
قراءة في قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد ضد اتحاد الشغل
وفي أحدث تصعيد بين الطرفين دفع سعيد رئيسة حكومته سارة الزعفراني الزنزري إلى اتخاذ قرارات ضد اتحاد الشغل تشمل منع التفرغ النقابي والاقتطاع الآلي للاشتراكات النقابية لفائدة الاتحاد من أجور الموظفين في القطاع الحكومي.
والمقصود بالتفرغ هو تفرغ موظفي الدولة لمهامهم في الاتحاد وعدم مباشرتهم وظائفهم، مع الإبقاء على أجورهم.
وخلال اجتماعه أمس الجمعة بالزنزري أكد سعيد أنه "لا مجال للتراجع عن المحاسبة ولا تردد في استرجاع أي مبلغ من حق الشعب، ولا مجال لأن يحل أحد محل الدولة لا في الانخراط غير الإرادي ولا في التمويل غير الطوعي".
ويرى مراقبون أن سعيد يكون بذلك قد أعطى مباشرة الضوء الأخضر لرئيسة الحكومة لإصدار قرار منع الاقتطاع الآلي "مما سيضر بشكل كبير بالموارد المالية للاتحاد وقدرته على تمويل نشاطاته".
ورغم أن قيمة الاقتطاع تعتبر رمزية (نحو دولار واحد شهريا) فإن اتحاد الشغل يحصد موارد مهمة من عائداته التي تتم بشكل آلي بالنسبة للعاملين في القطاع العمومي، ولديه نحو مليون منخرط في القطاعين العام والخاص، بحسب تقديرات المراقبين.
وفي المقابل، يقوم الاتحاد حاليا برص صفوفه لتعبئة أنصاره للنزول بكثافة في قلب العاصمة تونس الخميس المقبل، للدفاع عن حقوقه وموقعه التاريخي في المشهد الاجتماعي والسياسي.
وفتحت السلطة باب المواجهة فعليا بعد احتجاج أنصار سعيد أمام مبنى الاتحاد في 8 أغسطس/آب الجاري، مطالبين بحله وتجميد نشاطه، وصولا إلى خطاب الرئيس يوم الجمعة الماضي ونفيه أن أنصاره كانوا يسعون لاقتحام المقر، معربا عن توجهه لفتح ملفات الفساد والمحاسبة ضد أي كان.
وعقب ذلك أصدرت الحكومة منشورا في 11 أغسطس/آب الجاري يقضي بإلغاء جميع التراخيص السابقة المتعلقة بالتفرغ النقابي وإلزام الوزراء وكتّاب الدولة باستدعاء النقابيين المتفرغين للعودة إلى مراكز عملهم الأصلية، مع اتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية في حالة عدم الامتثال، في خطوة تصعيدية ضد الاتحاد.
لكن سرعان ما رد الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل سامي الطاهري على القرار، معتبرا أنه يبعث رسالة واضحة بأن السلطة ماضية في التضييق على العمل النقابي.
وأوضح أن التفرغ انتهى فعليا منذ 2022، وأن ما ورد في المنشور يأتي في إطار تأجيج وتأليب الرأي العام ضد الاتحاد.
وأضاف الطاهري -في تصريح إذاعي الخميس الماضي- أن الحكومات السابقة كانت تجدد رخص التفرغ تدريجيا، مما أدى إلى تقلص عدد النقابيين المتفرغين تدريجيا، مؤكدا أن أغلبهم حاليا إما تقاعدوا أو لم تعد لهم مسؤوليات نقابية أو توفوا.
دعوات للتعبئة
من جانبه، دعا الاتحاد العام التونسي للشغل عبر فروعه الجهوية المنتشرة في 24 محافظة وجميع تشكيلاته النقابية في القطاعات الحيوية المختلفة إلى تعبئة القواعد للمسيرة الاحتجاجية يوم 21 أغسطس/آب الجاري تطبيقا لقرار الهيئة الإدارية للاتحاد التي اجتمعت الاثنين الماضي.
كما هدد الاتحاد باللجوء إلى إضراب عام في كل القطاعات -الذي كان أقره في سبتمبر/أيلول الماضي المجلس الوطني للاتحاد ثاني أعلى سلطة قرار داخله، لكنه لم ينفذ- وذلك إذا واصلت السلطة إغلاق باب المفاوضات ورفض جلسات الصلح في القطاعات الحيوية التي شهدت إضرابات وتنتظرها إضرابات مقبلة كالنقل.
ويقول الصحفي والمحلل السياسي عبد السلام الزبيدي للجزيرة نت إن المواجهة الحالية بين الرئيس سعيد واتحاد الشغل ليست ظرفية، بل تندرج ضمن النظام السياسي والخيارات الإستراتيجية لسعيد الرافض لكل الأجسام الوسيطة.
ويوضح أن سعيد واضح في توجهاته، ويعتبر أن أي أجسام وسيطة (أحزاب أو منظمات) تقوم بدور الدولة في اختصاصاتها يجب أن تُحيّد أو تُقيّد، بما فيها اتحاد الشغل الذي كان يُعد شريكا إستراتيجيا للحكومات، سواء في التشريع أو تحقيق المكاسب للعمال، لكنه حسب الرئيس يتعدى صلاحياته عندما يمارس تلك الأدوار.
وفي رأيه، فإن توقيت هذه المواجهة ليس عشوائيا، بل جاء عندما حان الأوان حسب تعبير الرئيس، أي بعد أن تم تحييد أغلب الهيئات الوسيطة الأخرى، من اتحاد الفلاحين إلى اتحاد أرباب الأعمال، وصولا إلى الأحزاب والجمعيات، مما جعل الساحة شبه خالية من وسطاء فاعلين باستثناء نقابة الصحفيين "التي لا تمتلك امتدادا شعبيا".
واستعمل سعيد -وفق الزبيدي- 3 وسائل رئيسية لمواجهة الاتحاد:
الأولى: سياسية من خلال حرمان الاتحاد من مشروعية المشاركة في التشريع، وعدم إشراكه في نقاشات القوانين العمالية أو إجراءات، مثل تعديل عطلة الأمومة ومنح زيادات دون مفاوضات.
الثانية: إدارية بتمرير قرار إلغاء التفرغ النقابي وتعميمه على جميع القطاعات.
طريقة مدروسة
ويعتقد الزبيدي أن إلغاء التفرغ النقابي وحده قد لا يؤثر بشكل كبير على نشاط الاتحاد رغم تعميمه بمقتضى منشور الحكومة على جميع القطاعات، لكن منع الاقتطاع الآلي للاشتراكات سيؤثر بشكل بالغ على الموارد المالية للاتحاد ويضعف قدرته على إدارة نشاطاته الداخلية، وهو ما يمثل ضربة مباشرة له.
ويقول إن سعيد قاد المواجهة بطريقة مدروسة، إذ حشر الاتحاد في زاوية سياسية وقانونية وقضائية حتى يصبح منشغلا بوجوده الداخلي ومشاكله التنظيمية، بدل أن يركز على دوره السياسي والاجتماعي التقليدي في قيادة المطالب العمالية والمشاركة في صياغة القرارات التشريعية.
من جانبه، يقول الصحفي والمحلل السياسي زياد الهاني للجزيرة نت إن الرئيس قيس سعيد اختار أسلوب المواجهة المباشرة والصريحة مع اتحاد الشغل، وإن خطاباته الأخيرة حملت رسائل واضحة ومضمونة الوصول إلى الاتحاد، مفادها أن لا أحد فوق المحاسبة، متهما بشكل مبطن بعض القيادات النقابية باستغلال الدفاع عن حقوق العمال مطية لتحقيق مصالح شخصية.
ويؤكد الهاني أن سعيد يتجه نحو إنهاء ملف الاتحاد عبر كل الطرق الممكنة، بما في ذلك منع التفرغ النقابي وإيقاف الاقتطاع الآلي للاشتراكات النقابية، وصولا إلى تحريك القضايا ضد قياداته، في خطوة قد تُضعف قدرته على التحرك.
وهذا الأسلوب -وفقا له- يقلب المبادئ القضائية التقليدية رأسا على عقب، إذ يتحول المبدأ من "المتهم بريء حتى تثبت إدانته إلى المتهم متهم حتى يُثبت براءته"، مما يجعل أي نقابي أو قيادي عرضة للاتهام المباشر ويضع الحركة النقابية في موقف هش أمام السلطة.
ويشدد الهاني على أن هذه الإستراتيجية ليست مجرد تهديد للاتحاد، بل تشكل طعنا مباشرا في استقلال القضاء والحريات الأساسية، مما يجعل أي تحرك نقابي محفوفا بمخاطر قانونية وسياسية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 6 ساعات
- الجزيرة
القدس تجمع الكشافين.. فعاليات دولية لتعزيز الوعي بالقدس وفلسطين
إسطنبول- من أجل توحيد جهود القيادات الكشفية في دول عدة، وتكريسها لخدمة قضية القدس و فلسطين ، أطلق الائتلاف الكشفي العالمي لنصرة القدس وفلسطين، سلسلة مخيمات ومشاركات بمخيمات صيفية، بدأت بإسطنبول في الفترة من بين 29 يوليو/تموز و6 أغسطس/آب، ثم انتقلت إلى تونس ولاحقا إلى إندونيسيا فالجزائر. وتأسس الائتلاف في مدينة إسطنبول عام 2011، ليكون إطارا تنسيقيا يجمع تحت مظلته نخبة من الجمعيات والقيادات الكشفية العربية، بهدف ترسيخ الوعي بالمقدسات الإسلامية وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك داخل الأوساط الكشفية، وفق المدير العام للائتلاف محمد خليل زهرة متحدثا للجزيرة نت. وأوضح زهرة أن الائتلاف بات -خلال السنوات الأخيرة- إطارا كشفيا فاعلا يدمج النشاط التربوي الكشفي بالهوية المقدسية، عبر منظومة متكاملة من البرامج والمبادرات التي عززت الوعي بالقدس وربطت أجيال الكشافين بها في العالمين العربي والإسلامي. هدف مركزي وقال إن هذه المنظومة انطلقت بمخيم النورس الإلكتروني عام 2020، قبل أن تتطور إلى فعاليات حضورية أبرزها المخيم الدولي للصداقة المقدسية الذي استضافته إسطنبول عام 2025 بمشاركة وفود من أكثر من 16 دولة. وشدد زهرة على أن الهدف المركزي للائتلاف يتمثل في ترسيخ الوعي بالمقدسات الإسلامية وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك داخل الأوساط الكشفية، مؤكدا التزام الائتلاف بهوية كشفية نقية بعيدة عن الاصطفافات السياسية والمذهبية، وموضحا أن تأسيسه جاء ثمرة جهود قادة كشفيين توحدت قلوبهم على خدمة القدس وفلسطين. وفي سياق خططه المقبلة، كشف زهرة عن مشاركة الائتلاف في مخيم "الجامبوري" بتونس بين 15 و20 أغسطس/آب الجاري من خلال محطة مقدسية متكاملة، تليها المشاركة في المخيم الكشفي المسلم بإندونيسيا في سبتمبر/أيلول، الذي يستضيف نحو 19 ألف كشاف، حيث سيكون للائتلاف إحدى المحطات الرئيسية الأربع متضمنة ورشا للألعاب والشارة المقدسية. ويختتم الائتلاف عام 2025 بإقامة دورة تدريبية للقائد والعريف المقدسي في الجزائر. مخيم إسطنبول في غابات بيكوز في مدينة إسطنبول التركية، ارتفعت الأناشيد الكشفية وهتافات الفتيان والفتيات القادمين من 16 دولة عربية وإسلامية، وهم يصطفون تحت راية فلسطين في مشهد تتقد فيه الحماسة والروح الوطنية. وعلى وقع أجواء التآخي الكشفي، ارتفع العلم الفلسطيني على الساريات خلال المخيم الكشفي الدولي للصداقة المقدسية، الذي استضافته الفدرالية الكشفية التركية بين 29 يوليو/تموز و6 أغسطس/آب الماضيين، بمشاركة أكثر من 1000 كشاف وقائد. كان هذا الحدث نموذجا حيا لحراك كشفي عالمي يتجاوز حدود الهوية إلى رسالة سامية، يقوده الائتلاف ويكرس برامجه لنشر الثقافة المقدسية وتعزيز الوعي بالقضية الفلسطينية في صفوف الأجيال الكشفية عربيًا وعالميا. وأكد زهرة أن المخيم حقق مشاركة قياسية فاقت التوقعات، حيث استقطب نحو 1200 كشاف وقائد من 16 دولة، يمثلون قرابة 45 جمعية كشفية، بينما كان العدد المتوقع لا يتجاوز 500 مشارك، موضحا أن جميع أنشطة المخيم حملت طابعا مقدسيا، حيث تضمنت برامج تعريفية بالمسجد الأقصى المبارك وفلسطين، وأخرى حول المقاطعة، وقضية الأسرى الأطفال، والجدار العازل، واللاجئين. ونتيجة لذلك، نجح 850 كشافا في استكمال متطلبات "شارة الكشاف المقدسي" والحصول على الشهادة والوسام، في حين تخرج 130 قائدا مقدسيا بعد اجتيازهم دورة تأهيلية شملت محاور معرفية وتدريبية مثل التمييز بين الصهيونية واليهودية، وإدارة الحملات الإعلامية، وقياس الرأي العام. تجمع كشفي عربي بحسب الميثاق التعريفي الخاص بالائتلاف، الذي اطلعت عليه الجزيرة نت، ومن خلال عضويته التي تضم مؤسسات وأفرادا من مختلف أنحاء العالم، يمثل الائتلاف منصة جامعة للكشافة في بلدانهم، تحمل مسؤولية إيصال صوت القدس والدفاع عنها في الساحات الكشفية والإعلامية والمجتمعية. وترتكز رؤية الائتلاف على تقاسم مسؤولية تحرير فلسطين مع كل مكونات الأمة وأحرار العالم، انطلاقا من إيمان راسخ بأن الحركة الكشفية مكوّن فاعل وأساسي في مسيرة الأمة. أما رسالته، فهي اعتماد وتنفيذ برامج وفعاليات كشفية محلية ودولية تهدف إلى دعم صمود الشعب الفلسطيني وتعزيز ارتباطه بأرضه ومقدساته، حتى ينال كامل حقوقه العادلة ويقيم دولته المستقلة على كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر. ويختصر الائتلاف هذه الرسالة في شعاره الملهم: "وكن لفلسطين دوما مستعدا"، المستوحى من الشعار الكشفي العالمي "كن مستعدا"، ليغرس في نفوس الكشافين قيم الاستعداد الدائم للدفاع عن القدس ومقدساتها. وضمن أهدافه الإستراتيجية يسعى الائتلاف إلى توطين العمل لأجل فلسطين على مستوى الجمعيات والأفواج والفرق المحلية في مختلف البلدان، واعتماد وتنفيذ المشاريع الكشفية الرائدة الداعمة للقضية الفلسطينية بالتعاون بين مكونات الائتلاف، وتبادل الخبرات والتجارب بين الأعضاء للوصول إلى أفضل أساليب العمل الكشفي لنصرة فلسطين، وتطوير وتوثيق المحتوى العلمي عن فلسطين وتعميمه على أعضاء الائتلاف لاستخدامه في أنشطتهم وبرامجهم. أنشطة نوعية وعن الأنشطة والفعاليات المنوعة أشار زهرة إلى أن الائتلاف أطلق قبل نحو 3 سنوات "برنامج شارة الكشاف المقدسي"، وهو برنامج تأهيلي يُمنح بعد استكمال متطلبات معرفية وعملية حول القدس، وبدأ تطبيقه في الجزائر عام 2022 قبل أن ينتقل إلى دول أخرى من بينها تونس، التي شهدت في يونيو/حزيران 2024 ملتقى وطنيا بمشاركة أكثر من 350 كشافا. وأضاف زهرة أن الائتلاف أعد كذلك "المنهاج الكشفي المقدسي"، الذي يغطي مجالات التاريخ والجغرافيا والمعالم الدينية والتراثية، ويطبق حاليا في ورشات معرفية داخل المخيمات الكشفية بدول عدة، بما يسهم في تعميق معرفة الفتية بالقضية الفلسطينية بأسلوب تفاعلي. وأشار إلى أن عام 2024 شهد تنفيذ برامج متنوعة، من بينها تأهيل مقرات للكشافة في غزة ، وإطلاق برنامج للتآخي بين كشافة فلسطين وأقرانهم في الخارج، وحصر شهداء الحركة الكشفية وتوثيق سيرهم، وعقد المخيم المقدسي الدولي "قدسك قدسي" عبر الإنترنت، وإطلاق النسخة الرقمية من شارة الكشاف المقدسي، بالإضافة إلى ترجمة محتوى برامج الائتلاف إلى 3 لغات، في خطوة تعكس –على حد وصفها– اتساع نطاق نشاط الائتلاف وتنوع أدواته في خدمة الرسالة المقدسية. تحديات واستحقاقات وعن أبرز التحديات التي يواجهها الائتلاف، قال محمد خليل زهرة، إن مسيرة الائتلاف –رغم ما حققته من زخم لافت واتساع في قاعدة المشاركين– ما تزال تواجه عقبات جدية تعوق بلوغ أهدافها كاملة. وأوضح أن أحد أبرز هذه التحديات يتمثل في الحساسيات السياسية التي تمنع بعض الجهات الرسمية في عدد من البلدان من الانخراط المباشر في أنشطة الائتلاف، رغم أن الدعم الفردي والشعبي لفكرته وبرامجه واسع وملموس. وأرجع ذلك إلى حجم الضغوط التي تتعرض لها هذه الجهات، وهو ما يحد من مشاركتها العلنية. وأضاف زهرة أن التحدي المالي يشكل عقبة أساسية أخرى، إذ يعتمد الائتلاف على جهود تطوعية ودعم مؤسسات أهلية، مما يجعل تمويل المخيمات الدولية، وطباعة المناهج الكشفية، وإطلاق الحملات الإعلامية الكبرى مرهونا بتبرعات أو رعايات غير ثابتة، مما يقيّد القدرة على التوسع والاستمرار بالوتيرة المطلوبة.


الجزيرة
منذ 7 ساعات
- الجزيرة
ماذا وراء إصلاح صناديق التقاعد في المغرب؟
الرباط- عاد ملف إصلاح أنظمة التقاعد في المغرب ليطفو مجددا على السطح وسط تصاعد الضغط المالي على الصناديق وصعوبة توازن مواردها مع التزاماتها المتزايدة. وخلق هذا الوضع حالة من الحذر والترقب لنتائج الحوار الاجتماعي المنتظر، خشية أن تمس التعديلات حقوق المتقاعدين المكتسبة أو تقلص من قيمة معاشاتهم. وتتحدث الحكومة عن إصلاح شامل يهدف إلى ضمان استدامة الأنظمة المالية للصناديق وحماية السلم الاجتماعي، مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على تنافسية الاقتصاد الوطني. خطوط حمراء في المقابل، ترفع النقابات "خطوطا حمراء"، مهددة بالتصعيد إذا تم المساس بحقوق المتقاعدين أو بإجراءات مثل رفع سن التقاعد أو تقليص نسبة المعاشات. ويستعيد الجميع في ذاكرتهم تجربة الإصلاح السابق، الذي رغم محاولاته، رافقه تذمر واسع وأثار احتجاجات. وقد كشفت دراسة رسمية عن مؤشرات مالية "مقلقة" في صناديق التقاعد الأساسية شملت: تسجيل نظام الصندوق المغربي للتقاعد -المعاشات المدنية (القطاع العام)- عجزا تقنيا بلغ 7.2 مليارات درهم (720 مليون دولار) في 2024، رغم زيادة الاشتراكات والمزايا. انخفاض الاحتياطيات بنسبة 7.1% مقارنة بعام 2023. بلغ العجز التراكمي منذ 2014 ما يقارب 60.3 مليار درهم (6 مليارات دولار)، نصفها فقط في السنوات الخمس الأخيرة. سجل النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد (المؤسسات العمومية والجماعات الترابية) فائضا بـ1.2 مليار درهم (120 مليون دولار). سجل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (القطاع الخاص) فائضا بـ4 مليارات درهم (400 مليون دولار) سنة 2024، لكنهما لا يزالان يعانيان من نقص في التسعير. أما الصندوق المغربي المهني للتقاعد (نظام تكميلي)، فقد حافظ على أداء إيجابي بفائض 8.2 مليارات درهم (820 مليون دولار). ولم يتجاوز معدل النمو السنوي للصناديق 1.2% خلال 5 سنوات، مما يعكس هشاشة التوازن المالي العام للنظام ويطرح إشكالية الاستدامة المستقبلية. جذور الأزمة قامت الحكومة المغربية بإصلاح أنظمة التقاعد سنتي 2016 و2021 من أجل وضع حد للاختلالات الناتجة عن سوء التدبير لسنوات طويلة. وتؤكد الباحثة في الحماية الاجتماعية أسماء الأنباري -للجزيرة نت- أن الإصلاحات السابقة كانت تستند إلى "المعيارية"، أي تعديل المقاييس مثل رفع سن التقاعد أو زيادة الاشتراكات، من دون تغيير جوهري في هيكل النظام، مما أدى إلى تأجيل استنزاف الاحتياطيات فقط دون معالجة الدين الضمني، وهو الالتزامات المستقبلية للنظام، وذلك يعني استمرار هشاشة الوضع المالي. بدوره، يقول المحلل الاقتصادي المغربي محمد جدري -للجزيرة نت- إن هذه الإجراءات أجلت العجز من 2022 إلى 2028 فقط، من دون حلول جذرية. ويرى أن التأخير في إصلاح أنظمة التقاعد يكلف المغرب خسائر مالية يومية تقدر بملايين الدراهم، مشيرا إلى أن ضعف الحوكمة وعدم استثمار الأموال في مشاريع إنتاجية ذات عوائد مرتفعة يمثلان أحد الأسباب الجوهرية في إفلاس الصناديق. وحسب جدري، فإن القيود القانونية التي تحد من حرية الاستثمار، خصوصا في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، تلعب دورا في تقليص مردودية الأموال، حيث توضع في صندوق الإيداع والتدبير بعائد ضعيف يبلغ فقط حوالي 3%. وقال رئيس الحكومة المغربية عزيز أخنوش ، خلال اجتماع اللجنة الوطنية لمتابعة ملف التقاعد في يوليو/تموز الماضي، إن "إصلاح أنظمة التقاعد ضرورة ملحة لضمان الاستقرار المالي وحماية حقوق المتقاعدين، مع الحفاظ على السلم الاجتماعي". من جانبها، شددت وزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح العلوي على أهمية التوازن بين الإصلاحات المالية والاجتماعية في إطار رؤية شاملة، موضحة أن "تحدي التقاعد يقتضي مقاربة متكاملة تحافظ على تنافسية الاقتصاد الوطني دون المساس بحقوق العاملين". في المقابل، يؤكد محمد بوزكيري عضو المجلس الإداري للصندوق المغربي للتقاعد -للجزيرة نت- أنه لم يتم إطلاع المجلس الإداري لا على خلاصات الاجتماع ولا على تفاصيله. وتساءل: "هل هناك فعلا عزيمة لإحداث إصلاح حقيقي في آخر شهور ولاية هذه الحكومة، أم هو تكتيك حكومي لتأجيل الإصلاح إلى ما بعد 2026؟". حلول ممكنة واقترحت دراسة سابقة على الحكومة بناء نظام تقاعدي جديد بقطبين، مع رفع إسهامات الأجراء والمشغلين، وتسقيف المعاشات، واحتساب الأجر المرجعي على كامل المسار المهني بدل آخر 8 سنوات، مع ضبط معادلة المساهمة بين الأجير والمشغل. ويؤكد المستشار البرلماني عن الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب خالد السطي رفضه تحميل الشغيلة أعباء الأزمة، "لأن اختلالات صناديق التقاعد ليست مسؤوليتها، بل نتيجة سياسات عمومية خاطئة". وعبّرت النقابات الممثلة في الحوار الاجتماعي (الاتحاد المغربي للشغل، والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، والكونفدرالية الديمقراطية للشغل)، في بيانات منفصلة عن رفضها أي مساس بحقوق المتقاعدين. وتتباين الحلول المقترحة بين إصلاحات معيارية تركز على تعديل بعض مقاييس النظام مثل رفع سن التقاعد وزيادة نسبة الاشتراكات أو تقليص المعاشات، وبين إصلاحات هيكلية تعيد التفكير في آلية التمويل نفسها. ويرى السطي ضرورة توحيد أنظمة التقاعد ضمن إصلاح هيكلي شامل يضمن الاستدامة والعدالة الاجتماعية، مع الالتزام بعدم المساس بالحقوق المكتسبة وحماية كرامة المتقاعدين. ويبرز ضرورة فتح حوار اجتماعي مسؤول مع الفرقاء الاجتماعيين، بدل فرض حلول جاهزة تؤدي الشغيلة تكلفتها. بينما يؤكد جدري أهمية مراعاة خصوصية المهن الشاقة، داعيا إلى إصلاح جبائي يقلل العبء الضريبي على الأجراء، مع تعزيز الحوكمة والشفافية في إدارة الصناديق. من ناحيتها، توضح الخبيرة الاقتصادية أسماء الأنباري أن الإصلاحات الممكنة قد تتجاوز الحل المعياري إلى أخرى هيكلية تشمل الانتقال إلى أنظمة الرسملة أو نماذج هجينة تجمع بين التوزيع والرسملة، وربط المعاشات بعوامل مثل أمد الحياة ومتوسط الأجور، كما هو معمول به في بعض الدول. وتشير الأنباري إلى أن اختيار السيناريو المناسب قرار سياسي، يتطلب دراسة معمقة للوضع الاقتصادي والديمغرافي.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
قراءة في قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد ضد اتحاد الشغل
تونس- تشهد تونس صراعا مفتوحا وحادا بين الرئيس قيس سعيد و الاتحاد العام التونسي للشغل ، في مواجهة حاسمة قد تحدد ملامح المشهد الاجتماعي والسياسي في البلاد، ففي حين تصعّد السلطة خطواتها العملية بلا هوادة لتحجيمه يجهز الاتحاد قواعده وأنصاره للنزول إلى الشارع للدفاع عن حقوقه وموقعه التاريخي في المشهد. وفي أحدث تصعيد بين الطرفين دفع سعيد رئيسة حكومته سارة الزعفراني الزنزري إلى اتخاذ قرارات ضد اتحاد الشغل تشمل منع التفرغ النقابي والاقتطاع الآلي للاشتراكات النقابية لفائدة الاتحاد من أجور الموظفين في القطاع الحكومي. والمقصود بالتفرغ هو تفرغ موظفي الدولة لمهامهم في الاتحاد وعدم مباشرتهم وظائفهم، مع الإبقاء على أجورهم. وخلال اجتماعه أمس الجمعة بالزنزري أكد سعيد أنه "لا مجال للتراجع عن المحاسبة ولا تردد في استرجاع أي مبلغ من حق الشعب، ولا مجال لأن يحل أحد محل الدولة لا في الانخراط غير الإرادي ولا في التمويل غير الطوعي". ويرى مراقبون أن سعيد يكون بذلك قد أعطى مباشرة الضوء الأخضر لرئيسة الحكومة لإصدار قرار منع الاقتطاع الآلي "مما سيضر بشكل كبير بالموارد المالية للاتحاد وقدرته على تمويل نشاطاته". ورغم أن قيمة الاقتطاع تعتبر رمزية (نحو دولار واحد شهريا) فإن اتحاد الشغل يحصد موارد مهمة من عائداته التي تتم بشكل آلي بالنسبة للعاملين في القطاع العمومي، ولديه نحو مليون منخرط في القطاعين العام والخاص، بحسب تقديرات المراقبين. وفي المقابل، يقوم الاتحاد حاليا برص صفوفه لتعبئة أنصاره للنزول بكثافة في قلب العاصمة تونس الخميس المقبل، للدفاع عن حقوقه وموقعه التاريخي في المشهد الاجتماعي والسياسي. وفتحت السلطة باب المواجهة فعليا بعد احتجاج أنصار سعيد أمام مبنى الاتحاد في 8 أغسطس/آب الجاري، مطالبين بحله وتجميد نشاطه، وصولا إلى خطاب الرئيس يوم الجمعة الماضي ونفيه أن أنصاره كانوا يسعون لاقتحام المقر، معربا عن توجهه لفتح ملفات الفساد والمحاسبة ضد أي كان. وعقب ذلك أصدرت الحكومة منشورا في 11 أغسطس/آب الجاري يقضي بإلغاء جميع التراخيص السابقة المتعلقة بالتفرغ النقابي وإلزام الوزراء وكتّاب الدولة باستدعاء النقابيين المتفرغين للعودة إلى مراكز عملهم الأصلية، مع اتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية في حالة عدم الامتثال، في خطوة تصعيدية ضد الاتحاد. لكن سرعان ما رد الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل سامي الطاهري على القرار، معتبرا أنه يبعث رسالة واضحة بأن السلطة ماضية في التضييق على العمل النقابي. وأوضح أن التفرغ انتهى فعليا منذ 2022، وأن ما ورد في المنشور يأتي في إطار تأجيج وتأليب الرأي العام ضد الاتحاد. وأضاف الطاهري -في تصريح إذاعي الخميس الماضي- أن الحكومات السابقة كانت تجدد رخص التفرغ تدريجيا، مما أدى إلى تقلص عدد النقابيين المتفرغين تدريجيا، مؤكدا أن أغلبهم حاليا إما تقاعدوا أو لم تعد لهم مسؤوليات نقابية أو توفوا. دعوات للتعبئة من جانبه، دعا الاتحاد العام التونسي للشغل عبر فروعه الجهوية المنتشرة في 24 محافظة وجميع تشكيلاته النقابية في القطاعات الحيوية المختلفة إلى تعبئة القواعد للمسيرة الاحتجاجية يوم 21 أغسطس/آب الجاري تطبيقا لقرار الهيئة الإدارية للاتحاد التي اجتمعت الاثنين الماضي. كما هدد الاتحاد باللجوء إلى إضراب عام في كل القطاعات -الذي كان أقره في سبتمبر/أيلول الماضي المجلس الوطني للاتحاد ثاني أعلى سلطة قرار داخله، لكنه لم ينفذ- وذلك إذا واصلت السلطة إغلاق باب المفاوضات ورفض جلسات الصلح في القطاعات الحيوية التي شهدت إضرابات وتنتظرها إضرابات مقبلة كالنقل. ويقول الصحفي والمحلل السياسي عبد السلام الزبيدي للجزيرة نت إن المواجهة الحالية بين الرئيس سعيد واتحاد الشغل ليست ظرفية، بل تندرج ضمن النظام السياسي والخيارات الإستراتيجية لسعيد الرافض لكل الأجسام الوسيطة. ويوضح أن سعيد واضح في توجهاته، ويعتبر أن أي أجسام وسيطة (أحزاب أو منظمات) تقوم بدور الدولة في اختصاصاتها يجب أن تُحيّد أو تُقيّد، بما فيها اتحاد الشغل الذي كان يُعد شريكا إستراتيجيا للحكومات، سواء في التشريع أو تحقيق المكاسب للعمال، لكنه حسب الرئيس يتعدى صلاحياته عندما يمارس تلك الأدوار. وفي رأيه، فإن توقيت هذه المواجهة ليس عشوائيا، بل جاء عندما حان الأوان حسب تعبير الرئيس، أي بعد أن تم تحييد أغلب الهيئات الوسيطة الأخرى، من اتحاد الفلاحين إلى اتحاد أرباب الأعمال، وصولا إلى الأحزاب والجمعيات، مما جعل الساحة شبه خالية من وسطاء فاعلين باستثناء نقابة الصحفيين "التي لا تمتلك امتدادا شعبيا". واستعمل سعيد -وفق الزبيدي- 3 وسائل رئيسية لمواجهة الاتحاد: الأولى: سياسية من خلال حرمان الاتحاد من مشروعية المشاركة في التشريع، وعدم إشراكه في نقاشات القوانين العمالية أو إجراءات، مثل تعديل عطلة الأمومة ومنح زيادات دون مفاوضات. الثانية: إدارية بتمرير قرار إلغاء التفرغ النقابي وتعميمه على جميع القطاعات. طريقة مدروسة ويعتقد الزبيدي أن إلغاء التفرغ النقابي وحده قد لا يؤثر بشكل كبير على نشاط الاتحاد رغم تعميمه بمقتضى منشور الحكومة على جميع القطاعات، لكن منع الاقتطاع الآلي للاشتراكات سيؤثر بشكل بالغ على الموارد المالية للاتحاد ويضعف قدرته على إدارة نشاطاته الداخلية، وهو ما يمثل ضربة مباشرة له. ويقول إن سعيد قاد المواجهة بطريقة مدروسة، إذ حشر الاتحاد في زاوية سياسية وقانونية وقضائية حتى يصبح منشغلا بوجوده الداخلي ومشاكله التنظيمية، بدل أن يركز على دوره السياسي والاجتماعي التقليدي في قيادة المطالب العمالية والمشاركة في صياغة القرارات التشريعية. من جانبه، يقول الصحفي والمحلل السياسي زياد الهاني للجزيرة نت إن الرئيس قيس سعيد اختار أسلوب المواجهة المباشرة والصريحة مع اتحاد الشغل، وإن خطاباته الأخيرة حملت رسائل واضحة ومضمونة الوصول إلى الاتحاد، مفادها أن لا أحد فوق المحاسبة، متهما بشكل مبطن بعض القيادات النقابية باستغلال الدفاع عن حقوق العمال مطية لتحقيق مصالح شخصية. ويؤكد الهاني أن سعيد يتجه نحو إنهاء ملف الاتحاد عبر كل الطرق الممكنة، بما في ذلك منع التفرغ النقابي وإيقاف الاقتطاع الآلي للاشتراكات النقابية، وصولا إلى تحريك القضايا ضد قياداته، في خطوة قد تُضعف قدرته على التحرك. وهذا الأسلوب -وفقا له- يقلب المبادئ القضائية التقليدية رأسا على عقب، إذ يتحول المبدأ من "المتهم بريء حتى تثبت إدانته إلى المتهم متهم حتى يُثبت براءته"، مما يجعل أي نقابي أو قيادي عرضة للاتهام المباشر ويضع الحركة النقابية في موقف هش أمام السلطة. ويشدد الهاني على أن هذه الإستراتيجية ليست مجرد تهديد للاتحاد، بل تشكل طعنا مباشرا في استقلال القضاء والحريات الأساسية، مما يجعل أي تحرك نقابي محفوفا بمخاطر قانونية وسياسية.