لديها داعماً عربياً يمثل القوة الوازنة في المنطقة برمتها، ومن جهة أخرى يلمح إلى أن خيارات المواجهة مع إسرائيل ليست عسكرية فحسب بل اقتصادية أيضاً، فالتنمية وتثبيت الاستقرار يمثلان رداً ناعماً على التصعيد الإسرائيلي. وفي خضم هذه التحولات، يحتفي السوريون بما يعتبرونه عودة الروح العربية إلى بلادهم، ويشعرون بأن استثمارات السعودية ليست مجرد أرقام أو مشاريع وإنما رسائل أخوة وسند إنساني. فالشارع السوري يرى في قرار الرياض تسديد ديون سوريا للبنك الدولي والآن ضخ مليارات الدولارات في قطاعات متنوعة ترجمة عملية لقول وزير الاستثمار السعودي بأن المملكة تقف «موقفاً ثابتاً وداعماً لشقيقتها سوريا». ويزداد هذا الشعور عمقاً حين يتذكر السوريون كيف فتحت المملكة أبوابها لأكثر من 2600 رائد أعمال سوري، وكيف استوعبت عشرات الآلاف من أبناء الجالية السورية ومنحتهم فرصاً للعيش والعمل. وبينما تنظر بعض الدول الغربية بعين الريبة إلى المستقبل السوري وتشكّك في قدرة الحكومة الانتقالية على إدارة بلد مزّقته الحرب لأربعة عشر عاماً، فإن المبادرة السعودية تأتي لتقول إن ثمة من يثق بقدرة السوريين على النهوض من تحت الركام وبناء وطن مزدهر. هذا الشعور بالاعتزاز يتجاوز القيادة إلى الناس العاديين الذين خرجوا لاستقبال الوفد السعودي في دمشق بأعلام خضراء، مردّدين الأهازيج التي تربط بين مكة ودمشق، وبين العروبة والإسلام، وبين الذاكرة المشتركة. فاللغة التي يتحدث بها السوريون عن الرياض اليوم هي لغة الحب والشكر، إذ يرون أن لا شيء يضاهي هذا الكرم السياسي والاقتصادي والإنساني؛ فهو كرم يغسل ذكريات الحرب وينسج خيوط الأمل في أن تعود بلادهم كما كانت ملتقى للحضارات ومركزاً للتجارة والثقافة. ومن هنا، تبدو الاستثمارات السعودية في سوريا أكثر من مجرد عقود؛ إنها تعبير عن قدرة الشعوب العربية على تجاوز جراحها حين تتكاتف، ورسالة بأن العلاقات الأخوية بين الشعبين أقوى من المحن، وأن القلب السعودي الذي يطرق باب دمشق اليوم يفتح معه نافذة واسعة على مستقبل يستحقه السوريون.


عكاظ
منذ 32 دقائق
- عكاظ
المملكة ترحب بإعلان البرتغال عن بدئها بالإجراءات الممهدة لاعترافها بالدولة الفلسطينية
أعربت وزارة الخارجية عن ترحيب المملكة العربية السعودية بإعلان حكومة جمهورية البرتغال عن بدئها بالإجراءات التي تمهد لاعترافها بالدولة الفلسطينية في شهر سبتمبر المقبل. وأكدت المملكة أن هذه الخطوة الإيجابية تدعم مسار تنفيذ حل الدولتين وتحقيق السلام، مجددةً دعوتها لجميع الشركاء حول العالم باتخاذ خطوات مماثلة حيال الاعتراف بالدولة الفلسطينية للوصول إلى السلام العادل والشامل. أخبار ذات صلة


العربية
منذ 42 دقائق
- العربية
التغييرات الجيوسياسية سلاح واشنطن الجديد لمحاصرة إيران
فرضت تصريحات السفير الأميركي لدى تركيا توماس براك خلال الأسبوعين الأخيرين، سواء المتعلقة بالوضع اللبناني أو منطقة القوقاز الجنوبي، على جميع الدول الإقليمية وبخاصة تركيا وإيران، رفع مستوى استعداداتها لمواجهة تداعيات هذه التصريحات وكيفية تعطيل مفاعيلها، لما لها من تأثير جيوسياسي وجيوإستراتيجي في معادلات منطقة غرب آسيا برمتها. وباتجاهين كانت رسائل البيت الأبيض التي حملها براك إلى الدول المعنية بمستقبل المعادلات في غرب آسيا، فاستهدفت بالدرجة الأولى النظام الإيراني وما بقي من نفوذه الإقليمي، وبدرجة أقل النظام التركي الذي يطمح لإعادة رسم معادلات النفوذ بما يخدم مصالحه وطموحاته التي تشمل سوريا وتمتد إلى دول الهلال التركي في آسيا الوسطى، فقلل براك في طروحاته من أهمية المطلب اللبناني باستعادة سيادته على مزارع شبعا، واقترح على الجانب اللبناني إجراء تبادل بالأراضي مع الجانب الإسرائيلي، وهو مقترح قرأته طهران كجزء من دعم أميركي للمشروع الإسرائيلي الذي طغى أخيراً على الاهتمامات الإقليمية، والمتمثل في مشروع "ممر داود"، بخاصة أنه يسحب الذريعة الرئيسة التي يتمسك بها حليف طهران اللبناني للاحتفاظ بسلاحه لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلة، وقد ارتفع منسوب الترقب الإيراني بعد السيطرة الإسرائيلية على المحافظات الجنوبية لسوريا في القنطيرة والسويداء ودرعا وصولاً إلى مشارف دمشق، وأن تنفيذ هذا المشروع يسمح لإسرائيل بإعادة إحياء طموحاتها بالوصول إلى الحدود الإيرانية وتغيير معادلة "حزام النار" الذي أقامته إيران حول إسرائيل بحزام إسرائيلي جديد حول إيران، يتكامل مع نفوذها الواسع والكبير الذي بنته على مدى ثلاثة عقود في منطقة القوقاز من خلال تحالفها مع حكومة إلهام علييف في أذربيجان. والمخاوف التركية من هذا المشروع لا تقل عن المخاوف الإيرانية، لأن مشروع "ممر داود" يعني إعادة تفكيك كل التفاهمات التي عقدتها أنقره مع القوى الكردية الإقليمية (كردستان العراق) وأحزاب المعارضة في الداخل، بخاصة المصالحة الأخيرة مع حزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله أوجلان، لأن الوصول الإسرائيلي إلى مناطق شرق سوريا يعني عقد تفاهمات علنية بين تل أبيب والقوى الكردية السورية ذات الامتداد في الداخل التركي، وبالتالي فإن مستقبل أي تفاهم بين هذه القوى والدولة السورية الجديدة التي تحظى برعاية كبيرة من أنقرة سيكون في دائرة المجهول، ومن المحتمل أن يتحول إلى تهديد مستجد للطموحات التركية في إعادة بناء نفوذها الإقليمي. وإذا ما كان الطرفان الإيراني والتركي يتعاملان مع الطموحات والمشاريع الإسرائيلية المدعومة أميركياً بكثير من القلق والخوف من تداعياتها على أمنهما واستقرارهما ومصالحهما الإستراتيجية، فإن المعادلة تنقلب في ما يتعلق بما يرسم لمنطقة القوقاز الجنوبي وطموحات حكومة باكو في فرض تغييرات جيوسياسية على خرائط المنطقة، ويشكل الكلام الذي صدر عن براك، بصفته سفيراً لأميركا لدى تركيا، حول رغبة بلاده في لعب دور فاعل في الأزمة المزمنة بين أرمينيا وأذربيجان حول المعبر البري بين إقليم نخجوان المحاذي للحدود التركية والعاصمة باكو (شطري أذربيجان) والذي تطلق عليه اسم "ممر زنكزور"، وأن الرؤية الأميركية لحل هذه المعضلة المزمنة تمر عبر تولي شركة أميركية خاصة إقامة وبناء هذا الممر، على أن يكون مستأجراً لمصلحتها مدة 99 عاماً. وتزامن كلام السفير الأميركي مع الكشف عن وثيقة سرية مسربة يجري تداولها بين شخصيات وأوساط أرمينية تعيش في أوروبا، وتتحدث عن توافق ثلاثي الأطراف بين أميركا وأذربيجان وأرمينيا لإنشاء ممر بطول 42 كيلومتراً، يربط بين باكو ونخجوان باسم "جسر ترمب" على جزء من أراضي إقليم سيونيك الأرميني. وتضيف الوثيقة أن تحصل حكومة يريفان على 30 في المئة من عائدات التشغيل في مقابل تنازلها عن الأراضي التي يمر بها الجسر للشركة الأميركية، كما يعطي هذا الاتفاق الولايات المتحدة الأميركية الحق في نشر قوات عسكرية كبيرة على الأراضي الأرمينية، مع تخويلها استخدام القوة عندما ترى ضرورة لذلك. السهم الذي أطلقه براك أصاب ثلاثة أهداف في الوقت نفسه، فالنظام الإيراني سيجد نفسه مجبراً على التعامل مع تغييرات في التركيبة الجيوسياسية لمنطقة القوقاز الجنوبي، لأن الممر الذي تطالب به أذربيجان بدعم من تركيا والذي تسعى واشنطن إلى إقامته باسم "جسر ترمب"، سيكون على حساب الممر التاريخي في الأراضي الإيرانية المعروف بـ "ممر إرس"، على رغم أن أعمال تطويره التي تقوم بها إيران منذ عام 2022 تقترب من نهايتها، فإيران ترفض أي تغيير في الوضع الجيوسياسي لمنطقة القوقاز الجنوبي، وكانت على استعداد لخوض معركة عسكرية مع أذربيجان لمنع إحداث هذا الممر الذي يستدعي احتلال الجزء المحاذي للحدود الإيرانية في إقليم سيونيك الأرميني، مما يهدد مصالحها الجيواقتصادية التي يوفرها هذا الممر ويربطها عبر جورجيا وشرق أوروبا، وتعتبره إحدى الحلقات الأساس على خريطة المواصلات والممرات والمعابر البرية التجارية والاقتصادية. وإضافة إلى التحدي الجيوسياسي فإن تحدياً جيوإستراتيجياً أكبر ستواجهه طهران مع إحداث هذا الممر، لما سيوافره لتركيا من حرية العمل لاستكمال مشروعها والحلم ببناء "الهلال التركي" بقيادة أنقرة، والذي يضم دول العالم التركي في آسيا الوسطى ويفتح الطريق أمامها للربط البري مع باكستان والهند والصين وصولاً إلى أفغانستان، مما يعني سيطرة تركية على قلب هذه المنطقة الحيوية وبالتالي محاصرة المصالح الإيرانية الجيواقتصادية، وإذا ما كانت طهران على استعداد للتعامل مع تداعيات مثل هذا المشروع بعيداً من التفاهم معها في حال حصلت على ضمانات بعدم تهديد مصالحها الاقتصادية وتأمين ممر آمن لمواصلاتها باتجاه أوروبا الشرقية، فإنها لا تسقط من اعتباراتها الأهداف البعيدة لهذا المشروع الذي يدخل في إطار محاصرة مناطق نفوذها ومصالحها، والمستفيد الأساس منه ليس تركيا على رغم الأرباح السياسية والإستراتيجية التي ستحصل عليها، بل أميركا وإسرائيل اللتين تنظران إلى الوجود في قوقاز وآسيا الوسطى خطوة جدية على طريق التخلص من النظام في إيران. وعلى رغم محاولة طهران ابتلاع موقفها السلبي من الدور الذي لعبته باكو خلال الضربة الإسرائيلية التي تعرضت لها في يونيو (حزيران) الماضي، وتغاضيها عن المعلومات المؤكدة عن استخدام تل أبيب الأراضي والأجواء الأذربيجانية في هذه العملية، لكن عودة باكو بقيادة رئيسها إلهام علييف وبدعم من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للإصرار على إحداث هذا المعبر البري، حتى وإن كان من طريق استخدام القوة وفرضه على أرمينيا، يضع طهران ونظامها في موقف البحث عن مخارج وحلول لا تصل حد الخسارة، ولا تدفع باتجاه مزيد من التصعيد في ظل الاحتمالات الكبيرة لدى قياداتها بإمكان تجدد حربها مع إسرائيل. المساعي الأميركية للدخول المباشر على خط الأزمة الأذربيجانية - الأرمينية، وما يعنيه الوجود العسكري المباشر وإن كان تحت عنوان حماية المصالح الأميركية، يحمل في هدفه الثاني رسالة إلى القيادة الروسية التي قد ترهن موقفها من المشروع بآلية تنفيذه، وهي سترفضه وتعارضه إذا ما كان تحت إدارة واشنطن أو الـ "ناتو"، انطلاقاً من دورها التاريخي في القوقاز ومن أن هذه المنطقة شكلت وتشكل جزءاً من الحديقة الخلفية لموسكو، أما موافقتها أو صمتها التكتيكي فيعتمد على مدى توافقه مع مصالحها الجيوسياسية، وألا يكون الهدف منه عزل إيران والصين. أما الهدف الثالث لهذه الرسالة الأميركية فهو الصين التي ستعتبر أن الهدف منه هو إضعاف مشروعها الإستراتيجي "الحزام والطريق" في الجزء الخاص ببحر الخزر(قزوين)، بخاصة أن بكين سبق ووقعت عام 2013 اتفاقات تجارية مع أذربيجان وأرمينيا وجورجيا ودول آسيا الوسطى، وبالتالي فان الممر الجديد تحت إدارة وإشراف واشنطن وحمايتها سيكون منافساً للمشروع الصيني، وقد يؤدي إلى السيطرة على جزء من ممرات المواصلات من الشرق إلى الغرب، ويهدد أيضاً مصالح الصين باستثمار الموانئ وسكك الحديد في القوقاز الجنوبي للوصول إلى أوروبا، مما يفتح الطريق أمام منافسة جيوسياسية جديدة في المنطقة. وفي الخلاصة فإن الطرح الذي كشف عنه توماس براك يشكل خطوة للإدارة الأميركية على طريق محاصرة التحالف الاقتصادي الثلاثي الإيراني والروسي والصيني، لينقل هذه المرة المعركة التي تخوضها واشنطن إلى الحديقة الخلفية لكل واحدة من هذه الدول التي لا شك في أنها ستكون أمام تحدي البحث عن مخارج لإفشال أو تعطيل مفاعيل هذا المشروع.