
العشائر بين نظامين
أتاح ذلك للعشائر أن تظهر بصورة اللاعب العسكري الذي تحتاج إليه "الدولة" للدفاع عنها. والشكر الذي قدّمه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع للعشائر وإشادته "بمواقفها المشرفة بالوقوف إلى جانب الدولة عبر تاريخها!" أسهم في تعزيز صورة العشائر مرشّحاً إيّاها للقيام بأدوار سياسية وعسكرية متعددة في المستقبل، لا سيما أن العشائر في سوريا لها امتدادات في عدد من الدول العربية وخاصة الخليجية، ما يمنحها عمقاً عربياً في ممارسة أي دور يُطلب منها.
ليس هناك إحصاء دقيق لنسبة العشائر في تركيبة المجتمع السوري، وقد فتح ذلك الباب أمام تقديرات متباينة إذ تذهب المناهج التعليمية في المدارس السورية إلى خفض النسبة حتى 3% بينما يذهب خبراء في الحالة العشائرية إلى رفعها حتى 40% وربما 50% مع الإشارة إلى أن الحالة الحضرية في سوريا يمكن أن ترتدّ بسهولة إلى الحالة العشائرية في ظروف خاصة.
واختلف دور العشائر وفق بنية الدولة المركزية في سوريا. ومع إعادة التموضع الجغرافي للقبائل السورية، تشكلت كيانات سياسية جديدة وتذبذبت بين التحالفات والصراعات. فانقسمت العشائر في الحرب العالمية الأولى بين فرنسا وتركيا. ثم مع الانتداب الفرنسي لسوريا وقفت بعض العشائر مع فرنسا فيما وقف قسم آخر مع بريطانيا.
وأدّى سنّ قانون العشائر إلى صراعات بينية دموية، فأجبرت فرنسا العشائر على توقيع الصلح عام 1934.
واستمر ولاء العشائر لزعمائها لا للدولة حتى بعد نهاية الانتداب الفرنسي. وتضاءل دور العشائر في سوريا عموماً. وانخفضت حصّتها في البرلمان من تسعة أعضاء إلى ستة أعضاء مع اعتماد دستور عام 1950. ومع الوحدة السورية ـ المصرية (1958-1961) بقيادة جمال عبد الناصر، ألغي "قانون العشائر" بموجب القانون رقم 166 الصادر في 28 أيلول/ سبتمبر 1958. وذهبت امتيازات العشائر أدراج الرياح، ولم يبقَ لها سوى بعض المقاعد في مجلس الأمة. وعندما تولى حزب البعث السلطة وقام بتأميم الأراضي الخاصة، فقد رؤساء العشائر عقاراتهم التي صودرت بموجب القانون الجديد. فلم تكن العشائر سوى أدوات في كل المراحل التي عرفت فيها سوريا أنظمة عسكرية حتى عام 1970.
وفي حديث مع "النهار"، قال الدكتور صلاح نيوف أستاذ العلوم السياسية: "استطاعت العشائر أن تجد مصالح مشتركة مع حافظ الأسد، حيث أدّى شيوخ العشائر دورًا في تثبيت حكم حافظ الأسد في مواجهة الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي. لقد كان للعشائر الدور الوظيفي التاريخي مع من يحكمهم أو يسيطر عليهم".
وقال لـ"النهار" أيضاً حكمت حبيب، من دائرة العلاقات الخارجية، شمال شرق سوريا: "عمل البعث بشكل ممنهج على تمزيق هذه المنظومة الاجتماعية وتشتيتها؛ إذ استخدم أجهزته الأمنية لإحداث شرخ داخل البنية العشائرية، ما أدّى إلى انقسامات وتشظٍّ داخل العشيرة الواحدة، الأمر الذي قوّض دور المضافات والربعات وجعلها شكلية".
وأعاد اندلاعُ الحرب السورية العشائر إلى دائرة الضوء والاهتمام، حيث حاولت الأطراف المختلفة: النظام والمعارضة والجهاديون، التركيز على استقطاب ولاء العشائر لتجنيدها في صفوفها، الأمر الذي زاد من أهميتها لكنه أيضاً عرّضها لمزيد من التشظي والانقسام.
ولاحظ بعض مؤرخي الحرب السورية أن أول فئة حملت السلاح ضد نظام الأسد كانت العشائر، مثل عشائر بابا عمرو والوعر في حمص. وذهب هؤلاء إلى أن بنية الجيش الحر قامت على أسس عشائرية واضحة.
وقد يفسر ذلك أن بشار الأسد اعتمد بشكل واضح على أبناء العشائر في مواجهة الجيش الحر، حيث عيّن فهد جاسم الفريج، المنحدر من الحديديين، وزيراً للدفاع، بالإضافة إلى ترقية ضباط آخرين منحدرين من عشائر معروفة وتسليمهم قيادة فرق عسكرية.
وفي نهاية عام 2012، مع تفكك الجيش السوري الحر وانسحاب النظام السوري من المناطق الريفية في شمال شرق البلاد، سعت العشائر للسيطرة على حقول النفط والغاز في المنطقة في دير الزور والحسكة، وتحالفت مع القوى الجديدة الناشئة على الأرض ولا سيما تنظيم "داعش" وجبهة النصرة.
وبحسب الدكتور نيوف: "عزز ظهور داعش العلاقات بين الولايات المتحدة وبعض القبائل المعارضة للحركة الإرهابية. وأدّى تعميم الحرب الأهلية في سوريا إلى تجزئة القبائل وإضعافها، التي أصبحت منذ ذلك الحين عرضة لتأثير القوى الإقليمية والدولية المتورّطة في الصراع".
وقال حكمت حبيب: "استمرت حالة الانقسام العشائري؛ حيث ظهر شيوخ جدد بشكل طارئ نتيجة الأوضاع، وادعى كل منهم أنه الممثل الشرعي للعشيرة أو القبيلة، فيما غيّر كثير من أبناء العشائر مواقفهم وتوجهاتهم وفقًا للواقع الجديد".
عملياً انقسمت العشائر حسب مناطق النفوذ والسيطرة وظهرت هيئات ومجالس باسم القبائل والعشائر مختلفة الولاء بين النظام وتركيا و"قسد" و"هيئة تحرير الشام".
وبحسب المحامي عبد الكريم الثلجي المهتم بملف العشائر، في حديث مع "النهار"، فإن "هيئة تحرير الشام حاولت احتواء العشائر في إدلب عبر عدة طرق: دعم زعامات العشائر وتقويتهم وتوظيف العشائر في الحرب من خلال تشكيل مجموعات مقاتلة محسوبة على العشائر لخوض المعارك".
ويبدو أن الهيئة بعد تسلّمها الحكم استمرت في السياسة السابقة ولكن على نطاق أوسع أصبح يشمل ثلاث مناطق من مناطق النفوذ الأربع باستثناء المنطقة الواقعة تحت سيطرة قسد في شمال شرق سوريا.
وقد توّجت سياسة الحكومة الانتقالية الحالية مع العشائر بالفزعة التي تصدّرت مشهد الأحداث في السويداء وكادت تغيّر مساره نحو حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
وقال حبيب: "ما يجمع بين النظام السابق والسلطة الحالية هو استغلال العشائر كقوة للدفاع عن الدولة وفق منظورهم، بينما الدولة الحقيقية تقوم على عقد اجتماعي وقوانين".
أما الثلجي فرأى أنه "أصبحت العشائر رقماً صعباً، سياسياً، فالعشائر اليوم تفرض حضورها في أي استحقاق سياسي في سوريا، ولها ثقل عسكري فأغلب أبنائها يحملون السلاح، أما الدولة السورية فتمكنت من استعادة الثقة مع العشائر السورية".
ويستنتج الدكتور صلاح نيوف من فزعة العشائر في السويداء أنها "لم تخرج عن دورها الوظيفي التاريخي والبحث عن المكاسب بمعناها الواسع منذ العهد العثماني".
وإذ أعرب الثلجي عن مخاوفه من غلبة التطرّف على العشائر نتيجة تأثيرات عديدة بعضها خارجي، لاحظ نيوف أن "بيانات العشائر قبل مجازر السويداء الأخيرة تبنّت الخطاب الديني الجهادي".
بدوره، رأى حكمت حبيب أنّ الأحداث الأخيرة تنذر بأن القادم أكثر خطورة، وقد يدخل البلاد في نفق مظلم يقود إلى حرب أهلية. لذلك يجب على إدارة المرحلة الانتقالية أن تتعامل مع الملفات المجتمعية بحذر، وألا تنحاز لطرف ضد آخر، وألا تستغلّ مسألة العشائر كقوة تُوجَّه ضد أبناء جلدتهم.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


ليبانون 24
منذ 2 ساعات
- ليبانون 24
سوريا أمام مفترق طرق جديد.. اكثر من خيار امام الشرع فهل يبدأ بالحكومة؟
كتب موقع " سكاي نيوز عربية": في لحظة حرجة من تاريخ البلاد، تجد سوريا نفسها أمام مفترق طرق جديد، محفوف بالمخاطر السياسية والتعقيدات الأمنية، مع تحذيرات أممية وأميركية من انفجار مرتقب إن لم تُتخذ خطوات حقيقية نحو شمولية الحكم وتوسيع المشاركة السياسية. تشير معلومات خاصة حصلت عليها "سكاي نيوز عربية" إلى أن الرئاسة السورية ، برئاسة الرئيس أحمد الشرع ، تدرس تشكيل حكومة جديدة تمثل الأطياف والمناطق السورية بشكل أفضل، في خطوة تبدو للوهلة الأولى استجابة لضغوط داخلية متصاعدة، لكنها في العمق تعكس مسعى للتناغم مع اتفاقات خارجية بدأت تتبلور، لا سيما مع أطراف غربية. تقول المصادر إن "الحكومة الموسعة" المرتقبة قد تكون جزءًا من صفقة أكبر مع قوى دولية تهدف إلى حفظ استقرار البلاد، وإعادة هيكلة العلاقة مع الكيانات المحلية مثل قوات سوريا الديمقراطية"قسد"، التي تبقى حجر الزاوية في أي ترتيبات سياسية أو أمنية في شمال وشرق البلاد. بيدرسون وباراك: نداءات مختلفة ومصير واحد تحذير جير بيدرسون، مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، من خطر فشل المرحلة الانتقالية وتحوله إلى "تفكك كامل" يعكس قلقًا عميقًا لدى الأمم المتحدة من استمرار الجمود السياسي. بيدرسون شدد على أن الولاء للدولة لا يُفرض بالقوة، بل يُكسب عبر "دولة تمثل وتحمي الجميع". من جانبه، اعتبر المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم باراك، أن المسار الشمولي والتعاون مع "قسد" أمر محوري لأي استقرار دائم، داعيًا إلى حوار وطني يُنتج "دولة واحدة، حكومة واحدة، وجيشًا واحدًا". السويداء على حافة الانفجار على الأرض، تبقى السويداء مثالًا على هشاشة المشهد. قافلة مساعدات رابعة وصلت المحافظة المحاصرة، وسط اتهامات للفصائل الدرزية للحكومة بفرض حصار إنساني ونفي رسمي من دمشق. اللجنة الدولية للصليب الأحمر دقت ناقوس الخطر، مؤكدة أن أكثر من 1200 شخص يقيمون في مراكز إيواء وسط نقص بالغ في الغذاء والدواء. الوضع الإنساني المتدهور في السويداء يعيد إلى الواجهة قضية "الحوكمة المحلية"، ومدى قدرة دمشق على إقناع المكونات المحلية – لا سيما الأقليات – بأن التغيير في الشكل سيقابله تغيير في المضمون. الحكومة المقبلة: حكومة كفاءات أم توازنات طائفية؟ وأكد الباحث السياسي مؤيد غزلان قبلاوي أن "الحكومة السورية الحالية هي حكومة كفاءات بامتياز"، لكنه لم ينكر أن هناك نية لتعزيز التمثيل المنطقي والطائفي، شرط عدم المساس بالوزارات السيادية. وبحسب غزلان، فإن الحكومة تضم وزراء من السويداء، وأكراد، ومسيحيين، ما يشير إلى محاولة واضحة لإرضاء المكونات، ولو ضمن حدود مدروسة، قائلاً: "إذا كان المزيد من التنوع يكفل الانسجام، فلا مانع طالما أن الوزارات السيادية متفق عليها مع الجميع". اللامركزية: خوف من الانفصال أم خطوة نحو التكامل؟ من أبرز الملفات المطروحة على طاولة الحوار السوري – الكردي، هي مسألة اللامركزية، التي لا تزال تثير الجدل. غزلان رأى أن مفهوم اللامركزية "غامض" لدى "قسد"، محذرًا من أنها قد تؤدي إلى الانفصال كما حدث في ليبيا، اليمن، وكاتالونيا. لكنه أقر في المقابل بإمكانية منح صلاحيات محلية محددة تحترم خصوصية الشعب الكردي، مشيرًا إلى ضرورة أن يتم كل ذلك ضمن "الخطاب الوطني"، وليس على أساس عرقي أو طائفي، محذرًا من أن "الطائفية السياسية ستكون معوّقة لأي مشروع وطني". مظلوم عبدي: 3 ساعات من الحوار الحساس أبرز ما استُعرض في البرنامج كان الحديث عن الاجتماع الأخير بين مظلوم عبدي، القائد العام لقوات "قسد"، والرئيس السوري أحمد الشرع. اجتماع دام أكثر من 3 ساعات، تناول "قضايا حساسة جدًا تتعلق بخصوصية الشعب الكردي واندماجه في مؤسسات الدولة"، كما كشف قبلاوي. يؤكد هذا اللقاء – بحسب غزلان – أن لغة الحوار والتفاوض بدأت تحل مكان لغة السلاح، مشددًا على أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه السعودية في المرحلة المقبلة، عبر دعمها الاقتصادي والسياسي للمسار الانتقالي. المجتمع الدولي: شريك لا مفر منه أشار قبلاوي إلى أن إرضاء السوريين لم يعد ممكنًا دون موافقة المجتمع الدولي، معتبرًا أن العلاقة باتت "ثنائية متلازمة". الدول الغربية، بحسب رأيه، أصبحت طرفًا مباشرًا في المعادلة السورية، خصوصًا بعد تدخل فرنسا في المحادثات بين الشمال الشرقي ودمشق، والدور السعودي والإماراتي في دعم المسار الاقتصادي. ما بعد اتفاق 10 آذار: هل تتحقق البنود؟ في إشارة إلى اتفاق 10 آذار، اعترف قبلاوي أن تنفيذه لم يحقق تقدما ملموسًا باستثناء وقف إطلاق النار، داعيًا إلى مزيد من الضغوط الدولية لتسريع العملية السياسية، واستعادة الجغرافيا والثروات إلى الدولة المركزية، في خطوة أولى نحو إعادة بناء التوازن الداخلي. ختم قبلاوي مداخلته بتشديده على أن "لا دولة في التاريخ حققت التوافق والاندماج الوطني في أشهر". في رأيه، حتى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية احتاجت 15 عامًا، وإسبانيا ما بعد فرانكو احتاجت عقدًا ونصف من التوافقات. وبالتالي، يرى أن أي نجاح سوري قادم يتطلب مسارًا طويلًا، يمر بالمخاض السياسي، والتجربة والخطأ، والحوار مع المكونات، ومع المجتمع الدولي. المرحلة الانتقالية في سوريا معلّقة بين احتمالات واعدة بالتغيير، ومخاوف حقيقية من إعادة إنتاج الأزمة. يبقى مستقبل الحكومة السورية المقبلة، وقدرتها على تمثيل الطيف الوطني بكل مكوناته، رهينة ما إذا كانت التغييرات شكلية أم جوهرية، وما إذا كان الحوار سيتحول إلى اتفاق دائم، لا مجرد رسائل تطمينية.


ليبانون 24
منذ 5 ساعات
- ليبانون 24
آخر تقرير.. "تغييرات" ستطال مناصب حساسة في سوريا!
ذكر تقرير نشره موقع "إرم نيوز" أنَّ الحكومة السورية بصدد إجراء تغييرات واسعة النطاق ستطال عدداً كبيراً من المناصب في الدولة، بما في ذلك بعض الوزراء. وأوضح التقرير أن هذه التغييرات ستطالُ قيادات سياسية وأمنية تهدف إلى تعزيز الكفاءة الادارية للدولة في المرحلة الانتقالية التي تعيشها البلاد بعد سقوط النظام السابق في كانون الأول 2024. ويقول التقرير أنَّ التغييرات المنتظرة في المناصب القيادية في سوريا تستهدف تصحيح بعض الأخطاء التي حصلت في التعيينات وتعزيز الثقة الداخلية والخارجية بأعضاء الحكومة. ونقل التقرير عن مصادر قولها إن التغييرات تعكس رغبة الحكومة في تحسين الأداء الحكومي، خاصة بعد الاتهامات بأنها شملت تعيين شخصيات في مناصب حساسة من طيف واحد محسوبة في غالبيتها على " هيئة تحرير الشام ؛ ما أثار مخاوف من هيمنة فصائلية على أركان الدولة السورية الجديدة. وأوضحت المصادر أن التغييرات تأتي استجابة للتحديات الاقتصادية؛ إذ يسعى الرئيس السوري أحمد الشرع لإصلاح القطاعات المدمرة مثل الطاقة والصناعة لجذب الاستثمارات بعد رفع بعض العقوبات التي كانت مفروضة على سوريا. وأشارت المصادر، إلى أن التغييرات المرتقبة تسعى لإعادة التوازن الاجتماعي عبر تمثيل أوسع لمكونات المجتمع السوري خاصة بعد التوترات الطائفية التي شهدتها سوريا خلال الفترة الأخيرة، كما قد تكون هذه التغييرات تستهدف إثبات جدية السلطة في عملية الإصلاح انسجاماً مع الضغوط الدولية بهذا الخصوص.


شبكة النبأ
منذ 14 ساعات
- شبكة النبأ
انتقام الجغرافيا
الفرق بين إدراك أهمية الجغرافيا في صياغة التاريخ وخطر المغالاة في تأكيد هذه الحقيقة ذاتها؟ هي «الاحتمالية» بمعنى أننا، في تركيزنا الحالي على الجغرافيا، نتمسك بحتمية جزئية أو مترددة، وهي التي تُقر بالاختلافات الواضحة بين الجماعات والأماكن، لكنها لا تُفرط في التبسيط، وتترك كثيرًا من الاحتمالات مفتوحة... «ما العمل؟ كيف يمكننا شطر الفرق بين إدراك أهمية الجغرافيا في صياغة التاريخ وخطر المغالاة في تأكيد هذه الحقيقة ذاتها؟» عزَّزت كارثة السنوات الأولى من التدخل في العراق مقولة الواقعيين، والتي استُخف بها من قبل المثاليين في تسعينيات القرن العشرين، بأن موروثات الجغرافيا، والتاريخ، والثقافة تفرض بالفعل حدودًا لما يمكن تحقيقه في أي مكان بعينه. على أي حال، ينبغي لمن كانوا معارضين للتدخل في العراق أن يحذروا من المغالاة في استخدام تشبيه فيتنام؛ لأن ذلك القياس قد يمثِّل دعوة إلى الانعزالية isolationism، بقدر دعوته إلى التهدئة نفسها، وإلى الإجحاف السهل الناتج عن التوقعات المتدنية، على حدِّ تعبير الباحث الشرق أوسطي فؤاد عجمي. لنتذكر أن مؤتمر ميونخ وقع بعد عشرين عامًا فقط من أحداث الموت الجماعي التي شهدتها الحرب العالمية الأولى؛ مما يجعل السياسيين الواقعيين مثل نيفيل تشامبرلين Chamberlain شديدي العزم، على نحوٍ مفهوم، على تجنُّب نشوب صراع آخر. وتتسم هذه الحالات بكونها مناسبة تمامًا لتنفيذ مكائد دولة استبدادية لا تعرف مثل هذه المخاوف: ألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانية. تتعلق فيتنام بالحدود؛ أما ميونيخ فتتعلق بالتغلب عليها. من الممكن أن يكون كلٌّ من القياسَين خطرًا في حدِّ ذاته. فقط عندما يُمنح كلاهما القدر نفسه ستمتلك السياسة الصحيحة أفضل فرصة للظهور. وبالنسبة إلى الحكماء من واضعي السياسات، فعلى الرغم من علمهم بأوجُه قصور أمَّتهم، فهم يعلمون أن فن السياسة يتعلق بالعمل بقرب الحافة بقدر الإمكان، ولكن من دون أن نخطو إلى حافة الهاوية.١ وبعبارةٍ أخرى، فإن الواقعية الحقيقية هي فنٌّ أكثر منها علمًا، تؤدِّي فيه الحالة المزاجية لرجل الدولة دورًا لا يقل أهمية عن دور عقله. وفي حين أن جذور الواقعية تعود إلى ٢٤٠٠ سنة؛ أي إلى رؤى ثوكوديديس Thucydides الخالية من الوهم حول السلوك الإنساني في الحرب البيلوبونيسية، ربما ظهر التلخيص الأكثر شمولًا للواقعية الحديثة في عام ١٩٤٨م، من قِبل هانز ج. مورغنثاو Morgenthau في كتابه المعنون «السياسة بين الأمم: الصراع على السلطة والسلام». اسمحوا لي بأن أتوقف لحظة هنا عند هذا الكتاب، وهو ثمرة جهد لاجئ ألماني كان يدرِّس في جامعة شيكاغو، من أجل تمهيد الطريق لمناقشتي الأوسع حول الجغرافيا؛ لأن الواقعية ضرورية للتقدير السليم للخريطة، بل إنها في واقع الأمر تقودنا إلى ذلك مباشرة. يبدأ مورغنثاو حجته بالإشارة إلى أن العالم يمثِّل «نتيجةً للقوى الكامنة في الطبيعة البشرية»، وإلى أن الطبيعة البشرية، كما أشار إليها ثوكوديديس، تتحرك بدافع من الخوف phobos، والمصلحة الذاتية kerdos، والشرف doxa. كتب مورغنثاو قائلًا: «من أجل تحسين العالم، يجب على المرء أن يعمل مع هذه القوى، وليس ضدها.» وهكذا، فإن الواقعية تقبل المواد البشرية المتاحة، مهما كانت درجة نقصان هذه المواد عن الكمال. «وهي تستند إلى سابقة تاريخية بدلًا من مبادئ مجردة وتهدف إلى تحقيق الشر الأهون بدلًا من الخير المطلق.» وعلى سبيل المثال، فإن الواقعي ينظر إلى تاريخ العراق نفسه، كما يتَّضح من خلال خرائطيته cartography وكوكبات المجموعات العرقية المكوِّنة له، وليس من منظور التعاليم الأخلاقية للديمقراطية الغربية، لمعرفة أي نوع من المستقبل سيكون العراق قادرًا على تحقيقه بمجرد سقوط نظام شمولي. وفي نهاية المطاف؛ فالنوايا الحسنة ليس لها تأثير يُذكر في النتائج الإيجابية، كما يرى مورغنثاو. كان تشامبرلين، كما يشرح لنا، مدفوعًا باعتبارات قوة الشخصية بصورةٍ أقل من معظم السياسيين البريطانيين الآخرين، وسعى بصدق إلى ضمان تحقيق السلام والسعادة لجميع الأطراف المعنية. لكن سياساته جلبت معاناة لا توصف للملايين. أما ونستون تشرشل Churchill، من الناحية الأخرى، فقد كان —في الواقع— مدفوعًا بالاعتبارات المجردة للقوة الشخصية والوطنية، لكن سياساته أحدثت تأثيرًا معنويًّا منقطع النظير. (كان بول وولفويتز Wolfowitz، نائب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، مدفوعًا بأفضل النوايا في تأييده لغزو العراق؛ إذ كان يظن أنه سيؤدي إلى تحسين حالة حقوق الإنسان هناك بصورةٍ غير محدودة، لكن تصرفاته أدَّت إلى عكس ما نوى.). وعند تعميم هذه النقطة، فمجرد كون أمةٍ ما ديمقراطيةً لا يعني أن سياستها الخارجية سيتضح بالضرورة كونها أفضل أو أكثر استنارة من نظيرتها في دولة دكتاتورية. يقول مورغنثاو: إن «الحاجة إلى حشد العواطف الشعبية لا يسعها إلا إضعاف عقلانية السياسة الخارجية نفسها». إن الديمقراطية والأخلاق ليستا ببساطةٍ مترادفتَين. ويستطرد مورغنثاو قائلًا: «تنساق جميع الأمم —كما كان عدد قليل منها على استعداد لمقاومة هذا الإغراء لفترة طويلة— لتغليف طموحاتها وأفعالها الخاصَّة بالأغراض الأخلاقية للكون. إن معرفة أن الأمم تخضع للقانون الأخلاقي هو شيء، أما ادعاء المعرفة على وجه اليقين بما هو الخير والشر في العلاقات بين الدول فهو شيء آخر تمامًا.». وبالإضافة إلى ذلك، يجب على الدول أن تعمل ضمن كون أخلاقي أكثر تقييدًا بكثير مما يعمل خلاله الأفراد. وهنا كتب مورغنثاو: «قد يقول الفرد لنفسه … لتتحقق العدالة، حتى لو هلك العالم … لكن الدولة لا تملك الحق في أن تقول ذلك باسم الذين هم تحت رعايتها.»٢ إن الفرد لديه مسئولية تجاه أحبائه وحدهم، وهم الذين سيغفرون له أخطاءه ما دامت نواياه جيدة. لكن الدولة يجب أن تحمي رفاهية الملايين من الغرباء الموجودين ضمن حدودها، والذين لن يكونوا متفهِّمين كثيرًا في حالة تطبيق سياسة فاشلة. وبالتالي، يجب أن تكون الدولة أكثر دهاء بكثير من الفرد. إن الطبيعة البشرية —من منظور بانثيون pantheon ثوكوديديس المكوَّن من الخوف، والمصلحة الذاتية، والشرف— تدعم عالمًا من الصراع والإكراه المتواصل. ولأن الواقعيين مثل مورغنثاو يتوقعون نشوب الصراع ويدركون أنه لا يمكن تجنُّبه، فهم أقل عرضةً من المثاليين لأن يبالغوا في الاستجابة له، فهم يدركون أن المَيل إلى الهيمنة هو عنصر طبيعي من جميع التعاملات البشرية، ولا سيما التعاملات بين الدول. وهنا يقتبس مورغنثاو مقولة جون راندولف أوف رونوك Roanoke: إن «القوة وحدها يمكن أن تحدَّ من القوة.» وبالتالي، لا يعتقد الواقعيون أن المؤسسات الدولية في حدِّ ذاتها تمتلك أهمية حاسمة بالنسبة إلى السلام؛ لأن هذه المؤسسات هي مجرد انعكاس لتوازن القوى بين الدول الأعضاء المنفردة، والتي تتخذ القرار، في نهاية المطاف، في القضايا المتعلقة بالسلم والحرب. ومع ذلك، فإن منظومة توازن القوى هي في حدِّ ذاتها — وبحكم التعريف — غير مستقرة، وفقًا لمورغنثاو: فلأن كل أمة؛ كونها تخشى أن تخطئ في حسابات توازن القوى، يجب أن تسعى إلى تعويض أخطائها المُدرَكة بأن تهدف باستمرارٍ إلى تحقيق التفوق من حيث القوة. وهذا هو بالتحديد ما أشعل الحرب العالمية الأولى، عندما سعت كلٌّ من النمسا تحت حكم آل هابسبورغ، وألمانيا تحت حكم الإمبراطور فلهلم، وروسيا القيصرية إلى ترجيح كفة ميزان القوى لمصلحتها، وأخطأت في حسابات ذلك على نحوٍ خطير. كتب مورغنثاو أنه، في نهاية المطاف، فإن وجود ضمير أخلاقي عالمي — ينظر إلى الحرب باعتبارها «كارثة طبيعية» وليس امتدادًا طبيعيًّا للسياسة الخارجية لبلد ما — هو وحده ما يقلل من فرص وقوع الحرب.٣ عقب أعمال العنف في العراق ما بين عامَي ٢٠٠٣ و٢٠٠٧م ادَّعينا جميعًا لبعض الوقت أننا صرنا واقعيين، أو هذا ما قلناه لأنفسنا. ولكن بالنظر إلى تعريف مورغنثاو إلى الواقعية realism، فهل هذا صحيح حقًّا؟ على سبيل المثال، هل كان معظم مَن عارضوا الحرب على العراق على أسس واقعية يرون أيضًا أنه ليست هناك بالضرورة علاقة بين الديمقراطية والأخلاق؟ كما أن مورغنثاو، لو تذكَّرنا، الذي عارض حرب فيتنام على أساس كل من الأخلاق والمصلحة الوطنية، هو المفكر الواقعي الذي نستريح إليه جميعًا أكثر من غيره. وباعتباره أكاديميًّا ومفكرًا طوال حياته، لم يكن أبدًا متعطشًا للقوة والمكانة كما أظهر غيره من الواقعيين، مثل كيسنغر وسكوكروفت Scowcroft. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أسلوبه المقيَّد في الكتابة، والذي يتَّسم بكونه عديم النكهة تقريبًا، يفتقر إلى حدَّة كيسنغر أو صامويل هنتنغتون Huntington. والحقيقة هي أن الواقعية، دونما إنكار، حتى على طريقة مورغنثاو، يُفترض أن تصيب المرء بالضيق. يدرك الواقعيون أن العلاقات الدولية يحكمها واقع بائس وأكثر محدودية من ذلك التي ينظم الشئون الداخلية. ولأنه في حين يتحدد نظام الحكم المحلي لدينا من قبل القوانين، وذلك لوجود حكومة شرعية تحتكر استخدام القوة، فإن العالم ككل لا يزال في حالة الطبيعة، التي لا يوجد فيها طاغوت (لوياثان Leviathan) هوبز لمعاقبة الظالمين.٤ وفي الواقع، تحْتَ القشرة الخارجية للحضارة مباشرة تكمن أتعس قوى الشهوات البشرية؛ وبالتالي فإن السؤال المحوري في الشئون الخارجية بالنسبة إلى الواقعيين هو: من يستطيع أن يفعل ماذا لمن؟٥ قالت لي ذات مرة أشلي ج. تيليس Tellis، وهي زميل بارز في مؤسسة كارنيغي في واشنطن: «إن الواقعية غريبة عن التقاليد الأمريكية؛ فهي غير أخلاقية عن عمد، حيث تركِّز على المصالح وليس على القيم في عالم وضيع. لكن الواقعية لا تموت أبدًا، لأنها تعكس بدقة كيف تتصرف الدول في الواقع، خلف واجهة خطابها المبني على القيم.». يخلع الواقعيون على النظام قيمة أعلى من الحرية؛ فبالنسبة إليهم لا تُصبح هذه الأخيرة مهمةً إلا بعد أن يترسخ الأول. وفي العراق، اتَّضح أن النظام، حتى وفقًا للأبعاد الشمولية، أكثر إنسانية من حالة عدم النظام التي أعقبت سقوطه. ولأن الحكومة العالمية ستبقى مراوغة إلى الأبد، فباعتبار أنه لن يكون هناك اتفاق جوهري على سبل تحسين الظروف الاجتماعية، فمن المقدَّر على العالم أن تحكمه أنواع مختلفة من الأنظمة، وبواسطة النظم القبلية والعرقية في بعض الأماكن. اعتقد الواقعيون بدايةً من الإغريق والصينيين القدماء وحتى الفيلسوف الفرنسي الذي عاش في منتصف القرن العشرين، ريمون آرون Aron، ومعاصره الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت Gasset، أن الحرب متأصلة بشكلٍ طبيعي في انقسام البشرية إلى دول وغيرها من التجمعات.٦ والحقيقة أن السيادة والتحالفات نادرًا ما تحدث في خواء؛ بل تنشأ عن خلافات مع الآخرين. وفي حين يشدِّد مؤيدو العولمة على ما يوحد الجنس البشري، يركز الواقعيون التقليديون على ما يفرقنا. وهكذا نأتي إلى الخريطة؛ والتي هي التمثيل المكاني للتقسيمات البشرية — وهي موضوع كتابات الواقعيين في المقام الأول. إن الخرائط لا تقول الحقيقة دائمًا، فهي غالبًا ما تكون شخصانية subjective بقدر أي قطعة من النثر. إن الأسماء الأوروبية لمساحات واسعة من أفريقيا تُظهر، على حسب تعبير الجغرافي البريطاني الراحل جون براين هارلي Harley، كيف يمكن للخرائطية أن تكون «خطابًا للقوة»، في هذه الحالة؛ تلك الخاصَّة بالإمبريالية الكامنة. تميل إسقاطات مركاتور Mercator projections إلى إظهار أوروبا أكبر مما هي عليه في الحقيقة، كما توحي الألوان الزاهية للغاية للبلدان المبينة على الخريطة بوجود سيطرة موحدة على المناطق النائية hinterlands، على الرغم من أن هذا ليس هو الحال دائمًا.٧ تتَّسم الخرائط بكونها مادية materialistic، وبالتالي فهي محايدة أخلاقيًّا. وهي تمثِّل تاريخيًّا جزءًا من التعليم البروسي أكثر بكثير من نظيره البريطاني.٨ إن الخرائط، بعبارةٍ أخرى، يمكن أن تكون أدوات خطرة؛ ومع ذلك فهي بالغة الأهمية من أجل التوصل إلى أي فهم للسياسة العالمية. كتب مورغنثاو قائلًا: «على الأساس المستقر نسبيًّا للجغرافيا، ينشأ هرم القوة الوطنية.»٩ لأن الواقعية، في جوهرها، تتعلق بالاعتراف بالحقائق الأشد حدَّة، وإزعاجًا، وحتمية؛ تلك المتعلقة بالجغرافيا. تمثِّل الجغرافيا ستارًا خلفيًّا لتاريخ البشرية نفسه. وعلى الرغم من التحريفات التي انطوى عليها رسم الخرائط، فمن الممكن أن تكون كاشفةً عن النوايا البعيدةِ المدى لحكومةٍ ما بنفس قدر مَجالسها السِّرية.١٠ إن موقع دولةٍ ما على الخريطة هو أوَّل ما يحدِّدها، بصورةٍ أكثر حتى من الفلسفة الحاكمة لها. إن الخريطة، كما يشرح هالفورد ماكيندر Mackinder، تنقل «في لمحة واحدة سلسلةً كاملة من التعميمات». فالجغرافيا، كما أضاف، تجسِّر الفجوة بين الفنون والعلوم، وتربط دراسة التاريخ والثقافة بالعوامل البيئية، وهو ما يهمله المتخصصون في العلوم الإنسانية في بعض الأحيان.١١ وفي حين أن دراسة الخريطة، أيِّ خريطة، قد تمثِّل تجربةً ممتعة ورائعة إلى ما لا نهاية في حدِّ ذاتها، فإن الجغرافيا، مثل الواقعية نفسها، يصعب تقبُّلها. تمثِّل الخرائط دحضًا لنفس المفاهيم المتعلقة بمساواة ووحدة الجنس البشري؛ لأنها تذكرنا بجميع البيئات المختلفة للأرض، والتي تجعل البشر غير متساوين ومفككين على نحوٍ عميق وبكثير جدًّا من الطرق، مما يؤدِّي إلى الصراع، الذي تعيش عليه الواقعية على وجه الحصر تقريبًا. خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قبل وصول العلوم السياسية باعتبارها تخصصًا أكاديميًّا، كانت الجغرافيا علمًا محترمًا، وإن لم يتخذ شكلًا رسميًّا على الدوام، كثيرًا ما يتم خلاله التفكير في السياسة، والثقافة، والاقتصاد من حيث علاقتها بخريطة التضاريس. ووفقًا لهذا المنطق المادي، تكتسب الجبال والقبائل أهمية أكبر من عالم الأفكار النظرية؛ أو، بالأحرى، فإن الجبال والرجال الذين يخرجون منها تمثِّل الدرجة الأولى من الواقع؛ أما الأفكار، مهما كانت باعثة على السمو ومُعزِّزة، فهي تأتي في المرتبة الثانية. تتمثَّل حجتي في أنه من خلال تبنِّي الواقعية في خضمِّ الحرب على العراق، مهما كانت صعوبة قيامنا بذلك — ومهما قَصُر وقت فعلنا لذلك — فما تبنَّيناه بالفعل من دون أن ندري كان الجغرافيا، إن لم يكن بصورةٍ مُعلنة، بالمعنى الإمبريالي البروسي للكلمة، ثم بالمعنى الفيكتوري والإدواردي أقل قسوة. كان انتقام الجغرافيا هو ما مثَّل تتويج الدورة الثانية من حقبة ما بعد الحرب الباردة، ليتبع هزيمة الجغرافيا من خلال القوة الجوية وانتصار مبدأ التدخلات الإنسانية humanitarian interventionism الذي ميَّز نهاية الدورة الأولى. وبالتالي جرت إعادتنا إلى الأساسيات الدنيا للوجود البشري، حيث كان ما تقبَّلناه، بدلًا من التحسُّن المطرد للعالم الذي تصورناه في وقت سابق، هو الكفاح القادم من أجل البقاء، وبالقياس، القيود الشديدة التي كبَّلتنا الجغرافيا بها في أماكن مثل بلاد ما بين النهرين وأفغانستان. ومع ذلك فبداخل هذا القبول الحزين، هناك بصيص من الأمل: فعندما نُصبح أكثر خبرة في قراءة الخرائط، يمكننا — بمساعدة التكنولوجيا، كما يشهد الربيع العربي — أن نوسِّع بعض الحدود التي تفرضها الخريطة. وهذا هو الهدف من دراستي؛ أن نمتلك تقديرًا للخريطة بحيث لا نحتاج، على نحوٍ مخالف للتوقعات البديهية، إلى أن نظل دائمًا خاضعين لحدودها. إن ضيق الأفق ليس وحده هو ما يؤدِّي إلى الانعزالية، لكن الإفراط في استخدام الموارد هو ما يسبب ردة فعل انعزالية. لكننا نحتاج أولًا إلى الاعتراف بالوضع المركزي ذاته للتخصص الجغرافي. «الطبيعة تفرض؛ والإنسان ينفِّذ»، كما كتب الجغرافي الإنجليزي و. غوردون إيست East. من المؤكد أن أفعال الإنسان تكون مقيَّدة بالبارامترات parameters التي تفرضها الجغرافيا.١٢ لكن هذه الملامح contours تتَّسم بكونها فضفاضة للغاية، بحيث تمتلك الفاعلية البشرية أكثر من مساحة كافية للمناورة. ولأن العرب، كما تبيَّن، يمكنهم تنفيذ الممارسات الديمقراطية مثل أي جماعة أخرى، فحتى الترتيب المكاني للقبائل الليبية ولسلاسل الجبال اليمنية سيستمر في لعب دور حاسم في التطور السياسي في تلك البلدان. يقتصر دور الجغرافيا على التنوير، وليس التحديد. وبالتالي، فإن الجغرافيا ليست مرادفًا للقدرية؛ لكنها، مثل توزيع القوة الاقتصادية والعسكرية ذاتها، تشكِّل عائقًا رئيسًا أمام الأفعال التي تقوم بها الدول؛ ومحرِّضًا لها. وفي العام ١٩٤٢م، كتب الأستاذ بجامعة ييل، نيكولاس ج. سبيكمان Spykman، وهو منظِّر استراتيجي أمريكي-هولندي بارز من حقبة أوائل الحرب العالمية الثانية، أن «الجغرافيا لا تجادل؛ فهي ما هي عليه ببساطة.» ويستطرد قائلًا: الجغرافيا هي العامل الأكثر أهميةً في السياسة الخارجية للدول؛ لأنها أكثرها ديمومة. يأتي الوزراء ويذهبون، وحتى الطغاة يموتون، لكن السلاسل الجبلية تظل راسخة في مكانها. إن جورج واشنطن Washington، الذي دافع عن ثلاث عشرة ولاية بجيش غير نظامي، قد خلفه فرانكلين د. روزفلت Roosevelt الذي كانت تحت تصرفه موارد قارة بأسرها، لكن المحيط الأطلسي استمر في فصل أوروبا عن الولايات المتحدة، كما أن موانئ نهر سانت لورنس ما زالت تُغلق بسبب الجليد في فصل الشتاء. أما ألكسندر الأول Alexander I، وهو قيصر جميع الأراضي الروسية، فقد أورث جوزيف ستالين Stalin، الذي كان عضوًا بسيطًا في الحزب الشيوعي، ليس فقط سلطته ولكن كفاحه الذي لا ينتهي للوصول إلى البحر، في حين ورث ماجينو Maginot وكليمنصو Clemenceau من قيصر روما والملك لويس الرابع عشر قلقهما على الحدود الألمانية المفتوحة.١٣ ويمكن للمرء أن يضيف، أنه حتى على الرغم من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فلا يزال المحيط الأطلسي مهمًّا. وفي الواقع، أن المحيط الأطلسي هو ما يعلن عن سياسة خارجية وعسكرية مختلفة للولايات المتحدة بالمقارنة مع تلك الموجودة في أوروبا. وفي السياق نفسه، يمكننا القول بأن روسيا، حتى يومنا هذا، لا تزال تمثِّل قوة برِّية غير آمنة ومترامية الأطراف، وهي التي كانت ضحية لغزوات منذ ما قبل تلك التي شنتها جحافل المغول في القرن الثالث عشر، التي لا تمتلك من الحلفاء سوى الزمن، وبُعد المسافة، والطقس، كما تتوق إلى وصولٍ أكثر إلى البحر. وبسبب عدم وجود عوائق جغرافية خطيرة بين أوروبا ومنطقة الأورال Urals، فإن أوروبا الشرقية، وعلى الرغم من انهيار الحدود المصطنعة المتمثِّلة في جدار برلين، لا تزال تتعرض للتهديد من قِبل روسيا، كما كانت كذلك منذ قرون. ومن الصحيح أيضًا أن القلق على الحدود الألمانية كان يمثِّل مصدر إزعاج لفرنسا — كما كان كذلك في زمن لويس الرابع عشر — حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما عملت الولايات المتحدة أخيرًا باعتبارها ضامنًا للسلام في أوروبا. وفي الواقع، أن الجغرافيا تمثِّل مقدمة لمسار الأحداث الإنسانية ذاتها. وليس من قبيل المصادفة أن الحضارة الأوروبية لها جذور مهمة في جزيرة كريت وجزر كيكلادِس Cycladic islands اليونانية؛ فالأولى، باعتبارها «شدفة منفصلة عن أوروبا»، هي أقرب نقطة أوروبية إلى حضارة مصر، كما أن الأخيرة هي أقرب نقطة إلى حضارة آسيا الصغرى.١٤ كان كلاهما، بسبب وضعهما باعتبارهما جزرًا، محميًّا طوال قرون ضد ويلات الغزاة؛ مما سمح لهما بالازدهار. تمثِّل الجغرافيا حقائق الشئون الدولية ذاتها، وهي التي تبلغ من الأساس قدرًا يجعلنا نتعامل معها كأمر مفروغ منه. ماذا عساه أن يمثِّل حقيقة أكثر محورية للتاريخ الأوروبي من كون ألمانيا قوة قارِّية وبريطانيا العظمى جزيرة؟ تواجه ألمانيا كلًّا من الشرق والغرب في غياب سلاسل جبلية تحميها، مما يصيبها بالعديد من العلل: من السياسة العسكرية إلى النزعة الناشئة إلى السلم، من أجل أن تتكيف مع موقعها الخطير. أما بريطانيا، من الناحية الأخرى، فلكونها مؤمَّنة ضمن حدودها، مع توجُّه محيطي oceanic orientation، فقد تمكَّنت من تطوير نظام ديمقراطي قبل جيرانها، وإقامة علاقة خاصَّة عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة، التي تتشارك معها اللغة نفسها. كتب ألكسندر هاملتون Hamilton أنه لو لم تكن بريطانيا جزيرة، لكانت مؤسستها العسكرية بنفس عجرفة مثيلاتها في القارة الأوروبية، وأن بريطانيا كانت «في جميع الاحتمالات» ستصبح «ضحية السلطة المطلقة لرجل واحد».١٥ ومع ذلك فما بريطانيا إلا جزيرة قريبة من أوروبا القارية؛ وبالتالي ظلت تعاني خطر الغزو من خلال معظم تاريخها؛ مما منحها اهتمامًا استراتيجيًّا خاصًّا على مدى قرون بسياسة فرنسا والدول المنخفضة الواقعة على الشاطئ الآخر من القنال الإنجليزي وبحر الشمال.١٦ لماذا اكتسبت الصين أهمية أكبر من البرازيل في نهاية المطاف؟ بسبب الموقع الجغرافي: فحتى لو افترضنا أنها تحظى بنفس المستوى من النمو الاقتصادي مثل الصين وأن سكانها متساوون في العدد، فإن البرازيل لا تمتلك خطوط الاتصال البحرية الرئيسية التي تربط القارات والمحيطات مثلما تفعل الصين؛ كما أنها لا تقع أساسًا في منطقة معتدلة المناخ مثل الصين، التي تمتلك طقسًا منعشًا وأكثر خلوًّا من الأمراض. تُطل الصين على غرب المحيط الهادي وتمتلك عمقًا بريًّا يصل إلى آسيا الوسطى الغنية بالنفط والغاز الطبيعي. أما البرازيل فتمتلك أفضلية نسبية أقل؛ فهي تقع معزولة في أمريكا الجنوبية، منبوذة جغرافيًّا عن مساحات اليابسة الأخرى.١٧ ولماذا ظلت أفريقيا بمثل هذا الفقر؟ على الرغم من أن أفريقيا هي ثاني أكبر قارة من حيث الحجم، حيث تبلغ مساحتها خمسة أضعاف مساحة أوروبا، فإن طول سواحلها الواقعة جنوبيَّ الصحراء الكبري يزيد قليلًا على ربع طول السواحل الأوروبية. وبالإضافة إلى ذلك، يفتقر هذا الساحل إلى وجود العديد من الموانئ الطبيعية الجيدة، باستثناء موانئ شرق أفريقيا التي تشهد حركة تجارية قوية مع بلدان الجزيرة العربية والهند. هناك عدد قليل من الأنهار الاستوائية في أفريقيا التي تصلح للملاحة من البحر، حيث تصب من السهول الداخلية الواسعة إلى السهول الساحلية عبر سلسلة من الشلالات والمنحدرات النهرية، بحيث تظل أفريقيا الداخلية معزولة بصفةٍ خاصَّة عن الساحل.١٨ وبالإضافة إلى ذلك، فقد أعاقت الصحراء الكبرى الاتصال البشري من جهة الشمال طوال قرون كثيرة للغاية، بحيث لم تتعرض أفريقيا إلا قليلًا لحضارات البحر المتوسط الكبرى في العصور القديمة، وما بعدها. ثم هناك الغابات الضخمة الكثيفة، المنتشرة على جانبَي خط الاستواء، من خليج غينيا إلى حوض الكونغو، والواقعة تحت تأثير الأمطار الغزيرة والحرارة الحارقة.١٩ ليست هذه الغابات بالصديقة للحضارة، كما أنها ليست مواتية للحدود الطبيعية؛ وبالتالي فإن الحدود التي أقامها المستعمرون الأوروبيون كانت، بالضرورة، حدودًا مصطنعة. لقد منح العالم الطبيعي أفريقيا كثيرًا مما يجب عليها أن تجابهه في طريقها إلى الحداثة. إذا ألقيت نظرة فاحصة على قائمة أضعف الاقتصادات في العالم، فستلاحظ النسبة المرتفعة للبلدان غير الساحلية.٢٠ لاحظ كيف أن البلدان الاستوائية (تلك التي تقع بين خطَّي العرض ٢٣ و٤٥ درجة شمالًا وجنوبًا) عادة ما تكون فقيرة، كما أن معظم البلدان ذات الدخل المرتفع تقع في مناطق خطوط العرض الوسطى والعليا. لاحظ أيضًا كيف أن المناطق المعتدلة، الواقعة بين الشرق والغرب في أوراسيا هي أفضل حالًا من بلدان أفريقيا جنوبيَّ الصحراء الكبرى، والواقعة بين الشمال والجنوب؛ لأن انتشار التكنولوجيا يعمل على نحوٍ أفضل بكثير عبر خطوط العرض المشتركة، حيث تكون الظروف المناخية متشابهة؛ مما يسمح بالتالي للابتكارات المتحققة في مجال الاعتناء بالنباتات وتدجين الحيوانات بالانتشار بسرعة. وليس من قبيل الصدفة أن أفقر المناطق في العالم تميل إلى أن توجد حيث تدعم الجغرافيا، عن طريق ملاءمة التربة، الكثافة السكانية العالية، ولكن ليس النمو الاقتصادي، بسبب بُعد المسافة عن الموانئ ورءوس السكك الحديدية. وتُعد وسط الهند وأفريقيا الداخلية من أفضل الأمثلة على ذلك.٢١ وفي تلخيص مذهل للحتمية الجغرافية، أشار الجغرافي الراحل بول ويتلي Wheatley إلى أن «اللغة السنسكريتية تعرضت للتجميد حتى اقتصر استخدامها على نطاق لا يزيد عن خمسمائة متر»؛ وبالتالي كانت الثقافة الهندية في جوهرها ظاهرة متعلقة بالأراضي المنخفضة.٢٢ هناك العديد من الأمثلة الأخرى على الكيفية التي أثرت بها الجغرافيا على نحوٍ ثري على مصير الشعوب، بطرقٍ خفيَّة وواضحة على حدٍّ سواء، سأعرض المزيد منها في سياق هذه الدراسة. ولكن قبل أن نستكمل مناقشتنا، اسمحوا لي بأن أتناول مثال الولايات المتحدة؛ لأن الجغرافيا هي ما ساعد على ديمومة الازدهار الأمريكي، وهي التي قد تكون مسئولة في نهاية المطاف عن الإيثار الأمريكي الإنساني الجامع panhumanistic. وكما لاحظ جون آدامز Adams، «ليست هناك عناية إلهية خاصَّة للأمريكان، كما أن طبيعتهم مماثلة لطبيعة غيرهم.»٢٣ ويوضح المؤرخ جون كيغان Keegan الأمر بقوله إن أمريكا وبريطانيا لا يمكنهما امتلاك زمام الريادة في مجال الحريات سوى لأن البحر حماهما «من أعداء الحرية الملتصقين بالأرض». إن النزعة العسكرية والبراغماتية لأوروبا القارية خلال منتصف القرن العشرين، والتي طالما شعر الأمريكان بتفوقهم عليها، كانت نتيجة للجغرافيا، وليس الملامح الطبيعية. ظلت الدول والإمبراطوريات المتنافسة ملاصقة بعضها لبعض ضمن قارة مزدحمة. ولم يكن في وسع الدول الأوروبية مطلقًا أن تنسحب إلى ما وراء البحار في حالة وقوع خطأ في حساباتها العسكرية. وبالتالي، فلم يكن من الممكن أن ترتكز سياساتها الخارجية على الأخلاقيات الأممية، كما أنها ظلت مسلَّحة بشكلٍ جيد بعضها في مواجهة بعض حتى سقطت فريسةً للهيمنة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية.٢٤ لم يكن وجود المحيطَين وحده هو ما منح الأمريكان ترف مذهبهم المثالي، بل إن هذين المحيطَين منحا أمريكا وصولًا مباشرًا إلى اثنين من الشرايين الرئيسية للسياسة والتجارة في العالم: أوروبا عبر المحيط الأطلسي وشرق آسيا عبر المحيط الهادي، تقع بينهما ثروات القارة الأمريكية.٢٥ ومع ذلك فهذان المحيطان نفساهما، عن طريق عزل أمريكا عن القارات الأخرى بآلاف الأميال، هما ما منحا أمريكا سلالة خبيثة من الانعزالية التي استمرت حتى يومنا هذا. وفي الواقع، باستثناء ميدان نفوذها الخاص في الأمريكتين، فقد قاومت الولايات المتحدة بحماسٍ سياسات القوى العظمى لما يقرب من مائة سنة: فحتى انهيار منظومة الدول الأوروبية في العام ١٩٤٠م فشل في جرِّ أمريكا إلى الحرب العالمية الثانية، فقد احتاج الأمر إلى شن هجوم على بيرل هاربور في العام ١٩٤١م لكي يحدث ذلك. وفي أعقاب الحرب، انسحبت الولايات المتحدة مرةً أخرى من العالم، حتى اضطرها عدوان الاتحاد السوفييتي وهجوم كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية إلى إعادة قواتها مرةً أخرى إلى أوروبا وآسيا.٢٦ ومنذ نهاية الحرب الباردة، تأرجحت نخب السياسة الخارجية الأمريكية بين شبه الانعزالية وبين سياسة التدخل من منظور المثاليين: والتي ترجع جذور كلٍّ منهما إلى المحيطَين. كتب عالم جامعة جونز هوبكنز ياكوب ج. غريجل Grygiel أن الجغرافيا «قد نُسيت، لكنها لم تُهزم».٢٧ أما كولن س. غراي Gray، الذي عمل لفترة طويلة كمستشار للحكومتين البريطانية والأمريكية حول الاستراتيجية العسكرية، فكتب قائلًا: إن «إلغاء التكنولوجيا للجغرافيا يتضمن ما يكفي تمامًا لأن يُطلق عليه اسم مغالطة معقولة». لا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، فكما رأينا في العراق وأفغانستان، «يتطلَّب ممارسة النفوذ أو السيطرة المستمرة»، على حدِّ تعبير غراي، «الوجود المادي لأفراد مسلَّحين في المنطقة المعنية»، بمعنى أن أي شخص يعتقد حقًّا بأن الجغرافيا قد تضاءلت أهميتها بصورةٍ محورية هو شديد الجهل بالخدمات اللوجستية العسكرية — وهي العلم المعني بنقل كميات كبيرة من الرجال والعتاد من قارة إلى أخرى. وما شهدته خلال أسفاري البرِّية مع الشعبة الأولى من مشاة البحرية في أرجاء العراق لم يكن سوى جزء صغير من تلك المهمة اللوجستية، والتي تضمنت نقل الرجال والمعدات عبر آلاف الأميال عن طريق السفن من أمريكا الشمالية إلى الخليج العربي. وفي تحليل مستبصر على نحو لافت للنظر، نُشر في العام ١٩٩٩م، كتب المؤرخ العسكري الأمريكي وليامسون موراي Murray أن القرن الجديد الذي يوشك على البدء من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة تواجه مرةً أخرى «الواقع الجغرافي القاسي» المفروض من قِبل المحيطَين، مما يقيِّد ويزيد على نحوٍ مذهل من تكلفة نشر قواتنا البرِّية في أماكن بعيدة. وفي حين يمكن إنهاء بعض الحروب ومهام الإنقاذ بسرعة عن طريق «الإغارة» المحمولة جوًّا (وهنا يتبادر إلى ذهن المرء الهجوم الإسرائيلي على مطار عنتيبي في أوغندا في العام ١٩٧٦م لإنقاذ ركاب طائرة مخطوفة)، فحتى في تلك العمليات، تتَّسم التضاريس بأهميتها. تُحدد التضاريس وتيرة وطريقة القتال. نشبت حرب الفوكلاند في العام ١٩٨٢م ببطء بسبب البيئة البحرية، في حين عملت الصحاري المسطحة للكويت والعراق في حرب الخليج عام ١٩٩١م على تضخيم تأثير القوة الجوية، على الرغم من أن السيطرة على مساحات شاسعة وعالية الكثافة السكانية في العراق إبان حرب الخليج الثانية أظهر حدود القوة الجوية؛ وبالتالي جعل القوات الأمريكية ضحية للجغرافيا: يمكن للطائرات أن تقصف، لكنها لا تستطيع نقل البضائع بكميات كبيرة، ولا ممارسة السيطرة على الأرض.٢٨ وبالإضافة إلى ذلك، وفي كثير من الحالات، تتطلَّب الطائرات وجود قواعد قريبة بشكلٍ معقول. وحتى في عصر الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والقنابل النووية، لا تزال الجغرافيا مُهمة. وكما أشار إليه مورغنثاو، فليس في وسع الدول الصغيرة والمتوسطة الحجم مثل إسرائيل، وبريطانيا العظمى، وفرنسا، وإيران أن تتحمل نفس المستوى من العقاب الذي تتحمله الدول القارية الحجم مثل الولايات المتحدة، وروسيا، والصين؛ وبالتالي فهي تفتقر إلى المصداقية المطلوبة في تهديداتها النووية. وهذا يعني أنه يتعيَّن على دولة صغيرة تقع في وسط خصوم لها، مثل إسرائيل، أن تكون سلبية بصفةٍ خاصَّة، أو عدوانية على وجه الخصوص، من أجل أن تظل على قيد الحياة. وذلك في المقام الأول هو مسألة تتعلق بالجغرافيا.٢٩ لكن تبنِّي خريطة التضاريس، جنبًا إلى جنب مع الجبال والرجال، لا يعني رؤية العالم مدفوعًا على نحوٍ لا رجعة فيه من قِبل الانتماءات العرقية والطائفية التي تقاوم العولمة؛ فالقصة أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير. أدَّت العولمة في حدِّ ذاتها إلى تحفيز إحياء النزعات المحلية، المبنية في كثير من الحالات على الوعي العرقي والديني، والتي ترتكز على مناطق جغرافية محددة، وبالتالي تُفسَّر بأفضل صورة بالرجوع إلى خريطة التضاريس. ويرجع ذلك إلى أن قوى وسائل الاتصال الجماهيري والاندماج الاقتصادي قد أضعفت قوة العديد من الدول، بما في ذلك تلك التي قسِّمت على نحوٍ مصطنع، والمتعارضة مع إملاءات الجغرافيا؛ مما يُترك مكشوفًا، في بعض المجالات الحيوية، عالمًا منقسمًا وغير مستقر. وبسبب تكنولوجيا الاتصالات، اكتسبت الحركات الإسلامية قوةً عبر كامل القوس الأفرو-آسيوي للعالم الإسلامي، على الرغم من كون الدول المسلمة المنفردة نفسها واقعة تحت الحصار من الداخل. ولنأخذ مثالَي العراق وباكستان، واللتين يمكن القول من الناحية الجغرافية إنهما أكثر دولتين تم إنشاؤهما على نحوٍ غير منطقي بين دول البحر الأبيض المتوسط وشبه القارة الهندية، حتى لو كانت خريطة التضاريس تحكم على أفغانستان باعتبارها دولة ضعيفة في أحسن الأحوال. صحيح أن العراق انهار لأن الولايات المتحدة غزته، لكن طغيان صدام حسين (الذي عايشته عن كثب في ثمانينيات القرن العشرين، والذي كان الأسوأ في العالم العربي على الإطلاق)، كما يمكن للمرء أن يجادل، كان في حدِّ ذاته محددًا جغرافيًّا. كان كل ديكتاتور عراقي منذ أول انقلاب عسكري في العام ١٩٥٨م يصير أكثر قمعية من سابقه من أجل الحفاظ على تماسك دولة تفتقر إلى حدود طبيعية وتتكون من الأكراد والعرب السُّنة والشيعة، وتغلي بفعل درجة واضحة المعالم من الوعي العرقي والطائفي. إنني أدرك أهمية عدم المغالاة كثيرًا في هذا الخط من النقاش. وفي الواقع، أن الجبال التي تفصل كردستان عن بقية العراق، وكذلك سهل بلاد ما بين النهرين المقسَّم بين السُّنة في الوسط والشيعة في الجنوب، قد تكون أكثر محورية في تطور الأحداث من التوق إلى الديمقراطية. لكن أحدًا لا يستطيع أن يعرف المستقبل؛ وبالتالي فوجود عراق مستقر وديمقراطي على نحوٍ معقول هو بالتأكيد ليس أمرًا غير وارد؛ فكما ساعدت جبال جنوب شرق أوروبا على فَصْل الإمبراطورية النمساوية-المجرية عن الإمبراطورية العثمانية التركية الأفقر والأقل تطوُّرًا، والتي ساعدت على فصل المجموعات العرقية والمذهبية بعضها عن بعض طوال قرون في منطقة البلقان، فمن المؤكد أنها لم تحكم بالفشل على تدخلاتنا هناك لوقف الحروب الطاحنة. أنا لا أتحدث هنا عن قوة غاشمة يقف الجنس البشري عاجزًا في مواجهتها، بل أود أن أدعو إلى قبول متواضع للمصير fate، المؤمَّن جوهريًّا في حقائق الجغرافيا، من أجل كبح الحماس المفرط في السياسة الخارجية، وهو حماس كنت أنا شخصيًّا مذنبًا بارتكابه. وكلما ازدادت قدرتنا على كبح هذا الحماس، سيزداد نجاح التدخلات التي نشارك فيها، وكلما ازداد نجاح هذه التدخلات، ستزداد مساحة المناورة المتاحة أمام صناع القرار لدينا، أمام محكمة الرأي العام، للتصرف بالطريقة نفسها في المستقبل. إنني أدرك أنني أقف على أرضية خطرة من حيث وضع الجغرافيا على قاعدة مرتفعة. ولذلك سأحاول، في سياق هذه الدراسة، أن أضع في اعتباري دائمًا التوبيخ الذي تلقَّاه إشعيا برلين على محاضرته الشهيرة التي ألقاها في العام ١٩٥٣م، والتي نُشرت في العام التالي تحت عنوان «الحتمية التاريخية»، والتي شجب فيها — باعتباره عملًا غير أخلاقي وجبانًا — الاعتقاد بأن القوى غير الشخصية الهائلة مثل الجغرافيا، والبيئة، والخصائص العرقية تحدِّد حياتنا واتجاه السياسة العالمية. أقدم برلين على توبيخ أرنولد توينبي Toynbee وإدوارد غيبون Gibbon على نظرتهما إلى «الأمم» و«الحضارات» باعتبارها «أكثر تماسكًا» من الأفراد الذين يجسدونها، وعلى النظر إلى تعبيرات تجريدية مثل «التقاليد» و«التاريخ» باعتبارها «أكثر حكمة منا».٣٠ ومن منظور برلين، يكتسب الفرد ومسئوليته الأخلاقية أهمية قصوى؛ وبالتالي لا يمكنه إلقاء اللوم في أفعاله — أو مصيره — على الإطلاق، أو بدرجةٍ كبيرة، على عوامل مثل المشهد الطبيعي والثقافة. كانت لدوافع البشر أهمية بالغة في التاريخ؛ فهي ليست أوهامًا يمكن تبريرها بعزوها إلى قوًى أكبر. تمثِّل الخريطة بداية، وليس نهاية، لتفسير الماضي والحاضر. وبطبيعة الحال، فإن الجغرافيا، والتاريخ، والخصائص العرقية تؤثر في الأحداث المستقبلية، لكنها لا تحددها. وعلى الرغم من ذلك، فإن تحديات السياسة الخارجية اليوم لا يمكن ببساطة حلها، ولا يمكن اتخاذ الخيارات الحكيمة، من دون الرجوع بدرجةٍ كبيرة إلى هذه العوامل نفسها، والتي يبدو برلين للوهلة الأولى رافضًا لها، في معرض هجومه الكاسح على كل أشكال الحتمية. إن الاعتماد على الجغرافيا والعوامل العرقية والطائفية قد خدمنا بشكلٍ جيد في توقع وقوع العنف في كلٍّ من البلقان، في أعقاب نهاية الحرب الباردة، وفي العراق، بعد الغزو الأمريكي في العام ٢٠٠٣م. على أي حال، فإن تحدي برلين الأخلاقي يعمل بشكلٍ جيد حتى الآن باعتباره إطارًا للنقاشات التي دارت خلال العقدين الماضيين، حول أين ننشر القوات الأمريكية وأين لا ننشرها في الخارج. ما العمل، إذن؟ كيف يمكننا شطر الفرق بين إدراك أهمية الجغرافيا في صياغة التاريخ وخطر المغالاة في تأكيد هذه الحقيقة ذاتها؟ يمكن أن نلوذ هنا، في اعتقادي، بمفهوم ريمون آرون حول «الأخلاقيات الرصينة المتجذرة في حقيقة الحتمية الاحتمالية»؛ لأن «الاختيار الإنساني يعمل دائمًا ضمن حدود أو قيود بعينها مثل إرث الماضي.»٣١ إن الكلمة المفتاحية هنا هي «الاحتمالية» probabilistic؛ بمعنى أننا، في تركيزنا الحالي على الجغرافيا، نتمسك بحتمية جزئية أو مترددة، وهي التي تُقر بالاختلافات الواضحة بين الجماعات والأماكن، لكنها لا تُفرط في التبسيط، وتترك كثيرًا من الاحتمالات مفتوحة. وكما كتب المؤرخ الإنجليزي نورمان ديفيز Davies ما نصه: «لقد صرت أعتقد بأن السببية لا تتألف حصرًا من عناصر حتمية، أو فردانية individualist، أو عشوائية، ولكن من مزيج من الثلاثة جميعها.»٣٢ أما الدوليون الليبراليون Liberal internationalists، الذين أيَّدوا عمومًا التدخل في البلقان لكنهم اعترضوا على غزو العراق، فيعكسون هذه الروح من التمييز الدقيق. لقد استشعروا بحدسهم، مهما كان ذلك بصورةٍ مُبهمة، إحدى الحقائق الرئيسية للجغرافيا؛ ففي حين كانت يوغوسلافيا السابقة تقع عند الطرف الغربي الأكثر تقدمًا من الإمبراطورية العثمانية السابقة؛ كونها متاخمة لأوروبا الوسطى، تقع بلاد ما بين النهرين عند تخومها الشرقية، وهي أكثرها فوضوية. ولأن هذه الحقيقة قد أثَّرت على التطوُّر السياسي حتى عصرنا الحاضر، فسيثبت أن التدخل في العراق كان بمنزلة نزهة. * مقتطف من كتاب: (انتقام الجغرافيا: ما الذي تُخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضد المصير)، المؤلف: روبرت د. كابلان، ترجمة: إيهاب عبد الرحيم علي، نشر: مؤسسة هنداوي ................................................ ١ Robert D. Kaplan, 'Munich Versus Vietnam,' The Atlantic Online, May 4, 2007. ٢ Hans J. Morgenthau, Politics Among Nations: The Struggle for Power and Peace, revised by Kenneth W. Thompson and W. David Clinton (New York: McGraw Hill, 1948, 2006), pp. 3, 6, 7, 12; Thucydides, The Peloponnesian War, translated by Thomas Hobbes (1629) (Chicago: University of Chicago Press, 1989); Anastasia Bakolas, 'Human Nature in Thucydides,' Wellesley College, unpublished; Robert D. Kaplan, Warrior Politics: Why Leadership Demands a Pagan Ethos (New York: Random House, 2001). ٣ Morgenthau, Politics Among Nations, pp. xviii-xix, 37, 181, 218–20, 246, 248; William Cabell Bruce, John Randolph of Roanoke (New York: G. P. Putnam's Sons, 1922), vol. 2, p. 211; John J. Mearsheimer, 'The False Promise of International Institutions,' International Security, Cambridge, Massachusetts, Winter 1994-1995. ٤ Thomas Hobbes, Leviathan, 1651, Chapter 15. ٥ Fareed Zakaria, 'Is Realism Finished?,' The National Interest, Winter 1992-1993. ٦ Raymond Aron, Peace and War: A Theory of International Relations (Garden City: Doubleday, 1966), p. 321; José Ortega y Gasset, The Revolt of the Masses (Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 1985), p. 129. ٧ Black, Maps and History: Constructing Images of the Past (New Haven: Yale University Press, 1997), pp. 58, 173, 216. ٨ Halford J. Mackinder, Democratic Ideals and Reality: A Study in the Politics of Reconstruction (New York: Henry Holt and Company, 1919), pp. 15-16, 1996 National Defense University edition. ٩ Morgenthau, Politics Among Nations, p. 165. ١٠ Alfred Thayer Mahan, The Problem of Asia and Its Effect Upon International Policies (London: Sampson Low, Marston, 1900), p. 56, 2005 Elibron edition. ١١ W. H. Parker, Mackinder: Geography as an Aid to Statecraft (Oxford: Clarendon Press, 1988), pp. 93, 130-131. ١٢ W. Gordon East, The Geography Behind History (New York: Norton, 1965, 1967), p. 120. ١٣ Nicholas J. Spykman, America's Strategy in World Politics: The United States and the Balance of Power, with a new introduction by Francis P. Sempa (New York: Harcourt, Brace, 1942), pp. xv, 41. 2007 Transaction edition. ١٤ East, The Geography Behind History, p. 38. ١٥ Federalist No. 8. ١٦ Williamson Murray, 'Some Thoughts on War and Geography,' Journal of Strategic Studies, Routledge, London, 1999, pp. 212, 214; Colin S. Gray, 'The Continued Primacy of Geography,' Orbis, Philadelphia, Spring 1996, p. 2. ١٧ Mackubin Thomas Owens, 'In Defense of Classical Geopolitics,' Naval War College Review, Newport, Rhode Island, Autumn 1999, p. 72. ١٨ Spykman, America's Strategy in World Politics, p. 92. ١٩ James Fairgrieve, Geography and World Power (New York: E. P. Dutton, 1917), pp. 273-74. ٢٠ John Western, Department of Geography, Syracuse University. ٢١ John Gallup and Jeffrey Sachs, 'Location, Location: Geography and Economic Development,' Harvard International Review, Cambridge, Winter 1998-1999. وبصورةٍ جزئية، فقد كانوا يستقرئون كتابات جارِد دياموند Diamond. ٢٢ M. C. Ricklefs, Bruce Lockhart, Albert Lau, Portia Reyes, and Maitrii Aung-Thwin, A New History of Southeast Asia (New York: Palgrave Macmillan, 2010), p. 21. ٢٣ John Adams, Works (Boston: Little, Brown, 1850–1856), vol. 4, p. 401. ٢٤ Robert D. Kaplan, Warrior Politics: Why Leadership Demands a Pagan Ethos (New York: Random House, 2001), pp. 101-2. ٢٥ Spykman, America's Strategy in World Politics, p. 43. ٢٦ Murray, 'Some Thoughts on War and Geography,' p. 213. ٢٧ Jakub J. Grygiel, Great Powers and Geopolitical Change (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 2006), p. 15. ٢٨ Gray, 'The Continued Primacy of Geography'; Murray, 'Some Thoughts on War and Geography,' p. 216. ٢٩ Morgenthau, Politics Among Nations, p. 124. ٣٠ Isaiah Berlin, Four Essays on Liberty (Oxford: Oxford University Press, 1969). ٣١ See Daniel J. Mahoney's 'Three Decent Frenchmen,' a review of Tony Judt's The Burden of Responsibility, The National Interest, Summer 1999; see, too, History, Truth and Liberty: Selected Writings of Raymond Aron, edited by Franciszek Draus (Chicago: University of Chicago Press, 1985). ٣٢ Norman Davies, God's Playground: A History of Poland, vol. 1, The Origins to 1795 (New York: Columbia University Press, 2005 (1981)), p. viii.