
الإرباك المعرفي
تبرز قيمة الإرباك المعرفي في زمن يموج بالتحديات ويفيض بالمعلومات والمعارف وتزداد الحاجة إلى مساحات حقيقية للتفكير النقدي، ومداخل جريئة لفتح فضاءات للبحث والتساؤل، ويُعد الإرباك المعرفي من أكثر المفاهيم عمقًا وثراءً وإثارة في الحقلين التربوي والثقافي؛ حيث يمس جوهر عملية التعليم والتعلم؛ لما يحمله من قدرة على تحفيز العقل نحو التحرر من الجمود والانتقال من المألوف والاتساق الذهني إلى التوتر المنتج والمجهول المربك، فعندما يواجه المتعلم فكرة تتناقض مع قناعاته المسبقة وما اعتاد عليه من مفاهيم تربك نظامه المعرفي يحدث نوع من الاضطراب الداخلي، وهذا الاضطراب رغم ما يصاحبه من شعور بالقلق والشك يعد دعوة واستدعاء لليقظة الذهنية، فينشأ عن ذلك احتكاك داخلي يوقظ الوعي ويفتح أبواب المعرفة والتفكير النقدي.
ويمثل الإرباك المعرفي Cognitive Dissonance حالة من التوتر الذهني للفرد حين يواجه معلومة أو تجربة تتناقض مع قناعاته الراسخة أو معتقداته المسبقة ويبدو هذا التوتر مزعجًا في ظاهره، إلا أنه يحمل إمكانية عظيمة لإعادة التشكيل الذهني؛ حيث يجبر العقل على مراجعة مسلماته، وفحص أنماط تفكيره، وتعديلها أو إعادة بنائها على أسس أعمق خاصة في السياق التربوي؛ لكسر الرتابة الذهنية واستفزاز التفكير الناقد، ويصبح بوابة لانبثاق الأفكار العميقة وصياغة معرفة يتسع فيها الأفق، ويصبح العقل في حالة تأهب مستمر للتأمل.
ويتجلى الإرباك المعرفي في البيئة التعليمية حين يدفع المتعلم والمتلقي للتفكير بطريقة تتحدى البديهيات الراسخة والأطر النمطية، بهدف تفكيك النماذج الذهنية السطحية والانقياد الأعمى، فالمتعلم الذي اعتاد على الحفظ والاستجابة الآلية، يجد نفسه فجأة أمام سؤال مفتوح، أو موقف حياتي يحمل أبعادًا متضاربة، أو نصًّا مفتوح متعدد التأويلات، ومن ثم تبدأ منطقة التوتر المعرفي الإيجابي بالتشكل المحفزة للتفكير وتتحول إلى فرصة لإعادة النظر والتأمل ثم البناء وبناء قناعات راسخة على أسس عقلية ونقدية صحيحة.
ويأتي دور المعلم ليهيئ الظروف التي تجعل السؤال ضرورة داخل عقل المتعلم وتستفز فكره ويهيئ لحظات من الارتباك البناء وتكوين الذات المفكرة، وهذا يشكل نقلة نوعية من المشاركة الواعية والفاعلة بالعملية التعليمية فالإرباك المعرفي إذا ما استخدم بوعي تربوي ورعاية إنسانية، يعد محفزًا لتحول إدراكي عميق واستثارة للوعي ومنطلقًا لتعلم أكثر صدقًا واتساعًا، كما أن الطالب الذي يعتاد هذا النوع من الإرباك، يتعلم كيف يصوغ فكره بحرية، وكيف يعيد النظر في المسلمات دون خوف أو ارتباك، فينتقل من التلقي السلبي إلى التفاعل الإيجابي والانفعال المثمر والبحث البناء والمشاركة النقدية العميقة.
وغالبًا ما ينظر إلى الإرباك المعرفي في السياق الثقافي بعين الريبة بوصفه تهديدًا للهوية والقيم ومهدد للثوابت الراسخة، غير أن التجربة التاريخية للموروثات الثقافية الإنسانية تؤكد أن أعظم التحولات الحضارية والثقافية انطلقت من لحظة اضطراب فكري صادقة، فحين يواجه الإنسان رأيًا يناقض قناعاته الجوهرية ويحتك بفكر مختلف، ينتابه شعور بالارتباك وربما الرفض أو الغضب؛ لكن هذا اللقاء المربك معرفيًا مع الأخر إن أتيح له المجال وتم في أفق من الإنصات والتفكر والتأمل، يمكن أن يتحول إلى فرصة نادرة لمراجعة الذات من موقع أعمق وينشأ انفتاح تأملي يُعيد صياغة الفهم، ويكشف عن طبقات جديدة في بنية الهوية.
ومن ثم يصبح الإرباك المعرفي مناسبة لإعادة تعريف الهوية بعمق واتزان وينقيها ويجعلها أكثر وعيًا بذاتها في ظل التعددية والاختلاف، كما يسهم في ترسيخ الانتماء مشمولًا بوعي يتجاوز الانفعال نحو فهم يستوعب التنوع منطلقًا من الأصالة والحفاظ على الذات؛ لذا يجب أن تتم هذه العملية في بيئة آمنة ومسؤولة؛ لتنتج ذاتًا أكثر توازنًا وهوية أكثر رسوخًا وثقافة أكثر قدرة على التعايش والتجدد ضمن أفق إنساني أرحب وأكثر شمولًا ونضجًا.
وتكمن الخطورة الحقيقية في الإرباك المعرفي حين يوظف بسطحية وبطريقة غير مسؤولة، أو يستخدم كأداة لإحداث زعزعة للقيم الأساسية بلا مقصد معرفي واضح ودون تقديم بدائل فكرية أخلاقية سليمة، فيترك المتعلم أو المتلقي في دوامة من الشك دون مرجعية أو رعاية، فلا يمنح أدوات التفكير اللازمة أو المسارات الآمنة للخروج من حالة الشك، ففي مثل هذه الحالات يتحول الإرباك من كونه لحظة استثنائية للنمو والوعي إلى حالة من التيه الذهني والضياع، وقد ينتج نوعًا من الإحباط أو الانسحاب العقلي، وهنا تصبح البيئة التربوية والثقافية الرشيدة ضرورة لا غنى عنها، فهي التي تؤمن سياقًا آمنًا للحوار، وتوفر الإطار الذي يسمح بعبور لحظة الشك نحو وعي أوسع وفهم أعمق.
ويعد الإرباك المعرفي فرصة نادرة لإعادة بناء العقل على أساس من الوعي والنقد والتسامح؛ وإذا أدركنا قيمته التربوية والثقافية، وتعلمنا كيف نوجهه ونرعاه، فسنكون أقرب إلى بناء إنسان مفكر وحر، وناضج يبحث عن الحقيقة؛ ليخدم بها نفسه ومجتمعه والعالم ورغم الفوائد العظيمة للإرباك المعرفي إلا انه سلاح ذو حدين إذا فرض بشكل قسري أو طرح دون سياق تربوي أو ثقافي مسؤول، قد يتحول إلى عامل هدم كما أن ترك المتعلم أو المتلقي في حالة من الشك المفتوح دون توجيه أو دعم، يحدث شرخًا قد لا يرمم بسهولة، وينتج عقلًا قلقًا بدلًا من عقل متأمل.
ونؤكد أنه لا بد من تضمين الإرباك المعرفي ضمن بيئة حاضنة تحترم القيم وتدعم الحوار وتوفر الأمان النفسي والمعرفي؛ ليقود الإنسان نحو وعي أعمق بذاته والعالم فهو يحفز على التعلم الذاتي، وينمي مهارات التأمل، ويؤسس للتواضع المعرفي، ويدرب على فن الإصغاء والحوار والقبول عن قناعات سليمة بإساس معرفي صحيح، خاصة في عالم يتسارع فيه الاستهلاك المعرفي وتزداد فيه الحاجة إلى الأصالة الفكرية، فيغدو الإرباك المعرفي ممارسة تربوية وأخلاقية مسؤولة تسعى إلى إعادة الاعتبار للعقل الإنساني بوصفه أداة للفهم والتفكر والإبداع الأكثر عمقًا واتساعًا.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اليوم السابع
منذ 4 ساعات
- اليوم السابع
مراجعة نهائية شاملة.. أبرز 16 سؤالا فى الاستاتيكا لطلاب الثانوية العامة
مع اقتراب موعد امتحانات الثانوية العامة، يواصل موقع "اليوم السابع" تقديم أقوى المراجعات النهاية للطلاب، حيث ينشر مجموعة متميزة من أهم الأسئلة المتوقعة في مادة الاستاتيكا، أحد فرعي مادة الرياضيات التطبيقية لطلاب الشعبة العلمية (رياضيات). وبحسب جدول الامتحانات، يخوض طلاب الثانوية العامة، غدًا الأربعاء، اختباراتهم في مواد مختلفة: الأحياء لطلاب علمي علوم، الاستاتيكا لطلاب علمي رياضيات، والفلسفة والمنطق لطلاب الشعبة الأدبية. وتأتي هذه المراجعة التي أعدها الأستاذ محمد غبور، أستاذ الرياضيات، لتضم 16 سؤالًا بالإجابات النموذجية، تم اختيارها بعناية لتعكس أنماط الأسئلة المتوقعة في امتحان نهاية العام، بما يُمكّن الطلاب من التدريب الفعلي والاستعداد الكامل. وتسهم هذه الأسئلة الاسترشادية في تعميق الفهم لدى الطلاب، وتساعدهم على التمرن على طريقة الحل وفقًا لنماذج الامتحانات الرسمية. من جهتها، أوضحت وزارة التربية والتعليم أن مادة الرياضيات التطبيقية تتكون من فرعين هما الديناميكا والاستاتيكا، ويشمل كل فرع 20 سؤالًا مخصصًا له 30 درجة، ليصل مجموع المادة إلى 60 درجة. وفي إطار حرصها على مصلحة الطلاب، شددت الوزارة على الالتزام بتعليمات الإجابة في أوراق البابل شيت، مؤكدة ضرورة تظليل دائرة الإجابة الصحيحة بشكل كامل ودقيق، وعدم تجاوز حدود الدائرة. وفي حال تغيير الطالب لإجابته، يجب وضع علامة × واضحة على الإجابة الخاطئة وتظليل البديل الصحيح. كما دعت الوزارة الطلاب إلى التعامل بدقة مع ورقة الإجابة، وضرورة نقل البيانات الشخصية بشكل سليم وواضح داخل كراسة الإجابة الرسمية.


جريدة المال
منذ 4 ساعات
- جريدة المال
جامعة قناة السويس تستضيف اجتماع اللجنة التنفيذية للاختبارات الإلكترونية
استضافت جامعة قناة السويس الاجتماع الدوري للجنة التنفيذية للاختبارات الإلكترونية بالمجلس الأعلى للجامعات، بحضور ممثلين عن 27 جامعة مصرية، في إطار تعزيز التعاون المشترك بين الجامعات المصرية في مجال التحول الرقمي وتطوير منظومة الاختبارات الإلكترونية. وفي كلمته الافتتاحية، رحب الدكتور ناصر مندور، رئيس جامعة قناة السويس، بالسادة الحضور من مختلف الجامعات، مشيرًا إلى أن الجامعة تضم عددًا من مراكز الاختبارات الإلكترونية المجهزة بأعلى الإمكانيات الفنية والبشرية، تشمل معمل كلية الصيدلة بسعة 300 جهاز، ومعمل كلية طب الأسنان بسعة 220 جهازًا، بالإضافة إلى المركزين القديمين بكلية الطب البشري بسعة 422 جهازًا، وكلية الطب البيطري بسعة 513 جهازًا، فضلًا عن المركز الرئيسي الجاري تجهيزه بسعة تصل إلى 3200 جهاز، ليصبح أحد أكبر المراكز على مستوى الجامعات المصرية. وأكد رئيس الجامعة أن استضافة الاجتماع تأتي في إطار حرص الجامعة على دعم جهود الدولة في مجال التحول الرقمي، وتعزيز جودة ونزاهة العملية التعليمية، متوجهًا بالشكر للجنة التنفيذية على اختيار الجامعة مقرًا لهذا الاجتماع الهام. شهد الاجتماع حضور ومشاركة كل من الدكتور عمر سالم، مدير شبكة المعلومات بالمجلس الأعلى للجامعات، والدكتور كريم عمارة، نائب مدير الشبكة، والدكتور علاء عبد العاطي، مدير وحدة الاختبارات الإلكترونية بالمجلس الأعلى، الذين قاموا بجولة تفقدية داخل مبنى الاختبارات الإلكترونية بالجامعة، حيث أشادوا بمستوى التجهيزات التقنية والبنية التحتية المتقدمة التي يتمتع بها المركز. كما شاركت في الاجتماع الدكتورة غادة حداد، المدير التنفيذي لمراكز الاختبارات الإلكترونية بجامعة قناة السويس، والتي أكدت أهمية تبادل الخبرات بين الجامعات في مجالات إدارة وتنفيذ الاختبارات الإلكترونية، ودور هذه اللقاءات في رفع كفاءة الأداء وضمان الجودة. ويهدف الاجتماع إلى الإشراف على وحدات الاختبارات الإلكترونية بمختلف الجامعات، ومتابعة تنفيذ مشروع ميكنة الاختبارات، بما يواكب تطورات التعليم العالي على الصعيدين المحلي والدولي. وقد أتاح الاجتماع فرصة مثمرة لتبادل الرؤى والخبرات بين الجامعات المشاركة، في ظل التوجه نحو تطوير منظومة تقييم طلابية رقمية تضمن الشفافية والدقة والموضوعية.


اليوم السابع
منذ 5 ساعات
- اليوم السابع
مراجعة نهائية فى الجغرافيا لطلاب الثانوية العامة استعدادًا لامتحانات 2025
في إطار استعدادات طلاب الثانوية العامة لخوض ماراثون الامتحانات المقررة في الشهر المقبل، يقدّم "اليوم السابع" مراجعة نهائية متكاملة لمادة الجغرافيا، وذلك ضمن سلسلة مراجعاته التعليمية التي تستهدف دعم الطلاب في مختلف المواد الدراسية سواء للشعبة الأدبية أو العلمية. وتتضمن مراجعة الجغرافيا هذا العام 50 سؤالًا استرشاديًا تم اختيارها بعناية لتغطية مختلف موضوعات وفصول المنهج، مما يُمكّن الطلاب من المراجعة السريعة والمتعمقة في آن واحد، والتدريب على شكل الأسئلة وطريقة الإجابة النموذجية، من خلال محتوى مبسط يُقدمه نخبة من معلمي وخبراء وزارة التربية والتعليم. ويأتي ذلك في إطار حرص "اليوم السابع" على توفير محتوى تعليمي متميز يدعم العملية التعليمية، ويُساعد الطلاب على استيعاب المعلومات بطريقة سهلة، ويُعزز من قدرتهم على التعامل مع نمط الأسئلة المتوقع في الامتحانات الرسمية. من جهتها، أكدت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني أن نظام امتحانات الثانوية العامة 2025 سيبقى كما هو دون تغييرات، حيث سيتم عقد الامتحانات ورقيًا بالكامل، سواء في الأسئلة الاختيارية أو المقالية، ولن يُسمح للطلاب باصطحاب أجهزة التابلت داخل اللجان الامتحانية. كما أوضحت الوزارة أن المواصفات الفنية للأسئلة ستتطابق مع تلك التي تم تطبيقها في العام الدراسي الماضي، ما يمنح الطلاب فرصة واضحة للتدريب المسبق والاستعداد الجيد دون مفاجآت.