
الــــولايــــات المــتــحــــــدة الســعــوديــة
عندما شاهدت، أول من امس، الرئيس ترامب وولي العهد السعودي بن سلمان يقفان الواحد إلى جانب الآخر، بديا رجلي أعمال بلا مظاهر رسمية زائدة أو محبة زائدة للطقوس الدبلوماسية. في مطار الرياض، اكتفيا بعزف النشيدين القوميين (وكان صعبا تجاهل الأخطاء في عزف النشيد الأميركي). وسارع الزعيمان إلى قاعة الاستقبال الكبرى في قصر اليمامة.
الرئيس الأميركي ومضيفه السعودي يبتسمان، وأمامهما، في طابور طويل تقف قمة الأعمال التجارية الأميركية. عرض ترامب كل واحد منهم حسب قيمته البنكية. حصل اثنان على اهتمام خاص: إيلون ماسك بالطبع كان في رأس صف المصافحين، والأميرة ريما بنت بندر، سفيرة السعودية في واشنطن. وسارع ترامب للثناء عليها حين علم بأنها "مسؤولة عن كل شيء".
صحيح أن الحدث جرى في الرياض، "قدس" السعودية، لكن الحاضرين في القاعة – القمة التجارية بين الدولتين – ركزوا على اللقاءات الجانبية اكثر. ومن ناحية ولي العهد، خير أن يتحدثا أيضا عن "مدينة المستقبل" نيوم على شواطئ البحر الأحمر، حيث توقفت أعمال التنمية وتحتاج إلى الكثير من المقدرات الأميركية لإعادة تحريكها.
من ناحية بن سلمان، وُضعت في الرياض، أول من أمس، الأساسات لإقامة "مملكة الذكاء الصناعي"، أو امبراطورية السيلكون للشرق الأوسط (ولا كلمة عن إسرائيل). رأى هو وترامب في خيالهما كيف ستصبح السعودية مركز العلم، التنمية، التجديد والإبداع العالمي بالتعاون مع كبرى الصناعات الأميركية. لا يوجد هناك، كما يجدر بالذكر بيروقراطية ولوائح مثلما في دول الغرب.
ظهر ترامب وبن سلمان يوقعان على عشرات الوثائق بعضها علنية، وأخرى بقيت دون نشر. كان هناك كل شيء: خدمات صحية، تكنولوجيا، وربما أيضا مفاعل نووي لأغراض سلمية لم تنكشف تفاصيله حاليا. إضافة إلى ذلك ستشتري السعودية بالطبع سلاحا حديثا من الولايات المتحدة وبكثرة.
وأفادت مصادر أميركية، أول من أمس، لـ"رويترز" في موضوع طائرات "اف 35" فقالت، "يتحدثون في هذا"، وترامب هو الآخر قال هذا أيضا في محادثاته في المملكة. بيع "اف 35" للسعودية إذا خرج إلى حيز التنفيذ سيكون سيئا لإسرائيل، ويمس بشدة بالتفوق الجوي لطائراتنا. هذه ليست الأنباء المقلقة الوحيدة: فإذا صدقنا التقارير العربية، فإنه بعد تحرير عيدان الكسندر يبدو أن ترامب سئم جدا (حالياً على الأقل) من مسألة المخطوفين الإسرائيليين. وهو يترك مواصلة المعالجة في الأيدي المخلصة لمبعوثه ويتكوف. سيلتقي الاثنان (أمس) في قطر، وغداً مرة أخرى في الإمارات.
باستثناء حضور الواجب القصير في الفاتيكان، في جنازة البابا، هذه مرة أخرى محطة الرئيس ترامب الأولى خارج الولايات المتحدة. في ولايته الأولى كرئيس، استقبل ترامب من حاكم مدينة مكة. كان ولي العهد بن سلمان في حينه في مراحل الإعداد الدراماتيكية لتسلمه منصبه، ولا يزال ينتعش بصراعات القوى. أما الآن فهو كلي القدرة، والمقرر الحصري في المملكة. يكرس ترامب تركيزا كاملا على السعودية، إذ في هذه المرة لا يوجد من يعرقل. سيلتقي الرئيس برعاية المضيف، الرئيس السوري الجولاني، رئيس لبنان، وأبو مازن.
"المفاجأة الكبرى"، التي وعد بها ترامب قبل الرحلة، لم تنكشف بعد على ما يبدو، لكن يمكن أن نخمن بأنه ستكون لها صلة وثيقة بإسرائيل. أول من امس، أعطى ترامب فقط إشارة عندما قال، "يسره أن تنضم السعودية إلى اتفاقات إبراهيم". يبحث ترامب عن قطعة الحلوى، التي تسمح بحل العقدة الكامنة في إعلان ولي العهد بأنه "طالما لم تقم دولة فلسطينية لن تكون هناك علاقات مع إسرائيل". هذا هو السبب لدعوة أبو مازن. ترامب يريد بالطبع إخراج "حماس" من القطاع، لكن السلطة تبدو ضعيفة جدا.
ترامب يريد أن يصل إلى تسوية سياسية شاملة تدعه يركز على الأعمال التجارية فقط بإشراف السعودية، وبمساعدة الإمارات. يجدر بنا الانتباه إلى أن مصر السيسي، الذي وصفه ترامب بود زائف "الدكتاتور المحبوب علي"، خرج من الصورة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


فلسطين اليوم
منذ 31 دقائق
- فلسطين اليوم
إدارة ترامب تحجب التمويل عن جامعة هارفارد بسبب دعمها لفلسطين
فلسطين اليوم - نيويورك حجبت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تمويلاً فيدراليًا عن جامعة هارفارد بسبب ما اعتبرته تقاعسا منها عن اتخاذ إجراءات كافية ضد المظاهرات الطلابية المؤيدة لفلسطين. وفي منشور على منصة إكس، اليوم الثلاثاء، أفادت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية بأنها ستحجب تمويلا فيدراليًا كان مخصصا لجامعة هارفارد بقيمة نحو 60 مليون دولار 'لحماية الحقوق المدنية في التعليم العالي'. وزعمت الوزارة أن 'هارفارد' التي برزت بين الجامعات التي شهدت مظاهرات داعمة لفلسطين، 'فشلت في التعامل مع المواقف المعادية للسامية والتمييز القائم على أساس العرق'. وتستخدم الإدارة الأمريكية التخفيضات المالية والتحقيقات في الجامعات للضغط على إداراتها لمنع المظاهرات الطلابية الداعمة لفلسطين. وسبق لإدارة ترامب أن هددت بتجميد التمويل الفدرالي لعدد من الجامعات، بينها 'هارفارد'، مستندةً في ذلك إلى احتجاجات طلابية متضامنة مع القضية الفلسطينية داخل الحرم الجامعي. ومطلع مايو/ أيار الجاري، أعلنت وزارة التعليم الأمريكية أنها لن تمنح جامعة هارفارد أي تمويل فيدرالي جديد إلى حين تلبية الأخيرة مطالب البيت الأبيض، في إشارة إلى عدم منعها المظاهرات الداعمة لفلسطين. وفي وقت سابق، أعلن البيت الأبيض فتح تحقيق للتأكد من أن المنح التي تتجاوز قيمتها 8.7 مليارات دولار والتي تتلقاها جامعة هارفارد من مؤسسات مختلفة تُستخدم بما يتوافق مع قوانين الحقوق المدنية. وفي مواجهة هذا التهديد الفيدرالي، أعلنت جامعة هارفارد رفضها لمطالب ترامب المتعلقة بـ'إجراء إصلاحات' داخل الجامعة. كما رفع عدد من أساتذة الجامعة دعاوى قضائية ضد قرار إدارة ترامب التحقيق في التمويل اليفدرالي المخصص للجامعة. وفي أبريل/ نيسان 2024، اندلعت احتجاجات داعمة لفلسطين بدأت بجامعة كولومبيا الأمريكية وتمددت إلى أكثر من 50 جامعة في البلاد، واحتجزت الشرطة أكثر من 3 آلاف و100 شخص، معظمهم من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس.


فلسطين أون لاين
منذ ساعة واحدة
- فلسطين أون لاين
الغرب... أصوات تكسر جدار الصمت والتواطؤ
المهدي مبروك تعدّدت، في الأسابيع القليلة الفارطة في بلدان غربية مختلفة، الأصوات المندّدة بما يجري في غزّة من حرب إبادة تطاول الأطفال والنساء والشيوخ، وتنسف مقوّمات الحياة بمعناها البيولوجي الصرف. يجري ذلك في برلمانات ومجالس شيوخ، وكذلك في مؤسّسات اقتصادية وشركات كبرى (بنوك وشركات تصنيع السلاح...) متهمة بتمويل الكيان الإسرائيلي، أو دعمه على الأقلّ. رأينا برلمانيين وإعلاميّين وجامعيين يحتجّون على رؤساء حكوماتهم لتواطئهم وجبنهم ولامبالاتهم. تقدّم فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة نماذجَ من هذه الموجات المتتالية، تساندها بين حين وآخر (وبأشكال متفاوتة) مظاهرات شعبية، يقودها سياسيون في جلّهم من اليسار، بالمعنى الثقافي والإنساني الواسع، وطلاب الجامعات والفنّانين. وذهبت بلدان أخرى إلى ما هو أبعد، حين عبّرت بصريح العبارة عن أن ما يجري في فلسطين حقيقةً حرب إبادة، فأصدر قادة سبع بلدان أوروبية: إسبانيا ولوكسمبورغ والنرويج وأيسلندا وأيرلندا ومالطا وسلوفينيا، بياناً صارماً أعربوا فيه عن رفضهم المطلق سياسة الصمت الدولي تجاه ما يجري، واعتبار ذلك كارثةً إنسانيةً تحتاج إلى إدانة، مطالبين برفع الحصار الفوري وكفّ اعتداءات المستوطنين على الضفة الغربية، في حين اتّخذت بلدان أخرى قراراتٍ ديبلوماسيةً جريئةً: قطع العلاقات أو التهديد به أو استدعاء السفير... إلخ. يجري ذلك كلّه تزامناً مع حدثَين بالغَي الأهمية. الأول، زيارة ترامب إلى المنطقة وسط احتفاء غير مسبوق به، والحال أنه شريك في كلّ ما يجري لغزّة، ولا يزال يصرّ على رؤيته المارقة لها، أرضاً صالحةً لـ"البناء"، واحتضان المنتجعات الفخمة، حتى لو على جثث أبنائها، ملح التراب وعشبها الذي لا ينقطع. الحدث الثاني، انعقاد قمّة عربية باهتة تعمّق الشروخ العميقة بين البلدان العربية. ردّات الفعل الغربية المشار إليها، من صنع نُخب الحكم أو المعارضة، دالّة بشكل عميق، ويمكن أن يكون لها بالغ الأثر مستقبلاً لو أفلحنا في قراءة هذه المواقف ورسملتها، فهي تبرهن مرّة أخرى أن الغرب ليس "دار حرب أزلية"، بل مجتمعات وأنظمة تتنازعها اختلافات عديدة عادة، تعبّر عن مواقف ومواقع وعقائد ومصالح يعتريها، بين حين وآخر، تحوّلات وتبدّلات، وأنه رغم انحسار دوائر الحرّية تحت ضغط اللوبيات الصهيومسيحية وجماعات النفوذ المالي والإعلامي في سياق الرهاب من الإسلام والمسلمين، ما زال هذا الغرب يتيح لمواطنيه ومثقّفيه الأحرار التعبير الحرّ عن مواقفهم، وأن هذا الضمير الحيّ لم يمت، بل إنه يستعيد رهافة حسّه وعدله وإنصافه تدريجياً. تحرص إسرائيل أن تظلّ "الجماعة" الوحيدة التي تحتكر صفة الضحية، وأنها الوحيدة أيضاً التي تعرّضت لإبادة خلال التاريخ المعاصر، وأن غيرها لا يستحقّ أن يكون محلّ تعاطف إنساني مهما نُكّل به. فما يزعج إسرائيل هو أن ينافسها على هذه "المنزلة" "طرف ثانٍ، لأنها بذلك تفقد رأسمالها الذي لا يخلو من أسطرة، والذي استثمرته (ولا تزال) في ترسيخ القبول بكل تجاوزاتها الراهنة. إنها الابن المدلّل الذي يُسمَح له بارتكاب الممنوعات كلّها، تعويضاً عن "الحرمان" و"الأذى" اللذين لحقا به. لذلك، تُخرس الجميع، وتلجمهم، لأن الغرب لم يتحرّر بشكل نقدي وعقلاني من خطيئة الإبادة، هذا ما تقوله جلّ الانتفاضات الجارية حالياً، وإنْ بشكل متلعثم ومربك، من فرط مشاعر الخطيئة تلك. غير أن هذا الأمر يحتاج منّا (نحن العرب) أن نلتقط صحوة هذا الضمير الإنساني وتعظيمه، خصوصاً أننا لم نشهد ما يضاهيه في ما يجرى بيننا من نقد لاذع تحت قباب البرلمان، أو في حرم جامعاتنا، لأن أنظمتنا، بما فيها التي تدّعي مساندة الفلسطينيين، لا تتيح لمواطنيها التعبير الحرّ عن تضامنهم الذي يظلّ بحسب اعتقادها تضامناً رسمياً تحتكره الأنظمة، وتعبّر عنه وفق إرادتها. هذه المواقف الغربية تظلّ قابلةً لأن تذهب بعيداً، فوراءها قيادات ومنظّمات وهيئات سياسية وحركات اجتماعية. ومع ذلك، علينا أن ننتبه إلى محدودية انتفاضات الضمير هذه، وقصورها الراهن عن صناعة وعي ورأي عامّين، وسياسات واضحة المعالم في هذه البلدان، وذلك لعدّة اعتبارات، لعلّ أكثرها أهمية أننا (عرباً) عجزنا عن "تسويق عدالة قضيتنا ونبلها". لقد أضرّ الإرهاب، وكل أشكال التطرّف الديني، ومزاعم "أسلمة" القضية الفلسطينية، بالقضية ذاتها، التي انحدرت أحياناً إلى قضية طائفية أو عرقية خالية تماماً من كلّ نفَس إنساني عميق. لقد عجزت النُّخب الفلسطينية عن الارتقاء بقضيتهم إلى مرتبة كونية إنسانية، تغدو فيها مشتركاً إنسانياً على قواعد كونية، بعد أن كانت القضية الفلسطينية في ستينيّات القرن الفارط تجلب تعاطفاً وانخراطاً. يقول الزعيم اليساري الفرنسي جان لوك ميلانشون حرفياً: "إن الجرائم المخطّط لها من الغرب، والمسموح بارتكابها في غزّة، هي تواطؤ منه، وما يجري فيها غدا قوّةً إجراميةً يرتكبها الغرب ذاته". المصدر / العربي الجديد


فلسطين اليوم
منذ 4 ساعات
- فلسطين اليوم
حصاد زيارة ترامب الخليجية: صفقات كبرى، ومنافسة الصين
فلسطين اليوم الكاتب: إبراهيم علوش يصر تقرير في موقع "مجلس الأطلسي" (Atlantic Council)، في 13/5/2025، بشأن زيارة الرئيس ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات، بأن هدف الزيارة يتلخص بأمرين: أ – عقد صفقات تجارية عملاقة. ب – "اكتساب اليد العليا في المواجهة التجارية المستمرة، والمنافسة التكنولوجية، مع الصين". وينقل تقرير "مجلس الأطلسي" عن مصادر ضالعة في التخطيط لزيارة ترامب أن التركيز الأكبر في ذلك التخطيط كان على عقد الصفقات، وأن إدارة ترامب تفضل السباحة في تيار الاستثمارات الخليجية بدلاً من الغرق في دوامة مشاكل المنطقة. نفهم من تقرير "مجلس الأطلسي" أيضاً أن المال الخليجي يفترض أن يوظف في المنافسة مع الصين، تجارياً وتكنولوجياً، وأن وعود نقل التكنولوجيا المتقدمة، مثل أشباه الموصلات الأميركية، إلى السعودية والإمارات، ترتبط باستقطاب الدولتين بعيداً عن الصين، تحت ذريعة منع تسرب تلك التكنولوجيا إليها. كان من ذلك مثلاً قطع شركة الذكاء الاصطناعي الإماراتية G42 صلاتها مع شركائها الصينيين من أجل نسج شراكات مع بدائلهم الأميركيين. ويذكر أن تلك الشركة أعلنت رسمياً إنشاءها مشروعاً مشتركاً مع شركة التصنيع العسكري في الكيان الصهيوني "رافاييل"، في 21/4/2021، لتسويق الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا البيانات الضخمة. الفكرة العامة توظيف رؤوس أموال خليجية في استثمارات أميركية ضخمة، بعضها في مجال الذكاء الاصطناعي، تحت عنوان "توطين التكنولوجيا خليجياً"، من أجل كسب السباق مع الصين. سترفع إدارة ترامب الحظر، من أجل هذا الغرض، عن توريد بعض أنواع أشباه الموصلات الأميركية المتقدمة إلى السعودية والإمارات (وبولندا والهند والمكسيك والكيان الصهيوني وغيره) ضمن شراكات مع الولايات المتحدة، مع شركة Humain السعودية الجديدة المتخصصة في الذكاء الاصطناعي مثلاً، تتيح التفوق على الصين في نسج علاقة أوثق مع الحكام الخليجيين من الصين على الرغم من أن الأخيرة هي الزبون الأكبر لوقودهم الأحفوري، بحسب تقرير "مجلس الأطلسي". فإذا صح التقييم أن البعد التجاري، وبُعدَ التنافس مع الصين المتضافر معه، هما البعدان اللذان ثنيا طرفي القوس الذي مرت زيارة ترامب إلى الدول الخليجية من تحته، فإن ما جرى، أو لم يجرِ، سياسياً، على هامش تلك الزيارة يصبح من الضروري قراءته من زاوية جداوه في ابتزاز دول الخليج مالياً، وإبعادها عن الصين جيوسياسياً. لعل أهم ما قدمه ترامب للدول الخليجية هنا ورد في كلمته في منتدى الاستثمار السعودي-الأميركي في الرياض، بحسب مقتطفاتها المنشورة في موقع البيت الأبيض في 13/5/2025، بشأن مستقبل "الشرق الأوسط"، وخصوصاً إدانة سعي المحافظين الجدد، أو الجمعيات الليبرالية غير الربحية، أن يعظوا الآخرين كيف يديرون شؤونهم، وكيف يحكمون بلادهم. يعني ذلك تخلي الإدارة الأميركية عن محاولة تغيير أنظمة تلك الدول بذريعة "الديموقراطية وحقوق الإنسان"، وتركها تسيّر أمورها كما ترى مناسباً لظروفها، ومن ذلك مثلاً، لا حصراً، عدم إثارة زوابع إعلامية بخصوص حالات مثل مقتل الصحافي جمال خاشقجي. ليس من الواضح إذا كان هذا التحول سينطبق فقط على أنظمة الدول التي ترى الإدارة الأميركية ضرورة الحفاظ على استقرارها، أم أنه سينسحب أيضاً على الدول المستقلة أو المناهضة للهيمنة الأميركية، لكنه تحول في توجه السياسة الخارجية الأميركية بكل تأكيد، بعيداً عن توجه إدارتي بايدن وأوباما، وحتى إدارة بوش الابن. وليس من الحكمة أميركياً بناء استراتيجية لتجاوز الصين، وقطع طريقها وحزامها، على استثمارات طويلة المدى مع جهات تنوي الإدارة الأميركية تقويضها، على الأقل في المدى المنظور، ولا أمان للسياسة الأميركية. يتمثل العنصر الآخر في رؤية ترامب الجديدة للحيز الجغرافي الذي سماه الاستعمار "الشرق الأوسط"، كما نقرأه في خطابه في الرياض، وفي السياق العام: أ - التركيز على تحقيق المصالح الأميركية، بدلاً من محاولة فرض "القيم الأميركية". ب – التركيز على الاستقرار السياسي، بدلاً من إحداث "الفوضى"، كما قال ترامب حرفياً (وكأنه كاد يضيف "الخلاقة"، لأن كلامه استهدف المحافظين الجدد والجمعيات غير الحكومية الممولة أجنبياً بصورة مباشرة). جـ - التركيز على الازدهار الاقتصادي، تحت الرعاية الأميركية، بعيداً عن الصين طبعاً، وبالتعاون مع الكيان الصهيوني تحت يافطة "الاتفاقات الإبراهيمية". تجلت النقطة الأخيرة بالذات في ما قاله ترامب في خطابه في الرياض: "إذا اغتنمت الدول المسؤولة في هذه المنطقة هذه اللحظةَ، ووضعت خلافاتها جانباً وركزت على المصالح التي توحدها، فسوف تندهش البشرية جمعاء قريباً مما ستراه هنا في هذا المركز الجغرافي للعالم... والقلب الروحي لأعظم معتقداته". تبقى قصة انضمام المزيد من الدول العربية والإسلامية إلى "الاتفاقات الإبراهيمية" على جدول الأعمال إذاً، وتبقى بالتالي ضرورة خلق أفضل الشروط لضمها إلى تلك الاتفاقات من خلال شطب النزعات المقاوِمة وتدجينها، ومحاولة تطويع إيران بمزيجٍ من الترهيب والترغيب. وفيما عدا الغزو والاحتلال المباشرين، من السابق لآوانه، ضمن المعطيات الراهنة، الاستعجال في الاستنتاج أن الخيار العسكري جرت إزاحته من قائمة خيارات التعامل مع إيران، أو إزاحة خيار محاولة إحداث قلاقل داخلية فيها، أو تأسيس "ناتو شرق أوسطي" لاحتوائها، على غرار "حلف بغداد" في الخمسينات في مواجهة مصر عبد الناصر، لكنْ تحت لافتة طائفية. وتمكن قراءة لقاء ترامب مع أبي محمد الجولاني من هذه الزاوية أيضاً: إبقاء إيران بعيدةً عن سورية، وتأسيس حلف رسمي عربي-تركي لمواجهتها، ولو أن انعقاد اللقاء في كنف محمد بن سلمان، بدلاً من رجب بن إردوغان، رجح كفة الأول على الثاني، سورياً وإقليمياً. لكنّ الأول هو الذي يملك أن يمنح ترامب مئات مليارات الدولارات، ويبدو أنه المرشح ليكون معتمده إقليمياً، في حين يسعى الثاني إلى التحول من قوة إقليمية إلى قوة دولية من خلال اللعب على حبال التناقضات الأميركية-الروسية، وإلى لعب دور وسيط على المسرح الأوكراني، سوى أنها حبالٌ قصُرت كثيراً بعد التقارب بين الرئيسين ترامب وبوتين. ويُلمح مما رشح في الإعلام إلى أن تغيب بوتين وترامب عن مفاوضات إسطنبول بشأن أوكرانيا جاء بتفاهم روسي-أميركي. فلماذا يعطيان زيلنسكي وزناً أكبر من حجمه بحضورهما، في حين أن المطلوب أن يشعر بالضعف كي يقدم تنازلات تنهي الحرب؟ لكن أثر تغيبهما يبقى إضعاف وساطة النظام التركي موضوعياً، وشطب مساعيه للسمسرة في صفقة دولية. ولم يكن من المرجح أن يحضر ترامب إلى إسطنبول، إذا لم تكن المفاوضات ستسفر عن اتفاق لإنهاء الحرب الأوكرانية لما يجهز زيلنسكي له بعد. تُقرأ إشارة ترامب إلى معاناة الغزيين خلال زيارته الخليجية، على صعيدٍ آخر، وعدم زيارته الكيان الصهيوني في الطريق، ذهاباً أو إياباً، وتجاوزه لنتنياهو في عقد صفقة مباشرة للإفراج عن الأسير عيدان ألكسندر، بينما كان في طريقه إلى السعودية، إلى أمرين، برأيي المتواضع: أ – إدراك ترامب، بإحساس رجل الأعمال، ضرورة عدم إحراج زبائنه الخليجيين الذين يسعى إلى عقد صفقات معهم بمئات مليارات الدولارات. وهي مناورة تكتيكية، لا تمس التزام ترامب بضم الجميع إلى "الاتفاقات الإبراهيمية"، كما رأينا من خطابه في السعودية، أو في لقائه مع الجولاني، ولا تمس التزامه بأمن العدو الصهيوني وبدعمه، مالياً واستخبارياً وعسكرياً، بموارد يأتي بعضها من الأنظمة العربية. ب – إدراك ترامب، بإحساس رجل الأعمال، أن نتنياهو وفريقه يلعبون بمنطق أيديولوجي متشدد، في حين أراد ترامب، البراغماتي، من نتنياهو، المرتهن لتحالف صعب في حكومته، أن يخفف الضغط على غزة إبان زيارته الخليجية، وأن يتناغم نتنياهو، بصورة عامة، مع ترامب في تحويل موقفه 180 درجة عند الضرورة، أو في رفع أو خفض التصعيد باتجاهٍ ما. لذلك، كان لا بد من تلقينه درساً "تربوياً". ليست هذه المرة الأولى التي يقوض فيها ترامب منزلة نتنياهو "إسرائيلياً" وإقليمياً، وسبق أن رأينا ترامب يرده خائباً في زيارته لواشنطن في نيسان/ إبريل الفائت بشأن الرسوم الجمركية المفروضة على المنتجات "الإسرائيلية". ولا يعني ذلك أبداً تخلّي إدارة ترامب عن الكيان الصهيوني، بل يعني امتلاك ترامب للعبة "سياسة الصورة" image politics، أي هندسة انطباعات وبثها إلى الداخل الأميركي بأنه صاحب الحل والربط، وإنتاج انطباعات لدى العرب، أنظمةً وأمةً، بأنه يعمل بوحي المصلحة الأميركية، لا تحت وطأة سيطرة الحركة الصهيونية، حتى وهو يدعوهم إلى الانضمام إلى جوقة التطبيع مع العدو الصهيوني، أو يوظف مواردهم في خدمة ذلك العدو. المسألة مسألة تسويق، ولن يطول الوقت قبل أن يصدر انطباعاتٍ أخرى مخالفة، باتجاه الكيان الصهيوني أو اليهود الأميركيين، عندما يجد ذلك مناسباً، بل إنه صدّرها قبل وصوله إلى السعودية. وربما يظن البعض أنه سجل نقاطاً بعقد اتفاق مع ترامب لإطلاق سراح عيدان إلكسندر (مجاناً، كما تقول إدارة ترامب) من وراء ظهر نتنياهو، لكنّ ذلك، من وجهة نظر إدارة "سياسة الصورة"، حقق لترامب أمرين: أ – إبراز "جبروته" شخصياً، والجبروت الأميركي، في الحصول على شيء في مقابل لا شيء، فقط لاسترضائه، إذا افترضنا أن إطلاق سراح عيدان ألكسندر لم يكن أحد الأثمان المدفوعة قطرياً من أجل جلوس ترامب مع الجولاني، إضافةً إلى الصفقات التجارية وعمولة الطائرة الرئاسية بـ 400 مليون دولار. ب – تعزيز النزعات المساوِمة، على حساب تلك المقاوِمة، في الشأن الفلسطيني، تماماً كما جرى مع منظمة التحرير الفلسطينية التي لهثت خلف "الاعتراف الأميركي" حتى خسرت جوهرها. ومن قطر التي تستضيف المكتب السياسي لحركة حماس أدان ترامب عملية "طوفان الأقصى" المجيدة مجدداً، وتحدث عن تحويل غزة إلى "منطقة حرية" برعاية أميركية، وأن حماس "لا بد من التعامل معها"، وهو قول قد يحمل معنىً مزدوجاً عسكرياً أو سياسياً، بحسب رغبة السامع، لكنه يعني، في أحسن الأحوال، تدجين حماس سياسياً في مقابل "اعتراف أميركي". لم يكن مستغرباً أن يحاول ترامب تهميش موضوع العدوان على غزة في سعيه لابتزاز مئات المليارات من الدول الخليجية، بل المستغرب هو استعداد الدول الخليجية منحها له في ظل العدوان على غزة. يشكك الإعلام الأميركي بالأرقام التي أعلنها ترامب لصفقاته في السعودية وقطر والإمارات، والتي زعم أنها تبلغ ترليونات الدولارات. انظر مثلاً تقرير وكالة "رويترز" في 16/5/2025، "ما هي "تريليونات" الخليج التي يقول ترامب إنها ستعزز الاقتصاد الأميركي؟"، والذي أظهر أن حسابات الوكالة تدل أن الصفقات المعقودة فعلياً بلغت قيمتها أكثر من 700 مليار دولار فقط. ذكرت "نيويورك تايمز"، من جهتها، في 16/5/2025، أن هناك مبالغات في قيم الصفقات المعلنة، مثل صفقة طائرات "بوينغ" لقطر، والتي قال ترامب إن قيمتها تبلغ 200 مليار دولار، في حين أن تقريراً للبيت الأبيض أظهر أن قيمتها هي 96 مليار دولار، كما أن كثيراً من "التريليونات" المزعومة جاءت في صورة "مذكرات تفاهم" مبدئية غير ملزِمة قانونياً. وأورد تقرير في موقع CNN، في 16/5/2025، بعنوان "ما حصلت عليه دول الخليج العربية، وما لم تحصل عليه، من زيارة ترامب"، أن السعودية أرادت اتفاق حماية أمنية مع الولايات المتحدة، والحق في تخصيب اليورانيوم، ولم تحصل عليهما، مع تلميح أن العائق هو تأخرها عن الانضمام إلى "الاتفاقات الإبراهيمية" رسمياً. لكنها التزمت باستثمار 600 مليار دولار في الاقتصاد الأميركي، من ضمنها صفقة شراكة دفاعية بقيمة 142 مليار "يمكن أن تمهد الطريق لاتفاقٍ أوسع". لفت تقرير لوكالة "أسوشييتد برس"، من جهته، في 13/5/2025، أن البلدان الثلاثة التي يزورها ترامب تنشط فيها "منظمة ترامب"، أي شركته التجارية التي يديرها ابناه، في إنشاء مشاريع عقارية كبيرة: برج في جدة، وفندق فاخر في دبي، وملعب غولف و"مجمع فيللات" في قطر، في تلميح إلى تضارب مصالح محتمل بين دور ترامب كرئيس ودوره كصاحب شركة عقارية ضخمة. أحضر ترامب معه في زيارته الخليجية رتلاً كاملاً من المديرين التنفيذيين للشركات الأميركية الكبرى، كما رأينا. والعبرة هنا إفهام هؤلاء أنه كرئيس راعٍ لمصالحهم وأن ولاءهم، وكل ما يملكونه من نفوذ، يجب أن يلقى خلفه وخلف مشروعه السياسي، وخصوصاً أن معظم الصفقات التجارية ومذكرات التفاهم وقعت خليجياً مع تلك الشركات، لكنْ ضمن الإطار الاستراتيجي العام الذي رسمته إدارة ترامب، وبإشرافها، وخصوصاً في القطاعات الحساسة مثل صناعة السلاح وأشباه الموصلات المتقدمة. وليس مهماً أن يتحدث ترامب عن صفقات بقيمة تريليوني دولار، أو ثلاثة تريليونات، أو أربعة، في حين أن قيمتها أقل من ثلاثة أرباع التريليون، لأن التريليونات المقصودة هدفها حصد مليارات الإعجابات أميركياً ودولياً، من خلال إدارة "سياسة الصورة" لتسويق ترامب شخصياً ومشروعه لاستعادة هيمنة الولايات المتحدة في مواجهة الصين.