
حزب الله وضربات "لئيمة" من إسرائيل
عريب الرنتاوي
كاتب ومحلل سياسي أردني
خياران أحلاهما مر بانتظار حزب الله؛ كلفة الاحتفاظ بالسلاح باهظة للغاية، عليه وعلى لبنان، والتخلي عنه، يكاد يكون انتحارا سياسيا، يُخرج الحزب من ثوبه، ومن كل ما نشأ عليه ومن أجله، فيما الرهان على 'عامل الوقت'، أو البحث عن مخرج، يبدو معلقا على المجهول.
في لبنان، ثمة أغلبية سياسية وشعبية، تبلورت في ضوء نتائج 'حربي الإسناد' و'أولي البأس'، باتت تنظر للسلاح باعتباره فاقدا القدرة على الحماية والردع والتحرير في مواجهة إسرائيل، وهي الوظائف الثلاث التي تراكم السلاح من أجلها، وشكلت المبرر لانفراد الحزب طوال أكثير من أربعة عقود، بحمله وتخزينه وتطويره واستخدامه.
اليوم، يجد الحزب صعوبة في تسويق هذه الوظائف على جمهور متزايد من اللبنانيين، لا سيما من خارج بيئته الشيعية الحاضنة.
غالبية مسيحية وسُنية ودرزية، وأقلية شيعية، باتت تدعم توجه الدولة الجديد، والجريء، في معالجة قضيتي؛ 'حصرية السلاح'، و'قرار الحرب والسلم'.
وحتى من بين الشيعة أنفسهم، فإن ثمة فريقا لا بأس به – من داعمي احتفاظ الحزب بسلاحه- ينطلق في مواقفه من اعتبارات داخلية، ومخاوف (مشروعة أو غير مشروعة) على مستقبل الطائفة ومكانتها، أو يتحسب لتداعيات الحدث السوري على لبنان وتوازنات القوى فيه، منذ سقوط نظام الأسد 8 ديسمبر الفائت.
بهذا المعنى، لم يعد هذا الفريق يربط السلاح بمقاومة إسرائيل أو تحرير ما تبقى من أراضي الجنوب، بل بديناميات العلاقة مع القوى والمكونات الأخرى، لبنانيا، وامتداداتها السورية.
لا شك أن فريقا من اللبنانيين، لم ينظر يوما بعين الرضا عن المقاومة والحزب والسلاح، وهو سبق أن أشهر سلاحه في مواجهة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، ولم يتوانَ عن استدعاء مختلف أشكال الدعم والتدخل الإسرائيلية، لإنجاز الحسم في معركة الداخل.
هذا الفريق، ما زال 'وفيا' لمواقفه ونهجه، وهو بات أكثر جرأة في التصدي لمسألة السلاح، والتحريض عليه، والاستقواء بـ'الخارج' على الفريق الذي يحمله.
و'الخارج' اليوم، لم يعد إسرائيل حصرا، فالولايات المتحدة، تقود أشد حملات التضييق والحصار على سلاح الحزب ومسلحيه، وتسعى في تقطيع شرايينه، وتجفيف موارده، من مالية واقتصادية، وتؤلّب عليه الدولة والمؤسسات والأحزاب وكل الحلفاء المحليين، وهي تستعجل إنجاز هذه المهمة من دون تردد.
ومن ضمن تكتيكاتها، التلويح بورقة 'بلاد الشام'، و'تلزيم' لبنان لسوريا، كما ورد على لسان توم باراك، الموفد الأميركي، الكاره سايكس بيكو، والمتحمس لفكرة إعادة ترسيم خرائط المنطقة، على خطوط الطوائف والمذاهب والأقوام، والداعم بشكل 'مداهن' لنظرية جدعون ساعر حول 'حلف الأقليات'.
وهي النظرية التي عبر مؤتمر الحسكة الأخير، عن خطوة عملية باتجاه ترجمتها، بدعم فرنسي، وضوء أخضر أميركي، وفي مواجهة النظام الجديد في دمشق، وأبعد منه، في مواجهة أنقرة وحلفائها السوريين.
يشعر هذا الفريق المتسع من اللبنانيين، أن لبنان بانتظار 'فرصة تاريخية' لإغلاق ملف مضى عليه مفتوحا أكثر من أربعة عقود، ودائما تحت شعار بناء الدولة القوية العادلة والضامنة للجميع. لكأن هذا الفريق، في سباق مع الزمن، حتى لا تفقد 'الفرصة' زخمها وقواها الدافعة.
رهانات الحزب
لكن ثمة ما يجعل مهمة هذا الفريق، صعبة للغاية، فلا إسرائيل التزمت باتفاق 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، وأوقفت عدوانه المتكرر والمتمادي على لبنان، ولا الولايات المتحدة، بصدد تقديم ضمانات مقنعة للدولة اللبنانية، بأن مرحلة ما بعد تسليم السلاح، ستعيد للبنان أرضه وأسراه وسلامه واستقراره وازدهاره.
حتى بلغ الأمر بأكثر المتحمسين لنزع السلاح، حد التعبير عن موقفه بلغة الاحتمالات والترجيحات، بلا أي ضمانة أو يقين، وهذا أمرٌ يدفع الحزب وأنصاره إلى التحذير من 'قفزة في المجهول'.
وثمة عامل آخر، يلعب، وسيلعب دورا في حسم مسألة السلاح، وأعني به 'العامل السوري'، إذ ربما يراهن الحزب على ما يمكن أن تأتي به التطورات المتلاحقة في المشهد السوري، ونشوء 'مسألة درزية' إلى جانب 'المسألة الكردية'، وربما بعد حين، 'مسألة علوية'، من تحولات في مواقف الدولة والرأي العام اللبنانيين من الحزب والسلاح، ذلك أن الصور المبثوثة من سوريا عن صدامات و'جرائم' على خلفية طائفية ومذهبية، لا تساعد في طمأنة مكونات لبنانية عديدة إلى سلامة مستقبلها، ومن ضمنها جهات، لا تكنّ ودا ظاهرا أو مضمرا للحزب.
على أن أسوأ ما يمكن أن يبني عليه الحزب من رهانات، هو الاعتقاد بأن إسرائيل سئمت الحرب وتستصعب العودة، سواء للإعياء الذي أصاب جيشها أو لانشغالاتها على جبهة غزة، أو الافتراض بأن مستقبل الحزب والسلاح، سيكون مطروحا على مائدة التفاوض بين إيران والولايات المتحدة، حين تلتئم.
فلا إسرائيل بوارد التوقف عن استهداف لبنان، لا سيما أنها ترى في حربها عليه، حربا بلا كلفة.. ولا إيران، ستقدم مصلحة الحزب والسلاح، على حسابات أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية حال بدأت بحثا جديا حول هذه العناوين مع واشنطن والغرب.
صدام مستبعد
يخشى لبنانيون كثر، من مغبة تحول الخلاف بين الدولة والحزب، إلى صدام بين الأخير والجيش، وفي ظني أن لا الحزب ولا الجيش، لديهما الرغبة والإرادة والمصلحة في الوصول إلى صدام كهذا، ترفضه غالبية اللبنانيين، ولا تحرض عليه سوى أقلية منهم.
وأحسب أن صداما كهذا، لن يترك الحزب معزولا في بيئته الوطنية والمذهبية فحسب، بل وقد يتهدد مصير الجيش ووحدته وتماسكه، وربما يعيد إنتاج سيناريو 'الحرب الأهلية'، إذ انقسم الجيش إلى عدة جيوش على أساس مذهبي وطائفي.
استبعاد سيناريو الصدام بين الجيش والحزب، لا يعني أن لبنان سينجح في تفادي احتمال عودة الحرب من جديد، ولكن بين إسرائيل وحزب الله.. امتناع الحزب عن تسليم سلاحه للجيش، سيعطي إسرائيل مبررا لتوجيه ضربات 'لئيمة' لمواقعه ومقدراته، وربما العودة إلى الاغتيالات 'رفيعة المستوى'.
وقيام الحزب بالرد على العدوان الإسرائيلي، سيطلق يد إسرائيل في ترجمة سيناريو غزة في لبنان. ولا أحد يعرف حتى الآن، ما إذا كان الحزب قادرا على استعادة 'معادلة التوازن والردع'، وفرض قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل.
أغلب التقديرات، تقول إن الحزب ليس في وضع عسكري سيمكنه من فعل ذلك، والأهم أنه سيُحمل المسؤولية عن عودة التصعيد، وسط انكشاف في الغطاء اللبناني والعربي والدولي، ووسط ضعف قوى وأطراف ما كان 'محورا للمقاومة والممانعة' ذات يوم.
معنى أن يتخلى الحزب عن سلاحه
مقابل ذلك، فإن قبول الحزب بتسليم سلاحه للجيش، والتحول كليا للعمل السياسي المحلي، يعني أنه فقد 'فرادته'، وأنه سيكون حزبا من بين أحزاب أخرى عديدة، ليس أقواها بالضرورة، لا في الشارع ولا في البرلمان ولا في الحكومة.
كما يعني أنه سيفتح فصلا من المراجعة والمساءلة، قد لا ينتهي لصالحه، لا سيما بوجود عشرات ألوف الشهداء والجرحى، وعوائلهم، الذين لم يقطعوا كل هذا الشوط مع الحزب، وقدموا كل هذه التضحيات على مذبح المقاومة، لينتهوا إلى 'صناديق المعونة والإغاثة'.
حزب الله بلا سلاح، لن يبقى قوة مهيمنة حتى في الوسط الشيع، بل وقد لا يبقى الثنائي الشيعي متفردا بتمثيل الطائفة والنطق باسمها، وقد تنشأ تيارات واتجاهات داخلها، متصادمة مع الحزب والثنائي، ومصطرعة مع أطروحاتهما.
والأخطر من كل هذا وذاك، وأهم، أن إسرائيل لن تدع الحزب وشأنه، حتى إن هو قرر تسليم سلاحه، وستواصل حكومة اليمين الفاشي،' أخذ زمام أمنها في لبنان بيدها'، وتحت شعار 'يد طليقة في لبنان'، ستعمل على إذلال الحزب في كل مناسبة، وتذكيره بأنها هي من انتصر، وهو من هزم، كما ستعمل على 'تسوية الحساب' مع كل من تورط بإراقة دماء إسرائيلية، وسيظل لبنان من منظورها الإستراتيجي، 'مجالا حيويا' لنظرية الأمن القومي الإسرائيلي.
وتأسيسا على تجارب متراكمة للتعامل مع هذا الكيان، فإنه سيلجأ إلى ممارسة 'التنمر' وطلب المزيد من الإذعان والتنازلات، كلما استشعر ضعفا وهوانا، وكلما أحسّ بأن الطرف المقابل، قد قرر الخروج من ميدان المواجهة.
لقد فقد سلاح الحزب، 'دورا إقليميا' لطالما اضطلع به من موقع قيادي، وفي ساحات عدة، وليس في سوريا وحدها، إثر النتائج الكارثية لحربي 'الإسناد' و'أولي البأس'.
اليوم، يبدو هذا السلاح، مهددا بفقدان دوره الوطني، في ظل تفاقم مأزق الخيارات المطروحة، واشتداد مصاعب الاحتفاظ به أو التخلي عنه. لا خيارات سهلة أمام الحزب، والشيء ذاته، ينطبق بقدر أكبر على لبنان برمته.
فالدولة اللبنانية، محاصرة بضغوط لا قبل لها بها، من أشقائها وأصدقائها، عربا وأوروبيين وأميركيين، وجميعها تندرج تحت عنوان 'حصرية السلاح'.
فيما إعادة إعمار لبنان ووضعه على سكة التعافي المبكر وخروجه من شرنقة الحصار والعقوبات، تنتظر إنجازا سريعا على هذا الدرب.. والدولة، المتحمسة لسحب السلاح، تدرك أن استخدام القوة لفعل ذلك، هو 'وصفة خراب' قد تقود إلى تجدد الحرب الأهلية من جديد، وهذا كابوس يسعى عقلاء لبنان لتفاديه.
ترك المهمة لإسرائيل
أمام هذا الاستعصاء المزدوج: استعصاء الدولة والحزب، فإن أكثر السيناريوهات ترجيحا، هو ترك المهمة لإسرائيل، ليس باتفاق 'تآمري' مباشر وصريح بين الأطراف، بل من خلال 'تقاسم موضوعي' للمهام والأدوار، كأن يعاود سلاح الجو توجيه ضربات نوعية تدميرية مكثفة للحزب وبيئته الاجتماعية في الجنوب والضاحية والبقاع على نطاق أوسع مما يفعله اليوم، وأن يعاود 'الموساد' سياسة الاغتيالات ويتوسع بها، فلا تقتصر على الجناح العسكري فقط، كما هي جارية منذ وقف إطلاق النار، وبعدها يمكن معاودة النقاش المحلي حول السلاح في ظروف مختلفة، يكون فيها الحزب في موقع أضعف، أو هكذا يُراهن بعضهم على أقل تقدير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ يوم واحد
- إيطاليا تلغراف
عندما تُصبح الحقيقة "هدفاً" حربيّاً
إيطاليا تلغراف علي أنوزلا صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع 'لكم. كوم'. الأحد الماضي، قُتل ستة صحافيين فلسطينيين شبّان وشجعان في غزّة، من بينهم مراسلا قناة الجزيرة، أنس الشريف ومحمّد قريقع اللذان تحوّلا إلى أيقونتين صحافيتين عالميتين، رغم صغر سنهما وحداثة عهدهما بمهنة المتاعب، شابّان كانت 'جريمتهما' الوحيدة إظهار حقيقة حرب الإبادة البشعة التي يقترفها جيش الاحتلال في غزّة منذ أكثر من 22 شهراً، وفضح جرائمه وكذبه ودعايته وزيف روايته أمام العالم. لم يكن مقتل هؤلاء الأبطال نتيجة قذيفة طائشة أو صاروخ أعمى، أو مجرّد 'أضرار جانبية'، كما تعود جيش الاحتلال تبرير جرائمه البشعة للإفلات من العقاب، رغم أنه يدرك أن لا أحد في العالم يستطيع معاقبة جنوده، عفواً مجرميه، حتى اللحظة على الأقل، وإنما هي استراتيجية واضحة لقتل الحقيقة باستهداف الشهود، حتى لا يفضحوا معالم الجريمة. لقد كان اغتيال الصحافيين، أنس الشريف ومحمد قريقع وزملائهما، رسالة واضحة، وقبل ذلك هدفاً رسمياً معلناً: قتل الحقيقة. فقبل ساعات فقط من اغتيالهم، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه عن خطّة 'الاحتلال الكامل' لغزّة، وهاجم وهدّد الصحافيين الفلسطينيين الذين يفضحون جرائم جيشه، ويكشفون عن أكاذيبه وزيف رواية دولته. لذلك لم تكن الجريمة التي ارتُكبت مصادفة، بل هو تخطيط مُحكم، واستهدافٌ معلن كما جاء في تبرير الجيش الإسرائيلي الذي تبنّى الجريمة: أي إسكات الشهود المزعجين قبل المرور إلى المشهد التالي من المجازر المبرمجة قبلاً. في زمن الحرب، وحدَه السلاح، مهما كان متطوّراً وفتاكاً، لا يحسم المعارك، فالكلمة، والصورة، والشهادة الحية، يمكن أن تكون أكثر قوة وحسماً من كل الأسلحة المدمّرة. ومن هنا أهمية الصحافة الحرّة في زمن الحرب، لأنها سلاح الضعيف. ولذلك هي أول من يدفع الثمن، عندما يتحوّل الصحافيون إلى أهدافٍ سهلة، كما يحصل اليوم في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية بوتيرة غير مسبوقة في تاريخ الحروب الحديثة، في ما وصفته منظمات حقوقية بأنها أكبر مجزرة للصحافة في التاريخ الحديث. ففي خضم المعارك التي تُخاض بكل أنواع الأسلحة المسموح باستعمالها وغير المسموح باستعمالها، غالباً ما تكون الحقيقة المستهدف الأول، وأكبر ضحاياها وأولها هم الصحافيون الذين يبحثون عنها ويحاولون نقلها إلى العالم. هنا تكمن قوة سلاح الصحافة الحرّة والمستقلة التي تنقل الحقيقة، وتفضح الانتهاكات في زمن كل الحروب التي يشهدها العالم منذ القرن الماضي. الجريمة الإسرائيلية في غزة متعدّدة الأبعاد، قتل الصحافيين واغتيال الحقيقة، وفوق ذلك تَحَمٌّل نفاق العالم الغربي لقد أثبت التاريخ أن الحرب ليست فقط صراعاً على الأرض أو الموارد، بل هي أيضاً صراع على الرواية. في فيتنام، لم تهزم أميركا على الجبهة فقط، وإنما هُزمت أيضاً أمام الرأي العام على شاشات التلفزة، حين بثت الصحافة صور الأطفال الفارّين من نيران 'النابالم' الحارقة، وجنود 'اليانكي' وهم يقعون في المصايد المعلقة في الأدغال، ويغرقون في المستنقعات الآسنة، قبل أن يتحوّلوا إلى طعام للتماسيح والديدان. وفي حرب البوسنة، أثارت لقطات المقابر الجماعية ضمير العالم، ولعبت صور المجازر التي كان الجنود الصرب يرتكبونها في حقّ النساء والأطفال، ووثّقتها كاميرات المراسلين الغربيين دوراً حاسماً في تعبئة الرأي العام الغربي والعالمي، ما دفع القوى الدولية إلى التحرّك لوقف الجريمة. اليوم، تكتب غزّة فصلها الخاص في تاريخ الحروب الأكثر دموية وبشاعة في عصرنا الحديث، حيث تتواجه على أرض المعركة روايتان، رواية أصحاب الأرض والحق، ورواية المحتلين وسارقي الأرض ومزوّري التاريخ. ومع الأسف، حطب هذه الحرب غير المتكافئة هم الصحافيون الفلسطينيون الذين سقط منهم 238 صحافية وصحافياً، اغتيل معظمهم وهم يوثّقون جرائم المحتل حاملين كاميراتهم، ويرتدون ستراتهم الصحافية التي تميّزهم بوضوح، والتي بدل أن تحميهم وتحصّنهم حوّلتهم إلى أهداف واضحة وسهلة لقناصي جيش الاحتلال ومسيّراته. عمليات قتل الصحافيين الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية ليست مجرّد 'أضرار جانبية'، كما يزعم جيش الاحتلال، إنها جزء من استراتيجية عسكرية لم تعد مستترة: تصفية الشهود لإخفاء معالم الجريمة، وإسكات صوت الحقيقة حتى تظلّ السردية الإسرائيلية وحدها المسيطرة والسائدة. نحن أمام اختبار أخلاقي قاسٍ ونبيل في الآن نفسه، أن نواصل المسار، ونصون نبل رسالة الصحافة، وندافع عنها، حتى لا يصبح وجودها على المحكّ الجريمة هنا متعدّدة الأبعاد، قتل الصحافيين واغتيال الحقيقة، وفوق ذلك تَحَمٌّل نفاق العالم الغربي. وهنا يكمن السقوط الأخلاقي الكبير لوسائل إعلام غربية مؤثرة، وتنظيمات صحافية كبيرة، فعندما كان يُصاب صحافي أوكراني أو صحافي غربي في أوكرانيا، تشتعل العواصم الغربية غضباً، وتصدر التصريحات المدينة بقوة من القادة والسياسيين الأكثر تأثيراً في صناعة القرار في العالم، وتنظم الحملات والوقفات الاحتجاجية داخل صالات التحرير وفي الشوارع والساحات، وتُضاء المعالم التاريخية في كبرى عواصم العالم بأسماء الصحافيين الضحايا وصورهم وأعلام دولهم. وعندما يُغتال الصحافيون الفلسطينيون بشكلٍ مستهدفٍ وممنهج، يتلاشى الوضوح الأخلاقي بسرعة في العواصم الغربية ووسائل إعلامها 'المهنية'، وتأتي ردات الفعل خجولة محتشمة خافتة وغائبة أحياناً كثيرة، وتصدُر دعوات 'ضبط النفس' والمطالبات الماكرة بضرورة 'فتح تحقيقاتٍ' يدرك الجميع أن مآلها الحفظ والنسيان. هذه ليست مجرّد ازدواجية في المعايير، إنه تفريغ لفكرة أن رسالة الصحافة الحرّة مقدّسة، وأن حياة الصحافي في زمن الحروب مهمّة بالقدر نفسه، بغض النظر عن جواز سفره ولون بشرته ودينه وقوميّته، بل هو تخلٍّ عن المبدأ العالمي القائل إن حياة الصحافي، أينما كان، تستحقّ حمايتها والدفاع عن حقّ صاحبها في البحث عن الحقيقة، وكشفها للرأي العام العالمي. ما دام هذا النفاق قائماً، ستستمر جرائم قتل الصحافيين الفلسطينيين. وعندما يسقط آخر صحافي مستقلّ في غزّة، فلن يقتصر الأمر على دفن القصة الفلسطينية فحسب، بل سيشمل ذلك أيضاً مصداقية كل حكومة ومؤسّسة ادّعت الإيمان بحرية الصحافة. الدفاع عن حرّية الصحافة وعن سلامة من تبقوا من صحافيين فلسطينيين شجعان في غزّة المدمّرة والمحاصرة ليس ترفاً أخلاقيّاً، بل هو ضرورة إنسانية وقانونية، لأن القصّة التي لا تُروى جريمة مضاعفة: ضد الضحايا، وضد الحقيقة. وإذا لم يهزّ قتل صحافيي غزّة ضمير ما يُسمى 'العالم الحر'، فإن ما تبقى من مصداقية الغرب الديمقراطي إلى زوال، وإذا فشل العالم في الدفاع عن رواة القصص بحرّية، وإذا لم يتحرّك العالم الحر والمنظمّات الحقوقية والهيئات والتجمّعات الصحافية ووسائل الإعلام العالمية لحماية من تبقّوا من صحافيين فلسطينيين في غزّة، فسنجد أنفسنا نعيش في عالم تُخاض فيه الحروب في تعتيم كامل، والتاريخ الوحيد الذي سيبقى للأجيال المقبلة هو الذي سيكتُبه المنتصرون بأكاذيبهم وتزييفهم الحقائق. بينما تُدفن الروايات الأخرى وأصحابها في مقابر الصمت الرهيب الذي يكاد يخيّم اليوم فوق كل الرؤوس التي فضّلت الانحناء أمام الظلم والهمجية والكذب والزيف، حتى لا تُرى الحقيقة كما أوصانا أنس الشريف أن نحافظ عليها ساطعة صدّاحة. نحن أمام اختبار أخلاقي قاسٍ ونبيل في الآن نفسه، أن نواصل المسار ونصون نبل رسالة الصحافة، وندافع عنها، حتى لا يصبح وجودها على المحكّ. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
منذ يوم واحد
- إيطاليا تلغراف
حزب الله وضربات "لئيمة" من إسرائيل
إيطاليا تلغراف عريب الرنتاوي كاتب ومحلل سياسي أردني خياران أحلاهما مر بانتظار حزب الله؛ كلفة الاحتفاظ بالسلاح باهظة للغاية، عليه وعلى لبنان، والتخلي عنه، يكاد يكون انتحارا سياسيا، يُخرج الحزب من ثوبه، ومن كل ما نشأ عليه ومن أجله، فيما الرهان على 'عامل الوقت'، أو البحث عن مخرج، يبدو معلقا على المجهول. في لبنان، ثمة أغلبية سياسية وشعبية، تبلورت في ضوء نتائج 'حربي الإسناد' و'أولي البأس'، باتت تنظر للسلاح باعتباره فاقدا القدرة على الحماية والردع والتحرير في مواجهة إسرائيل، وهي الوظائف الثلاث التي تراكم السلاح من أجلها، وشكلت المبرر لانفراد الحزب طوال أكثير من أربعة عقود، بحمله وتخزينه وتطويره واستخدامه. اليوم، يجد الحزب صعوبة في تسويق هذه الوظائف على جمهور متزايد من اللبنانيين، لا سيما من خارج بيئته الشيعية الحاضنة. غالبية مسيحية وسُنية ودرزية، وأقلية شيعية، باتت تدعم توجه الدولة الجديد، والجريء، في معالجة قضيتي؛ 'حصرية السلاح'، و'قرار الحرب والسلم'. وحتى من بين الشيعة أنفسهم، فإن ثمة فريقا لا بأس به – من داعمي احتفاظ الحزب بسلاحه- ينطلق في مواقفه من اعتبارات داخلية، ومخاوف (مشروعة أو غير مشروعة) على مستقبل الطائفة ومكانتها، أو يتحسب لتداعيات الحدث السوري على لبنان وتوازنات القوى فيه، منذ سقوط نظام الأسد 8 ديسمبر الفائت. بهذا المعنى، لم يعد هذا الفريق يربط السلاح بمقاومة إسرائيل أو تحرير ما تبقى من أراضي الجنوب، بل بديناميات العلاقة مع القوى والمكونات الأخرى، لبنانيا، وامتداداتها السورية. لا شك أن فريقا من اللبنانيين، لم ينظر يوما بعين الرضا عن المقاومة والحزب والسلاح، وهو سبق أن أشهر سلاحه في مواجهة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، ولم يتوانَ عن استدعاء مختلف أشكال الدعم والتدخل الإسرائيلية، لإنجاز الحسم في معركة الداخل. هذا الفريق، ما زال 'وفيا' لمواقفه ونهجه، وهو بات أكثر جرأة في التصدي لمسألة السلاح، والتحريض عليه، والاستقواء بـ'الخارج' على الفريق الذي يحمله. و'الخارج' اليوم، لم يعد إسرائيل حصرا، فالولايات المتحدة، تقود أشد حملات التضييق والحصار على سلاح الحزب ومسلحيه، وتسعى في تقطيع شرايينه، وتجفيف موارده، من مالية واقتصادية، وتؤلّب عليه الدولة والمؤسسات والأحزاب وكل الحلفاء المحليين، وهي تستعجل إنجاز هذه المهمة من دون تردد. ومن ضمن تكتيكاتها، التلويح بورقة 'بلاد الشام'، و'تلزيم' لبنان لسوريا، كما ورد على لسان توم باراك، الموفد الأميركي، الكاره سايكس بيكو، والمتحمس لفكرة إعادة ترسيم خرائط المنطقة، على خطوط الطوائف والمذاهب والأقوام، والداعم بشكل 'مداهن' لنظرية جدعون ساعر حول 'حلف الأقليات'. وهي النظرية التي عبر مؤتمر الحسكة الأخير، عن خطوة عملية باتجاه ترجمتها، بدعم فرنسي، وضوء أخضر أميركي، وفي مواجهة النظام الجديد في دمشق، وأبعد منه، في مواجهة أنقرة وحلفائها السوريين. يشعر هذا الفريق المتسع من اللبنانيين، أن لبنان بانتظار 'فرصة تاريخية' لإغلاق ملف مضى عليه مفتوحا أكثر من أربعة عقود، ودائما تحت شعار بناء الدولة القوية العادلة والضامنة للجميع. لكأن هذا الفريق، في سباق مع الزمن، حتى لا تفقد 'الفرصة' زخمها وقواها الدافعة. رهانات الحزب لكن ثمة ما يجعل مهمة هذا الفريق، صعبة للغاية، فلا إسرائيل التزمت باتفاق 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، وأوقفت عدوانه المتكرر والمتمادي على لبنان، ولا الولايات المتحدة، بصدد تقديم ضمانات مقنعة للدولة اللبنانية، بأن مرحلة ما بعد تسليم السلاح، ستعيد للبنان أرضه وأسراه وسلامه واستقراره وازدهاره. حتى بلغ الأمر بأكثر المتحمسين لنزع السلاح، حد التعبير عن موقفه بلغة الاحتمالات والترجيحات، بلا أي ضمانة أو يقين، وهذا أمرٌ يدفع الحزب وأنصاره إلى التحذير من 'قفزة في المجهول'. وثمة عامل آخر، يلعب، وسيلعب دورا في حسم مسألة السلاح، وأعني به 'العامل السوري'، إذ ربما يراهن الحزب على ما يمكن أن تأتي به التطورات المتلاحقة في المشهد السوري، ونشوء 'مسألة درزية' إلى جانب 'المسألة الكردية'، وربما بعد حين، 'مسألة علوية'، من تحولات في مواقف الدولة والرأي العام اللبنانيين من الحزب والسلاح، ذلك أن الصور المبثوثة من سوريا عن صدامات و'جرائم' على خلفية طائفية ومذهبية، لا تساعد في طمأنة مكونات لبنانية عديدة إلى سلامة مستقبلها، ومن ضمنها جهات، لا تكنّ ودا ظاهرا أو مضمرا للحزب. على أن أسوأ ما يمكن أن يبني عليه الحزب من رهانات، هو الاعتقاد بأن إسرائيل سئمت الحرب وتستصعب العودة، سواء للإعياء الذي أصاب جيشها أو لانشغالاتها على جبهة غزة، أو الافتراض بأن مستقبل الحزب والسلاح، سيكون مطروحا على مائدة التفاوض بين إيران والولايات المتحدة، حين تلتئم. فلا إسرائيل بوارد التوقف عن استهداف لبنان، لا سيما أنها ترى في حربها عليه، حربا بلا كلفة.. ولا إيران، ستقدم مصلحة الحزب والسلاح، على حسابات أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية حال بدأت بحثا جديا حول هذه العناوين مع واشنطن والغرب. صدام مستبعد يخشى لبنانيون كثر، من مغبة تحول الخلاف بين الدولة والحزب، إلى صدام بين الأخير والجيش، وفي ظني أن لا الحزب ولا الجيش، لديهما الرغبة والإرادة والمصلحة في الوصول إلى صدام كهذا، ترفضه غالبية اللبنانيين، ولا تحرض عليه سوى أقلية منهم. وأحسب أن صداما كهذا، لن يترك الحزب معزولا في بيئته الوطنية والمذهبية فحسب، بل وقد يتهدد مصير الجيش ووحدته وتماسكه، وربما يعيد إنتاج سيناريو 'الحرب الأهلية'، إذ انقسم الجيش إلى عدة جيوش على أساس مذهبي وطائفي. استبعاد سيناريو الصدام بين الجيش والحزب، لا يعني أن لبنان سينجح في تفادي احتمال عودة الحرب من جديد، ولكن بين إسرائيل وحزب الله.. امتناع الحزب عن تسليم سلاحه للجيش، سيعطي إسرائيل مبررا لتوجيه ضربات 'لئيمة' لمواقعه ومقدراته، وربما العودة إلى الاغتيالات 'رفيعة المستوى'. وقيام الحزب بالرد على العدوان الإسرائيلي، سيطلق يد إسرائيل في ترجمة سيناريو غزة في لبنان. ولا أحد يعرف حتى الآن، ما إذا كان الحزب قادرا على استعادة 'معادلة التوازن والردع'، وفرض قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل. أغلب التقديرات، تقول إن الحزب ليس في وضع عسكري سيمكنه من فعل ذلك، والأهم أنه سيُحمل المسؤولية عن عودة التصعيد، وسط انكشاف في الغطاء اللبناني والعربي والدولي، ووسط ضعف قوى وأطراف ما كان 'محورا للمقاومة والممانعة' ذات يوم. معنى أن يتخلى الحزب عن سلاحه مقابل ذلك، فإن قبول الحزب بتسليم سلاحه للجيش، والتحول كليا للعمل السياسي المحلي، يعني أنه فقد 'فرادته'، وأنه سيكون حزبا من بين أحزاب أخرى عديدة، ليس أقواها بالضرورة، لا في الشارع ولا في البرلمان ولا في الحكومة. كما يعني أنه سيفتح فصلا من المراجعة والمساءلة، قد لا ينتهي لصالحه، لا سيما بوجود عشرات ألوف الشهداء والجرحى، وعوائلهم، الذين لم يقطعوا كل هذا الشوط مع الحزب، وقدموا كل هذه التضحيات على مذبح المقاومة، لينتهوا إلى 'صناديق المعونة والإغاثة'. حزب الله بلا سلاح، لن يبقى قوة مهيمنة حتى في الوسط الشيع، بل وقد لا يبقى الثنائي الشيعي متفردا بتمثيل الطائفة والنطق باسمها، وقد تنشأ تيارات واتجاهات داخلها، متصادمة مع الحزب والثنائي، ومصطرعة مع أطروحاتهما. والأخطر من كل هذا وذاك، وأهم، أن إسرائيل لن تدع الحزب وشأنه، حتى إن هو قرر تسليم سلاحه، وستواصل حكومة اليمين الفاشي،' أخذ زمام أمنها في لبنان بيدها'، وتحت شعار 'يد طليقة في لبنان'، ستعمل على إذلال الحزب في كل مناسبة، وتذكيره بأنها هي من انتصر، وهو من هزم، كما ستعمل على 'تسوية الحساب' مع كل من تورط بإراقة دماء إسرائيلية، وسيظل لبنان من منظورها الإستراتيجي، 'مجالا حيويا' لنظرية الأمن القومي الإسرائيلي. وتأسيسا على تجارب متراكمة للتعامل مع هذا الكيان، فإنه سيلجأ إلى ممارسة 'التنمر' وطلب المزيد من الإذعان والتنازلات، كلما استشعر ضعفا وهوانا، وكلما أحسّ بأن الطرف المقابل، قد قرر الخروج من ميدان المواجهة. لقد فقد سلاح الحزب، 'دورا إقليميا' لطالما اضطلع به من موقع قيادي، وفي ساحات عدة، وليس في سوريا وحدها، إثر النتائج الكارثية لحربي 'الإسناد' و'أولي البأس'. اليوم، يبدو هذا السلاح، مهددا بفقدان دوره الوطني، في ظل تفاقم مأزق الخيارات المطروحة، واشتداد مصاعب الاحتفاظ به أو التخلي عنه. لا خيارات سهلة أمام الحزب، والشيء ذاته، ينطبق بقدر أكبر على لبنان برمته. فالدولة اللبنانية، محاصرة بضغوط لا قبل لها بها، من أشقائها وأصدقائها، عربا وأوروبيين وأميركيين، وجميعها تندرج تحت عنوان 'حصرية السلاح'. فيما إعادة إعمار لبنان ووضعه على سكة التعافي المبكر وخروجه من شرنقة الحصار والعقوبات، تنتظر إنجازا سريعا على هذا الدرب.. والدولة، المتحمسة لسحب السلاح، تدرك أن استخدام القوة لفعل ذلك، هو 'وصفة خراب' قد تقود إلى تجدد الحرب الأهلية من جديد، وهذا كابوس يسعى عقلاء لبنان لتفاديه. ترك المهمة لإسرائيل أمام هذا الاستعصاء المزدوج: استعصاء الدولة والحزب، فإن أكثر السيناريوهات ترجيحا، هو ترك المهمة لإسرائيل، ليس باتفاق 'تآمري' مباشر وصريح بين الأطراف، بل من خلال 'تقاسم موضوعي' للمهام والأدوار، كأن يعاود سلاح الجو توجيه ضربات نوعية تدميرية مكثفة للحزب وبيئته الاجتماعية في الجنوب والضاحية والبقاع على نطاق أوسع مما يفعله اليوم، وأن يعاود 'الموساد' سياسة الاغتيالات ويتوسع بها، فلا تقتصر على الجناح العسكري فقط، كما هي جارية منذ وقف إطلاق النار، وبعدها يمكن معاودة النقاش المحلي حول السلاح في ظروف مختلفة، يكون فيها الحزب في موقع أضعف، أو هكذا يُراهن بعضهم على أقل تقدير. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
منذ 2 أيام
- إيطاليا تلغراف
استغلال أطفال تندوف: رسالة احتجاج إلى الحكومة الإيطالية وإدانة لجرائم الاتجار بالبشر تحت غطاء سياسي مشبوه
إيطاليا تلغراف عبد الله مشنون كاتب صحفي مقيم في ايطاليا في خطوة مستفزة لا يمكن وصفها سوى بكونها جريمة أخلاقية وسياسية مزدوجة، أقدمت جهات داعمة لجبهة البوليساريو الانفصالية، بدعم من أطراف داخل التراب الإيطالي، على تنظيم أنشطة دعائية تضليلية تستغل أطفالًا قاصرين جُلبوا من مخيمات تندوف في الجزائر، في سياق حملة بروباغندا مفضوحة تستهدف وحدة المملكة المغربية الترابية، ضاربةً عرض الحائط بأبسط القيم الإنسانية، والأعراف الدولية التي تحمي حقوق الطفل. في قلب هذا الانتهاك الممنهج، تتبدى تساؤلات كبرى لا يجب أن تمر مرور الكرام، لأنها تمس جوهر السيادة والكرامة الإنسانية: بأي منطق قانوني أو أخلاقي يتم إخراج أطفال قاصرين من مخيمات تندوف، دون إذن أسرهم، ودون إشراف قضائي أو إنساني واضح؟ ألا يُعد هذا خرقًا صارخًا لسيادة الدول وللقوانين التي تحكم تحرك القاصرين عبر الحدود؟ كيف تُعامل هذه الفئة الهشة خلال إقامتها في بلدان أوروبية، بعيدًا عن ذويها؟ هل تتلقى رعاية تربوية ونفسية حقيقية، أم أنها تُخضع لبرامج توجيه فكري مؤدلج، بعيدًا عن رقابة المنظمات الحقوقية المستقلة؟ من يضمن لهؤلاء الأطفال الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية المغربية؟ في بيئة سياسية تُستغل فيها طفولتهم في مشاهد مسيّسة، لا يُراعى فيها لا معتقدهم، ولا لغتهم، ولا انتماؤهم الوطني؟ هذه التساؤلات ليست تأملات عابرة، بل نداء مستعجل للضمير الإنساني الدولي. إذ نكاد نكون أمام عملية مُمنهجة لتجنيد الأطفال في معارك سياسية، تُمارس تحت ستار العمل الإنساني، في حين أنها لا تختلف جوهريًا عن أبشع أشكال الاتجار بالبشر واستغلال القُصّر. ما جرى في إيطاليا ليس حادثًا عابرًا، بل نموذج واضح لما ترتكبه البوليساريو من انتهاكات ممنهجة في حق ساكنة مخيمات تندوف، خصوصًا الأطفال. تُحرم هذه الفئة من التعليم الحر، ومن بيئة أسرية آمنة، وتُستخدم كأدوات دعائية لتبرير مشروع انفصالي فاشل، لا يمتلك أي شرعية لا قانونية ولا أخلاقية. هذه الممارسات تمثل خرقًا صارخًا لكل المواثيق الدولية، من اتفاقية حقوق الطفل، إلى اتفاقية مناهضة الاتجار بالبشر، إلى مبادئ القانون الدولي الإنساني. والأدهى أن ذلك يتم على أرض دولة أوروبية من المفترض أنها تحترم حقوق الإنسان وتناهض استغلال القُصر في أي شكل من الأشكال. من هذا المنبر الاعلامي إيطاليا تلغراف ، نوجه رسالة احتجاج سياسية وأخلاقية إلى الحكومة الإيطالية، مطالبينها بتحمل مسؤولياتها في: التحقيق الفوري في ملابسات دخول الأطفال إلى الأراضي الإيطالية. الكشف عن الجهات التي استقدمتهم، وأغراض النشاط الذي زُجّ بهم فيه. محاسبة كل من شارك في هذه المهزلة غير الإنسانية. التأكيد على احترام سيادة المغرب ووحدته الترابية وعدم التساهل مع جهات تستغل القصر لأغراض عدائية ضد دولة صديقة. الصداقة بين الشعوب لا تبنى على ازدواجية المعايير، ولا يمكن أن تتعايش مع صمت رسمي تجاه وقائع ترتقي إلى مستوى الجرائم الإنسانية. إن قضية الصحراء المغربية ليست ملفًا تفاوضيًا تقليديًا، بل قضية وجود وهوية وسيادة. ولن يقبل الشعب المغربي، بكل مكوناته، أن يُستغل أطفاله، أو يُوظف قُصّره في دعاية سوداء تمارس على بعد آلاف الكيلومترات، من طرف انفصاليين مدعومين بأجندات مشبوهة. وفي وقت تتجه فيه المملكة المغربية نحو ترسيخ التنمية في الأقاليم الجنوبية، وتعزيز النموذج الديمقراطي، تتكشف الممارسات البالية التي ما زالت جبهة البوليساريو تعتمدها، متلحفة بادعاءات لم تعد تنطلي على أحد، سوى أولئك الذين يختارون تجاهل الحقائق طوعًا. إن السكوت عن هذا النوع من الممارسات، هو تواطؤ ضمني مع الاستغلال السياسي للأطفال. والمغرب، قيادة وشعبًا، لن يقبل بهذا الظلم، ولن يسمح بأن تُنتهك حرمة طفولة صحراوية تحت غطاء شعارات جوفاء. من هذا المنطلق، نطالب المنظمات الدولية، ومنظمات حقوق الطفل، ووسائل الإعلام الحرة، بتسليط الضوء على هذه الجرائم، ومساءلة من يشارك في تدبيرها أو تسهيلها. فالوطن الذي يحمي حدوده، هو نفسه الذي يحمي كرامة أطفاله… حتى وإن كانوا في مخيمات تندوف. إيطاليا تلغراف