logo
الدول النامية الآن وأوربا القرن التاسع عشر

الدول النامية الآن وأوربا القرن التاسع عشر

شبكة النبأ١٠-٠٤-٢٠٢٥

الدول المتقدمة أنجزت التصنيع وانتقلت إلى نظام ما بعد الصناعة وخلال عمليات التصنيع وتشابكاتها وما تقتضيه من إدارة وتنظيم، والعلاقة الوثيقة بين عمليات الإنتاج والمعرفة العلمية والتقنية المعاصرة والمصارف وأسواق المال، هذه كلها غيّرت عميقا البرجوازية والقوى العاملة والدولة والقوى المؤثرة في مسار النظام السياسي. الدول النامية عدا الناهضة...
غالبا ما يهتم أهل السياسة بالاقتصاد في سياق تكوين دولة المؤسسات المعاصرة، التي توصف باللاشخصية وإستقلال القضاء والمساواة أمام القانون والفصل بين التشريع والتنفيذ والرقابة والمساءلة... وكذا. والتي تقترن بالدولة "الديمقراطية الليبرالية" ذات النموذج الغربي، التي تصورها فوكوياما في التسعينات بعد نهاية الحرب الباردة، أنها المرحلة الأخيرة لتطور النظام السياسي للعالم، في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير، نشير أيضا إلى مراجعاته لاحقا تضمّنها كتابه تطور النظام السياسي بجزئين، ثم شكواه المريرة من كثرة إختراقات مجموعات المصالح لمؤسسات الدولة التي قصدها في نهاية التاريخ... وأبحاث لآخرين وحوارات لسنا بصددها.
وكثيرا ما يشار إلى ان النظام السياسي بتلك المواصفات مشروط بمستوى من التطور الإقتصادي كالذي عرفته اوربا الغربية وشمال أمريكا في القرن التاسع عشر وهو المقصود عندما يقال انه النظام السياسي الذي يُعبّر عن إرداة البرجوازية والإقتصاد الرأسمالي.
نتساءل هل العالم النامي، في نطاقه العريض، الآن لم يقترب من مجملات إقتصاد اوربا الغربية في القرن التاسع عشر، ام على التاريخ أن يعيد صناعة بقية العالم ليكون أوربا أخرى بالضبط كي تولد تلك الدولة المنتظرة. البرجوازية Bourgeois من الفرنسية هم سكان المدن والبلدات، ويقال أنها جاءت من الفرانكية القديمة Burg والتي صارت Bourg بلدة السوق. لكن الدلالة الإصطلاحية لمفردة البرجوازية إختلفت عن الأصل اللغوي فهي لا تشمل جميع سكان المدن بل أرباب العمل والممتلكات وذوي المهن المتخصصة، محامين، اطباء، مهندسين،... وموظفي الحكومة أو بتعبير ابسط اصحاب المال والأعمال وذوي الياقات البيض، وغالبا ما ترد البرجوازية في مقابل العمال الأجراء او البروليتاريا. وقد يُسمّى الذين يعملون لحسابهم الخاص، مثل أصحاب الدكاكين والمشاغل الفردية، برجوازية صغيرة، ثم يقال أيضا برجوازية الريف تمييزا لهم عن الفلاحين المستبعدين من " البروليتاريا والبرجوازية".
ومع ذلك يبقى أفضل دليل للتعرف على حضور وإتساع البرجوازية وحجمها النسبي سكان الحضر ونسبتهم من مجموع السكان. لكن من المعلوم ان نمط التطور الإقتصادي يرتبط وثيقا بإنتاجية العمل، وللتذكير متوسط الدخل، الناتج، للفرد يساوي نسبة المشتغلين من مجوع السكان مضروبا بالإنتاجية، فلو فرضنا أن الإنتاجية 150 والمشتغلين ثلث السكان يكون متوسط الدخل للفرد 50. ولأن نسبة المشتغلين تتحرك عبر الزمن في نطاق ضيق ثم تستقر فلو جعلناها ثابتة، للتبسيط غير المخل، حسابيا يكون معدل نمو متوسط الدخل للفرد هو بالضبط معدل نمو الإنتاجية.
وبذا صار واضحا سبب هذا الإهتمام الطاغي بمتوسط الدخل للفرد فهو مقياس مزدوج لمرحلة التطور الإقتصادي والإمكانية المحتملة للرفاه، نقول المحتملة لفسح المجال لأثر عوامل أخرى في الرفاه منها توزيع الدخل بين الناس وكذلك نمط إنتشار البنى التحتية والخدمات العامة. لا ننسى ان متوسط الدخل للفرد المنسجم مع مرحلة التطور الإقتصادي –التقني– التنظيمي لا يتضمن الريع. أما متوسط الدخل للفرد المشتمل على الريع فهو مقياس لإمكانية الرفاه دون مستوى التطور.
عند مستوى معين من إنتاجية العمل يحتاج المجتمع هذا المقدار أو ذاك من وحدات العمل لإنتاج الغذاء والضروريات الملحة الأخرى مثل الملبس والماوى. بداية التطور الإقتصادي تنسجم آليات التبادل والأسعار مع الدخل المحدد بالإنتاجية لتنصرف أغلبية القوى العاملة او كلها عدا القليل منها لإنتاج الغذاء. لذلك تستأثر الزراعة بأغلب العمل ويستوطن السكان في الأرياف وقليل منهم في المدن. في أوربا القرون الوسطى وحتى العصر الحديث، قبل الثورة الصناعية، كانت حنى الصناعات مثل النسيج وادوات الزراعة في الأرياف، وتزاولها نفس الأسر الفلاحية إلى جانب العمل الزراعي وقليل من المتفرغين.
ومع التطور الإقتصادي، تتزايد الإنتاجية، فيُفسح المجال لأنشطة إقتصادية اخرى فتبدأ المدن بالتكاثر تدريجيا وسكانها، وتستطيع السلطات أيضا إقتطاع نسب متزايدة من الدخل للإنفاق العام وهذا ينعكس أيضا على نمو المدن. على سبيل المثال في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1800 يشتغل 74% من القوى العاملة في الزراعة، وفي عام 1850 انخفضت نسبتهم إلى 55%، ثم إلى 40% عام 1900 وفي عام 1960 صارت النسبة 8% وفي السنوات الأخيرة، العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين حوالي 1% من مجموع المشتغلين والأنشطة الأخرى أي الصناعة بالتعريف الواسع وكل الخدمات بما فيها الحكومية إستحوذت 99% من القوى العاملة.
وفي أسبانيا التي وصلت متأخرة إلى فئة الدول المتقدمة كانت الزراعة تولد 30% من الدخل، الناتج المحلي الإجمالي، عام، عام 1946، وبقيت مدة طويلة قبل هذا التاريخ تدور حول هذه المساهمة دليل على ركود بنية الإنتاج، وفي عام 2015 إنخفضت حصتها إلى دون 3%. عادة عندما تباشر الدول مرحلة التصنيع تكون إنتاجية العمل في الزراعة أوطأ منها في الصناعة وبقية الأنشطة ولذلك نسبة العاملين في الزراعة تفوق نسبة الناتج الزراعي إلى مجموع الناتج. ومع التقدم الإقتصادي تتقارب معدلات إنتاجية العمل بين القطاعات وتبقى الصناعة التحويلية الأكثر نموا في إنتاجية العمل وتقود الإقتصاد في التحول العميق والشامل كالذي شهدته دول الغرب واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والصين حاليا.
للمقارنة بين الوضع الحالي للدول النامية وما كانت عليه اوربا الغربية نستعين بمتوسط الدخل، الناتج المحلي الإجمالي، للفرد. الناتج مقاس بدولارات متعادلة القوة الشرائية وهذا النهج متبع لمعالجة اثر إختلافات الأسعار بين الدول، اي أن المستويات العامة لأسعار السلع والخدمات معدّلة لتماثل أسعار الولايات المتحدة الأمريكية عام 2021، والبيانات المعالجة والمعروضة مستقاة من دراسات تاريخية وبيانات موقع البنك الدولي World Bank Open Data. بيانات القرن التاسع عشر عن الدخل أخَذَتها الدراسات التاريخية عن Maddison صاحب المشروع المعروف في تاريخ الإقتصاد الكمي؛ وبيانات القوى العاملة والتحضر إستقيناها من مصادر أخرى. بداية القرن العشرين تعد بمثابة نهاية القرن التاسع عشر، هكذا درجت الكثير من دراسات التاريخ الإقتصادي.
متوسط الدخل للفرد عام 1870 لأقرب دولار في بريطانيا 2827؛ فرنسا 2325؛ المانيا 2819؛ الولايات المتحدة 2248. في الدول النامية عام 2023 لأقرب دولار لمجموعات الدول النامية تبعا لمستوى التطور: الأقل تطوراً 3819؛ واطئة الدخل 2325؛ متوسطة الدخل الفئة الدنيا 8380؛ واطئة ومتوسطة الدخل 12888؛ الفئة العليا لمتوسطة الدخل 20588؛ المتوسط العالمي 20604 وجميعها بأسعار عام 2021 بالدولارات متعادلة القوة الشرائية. نستنتج بمعيار الدخل جميع الدول النامية حتى أقلها دخلا وتطورا لم تعد أدنى مما كانت عليه دول الغرب المتقدم عام 1870. وبحكم الإرتباط الوثيق، كما تقدم بين متوسط الدخل للفرد عبر الإنتاجية، وبنية النشاط الإقتصادي والتحضر أصبح من الصعب قبول الإصرار بأن الشرط الإقتصادي لدولة المؤسسات المعاصرة لم يتحقق بعد في الدول النامية. وعلى صعيد الدول كل على حدة لم أجد سوى بضعة دول لا أقول اربع كي اتحفظ عن إحتمال الخطأ دون ذلك الشرط.
وعند المقارنة مع عام 1913 وجدنا متوسط الدخل للفرد للدول المتقدمة الأربع على التوالي: 8096؛ 6043؛ 5652؛ 9017 دولار بأسعار 2021. وهنا صارت الدول الأقل تطورا ومنها واطئة الدخل ليست مستوفية لشرط التماثل مع المتقدمة عام 1913 ونسبتها من مجموع سكان العالم 14%، أي 86% من سكان العالم بدول مستوفية للشرط. بلغُة ابسط سكان دول العالم النامي 82% من مجموع سكان المعمورة منهم 60% في دول مستوفية للشرط و 14% لم تصل بعد. فعندما نفترض أن الدول المتقدمة مطلع القرن العشرين فقط حققت الشرط الإقتصادي وليس قبل ذلك، وهذا لم يتبناه أحد، يصبح التعميم على كل الدول النامية لا يستند إلى اساس وجيه دون إعادة البحث والتقصي كي نتوصل إلى نتيجة تساعد في تقليص مساحة البحث عن أسباب التعثر او التخلف السياسي.
نذهب إلى نسبة العاملين في الزراعة في عام 1870 في الولايات المتحدة الأمريكية 53% من مجموع القوى العاملة. وفي الدول النامية عام 2023 للدول الأقل تطوراً 53%؛ واطئة الدخل 58%؛ متوسطة الدخل الفئة الدنيا 39% واطئة ومتوسطة الدخل 32%؛ متوسطة الدخل الفئة العليا 20% المتوسط العالمي 26%. نستنتج ان الفئة واطئة الدخل سكانها 9% من سكان العالم لم تستوفي الشرط الأمريكي عام 1870 وجميع الباقية مستوفية.
بقي المرور على مؤشر التحضر، من المعلوم ان المملكة المتحدة وشمال غرب اوربا الأسبق في الإنتقال من الأرياف إلى المدن. وكانت نسب التحضر في المملكة المتحدة للسنوات 1700، 1750، و 1800 من مجموع السكان 12%؛ 17%؛ 21% على التوالي. وفي بقية شمال غرب اوربا 12% لكل المدة اي لم يحصل تطور في الثقل النسبي لسكان المدن. آخذين في الإعتبار أن عام 1800 ما بعد بداية الثورة الصناعية ومحرك جيمس واط. وفي اوربا، عدا روسيا، للسنوات آنفا على التوالي: 13%؛ 14%؛ 14%، وفي عام 1910 وصل التحضر إلى 41%. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فلم يتجاوز التحضر نصف السكان إلا عام 1920 عندما بلغ 51%.
نأتي إلى الدول النامية عام 2023 نعرض نسب التحضر من مجموع سكانها: الأقل تطوراً 36%؛ واطئة الدخل 35%؛ الفئة الدنيا متوسطة الدخل 41%؛ واطئة ومتوسط الدخل 52%؛ الفئة العليا متوسطة الدخل 69%؛ المتوسط العالمي 57%. يفهم ان الدول النامية بجميع فئاتها أعلى تحضراً من أوربا المتقدمة بداية القرن التاسع عشر. وجميع الدول النامية عدا الأقل تطوراً تماثل او تتجاوز التحضر بالمتوسط لأوربا عدا روسيا عام 1910، والدول متوسطة الدخل في الفئة العليا تجاوزت مستوى التحضر في الولايات المتحدة عام 1920.
لاشك ان الدول المتقدمة أنجزت التصنيع وانتقلت إلى نظام ما بعد الصناعة وخلال عمليات التصنيع وتشابكاتها وما تقتضيه من إدارة وتنظيم، والعلاقة الوثيقة بين عمليات الإنتاج والمعرفة العلمية والتقنية المعاصرة والمصارف وأسواق المال، هذه كلها غيّرت عميقا البرجوازية والقوى العاملة والدولة والقوى المؤثرة في مسار النظام السياسي. الدول النامية عدا الناهضة شرق آسيا وقليل سواها لم تتعرض مجتمعاتها إلى هذه التجارب والتحولات العميقة في النظرة إلى العالم وأنماط السلوك والتفاعل الإجتماعي المرتبط بها؛ ووظائف الدولة وثقافة العمل في الجهاز البيروقراطي وصناعة القرار... والقيم والمخاوف والآمال... وهكذا.
مع كل ما تقدم وغيره لم تعد المسألة بتلك البساطة التي تعودنا عليها في يقينية جازمة كما قرانا حتى إلى مدة وجيزة بخطاب أدبي ولغة تنتزع إعجاب المتلقي... ننتظر " البرجوازية المنتجة للثروة والمعرفة" لتحكم دول المشرق وتنتهي معاناة الشعوب. وكأن الذين يحكمون دولنا رعاة الأبل أو إقطاعيين مشرقيين وفلاحين بسطاء، في خيال شعراء السياسة، لم يأتهم بعد خبر العصر الحديث. متى يتسع وقت الكتّاب صانعي الرأي العام كي ينتبهوا إلى أن ممولين ومنظرين للعنصرية والكراهيات والمذابح من اكثر البرجوازيين إنغماسا بمؤسسات العصر الفاتنة في عالم الأعمال والأكاديميات الراقية، لكن على طريقتهم.
ارشح أن التكون الثقافي حقيقة موضوعية صلبة فهل فات اوان البحث الجاد لسبر أغوار الثقافة لنكتشف هناك مصيرنا المجهول دون تعليل مآسي الشعوب بأن بورجوازيتنا رثة وننتظر أخرى انيقة ذوّاقة للصواريخ ذات المهام الأحفورية كي تنقذ اجيالنا القادمة الذين أحسنوا الظن بنا.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الدول النامية الآن وأوربا القرن التاسع عشر
الدول النامية الآن وأوربا القرن التاسع عشر

شبكة النبأ

time١٠-٠٤-٢٠٢٥

  • شبكة النبأ

الدول النامية الآن وأوربا القرن التاسع عشر

الدول المتقدمة أنجزت التصنيع وانتقلت إلى نظام ما بعد الصناعة وخلال عمليات التصنيع وتشابكاتها وما تقتضيه من إدارة وتنظيم، والعلاقة الوثيقة بين عمليات الإنتاج والمعرفة العلمية والتقنية المعاصرة والمصارف وأسواق المال، هذه كلها غيّرت عميقا البرجوازية والقوى العاملة والدولة والقوى المؤثرة في مسار النظام السياسي. الدول النامية عدا الناهضة... غالبا ما يهتم أهل السياسة بالاقتصاد في سياق تكوين دولة المؤسسات المعاصرة، التي توصف باللاشخصية وإستقلال القضاء والمساواة أمام القانون والفصل بين التشريع والتنفيذ والرقابة والمساءلة... وكذا. والتي تقترن بالدولة "الديمقراطية الليبرالية" ذات النموذج الغربي، التي تصورها فوكوياما في التسعينات بعد نهاية الحرب الباردة، أنها المرحلة الأخيرة لتطور النظام السياسي للعالم، في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير، نشير أيضا إلى مراجعاته لاحقا تضمّنها كتابه تطور النظام السياسي بجزئين، ثم شكواه المريرة من كثرة إختراقات مجموعات المصالح لمؤسسات الدولة التي قصدها في نهاية التاريخ... وأبحاث لآخرين وحوارات لسنا بصددها. وكثيرا ما يشار إلى ان النظام السياسي بتلك المواصفات مشروط بمستوى من التطور الإقتصادي كالذي عرفته اوربا الغربية وشمال أمريكا في القرن التاسع عشر وهو المقصود عندما يقال انه النظام السياسي الذي يُعبّر عن إرداة البرجوازية والإقتصاد الرأسمالي. نتساءل هل العالم النامي، في نطاقه العريض، الآن لم يقترب من مجملات إقتصاد اوربا الغربية في القرن التاسع عشر، ام على التاريخ أن يعيد صناعة بقية العالم ليكون أوربا أخرى بالضبط كي تولد تلك الدولة المنتظرة. البرجوازية Bourgeois من الفرنسية هم سكان المدن والبلدات، ويقال أنها جاءت من الفرانكية القديمة Burg والتي صارت Bourg بلدة السوق. لكن الدلالة الإصطلاحية لمفردة البرجوازية إختلفت عن الأصل اللغوي فهي لا تشمل جميع سكان المدن بل أرباب العمل والممتلكات وذوي المهن المتخصصة، محامين، اطباء، مهندسين،... وموظفي الحكومة أو بتعبير ابسط اصحاب المال والأعمال وذوي الياقات البيض، وغالبا ما ترد البرجوازية في مقابل العمال الأجراء او البروليتاريا. وقد يُسمّى الذين يعملون لحسابهم الخاص، مثل أصحاب الدكاكين والمشاغل الفردية، برجوازية صغيرة، ثم يقال أيضا برجوازية الريف تمييزا لهم عن الفلاحين المستبعدين من " البروليتاريا والبرجوازية". ومع ذلك يبقى أفضل دليل للتعرف على حضور وإتساع البرجوازية وحجمها النسبي سكان الحضر ونسبتهم من مجموع السكان. لكن من المعلوم ان نمط التطور الإقتصادي يرتبط وثيقا بإنتاجية العمل، وللتذكير متوسط الدخل، الناتج، للفرد يساوي نسبة المشتغلين من مجوع السكان مضروبا بالإنتاجية، فلو فرضنا أن الإنتاجية 150 والمشتغلين ثلث السكان يكون متوسط الدخل للفرد 50. ولأن نسبة المشتغلين تتحرك عبر الزمن في نطاق ضيق ثم تستقر فلو جعلناها ثابتة، للتبسيط غير المخل، حسابيا يكون معدل نمو متوسط الدخل للفرد هو بالضبط معدل نمو الإنتاجية. وبذا صار واضحا سبب هذا الإهتمام الطاغي بمتوسط الدخل للفرد فهو مقياس مزدوج لمرحلة التطور الإقتصادي والإمكانية المحتملة للرفاه، نقول المحتملة لفسح المجال لأثر عوامل أخرى في الرفاه منها توزيع الدخل بين الناس وكذلك نمط إنتشار البنى التحتية والخدمات العامة. لا ننسى ان متوسط الدخل للفرد المنسجم مع مرحلة التطور الإقتصادي –التقني– التنظيمي لا يتضمن الريع. أما متوسط الدخل للفرد المشتمل على الريع فهو مقياس لإمكانية الرفاه دون مستوى التطور. عند مستوى معين من إنتاجية العمل يحتاج المجتمع هذا المقدار أو ذاك من وحدات العمل لإنتاج الغذاء والضروريات الملحة الأخرى مثل الملبس والماوى. بداية التطور الإقتصادي تنسجم آليات التبادل والأسعار مع الدخل المحدد بالإنتاجية لتنصرف أغلبية القوى العاملة او كلها عدا القليل منها لإنتاج الغذاء. لذلك تستأثر الزراعة بأغلب العمل ويستوطن السكان في الأرياف وقليل منهم في المدن. في أوربا القرون الوسطى وحتى العصر الحديث، قبل الثورة الصناعية، كانت حنى الصناعات مثل النسيج وادوات الزراعة في الأرياف، وتزاولها نفس الأسر الفلاحية إلى جانب العمل الزراعي وقليل من المتفرغين. ومع التطور الإقتصادي، تتزايد الإنتاجية، فيُفسح المجال لأنشطة إقتصادية اخرى فتبدأ المدن بالتكاثر تدريجيا وسكانها، وتستطيع السلطات أيضا إقتطاع نسب متزايدة من الدخل للإنفاق العام وهذا ينعكس أيضا على نمو المدن. على سبيل المثال في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1800 يشتغل 74% من القوى العاملة في الزراعة، وفي عام 1850 انخفضت نسبتهم إلى 55%، ثم إلى 40% عام 1900 وفي عام 1960 صارت النسبة 8% وفي السنوات الأخيرة، العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين حوالي 1% من مجموع المشتغلين والأنشطة الأخرى أي الصناعة بالتعريف الواسع وكل الخدمات بما فيها الحكومية إستحوذت 99% من القوى العاملة. وفي أسبانيا التي وصلت متأخرة إلى فئة الدول المتقدمة كانت الزراعة تولد 30% من الدخل، الناتج المحلي الإجمالي، عام، عام 1946، وبقيت مدة طويلة قبل هذا التاريخ تدور حول هذه المساهمة دليل على ركود بنية الإنتاج، وفي عام 2015 إنخفضت حصتها إلى دون 3%. عادة عندما تباشر الدول مرحلة التصنيع تكون إنتاجية العمل في الزراعة أوطأ منها في الصناعة وبقية الأنشطة ولذلك نسبة العاملين في الزراعة تفوق نسبة الناتج الزراعي إلى مجموع الناتج. ومع التقدم الإقتصادي تتقارب معدلات إنتاجية العمل بين القطاعات وتبقى الصناعة التحويلية الأكثر نموا في إنتاجية العمل وتقود الإقتصاد في التحول العميق والشامل كالذي شهدته دول الغرب واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والصين حاليا. للمقارنة بين الوضع الحالي للدول النامية وما كانت عليه اوربا الغربية نستعين بمتوسط الدخل، الناتج المحلي الإجمالي، للفرد. الناتج مقاس بدولارات متعادلة القوة الشرائية وهذا النهج متبع لمعالجة اثر إختلافات الأسعار بين الدول، اي أن المستويات العامة لأسعار السلع والخدمات معدّلة لتماثل أسعار الولايات المتحدة الأمريكية عام 2021، والبيانات المعالجة والمعروضة مستقاة من دراسات تاريخية وبيانات موقع البنك الدولي World Bank Open Data. بيانات القرن التاسع عشر عن الدخل أخَذَتها الدراسات التاريخية عن Maddison صاحب المشروع المعروف في تاريخ الإقتصاد الكمي؛ وبيانات القوى العاملة والتحضر إستقيناها من مصادر أخرى. بداية القرن العشرين تعد بمثابة نهاية القرن التاسع عشر، هكذا درجت الكثير من دراسات التاريخ الإقتصادي. متوسط الدخل للفرد عام 1870 لأقرب دولار في بريطانيا 2827؛ فرنسا 2325؛ المانيا 2819؛ الولايات المتحدة 2248. في الدول النامية عام 2023 لأقرب دولار لمجموعات الدول النامية تبعا لمستوى التطور: الأقل تطوراً 3819؛ واطئة الدخل 2325؛ متوسطة الدخل الفئة الدنيا 8380؛ واطئة ومتوسطة الدخل 12888؛ الفئة العليا لمتوسطة الدخل 20588؛ المتوسط العالمي 20604 وجميعها بأسعار عام 2021 بالدولارات متعادلة القوة الشرائية. نستنتج بمعيار الدخل جميع الدول النامية حتى أقلها دخلا وتطورا لم تعد أدنى مما كانت عليه دول الغرب المتقدم عام 1870. وبحكم الإرتباط الوثيق، كما تقدم بين متوسط الدخل للفرد عبر الإنتاجية، وبنية النشاط الإقتصادي والتحضر أصبح من الصعب قبول الإصرار بأن الشرط الإقتصادي لدولة المؤسسات المعاصرة لم يتحقق بعد في الدول النامية. وعلى صعيد الدول كل على حدة لم أجد سوى بضعة دول لا أقول اربع كي اتحفظ عن إحتمال الخطأ دون ذلك الشرط. وعند المقارنة مع عام 1913 وجدنا متوسط الدخل للفرد للدول المتقدمة الأربع على التوالي: 8096؛ 6043؛ 5652؛ 9017 دولار بأسعار 2021. وهنا صارت الدول الأقل تطورا ومنها واطئة الدخل ليست مستوفية لشرط التماثل مع المتقدمة عام 1913 ونسبتها من مجموع سكان العالم 14%، أي 86% من سكان العالم بدول مستوفية للشرط. بلغُة ابسط سكان دول العالم النامي 82% من مجموع سكان المعمورة منهم 60% في دول مستوفية للشرط و 14% لم تصل بعد. فعندما نفترض أن الدول المتقدمة مطلع القرن العشرين فقط حققت الشرط الإقتصادي وليس قبل ذلك، وهذا لم يتبناه أحد، يصبح التعميم على كل الدول النامية لا يستند إلى اساس وجيه دون إعادة البحث والتقصي كي نتوصل إلى نتيجة تساعد في تقليص مساحة البحث عن أسباب التعثر او التخلف السياسي. نذهب إلى نسبة العاملين في الزراعة في عام 1870 في الولايات المتحدة الأمريكية 53% من مجموع القوى العاملة. وفي الدول النامية عام 2023 للدول الأقل تطوراً 53%؛ واطئة الدخل 58%؛ متوسطة الدخل الفئة الدنيا 39% واطئة ومتوسطة الدخل 32%؛ متوسطة الدخل الفئة العليا 20% المتوسط العالمي 26%. نستنتج ان الفئة واطئة الدخل سكانها 9% من سكان العالم لم تستوفي الشرط الأمريكي عام 1870 وجميع الباقية مستوفية. بقي المرور على مؤشر التحضر، من المعلوم ان المملكة المتحدة وشمال غرب اوربا الأسبق في الإنتقال من الأرياف إلى المدن. وكانت نسب التحضر في المملكة المتحدة للسنوات 1700، 1750، و 1800 من مجموع السكان 12%؛ 17%؛ 21% على التوالي. وفي بقية شمال غرب اوربا 12% لكل المدة اي لم يحصل تطور في الثقل النسبي لسكان المدن. آخذين في الإعتبار أن عام 1800 ما بعد بداية الثورة الصناعية ومحرك جيمس واط. وفي اوربا، عدا روسيا، للسنوات آنفا على التوالي: 13%؛ 14%؛ 14%، وفي عام 1910 وصل التحضر إلى 41%. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فلم يتجاوز التحضر نصف السكان إلا عام 1920 عندما بلغ 51%. نأتي إلى الدول النامية عام 2023 نعرض نسب التحضر من مجموع سكانها: الأقل تطوراً 36%؛ واطئة الدخل 35%؛ الفئة الدنيا متوسطة الدخل 41%؛ واطئة ومتوسط الدخل 52%؛ الفئة العليا متوسطة الدخل 69%؛ المتوسط العالمي 57%. يفهم ان الدول النامية بجميع فئاتها أعلى تحضراً من أوربا المتقدمة بداية القرن التاسع عشر. وجميع الدول النامية عدا الأقل تطوراً تماثل او تتجاوز التحضر بالمتوسط لأوربا عدا روسيا عام 1910، والدول متوسطة الدخل في الفئة العليا تجاوزت مستوى التحضر في الولايات المتحدة عام 1920. لاشك ان الدول المتقدمة أنجزت التصنيع وانتقلت إلى نظام ما بعد الصناعة وخلال عمليات التصنيع وتشابكاتها وما تقتضيه من إدارة وتنظيم، والعلاقة الوثيقة بين عمليات الإنتاج والمعرفة العلمية والتقنية المعاصرة والمصارف وأسواق المال، هذه كلها غيّرت عميقا البرجوازية والقوى العاملة والدولة والقوى المؤثرة في مسار النظام السياسي. الدول النامية عدا الناهضة شرق آسيا وقليل سواها لم تتعرض مجتمعاتها إلى هذه التجارب والتحولات العميقة في النظرة إلى العالم وأنماط السلوك والتفاعل الإجتماعي المرتبط بها؛ ووظائف الدولة وثقافة العمل في الجهاز البيروقراطي وصناعة القرار... والقيم والمخاوف والآمال... وهكذا. مع كل ما تقدم وغيره لم تعد المسألة بتلك البساطة التي تعودنا عليها في يقينية جازمة كما قرانا حتى إلى مدة وجيزة بخطاب أدبي ولغة تنتزع إعجاب المتلقي... ننتظر " البرجوازية المنتجة للثروة والمعرفة" لتحكم دول المشرق وتنتهي معاناة الشعوب. وكأن الذين يحكمون دولنا رعاة الأبل أو إقطاعيين مشرقيين وفلاحين بسطاء، في خيال شعراء السياسة، لم يأتهم بعد خبر العصر الحديث. متى يتسع وقت الكتّاب صانعي الرأي العام كي ينتبهوا إلى أن ممولين ومنظرين للعنصرية والكراهيات والمذابح من اكثر البرجوازيين إنغماسا بمؤسسات العصر الفاتنة في عالم الأعمال والأكاديميات الراقية، لكن على طريقتهم. ارشح أن التكون الثقافي حقيقة موضوعية صلبة فهل فات اوان البحث الجاد لسبر أغوار الثقافة لنكتشف هناك مصيرنا المجهول دون تعليل مآسي الشعوب بأن بورجوازيتنا رثة وننتظر أخرى انيقة ذوّاقة للصواريخ ذات المهام الأحفورية كي تنقذ اجيالنا القادمة الذين أحسنوا الظن بنا.

"نهاية التاريخ والإنسان الأخير"
"نهاية التاريخ والإنسان الأخير"

الميادين

time١٨-١٢-٢٠٢٤

  • الميادين

"نهاية التاريخ والإنسان الأخير"

أثارت مقالة الكاتب الأميركي فرانسيس فوكوياما، والتي تحوّلت لاحقاً إلى كتاب، جدلاً طويلاً بين كتّاب التاريخ والسياسة والفلسفة. رفع هذا الجدل الأكاديمي الذي ارتبط بدوائر المحافظين الجدد والكاتب المتواضع إلى مرتبة الفلاسفة، وأصبحت كتبه من الكتب الأكثر مبيعاً في العالم. وتركز الجدل حول نقطتين: هل للتاريخ السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي للبشرية نهاية واحدة؟ وإذا كانت تلك النهاية موجودة فهل هي محسومة لصالح النظام الرأسمالي أو "الديمقراطي" الليبرالي؟ رغم تراجع فوكاياما عن نظريته لاحقاً، وتخلّيه عن موقفه كأحد المحافظين الجدد، فإن تلك النظرية تحوّلت إلى عقيدة، إذ تحوّل معظم سياسي العالم إلى "فوكاياميين". هذه العقيدة التي تبنّتها المراكز الرأسمالية، تحوّلت إلى نضال يخوضه السياسيون خارج تلك المراكز في سبيل الالتحاق بالركب الرأسمالي المتقدم. أخذ التقدم خارج المراكز الرأسمالية شكل التبعية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي السياسية. أصبحت حرية المرأة وحقوق الأقليات والتعددية الثقافية ونمط التفكير الاستهلاكي قضايا في مجتمعات تغيب فيها حقوق الإنسان الأساسية، مجتمعات راسخة منذ آلاف السنين اكتشفت أنها بحاجة إلى تشكيل نفسها اجتماعياً بما يشبه مجتمعات ناشئة منذ بضع مئات السنين قامت على مستوطنين جاءوا من مجتمعات مختلفة، ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، كما هي الحال في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا. استوردت المجتمعات القديمة الأفكار والتقنيات والسلع من الملابس وحتى أعقد أنظمة التسليح من المراكز المالية، لتصبح مجتمعات "متقدمة" بالمعايير الغربية. هذا التقدم الذي يقاس بالاتصال بنسب الاتصال بشبكة الإنترنت، وعدد أجهزة الكمبيوتر الشخصية، والربط الرقمي للمؤسسات، وتبني قوانين حماية الأقليات وتمكين المرأة وغيرها من الوصفات التي فرضتها الرأسمالية على الشعوب. لم ينعكس هذا التقدم على البنية الاجتماعية لهذه الشعوب، التي تنكفئ على نفسها عند الأزمات وتعود إلى بناها الأساسية الطائفية والإثنية والجهوية لتخوض الحروب عبر قاعدتها، ولتعيد إحياءها بعد كل حرب، لتبدأ رحلتها مجدداً نحو التقدم بالمعايير الرأسمالية نفسها، فيبدو التاريخ وكأنه دائرة مغلقة تنطلق من نقطة لتعود إليها في تكرار لا نهائي. منذ الانفصال عن الدولة العثمانية، مطلع القرن الماضي وشعوب أمتنا تطلق مشاريعها النهضوية الواحد تلو الآخر، لكنها جميعها حملت الشعارات نفسها تقريبا، وأهمها التقدم إلى مصاف الدول المتطورة، ومغادرة المواقع التي فرضها الاستعمار. لم ينجح أي من هذه المشاريع في بلوغ أهدافه، فما زالت المسافة التي تفصلنا عن تلك الدول التي نجتهد للحاق بها شاسعة، بل وتزداد مع الزمن. في سياق هذا النضال النهضوي، ظهرت مشاريع وطنية تقدمية حقيقية حاولت فك التبعية بين أمتنا والمراكز الرأسمالية. أبرز هذه المشاريع كان الناصرية في مصر، ومشروع حزب البعث في سوريا والعراق، ومشروع هواري بومدين في الجزائر، جميع هذه المشاريع فشلت، وحمل قادتها لقب الديكتاتور، وقد شهدنا قبل أيام سقوط آخر هذه المشاريع في سوريا تحت ضربات القوى الرجعية المدعومة من المراكز الرأسمالية. أثناء مراقبة التلفزيون كان مشهد سقوط دمشق، يشبه تماماً مشهد سقوط بغداد. في الخلفية كان المعلقون أنفسهم يقدمون التعليق نفسه، من أن النظام لم يجد من يدافع عنه، ووجدوا في ذلك دليلاً على أن النظام كان معزولاً وديكتاتورياً، وتكتمل الصورة بمشاهد المحتفلين في الشوارع وإسقاط التماثيل وإحراق المؤسسات التي ترمز إلى العهد البائد. هذا المشهد دفعني إلى التفكير والتساؤل: هل كنا على خطأ؟ اليوم 09:25 17 كانون الأول 12:33 مشكلة الأنظمة الوطنية أنها سعت نحو التقدم وليس التقدمية. فهي وإن كانت تقدمية سياسياً في مواقفها من التبعية والرأسمالية، فإنها لم تول الاهتمام المناسب للتقدمية الاجتماعية. المقصود هنا البنى الاجتماعية الرجعية العمودية التي تقسم المجتمعات، دينياً أو طائفياً أو إثنياً، بل إن هذه الأنظمة ساهمت في ترسيخ البنى الاجتماعية الرجعية القائمة في محاولة لاكتساب الشرعية. لم تنشأ هذه الأنظمة من خلال حامل اجتماعي تطور وعيه ليصبح وجود هذه الأنظمة ضرورياً لاستكمال عملية التطور، فقد جاءت عبر انقلابات عسكرية لبست ثوب الثورات، ونجحت في تحقيق إنجازات مهمة لدولها على الصعيد الاقتصادي، والسياسي مع غياب شبه كامل للتطور على الصعيد الاجتماعي. هذا النهج المضاد للتبعية، استدعى غضب المراكز الرأسمالية ومؤامراتها، فتكررت الأزمات التي تمر على شعوب هذه الدول، وصاحبتها الدعاية المكثفة التي ادعت أن سبب الأزمة هو طبيعة النظام المنغلقة، وعدم خضوعه لشروط السياسات الرأسمالية التي تجلب السمن والعسل. تجلت هذه الفكرة بأوضح صورها في الانقلاب على منجزات الناصرية والتي عرفت بعصر الانفتاح. كانت العلاقة بين النظام وشعبه علاقة نفعية، فالنظام يقدم التسهيلات كالتعليم والصحة والمواصلات والسكن بأسعار رخيصة أو مجاناً، والجماهير تمنح النظام شرعية وإمكانية البقاء. لم يرمم النظام الهوة الاجتماعية بينه وبين الجماهير بحيث يصبح بقاؤه ضرورة ومطلباً جماهيرياً، وفي هذه الهوة سقطت المشاريع التقدمية عندما بلغت الأزمات ذروتها. عمل المنتفعون في الداخل على توسيع الهوة من خلال الفساد والقمع، وعملت القوى الخارجية على مفاقمة الأزمات وتصوير الحلول القادمة من الخارج على أنها الحل الوحيد الذي يخرج الشعوب من هذه الأزمات ويضعها على درب التطور والرفاهية. مات عبد الناصر وهواري بومدين ولم تناضل الجماهير في سبيل الحفاظ على منجزات مشاريعهما، انهار حكم حزب البعث في العراق فلجأت الجماهير إلى الهويات ما قبل الوطنية لتشكل دولتها الجديدة، وها نحن نقف اليوم أمام انهيار حكم حزب البعث في سوريا، نجلد كل ما أنجزه على مدى 56 عاماً، ويحتفل كثيرون منا برحيل رئيس الدولة على أنه تحقيق للحرية والديمقراطية. في جميع هذه الحالات، انتصر الحل القادم من الخارج، سواء جاء على شكل قوانين انفتاح اقتصادي دمرت المنجزات التي حققتها الأغلبية الكادحة، أو جاء على دبابة المستعمر حاملة الوعود بالحرية والديمقراطية. ليس المقصود هنا الدفاع عن هذا الزعيم أو ذاك، رغم قناعتي الشخصية بأن هؤلاء القادة حملوا مشاريع وطنية تقدمية حقيقية، لكنه مجرد تأمل في اندفاع الشعوب للانقلاب على مصالحها ومنجزاتها وسعيها للالتحاق بركب المستعمرين تحت شعارات ليبرالية براقة أثبت التاريخ، أكثر من مرة، أنها وعود كاذبة لم تجد طريقها نحو التحقيق. هذا التأمل يدفعني إلى التساؤل: أين يقع الخطأ؟ بعيداً من الغضب والحزن وأنا أشهد سقوط دمشق بصفتها قلعة من قلاع المقاومة، وجدت إجابة أولية تقول بأن غياب الوعي هو مكمن الخطأ. غياب الوعي ليس خللاً جينياً أو وراثياً، لكنه أمر مكتسب صنعه عدم الاهتمام بتفكيك البنى الاجتماعية السائدة لتدرك الشعوب مصالحها الأساسية والحقيقية، لقد حملت الأنظمة الوطنية جنين دمارها وسقوطها داخلها، لم تصنع جماهير ملتحمة معها، بل منتفعين من وجودها قفزوا من السفينة عندما اشتدت العاصفة، فسقطت مشاريع تلك الأنظمة من دون أن تجد من يدافع عنها.

هل الحرب الباردة أكثر خطورة من سابقتها؟
هل الحرب الباردة أكثر خطورة من سابقتها؟

شبكة النبأ

time٠٥-١٢-٢٠٢٤

  • شبكة النبأ

هل الحرب الباردة أكثر خطورة من سابقتها؟

الحقيقة في ظل التسابق في صناعة السلاح النووي وأمثاله من أسلحة التدمير الشامل، وقد يدخل على الخط حرب النجوم المتمثل في امتلاك الصواريخ المضادة للصواريخ النووية، مما يحقق تفوقًا حاسمًا، هذا الأمر قد يجعل قيادات العالم المالكة لهكذا تقنيات في السلاح... الحقيقة في ظل التسابق في صناعة السلاح النووي وأمثاله من أسلحة التدمير الشامل، وقد يدخل على الخط حرب النجوم المتمثل في امتلاك الصواريخ المضادة للصواريخ النووية، مما يحقق تفوقًا حاسمًا، هذا الأمر قد يجعل قيادات العالم المالكة لهكذا تقنيات في السلاح، أن تتأنى كثيرا في الإقدام على إقامة عداوة تصل إلى حد نشوب مثل هذه الحروب، لأنها لا تبقي ولا تضر، وبكل تأكيد فان حرب النجوم تحتاج إلى إمكانات هائلة، تميل التوقعات العالمية بأن أمريكا فقط تستطيع تحمل هذا. ولكن تبقى التكهنات هذه غير حاسمة، لصعود قوى اقتصادية لا يستهان بها مثل الصين، وهناك إشارة لبوتين أن هناك قدرة على إنتاج قنابل وصواريخ نووية، أكثر ما تستطيع "حرب النجوم" امتلاكه من صواريخ مضادة، أو ما يُعرف بـ "القبة الحديدية"، كل هذه المعطيات تعطينا القدرة على ابداء الرأي باستمرار الحرب الباردة، والحرب الباردة أيضا تمتلك تفوقا، كما في الحرب الباردة من ناحية امريكا والغرب، اعتبر الانتصار فيها حسب رأي (ف. فوكوياما)، بمعنى حسم التاريخ لصالح السيطرة الغربية على العالم. لكن معطيات التغييرات التاريخية قللت من هذا، وجعلنا نقول بشيخوخة أمريكا اتجاه تلك التغييرات، هكذا نجد أنفسنا أمام حرب باردة أخرى يكون الطرف فيها المؤثر الصين بما أحدثته من تطور اقتصادي وتقني وعسكري، تجاوز الهوة، التي كانت قائمة بين أميركا والغرب من جهة، وبين الاتحاد السوفياتي، الذي بقي متخلفًا اقتصاديًا وماليًا وتقنيًا، ثم ان الصراع الأيديولوجي بين ما عُرف بالرأسمالية والحرية الفردية والديمقراطية، وما عُرف بالاشتراكية والشيوعية، لم تتخذه الصين سلاحا أيديولوجيا، إنما اعتمد احترام القانون الدولي، ويساوي بين الأقطاب الدوليين، ومرجعيته ميثاق هيئة الأمم، مع احترام مصالح الشعوب، التي تقرر خياراتها وتحدد نوع أنظمتها. وهذا يناقض الأحادية القطبية، وهيمنة أميركا والغرب على النظام العالمي، وهذا اخف من وطأة القطبية الأحادية، وكان خلاف الصين وروسيا مع امريكا بسبب الصهيونية الأمريكية وخلاصتها إعطاء الأولوية للشرق الأوسط بما يحقق سيطرة الكيان الصهيوني عليه، وتبقى هناك إشارة إنه يجب على أميركا والغرب أن يلحظا خسرانهما ادعاء الديمقراطية وحقوق الإنسان، مقابل "الشمولية"، بعد إمدادهما بالدعم العسكري حربَ الإبادة في قطاع غزة. الأمر الذي سيكون له تأثيره فيمن يتغلب على الآخر في الحرب الباردة العالمية، حتى باتت الأولية لما تحاول الصهيونية فرضه على السياسة الأمريكية، كي يكون إعادة تشكيل الشرق الأوسط خاضعا لاستراتيجية الكيان الصهيوني، (هذه المعضلة في تحديد الأولوية في الاستراتيجية الأميركية ستشكل، مستقبلًا، عاملًا مهمًا في خسارة أميركا الحربَ الباردة الثانية، وذلك على الضدّ مما حدث في الحرب الباردة العالمية السابقة، التي حافظت فيها على أولوية الصراع الدولي مع الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية، ولم تتأرجح بينه وبين أي أولوية أخرى. وذلك بتحديد أين الخطر الحقيقي والأشد الذي يواجه أميركا ويتهدد سيطرتها وسيطرة الغرب عمومًا بالسقوط)، وفي تحليل لمجلة "ذا ناشيونال إنترست"، تقول فيه، ان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين، والتي يحذر التحليل منها، ستعيد تشكيل النظام الدولي بأكمله، بما يحوي من مؤسسات وتحالفات وتدفقات اقتصادية ومناطق صراع أكثر تحيزا، حيث لا يكون فيه تدخل أي من البلدين حينها بهدف السلام، وإنما لإضعاف الطرف الآخر، وفقا للمجلة، والنتيجة التي نراها أن هناك حربا باردة جديدة تختلف عن الأولى بأنها تعتمد الاقتصاد، بعيدا عن الحرب الأيديولوجية القديمة.. ثم أن الخطر الأكبر، إذا اندمجت حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين مع حرب باردة ملتهبة بين الولايات المتحدة وروسيا، بحسب المجلة، مشيرة إلى أن "العالم في هذه الحالة سيصبح أكثر دمارا وخطورة مما كان عليه في الفترة الممتدة من أزمة برلين عام 1948 وحتى أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، بسبب العولمة والاقتصاديات المتشابكة في العالم وسلاسل التوريد المعول.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store