logo
خديعة إيران.. ترامب ونتنياهو وعقيدة "الشرطي الطيب والشرطي الشرير"

خديعة إيران.. ترامب ونتنياهو وعقيدة "الشرطي الطيب والشرطي الشرير"

العربي الجديدمنذ 7 ساعات

"كل شرطي جيّد بحاجة إلى شرطي شرّير" هو مثلٌ دارج في الثقافة الأميركية، ومرجعه إلى حيلة نفسية تقليدية ظلّت تستخدم في السجون لاستمالة المتهم إلى التعاون عبر التناوب على طريقتين: التعذيب والاسترضاء؛ بحيث يتقمّص أحد شرطيين دور العدوانيّ الذي يتحرّى الأذى، ويتقمّص آخر دور الودود الذي يقصد المساعدة، لكن في حقيقة الأمر، من يضرب ومن يطبب كلاهما يعمل معاً. الغاية من تلك الحيلة النفسية تتجاوز المناورة والخديعة، إلى توفير منفذ سيكولوجيّ لمن عاز القدرة، ولم يبق له إلا العناد والمقاومة. يمكن القول إن تلك الاستراتيجية متأصلة في صلب السياسة الأميركية الخارجية، حرباً أو دبلوماسية، ولها صنوف وتبدّلات، آخرها ما حدث على امتداد الأشهر الماضية، وأفضى إلى
الخديعة الاستراتيجية
التي سبقت ضربة البداية على إيران، بينما أهم قادتها وجنرالاتها وعلمائها نيام في مساكنهم.
شهور من الخديعة
أن تضرب إسرائيل عشية الحديث عن مفاوضات فهذا ليس بجديد، بل هو ديدنها، أقلّه منذ أوّل حروبها على غزة عام 2008، حينما أوهمت المقاومة بأنها في صدد اجتماع لبحث تمديد الهدنة بعد عطلة سبت، لتقصف في اليوم ذاته؛ وصولاً إلى الحرب الراهنة، في فصول عديدة منها، أبرزها ما سبق
هجمات "البيجر"
، حينما كانت الأطراف تضع اللمسات الأخيرة على اتفاق هدنة في الشمال، برعاية أميركية. يتجاوز الأمر لدى إسرائيل، في صورة
بنيامين نتنياهو
الصورة
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولد في يافا عام 1949، تولى منصب رئاسة الوزراء أكثر من مرة، منذ 1996، وعرف بتأييده للتوسع في المستوطنات، ودعم حركة المهاجرين الروس، وتشدده تجاه الفلسطينيين. وشارك في العديد من الحروب والعمليات العسكرية التي قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي. وأثناء رئاسته للوزراء شن 6 حروب على قطاع غزة بين عامي 2012 و2023.
بالذات، مبدأ الخديعة إلى الاستعراض واعتناق دمغة "المكر"؛ وقد تجسّد هذا، مثلاً، في حالة النقض الدامي لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة، في 17 مارس/آذار الماضي، بعد يوم من ادعاء مكتب نتنياهو أنه "وجّه فريق التفاوض بالتحضير لاستئناف مفاوضات غزة".
غير أن ما يندر التنبّه إليه عادة في هذا النقاش هو الدور الأميركي الفاعل -لا المزكّي وحسب- في عقيدة الخداع الإسرائيلية. في حالة إيران تحديداً، يمكن القول إن ما جرى في الأشهر التالية لدخول ترامب البيت الأبيض، بدءاً من مشاركته مقطع فيديو على "تروث سوشيال" عن نوايا نتنياهو لتوريط واشنطن في خوض حربها مع إيران، عبوراً إلى ما سرّب عن شقاق بين كلا الحليفين، وعن نقاشات محتدّة في الدوائر المغلقة، إلى
الاتفاق الأميركي المباشر مع الحوثيين
بمعزل عن إسرائيل، وما تبعه من اتفاق مع "حماس"، ثم
الجولة الشرق أوسطية التي استثنى فيها ترامب تل أبيب من جدول زياراته
، وصولاً إلى
تحذيره علنا
ً، في الأيام الأخيرة، نتنياهو من الهجوم على إيران قبل إعطاء المفاوضات فرصة وافية، كلّ ذلك كان استشرافاً للهجوم الإسرائيلي في صورته المخاتلة، وفق حبكة مثّل فيها ترامب دور "الشرطي الجيّد"، إزاء نتنياهو- "الشرطي الشرير".
رصد
التحديثات الحية
أكاذيب وخلاف ترامب ونتنياهو... تفاصيل عملية إسرائيلية لخداع إيران
ضمن قراءة استرجاعية لكل ذلك، وأيضاً للتنافر الصارخ ما بين صقوريّة ترامب الراسخة إزاء إيران، والتي تجسّدت بإلغاء الاتفاق النووي، والإقدام على اغتيال أهم جنرالاتها العسكريين في ولايته الأولى، ثمّ نكوصه إلى انتقاد "صقورية نتنياهو" إزاءها، ثمّة ما يبرّر الادعاء بأن مشهد الحرب الراهنة مع إيران كان في مخيّلة مديري السياسة الأميركية الجدد منذ اللحظة الأولى، وأن ما تبع لم يكن محض تخبّط بقدر ما كان تخطيطاً برسم الدبلوماسية والخديعة. هذا ليس استنتاجاً استباقياً، بل استتباعاً لما تؤكده المعطيات، والسوابق، وأبعد من ذلك، ما تباهى به معلّقون إسرائيليون علناً على قنوات التلفزة، ولاحقاً، رئيس حكومة الاحتلال نفسه.
سوابق خلال الحرب
من السوابق التي يمكن الإشارة إليها، ضمن ثنائية ترامب ونتنياهو تحديداً، هي الصورة التي جرى عليها إخراج خطة بايدن بشأن وقف إطلاق النار- المرحلة الأولى منه. كما هو معلوم، ظلّ هذا الاتفاق يواجَه بصدّ إسرائيلي حتى انتقاله إلى عهدة ترامب، الذي أرسل مبعوثه "ليوبّخ نتنياهو يوم عطلة السبت"، من دون أن يترك له أي خيار؛ وهذا فحوى ما سرّب في الصحف حينها. بدا وكأن الاتفاق كان معزوّاً لترامب، لـ"كراهيته للحروب"، كما ردد في أكثر من مناسبة خلال حملته الانتخابية، بالذات عند سؤاله عن حرب غزة، ولثأر قديم مع نتنياهو، يعود إلى تهنئة هذا الأخير خصمه جو بايدن، وسط مزاعم التزوير التي أطلقها، ولتنصّله من المشاركة في اغتيال قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، كما أرادت بعض التحليلات. لكن مع المشارفة على المرحلة الثانية من
اتفاق وقف إطلاق النار
نص اتفاق وقف إطلاق النار في غزة 15 يناير 2025
في 15 يناير/ كانون الثاني 2025، أعلن رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني نص اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، والذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير/ كانون الثاني 2025، بوساطة قطرية مصرية أميركية.
، كان ترامب ذاته هو من تنكر لمبادئ الاتفاق، وأراد تحويرها إلى تمديد المرحلة الأولى، تحت طائلة "فتح أبواب الجحيم"؛ وهو ما كان.
في تلك الأيام تحديداً، أي آخر أيام المرحلة الأولى، كانت الإدارة الأميركية، للمرة الأولى، تفاوض "حماس" مباشرة، وكان مبعوثها السابق لشؤون الأسرى، آدم بوهلر، يصف مسؤولي "حماس" علناً بأنهم "أشخاص لطيفون". لاحقاً، بدا أن الخلاصة من كلّ ذلك هي محاولة استدرج "حماس" إلى الخطة الإسرائيلية المبيّتة: تمديد المرحلة الأولى بدلاً من الانتقال إلى الثانية. ثمّ بعد العودة إلى القتال، وحينما أوشكت سياسة التجويع على أن تجعل الإبادة أكثر افتضاحاً، بعد أشهر من تهديد ترامب شعب غزة -لا حماس- بـ"أنهم سيكونون في عداد موتى"، عاودت واشنطن مفاوضة "حماس"، وللمفارقة، ضمن الحيلة الإخراجية ذاتها، أي الإيهام بوجود خلاف مع تل أبيب. الرواية هذه المرة كانت ما نشر في "أكسيوس"، ولاحقاً غيره من المنصّات الإعلامية، عن مكالمة متشنّجة بين ترامب ونتنياهو انتهت بإغلاق الأوّل الهاتف في وجه صديقه، ممتعضاً من "محاولة التلاعب به".
أخبار
التحديثات الحية
"سي أن أن": الهجوم الإسرائيلي ضد إيران قد يمتد أسابيع
ضمن هذا السياق، شهدنا اتفاق
الإفراج عن الأسير الأميركي- الإسرائيلي عيدان ألكسندر
، ثم ما أساله من حبر عن "إحراج تاريخي" لإسرائيل، ونتنياهو تحديداً. كان من ذلك أيضاً ما تداولته المنصات الإعلامية عن تخصيص الأسير الإسرائيلي ترامب بالشكر، وعن رفضه استقبال مكالمة نتنياهو. لكن المكالمة حدثت في اليوم اللاحق، موصولة بالشكر؛ وخلالها كشف ويتكوف، الذي كان وسيطاً فيها، عن أن نتنياهو كان طرفاً في هذا الأمر منذ بدايته.
عشية الضربة
كل تلك الحلقات المتشابكة من تكامل الأدوار بين "الشرطي الجيد والشرطي الشرير"، كانت تدور ضمن حلقة كبيرة من الخديعة، والتضليل، والإرباك؛ ويمكن الاستنتاج بأن إيران كانت الهدف المنظور في أقصى بؤرتها. هكذا، "وقعت عملية مكر محكمة، من ضمنها كان ثمّة استعمال للصحف من الجانب الأميركي والجانب الإسرائيلي على حد سواء، وبعض ما سمعناه من تسريبات في الشهرين الأخيرين عن نزاع بين نتنياهو وترامب جاء من أطراف مضادة لإدارة (ترامب) وحكومة نتنياهو -على سبيل المثال من الأوساط المناهضة داخل الحزب الجمهوري- غير أن بعض الإيجازات التي منحت للصحف كانت إيجازات كاذبة جرى تسريبها عن سابق قصد؛ وهي عملية نادرة جدّاً، لا يتطرّق لها الساسة، جرى على شاكلتها العديد من المناورات التي استخدمت فيها الصحف مجاديف، وهكذا تمكّنوا من خلق الانطباع لدى الإيرانيين بأن كل شيء على ما يرام؛ بأن ترامب معني باتفاق وبأي ثمن، بأنه غاضب من نتنياهو ويمارس ضغطاً مكثّفاً ضدّه لتجنب الهجوم، ولكن من خلف الكواليس كان ثمّة توافق شبه تام بين الطرفين.
ليس هذا للقول إنه لم يكن ثمّة تداول في وجهات النظر، ولكن الأكيد هو أن الخديعة كانت معدّة سلفاً؛ وآخر فصولها، التقارير عن سفر رئيس الموساد، ديفيد برنيع، والوزير رون ديرمر للقاء ويتكوف في واشنطن قبل جولة المفاوضات القادمة مع إيران؛ ولكن في هذه المرحلة الجميع في أميركا وإسرائيل عرف أن ديرمر وبرنيع لن يطيرا إلى أي مكان، بل إن المقاتلات الإسرائيلية هي التي ستطير إلى إيران". الحديث هنا لمراسل الشؤون العسكرية للقناة الرابعة عشرة العبرية (الواجهة الإعلامية الأبرز لحكومة نتنياهو)، تامير موراغ، على المباشر في ثاني أيام الحرب.
كلّ ذلك قبل أن
يخرج نتنياهو نفسه
، أيضاً من مبدأ التباهي والاستعراض، على "فوكس نيوز"، مساء الأحد، ليكشف بأن ترامب ساعد في "إحداث عنصر المفاجأة من خلال مطالبتنا بعدم الهجوم" على إيران. في إسرائيل يُشيعون بأن النشر المُسبق لخبر زواج ابن نتنياهو في التاريخ الذي حُدِّد للضربة كان أيضاً ضمن حلقة الخديعة، لكن رغم ذلك أيضاً، لا يمكن القول إن هذا جرى بكثير من الابتكار. كان لدى إيران العديد من السوابق؛ وقد سمعنا الأسطوانة المشروخة ذاتها في الصحف في الأيام السابقة للحرب. قبل نحو أسبوع مثلاً، "كشفت" صحيفة "نيويورك تايمز" أن "النقاشات حول الوسيلة المثلى لمنع إيران من إنتاج القنبلة النووية تسبّبت بمحادثة واحدة متشنّجة على الأقل بين نتنياهو وترامب، وسلسلة من الاجتماعات الصاخبة بين المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين".
دمغة الدجال
ليس هذا ادعاء بأن ما جرى بدعة دهاء من ترامب، أو حتى نتنياهو. في الواقع، ما زالت الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تعيد تدوير استراتيجية "الشرطيين" ذاتها في التعامل مع إيران منذ مطلع الألفية الثانية، وهذا بشهادة نائب وزير الخارجية الأميركية السابق، ريتشارد أرميتاغ، الذي قال في نوفمبر/تشرين الثاني 2004، إن "الإغراءات الأوروبية تعمل بوصفها دعامة خلفية للموقف الأميركي المتصلب حيال القضية؛ وفي اللغة الدارجة، هي نوع من تنسيق الشرطي الجيد والشرطي الشرير".
لكن أبعد من ذلك، يمكن القول إن "ثنائية الدجل" تلك هي، في أساسها، دمغة جوهرية في العقل السياسي الأميركي، وأنها تمثّل قاعدة غير مكتوبة تحكم أسلوب عمل المنظومة، يعيها الرؤساء المتعاقبون جيّداً، ودونهم المرؤوسون، من الوزراء وأعضاء الكونغرس، إلى الموظفين الفيدراليين. يشرح جون شيتل، في مقال يعود إلى عام 1995، منشور في مجلة "ذا ناشونال إنترست"، كيف أن فكرة "الشرطيين" ليست فبركة "مسرحيّة" وحسب، بل متأصلة في ثنائية "الصقور والحمائم" الأميركية، في تشعّبها الرئيسي الممثّل بـ"المحافظين والديمقراطيين"، وأيضاً تلافيفها العابرة للحزبين.
يقف معظم القراءات السياسية عند تصديق مبسّط لتلك الثنائية على أنها قادحة لتبدّلات واختلافات حقيقية في السياسة الخارجية الأميركية، والواقع أن تلك التبدّلات يكمّل بعضها بعضاً، بالطريقة ذاتها التي يتكامل فيها النظام السياسي الأميركي داخليّاً على امتداد القطبين. بكلمات شيتل نفسه، فإن "النظام السياسي الأميركي يبدو غير متناسق إلى حد الفوضى، ومتنازعاً إلى حد الجمود، وغير قابل للتنبؤ (...) لكن تلك الاختلافات، التي يرى فيها بعض الملاحظين ضعفاً، كانت موضع القوة الرئيسي للسياسة الأميركية: لقد شكّلت نمطاً تبادليّاً بين الشرطي الجيد والشرطي الشرير؛ وهذه التبادلية لم تصعّب على الخصوم فهمنا وحسب، بل كانت مزعزعة للأنظمة الديكتاتورية".
يمكن إسقاط هذه القراءة أيضاً على اللحظة الراهنة. لقد كانت التسريبات الصحافية -التي يصفها المعلّق الإسرائيلي بـ"المدبّرة"- حاضرة أيضاً في عهد بايدن، مع كل تلويح بضرب إيران، وقد سرّبت إدارة هذا الأخير حتى الخطط العملياتية للهجوم الإسرائيلي إلى الإعلام. بمعزل عما إذا كان ذلك "مدبّراً" أم لا، فإن الحقيقة هي أن كلّ ما حدث، بين عهدي بايدن وترامب، كان يخدم عمليّاً الخديعة التي وقعت أخيراً.
كما يمكن إسقاط القراءة إياها أيضاً على سيرورة الملفّ النووي الإيراني برمّته، منذ زمن أوباما، إلى الحرب الدائرة اليوم. لم يكن الاتفاق النووي صنيعة أوباما وحده، بل عملاً متقاطعاً بين الوكالات الفيدرالية، من الـ"سي آي إيه" إلى البيت الأبيض، ولم يكن نقضه رهن جرّة قلم انفعالية من رئيس لاحق، بل حاصل حركيّة أعمق من ذلك. المراد قوله هنا كلّ ما أنجزته خلية العمل المتشابكة في خدمة تلك الرؤية "الحمائمية" كان يحدث في دائرة أوسع، تشمل القطب الأكثر تصلّباً في النظام السياسي الأميركي؛ وتتيح لقادة صقوريين آخرين، على شاكلة ترامب، الصعود إلى السلطة عند أي مفترق انتخابي. هكذا يصير الاتفاق تحت طائلة النقض مع تداول السلطة، وتبلغ الحيلة تمامها.
هذا ليس ادعاء بأنه كان مؤامرة محبوكة سلفاً بين أوباما وترامب، بل للقول إن النظام الأميركي مصمّم بطريقة تسمح بتبدّل دائم بين الدبلوماسية ونقيضها، وبين الاتفاقات ونقضها؛ وكلٌّ مكمّل للآخر. لقد استعاد معاون أوباما الأول، بايدن، السلطة سريعاً، وصارت استعادة الاتفاق ممكنة؛ غير أن هذا لم يحدث، وكان الأخير متناسقاً مع ترامب في طلب تنازلات إضافية من طهران. عملية "الاستدراج" تلك، أي التقلّب بين الاتفاقيات لانتزاع التنازلات، كانت حاضرة أيضاً في الحرب على غزة. كان "ترامب (الشرطي الشرير) بحاجة إلى بايدن (الشرطي الجيد) لتحقيق وقف إطلاق النار) في غزة، كما تكتب "ذا ديلي تليغراف"، لكن أيضاً، أدى الطرفان دوراً تكامليّاً حينما انتهى الرئيس الحالي إلى نقضه، والاستعاضة بآخر يستلب المزيد من المقاومة.
لقد دشّن بوش الابن عهده بعداء معلن للعالمين العربي والإسلامي، وقدّم الحجة على ذلك في حربين طاحنتين؛ ثم بعدما استهلكت الحرب مشاعر الأميركيين وجيوبهم، جاء أوباما، بـ"سلامه" الشهير في جامعة القاهرة خلال فاتحة زياراته الخارجية، وخصومته المشهودة مع نتنياهو؛ لكن في زمنه قتل من المدنيين في أفغانستان، في الهجمات المسيّرة الصامتة، أضعاف ما قتل بوش، ووصل الدعم العسكري لإسرائيل مستوى قياسيّاً. في الصورتين، العدوانية والاعتذارية، كان الأخير يستكمل ما بدأه الأول، تماماً كما كان ترامب يستكمل ما بدأه سلفه مع إيران. بمعزل عن حقيقة اعتقاد كلّ طرف بسياسته، الواقع أن حاصلهم كان يخدم الهدف ذاته، المتأصل في الحمض النووي الاستعماري الأميركي: خديعة الشعوب، إخضاعها، الهيمنة.
نظرية "الرجل المجنون"
تُستدعى هذه النظرية عادة في توصيف حالة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، الذي عرف عنه جموحه وانفلاته، وهو في ذلك، وكذاك فضائحه الداخلية، يتشارك الكثير من الخصال مع ترامب. من هذا المنطلق، ما لم يكن يقدم عليه رؤساء سابقون ممن باب اللياقة السياسية، كان مستساغاً -أو مسوّغاً- بالنسبة لنيكسون، كتلويحه باستخدام النووي إبّان الحرب مع فيتنام. لكن في الغرف المغلقة، كان وزير خارجيته، هنري كيسنجر، يؤدي دبلوماسية "الشرطي الطيب"، ويقنع الخصوم بأنه من يمسك رئيسه عن جنونه. أفضى تكامل الأدوار هذا، كما يشرح شيتل، إلى اتفاق باريس لإنهاء الحرب في فيتنام عام 1973، وإلى التدشين التاريخي للعلاقات مع الصين قبلها بعام.
تصحّ تلك النظرية على ترامب أيضاً. يقول تشيستر كروكر، إن أهم شروط فكرة "الشرطي الجيد والشرطي الشرير" هي مصداقيتها؛ أي ألا يكون هذا كلّ دور من هذين أدائيّاً، بل متوائماً مع طبيعة الشخص ذاته. في حالة ترامب، يمكن القول إن كلّ ما جرى تصديقه عن "تقلّباته المزاجية"، "انفلاته"، "شخصانيته مع نتنياهو"، "لا عقلانيته" -وكلّها طبائعه فعلاً منذ ما قبل رئاسته- كان مفيداً في تصديق ما سبق الخديعة؛ بل أبعد من ذلك، هو أيضاً عامل فائدة بالنسبة للنظام السياسي الأميركي برمّته الذي لا ينبني في أسسه على طبائع الرئيس، بل يتلوّن وفقها.
في مصنع السياسة الأميركية -الذي تغذيه آلة جمع وتحليل ضخمة للمعلومات يمثّل الرئيس ومعاونوه قمة جبل الجليد فيها وحسب- تلك الصفات/العيوب الشخصية تخدم المنطق الاستراتيجي الأوسع الذي تعمل الولايات المتحدة وفقه: الدجل، عدم القابلية للتوقع، القتل والتطهّر، الإيهام بأن القرارات الاستراتيجية هي محض قرارات شخصية للرئيس لا المؤسسة. لقد ختم هذا الأخير، مثلاً، على ما ظلّ يؤجله الرؤساء السابقون، حينما نقل سفارة بلاده إلى القدس، واعترف بها عاصمة لإسرائيل، وبالجولان جزءاً منها؛ وهو ما لم تستدرك عليه إدارة بايدن. يحتاج هذا النظام الاستعماري انفلات شخص كترامب لإنجاز ما يعجز "شرطيوها الطيبون" عن إنجازه ضمن نفاق الدبلوماسية والقانون.
أميركا المستعمرة
كلّ هذا لفهم الطريقة التي يعمل بها النظام الأميركي، ويحبك وفقها صفقاته وحروبه. نظريّاً، تقع تلك الثنائية الماكرة بين "الشرطي الطيب والشرير" في قلب المثاليات الليبرالية الأميركية المنافقة حول تقنين العنف وأداء السلمية. لكن أيضاً، لا شطط في القول إن التاريخ الأميركي برمّته هو صيرورة من كل ذلك الدجل. تَدين الولايات المتحدة في حدودها القائمة اليوم إلى "المجرمين البيض"، الذين كانوا يسلبون، وينهبون، ويقتلون السكان الأصليين في مساكنهم، ويدفعونهم إلى الرحيل. بالقدر ذاته، تدين الولايات المتحدة كذلك لنظامها القضائي الذي كان يلاحق "رعاعه البيض" ذاتهم، ويجنّد لهم أفراد إنفاذ القانون، وصائدي الجوائز، ويزجّ بهم في السجون أحياناً؛ النظام القضائي ذاته الذي رفض في نهاية المطاف مرافعات بعض الشعوب الأصلية لاستعادة أراضيها، مستخدماً مفردات من قبيل "مسار التاريخ"، و"الأمر الواقع". ترامب، وأيضاً نتنياهو، وكلاهما كذلك مجرم أبيض مدان في القضاء المحلي و/أو الدولي، ما هما إلا امتداد لذلك.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بريطانيا تعيّن أول رئيسة تجسّس... تتحدث العربية ومهووسة بالتكنولوجيا
بريطانيا تعيّن أول رئيسة تجسّس... تتحدث العربية ومهووسة بالتكنولوجيا

العربي الجديد

timeمنذ 2 ساعات

  • العربي الجديد

بريطانيا تعيّن أول رئيسة تجسّس... تتحدث العربية ومهووسة بالتكنولوجيا

في خضم ملفات سياسية وأمنية متصاعدة، أعلنت الحكومة البريطانية ، أمس الأحد، تعيين بلايز مترويلي رئيسةً لجهاز الاستخبارات الخارجية "MI6"، لتصبح بذلك الرئيسة الثامنة عشرة للجهاز، وأول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخه الممتد لأكثر من قرن. مترويلي، المعروفة خلال مسيرتها الاستخباراتية الطويلة بالاسم الحركي "آدا"، انضمت إلى الجهاز عام 1999، ولم يكن صعودها إلى القمة سهلاً، إذ تنافست على المنصب مع السفيرة البريطانية السابقة لدى الصين، باربرا وودوارد، التي اعتبرها البعض الأوفر حظاً. غير أن انتقادات لاحقتها مؤخراً لكونها "متساهلة" مع بكين، في وقت تسعى فيه لندن إلى تعزيز تحالفاتها مع واشنطن بقيادة دونالد ترامب ، ورجّحت مصادر إعلامية أن تكون مترويلي نفسها وراء حملات الانتقاد تلك. يعكس تعيين مترويلي (47 عاماً) توجه الحكومة البريطانية نحو التركيز على التكنولوجيا والاستخبارات الرقمية. فهي تشغل حالياً منصب رئيسة الفرع التقني في MI6، المسؤول عن البحث والتطوير وتزويد العملاء بالمعدات، وهو الدور المعروف في الثقافة الشعبية من خلال شخصية "Q" في سلسلة أفلام جيمس بوند، كما سبق لها أن عملت في جهاز الاستخبارات الداخلية MI5، إذ ترأست المديرية "K" المختصّة بمتابعة التهديدات الصادرة من دول تصنفها بريطانيا "معاديةً"، مثل روسيا والصين وإيران. أخبار التحديثات الحية بلايز مترويلي.. أول امرأة تترأس الاستخبارات الخارجية البريطانية وفي مقابلة أجرتها مع صحيفة فاينانشال تايمز قبل ثلاث سنوات، حين كانت تُعرف فقط باسمها الحركي، وصفت مترويلي نفسها بأنها "مهووسة بالتكنولوجيا"، وكشفت أن أول مهامها كانت في مجال مكافحة الانتشار النووي، ما منحها فرصة فريدة للتعمّق في "العلم النووي"، وبناء علاقات مع عملاء كانوا "يخاطرون بحياتهم لمشاركة الأسرار". أشارت في المقابلة ذاتها إلى أن رغبتها في أن تصبح جاسوسة بدأت منذ الطفولة، وأن كونها امرأة ساعدها أحياناً في الميدان عند تجنيد العملاء، وقالت: "عندما تقرر أن تصبح عميلاً، عليك إجراء آلاف الحسابات المبنية على المخاطر، لكن لا أحد يُعدك للاستجابات العاطفية. لا توجد قواعد للآداب. إنها منطقة رمادية. وفي تلك المساحة، تكون النساء بارعات في إيجاد أرضية مشتركة". تحمل مترويلي شهادة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية من جامعة كامبردج، وتجيد اللغة العربية بطلاقة، بحسب زملائها، كما تملك خبرة واسعة في الشرق الأوسط، بما في ذلك العمل في مناطق صراع، وهي ميزة يُتوقع أن تلعب دوراً محورياً في ظل التوترات المتصاعدة بين إسرائيل وإيران، إلى جانب ذلك، شاركت في مهام استخباراتية حساسة في أوروبا، في وقت تتعمق فيه الحرب بين روسيا وأوكرانيا وتستمر بريطانيا في دعم كييف عسكرياً واستخبارياً. تعيين مترويلي يأتي أيضاً في سياق تعزيز بريطانيا لقدراتها الدفاعية؛ إذ رفعت الحكومة إنفاقها العسكري إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان 2%، ما يمثل أكبر زيادة منذ الحرب الباردة، وستُضخ نحو 13.4 مليار جنيه إسترليني إضافية سنوياً في قطاع الدفاع حتى عام 2027، مع خطط لرفع النسبة إلى 3% بعد الانتخابات المقبلة، استجابةً لضغوط حلف الناتو، خاصة بعد تخفيض إدارة ترامب مساهماتها في تمويل الحلف. رئيس الوزراء كير ستارمر علّق على تعيين مترويلي بالقول: "في عالم يزداد اضطراباً، وتمثل التكنولوجيا قوة رئيسية ويتعاون خصومنا على نحوٍ غير مسبوق، سيكون تعيين بليز مترويلي ضماناً لقدرتنا على التصدي لهذه التحديات والحفاظ على أمن بريطانيا"، كما أعلن عن استثمار إضافي بقيمة 600 مليون جنيه في مجتمع الاستخبارات. مترويلي، التي تمضي عامها السادس والعشرين في العمل الاستخباراتي، ستحل مكان السير ريتشارد مور، الذي شغل المنصب منذ أكتوبر 2020، الذي وصف زميلته بأنها "ضابطة استخبارات وقائدة بارعة، وإحدى أبرز المفكّرين في مجال التكنولوجيا". وزير الخارجية ديفيد لامي رحّب بدوره بالتعيين، معتبراً أن خبرتها الواسعة في شتى مجالات الأمن القومي تجعلها "الأنسب لقيادة MI6 نحو المستقبل". وفي أول تصريح لها، قالت مترويلي: "يشرفني أن يُطلب مني قيادة MI6. الجهاز يلعب دوراً حيوياً إلى جانب MI5 ومقر الاتصالات الحكومية GCHQ في الحفاظ على سلامة البريطانيين وتعزيز مصالحنا في الخارج. أتطلع إلى العمل جنباً إلى جنب مع زملائي وضباطنا وشركائنا الدوليين". ورغم أن تفاصيل حياتها الشخصية لا تزال طي الكتمان، كما هو معتاد في عالم الاستخبارات، يُعرف أنها تخرجت من كلية بيمبروك في كامبردج، وشاركت في سباق القوارب الشهير عام 1997، إذ فاز فريقها على جامعة أوكسفورد، ويُعتقد أن أصول عائلتها تعود إلى جورجيا، ما يعكس خلفيتها الأوروبية الشرقية، كما مُنحت وسام قائد القوات المسلحة البريطانية (CMG) تقديراً لخدماتها في السياسة الخارجية خلال احتفالات عيد ميلاد الملك العام الماضي. وقد رأت بعض الصحف البريطانية في تعيين مترويلي تجسيداً واقعياً لما قدمته السينما، مشيرة إلى تشابه قصتها مع شخصية "M"، التي جسدتها الممثلة جودي دينش في أفلام جيمس بوند، في انعكاس لواقع باتت فيه المرأة تتصدر أعلى مواقع القرار الأمني والاستخباراتي في بريطانيا.

منظمو معرض باريس الجوي يغلقون أجنحة 4 شركات إسرائيلية
منظمو معرض باريس الجوي يغلقون أجنحة 4 شركات إسرائيلية

العربي الجديد

timeمنذ 7 ساعات

  • العربي الجديد

منظمو معرض باريس الجوي يغلقون أجنحة 4 شركات إسرائيلية

قال مسؤول في وزارة الأمن الإسرائيلية لوكالة رويترز، اليوم الاثنين، إنّ المنظمين في معرض باريس الجوي أغلقوا أجنحة الشركات الإسرائيلية الرئيسية الأربع في اليوم الافتتاحي للمعرض. من جهتهم، قال منظمو معرض باريس الجوي إنهم منخرطون في حوار لمحاولة حلّ خلاف بشأن مشاركة عدد من الشركات الإسرائيلية في الفعالية. وأمرت فرنسا في وقت سابق بإغلاق أجنحة الشركات الإسرائيلية الرئيسية الأربع في المعرض، بعد رفض هذه الشركات الامتثال لطلب إزالة أسلحة معينة من منطقة العرض. وفي يناير/ كانون الثاني الفائت، أبلغ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في اتصال هاتفي، بالسماح للشركات الإسرائيلية بالمشاركة في معرض باريس الدولي للطيران، وقال مكتب نتنياهو، في بيان، إنّ "الرئيس الفرنسي أكد لرئيس الحكومة أنّ الشركات الإسرائيلية ستتمكّن من المشاركة في معرض باريس للطيران". أخبار التحديثات الحية ماكرون يسمح للشركات الإسرائيلية بالمشاركة في معرض أسلحة بباريس وكانت السلطات الفرنسية قد ألغت مشاركة شركات الصناعات العسكرية الإسرائيلية في معرض يوروساتوري في يونيو/ حزيران 2024 الذي كان من المقرر أن تشارك فيه 74 شركة إسرائيلية. وعادت فرنسا إلى منع مشاركة الشركات الإسرائيلية في معرض يورونافال للأسلحة البحرية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. ويعتبر معرض يورونافال أكبر معرض للأسلحة البحرية في العالم. وكانت ما لا تقل عن 12 شركة إسرائيلية تعتزم عرض منتجاتها وتطوراتها المتعلقة بالحرب البحرية في المعرض. واعتبرت إسرائيل في حينه أنه من "العار" على باريس ألا يستضيف معرض يورونافال، المخصص للدفاع البحري، أي أجنحة أو معدات إسرائيلية بطلب من الحكومة الفرنسية، بحسب ما جاء في منشور لوزير الأمن السابق يوآف غالانت، مضيفاً أنّ "خطوات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هي عار على الأمة الفرنسية وقيم العالم الحر التي يزعم أنه يدعمها. قرار التمييز ضد الصناعات الدفاعية الإسرائيلية في فرنسا للمرة الثانية يساعد أعداء إسرائيل أثناء الحرب"، معتبراً أن فرنسا "تبنّت، وتطبّق باستمرار سياسة عدائية حيال الشعب اليهودي". ولا تعتبر فرنسا من كبار مورّدي الأسلحة لإسرائيل، إذ صدرت إليها معدات عسكرية بقيمة 30 مليون يورو (33 مليون دولار) في 2023. وفي إبريل/نيسان 2024 قال وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان ليكورنو إنّ الصادرات الفرنسية إلى إسرائيل لا تمثل سوى نسبة صغيرة جداً من صادرات الدفاع الفرنسية، وهي 0.2%، من إجمالي 27 مليار يورو في عام 2022، أي نحو 15 مليون يورو من شحنات الأسلحة، بالإضافة إلى 34 مليون يورو من إجمالي 8.8 مليارات يورو، للسلع "ذات الاستخدام المزدوج". وأضاف أن هذه التراخيص تتعلق "بالأساس بنقل قطع الغيار". (رويترز، العربي الجديد)

خديعة إيران.. ترامب ونتنياهو وعقيدة "الشرطي الطيب والشرطي الشرير"
خديعة إيران.. ترامب ونتنياهو وعقيدة "الشرطي الطيب والشرطي الشرير"

العربي الجديد

timeمنذ 7 ساعات

  • العربي الجديد

خديعة إيران.. ترامب ونتنياهو وعقيدة "الشرطي الطيب والشرطي الشرير"

"كل شرطي جيّد بحاجة إلى شرطي شرّير" هو مثلٌ دارج في الثقافة الأميركية، ومرجعه إلى حيلة نفسية تقليدية ظلّت تستخدم في السجون لاستمالة المتهم إلى التعاون عبر التناوب على طريقتين: التعذيب والاسترضاء؛ بحيث يتقمّص أحد شرطيين دور العدوانيّ الذي يتحرّى الأذى، ويتقمّص آخر دور الودود الذي يقصد المساعدة، لكن في حقيقة الأمر، من يضرب ومن يطبب كلاهما يعمل معاً. الغاية من تلك الحيلة النفسية تتجاوز المناورة والخديعة، إلى توفير منفذ سيكولوجيّ لمن عاز القدرة، ولم يبق له إلا العناد والمقاومة. يمكن القول إن تلك الاستراتيجية متأصلة في صلب السياسة الأميركية الخارجية، حرباً أو دبلوماسية، ولها صنوف وتبدّلات، آخرها ما حدث على امتداد الأشهر الماضية، وأفضى إلى الخديعة الاستراتيجية التي سبقت ضربة البداية على إيران، بينما أهم قادتها وجنرالاتها وعلمائها نيام في مساكنهم. شهور من الخديعة أن تضرب إسرائيل عشية الحديث عن مفاوضات فهذا ليس بجديد، بل هو ديدنها، أقلّه منذ أوّل حروبها على غزة عام 2008، حينما أوهمت المقاومة بأنها في صدد اجتماع لبحث تمديد الهدنة بعد عطلة سبت، لتقصف في اليوم ذاته؛ وصولاً إلى الحرب الراهنة، في فصول عديدة منها، أبرزها ما سبق هجمات "البيجر" ، حينما كانت الأطراف تضع اللمسات الأخيرة على اتفاق هدنة في الشمال، برعاية أميركية. يتجاوز الأمر لدى إسرائيل، في صورة بنيامين نتنياهو الصورة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولد في يافا عام 1949، تولى منصب رئاسة الوزراء أكثر من مرة، منذ 1996، وعرف بتأييده للتوسع في المستوطنات، ودعم حركة المهاجرين الروس، وتشدده تجاه الفلسطينيين. وشارك في العديد من الحروب والعمليات العسكرية التي قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي. وأثناء رئاسته للوزراء شن 6 حروب على قطاع غزة بين عامي 2012 و2023. بالذات، مبدأ الخديعة إلى الاستعراض واعتناق دمغة "المكر"؛ وقد تجسّد هذا، مثلاً، في حالة النقض الدامي لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة، في 17 مارس/آذار الماضي، بعد يوم من ادعاء مكتب نتنياهو أنه "وجّه فريق التفاوض بالتحضير لاستئناف مفاوضات غزة". غير أن ما يندر التنبّه إليه عادة في هذا النقاش هو الدور الأميركي الفاعل -لا المزكّي وحسب- في عقيدة الخداع الإسرائيلية. في حالة إيران تحديداً، يمكن القول إن ما جرى في الأشهر التالية لدخول ترامب البيت الأبيض، بدءاً من مشاركته مقطع فيديو على "تروث سوشيال" عن نوايا نتنياهو لتوريط واشنطن في خوض حربها مع إيران، عبوراً إلى ما سرّب عن شقاق بين كلا الحليفين، وعن نقاشات محتدّة في الدوائر المغلقة، إلى الاتفاق الأميركي المباشر مع الحوثيين بمعزل عن إسرائيل، وما تبعه من اتفاق مع "حماس"، ثم الجولة الشرق أوسطية التي استثنى فيها ترامب تل أبيب من جدول زياراته ، وصولاً إلى تحذيره علنا ً، في الأيام الأخيرة، نتنياهو من الهجوم على إيران قبل إعطاء المفاوضات فرصة وافية، كلّ ذلك كان استشرافاً للهجوم الإسرائيلي في صورته المخاتلة، وفق حبكة مثّل فيها ترامب دور "الشرطي الجيّد"، إزاء نتنياهو- "الشرطي الشرير". رصد التحديثات الحية أكاذيب وخلاف ترامب ونتنياهو... تفاصيل عملية إسرائيلية لخداع إيران ضمن قراءة استرجاعية لكل ذلك، وأيضاً للتنافر الصارخ ما بين صقوريّة ترامب الراسخة إزاء إيران، والتي تجسّدت بإلغاء الاتفاق النووي، والإقدام على اغتيال أهم جنرالاتها العسكريين في ولايته الأولى، ثمّ نكوصه إلى انتقاد "صقورية نتنياهو" إزاءها، ثمّة ما يبرّر الادعاء بأن مشهد الحرب الراهنة مع إيران كان في مخيّلة مديري السياسة الأميركية الجدد منذ اللحظة الأولى، وأن ما تبع لم يكن محض تخبّط بقدر ما كان تخطيطاً برسم الدبلوماسية والخديعة. هذا ليس استنتاجاً استباقياً، بل استتباعاً لما تؤكده المعطيات، والسوابق، وأبعد من ذلك، ما تباهى به معلّقون إسرائيليون علناً على قنوات التلفزة، ولاحقاً، رئيس حكومة الاحتلال نفسه. سوابق خلال الحرب من السوابق التي يمكن الإشارة إليها، ضمن ثنائية ترامب ونتنياهو تحديداً، هي الصورة التي جرى عليها إخراج خطة بايدن بشأن وقف إطلاق النار- المرحلة الأولى منه. كما هو معلوم، ظلّ هذا الاتفاق يواجَه بصدّ إسرائيلي حتى انتقاله إلى عهدة ترامب، الذي أرسل مبعوثه "ليوبّخ نتنياهو يوم عطلة السبت"، من دون أن يترك له أي خيار؛ وهذا فحوى ما سرّب في الصحف حينها. بدا وكأن الاتفاق كان معزوّاً لترامب، لـ"كراهيته للحروب"، كما ردد في أكثر من مناسبة خلال حملته الانتخابية، بالذات عند سؤاله عن حرب غزة، ولثأر قديم مع نتنياهو، يعود إلى تهنئة هذا الأخير خصمه جو بايدن، وسط مزاعم التزوير التي أطلقها، ولتنصّله من المشاركة في اغتيال قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، كما أرادت بعض التحليلات. لكن مع المشارفة على المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار نص اتفاق وقف إطلاق النار في غزة 15 يناير 2025 في 15 يناير/ كانون الثاني 2025، أعلن رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني نص اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، والذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير/ كانون الثاني 2025، بوساطة قطرية مصرية أميركية. ، كان ترامب ذاته هو من تنكر لمبادئ الاتفاق، وأراد تحويرها إلى تمديد المرحلة الأولى، تحت طائلة "فتح أبواب الجحيم"؛ وهو ما كان. في تلك الأيام تحديداً، أي آخر أيام المرحلة الأولى، كانت الإدارة الأميركية، للمرة الأولى، تفاوض "حماس" مباشرة، وكان مبعوثها السابق لشؤون الأسرى، آدم بوهلر، يصف مسؤولي "حماس" علناً بأنهم "أشخاص لطيفون". لاحقاً، بدا أن الخلاصة من كلّ ذلك هي محاولة استدرج "حماس" إلى الخطة الإسرائيلية المبيّتة: تمديد المرحلة الأولى بدلاً من الانتقال إلى الثانية. ثمّ بعد العودة إلى القتال، وحينما أوشكت سياسة التجويع على أن تجعل الإبادة أكثر افتضاحاً، بعد أشهر من تهديد ترامب شعب غزة -لا حماس- بـ"أنهم سيكونون في عداد موتى"، عاودت واشنطن مفاوضة "حماس"، وللمفارقة، ضمن الحيلة الإخراجية ذاتها، أي الإيهام بوجود خلاف مع تل أبيب. الرواية هذه المرة كانت ما نشر في "أكسيوس"، ولاحقاً غيره من المنصّات الإعلامية، عن مكالمة متشنّجة بين ترامب ونتنياهو انتهت بإغلاق الأوّل الهاتف في وجه صديقه، ممتعضاً من "محاولة التلاعب به". أخبار التحديثات الحية "سي أن أن": الهجوم الإسرائيلي ضد إيران قد يمتد أسابيع ضمن هذا السياق، شهدنا اتفاق الإفراج عن الأسير الأميركي- الإسرائيلي عيدان ألكسندر ، ثم ما أساله من حبر عن "إحراج تاريخي" لإسرائيل، ونتنياهو تحديداً. كان من ذلك أيضاً ما تداولته المنصات الإعلامية عن تخصيص الأسير الإسرائيلي ترامب بالشكر، وعن رفضه استقبال مكالمة نتنياهو. لكن المكالمة حدثت في اليوم اللاحق، موصولة بالشكر؛ وخلالها كشف ويتكوف، الذي كان وسيطاً فيها، عن أن نتنياهو كان طرفاً في هذا الأمر منذ بدايته. عشية الضربة كل تلك الحلقات المتشابكة من تكامل الأدوار بين "الشرطي الجيد والشرطي الشرير"، كانت تدور ضمن حلقة كبيرة من الخديعة، والتضليل، والإرباك؛ ويمكن الاستنتاج بأن إيران كانت الهدف المنظور في أقصى بؤرتها. هكذا، "وقعت عملية مكر محكمة، من ضمنها كان ثمّة استعمال للصحف من الجانب الأميركي والجانب الإسرائيلي على حد سواء، وبعض ما سمعناه من تسريبات في الشهرين الأخيرين عن نزاع بين نتنياهو وترامب جاء من أطراف مضادة لإدارة (ترامب) وحكومة نتنياهو -على سبيل المثال من الأوساط المناهضة داخل الحزب الجمهوري- غير أن بعض الإيجازات التي منحت للصحف كانت إيجازات كاذبة جرى تسريبها عن سابق قصد؛ وهي عملية نادرة جدّاً، لا يتطرّق لها الساسة، جرى على شاكلتها العديد من المناورات التي استخدمت فيها الصحف مجاديف، وهكذا تمكّنوا من خلق الانطباع لدى الإيرانيين بأن كل شيء على ما يرام؛ بأن ترامب معني باتفاق وبأي ثمن، بأنه غاضب من نتنياهو ويمارس ضغطاً مكثّفاً ضدّه لتجنب الهجوم، ولكن من خلف الكواليس كان ثمّة توافق شبه تام بين الطرفين. ليس هذا للقول إنه لم يكن ثمّة تداول في وجهات النظر، ولكن الأكيد هو أن الخديعة كانت معدّة سلفاً؛ وآخر فصولها، التقارير عن سفر رئيس الموساد، ديفيد برنيع، والوزير رون ديرمر للقاء ويتكوف في واشنطن قبل جولة المفاوضات القادمة مع إيران؛ ولكن في هذه المرحلة الجميع في أميركا وإسرائيل عرف أن ديرمر وبرنيع لن يطيرا إلى أي مكان، بل إن المقاتلات الإسرائيلية هي التي ستطير إلى إيران". الحديث هنا لمراسل الشؤون العسكرية للقناة الرابعة عشرة العبرية (الواجهة الإعلامية الأبرز لحكومة نتنياهو)، تامير موراغ، على المباشر في ثاني أيام الحرب. كلّ ذلك قبل أن يخرج نتنياهو نفسه ، أيضاً من مبدأ التباهي والاستعراض، على "فوكس نيوز"، مساء الأحد، ليكشف بأن ترامب ساعد في "إحداث عنصر المفاجأة من خلال مطالبتنا بعدم الهجوم" على إيران. في إسرائيل يُشيعون بأن النشر المُسبق لخبر زواج ابن نتنياهو في التاريخ الذي حُدِّد للضربة كان أيضاً ضمن حلقة الخديعة، لكن رغم ذلك أيضاً، لا يمكن القول إن هذا جرى بكثير من الابتكار. كان لدى إيران العديد من السوابق؛ وقد سمعنا الأسطوانة المشروخة ذاتها في الصحف في الأيام السابقة للحرب. قبل نحو أسبوع مثلاً، "كشفت" صحيفة "نيويورك تايمز" أن "النقاشات حول الوسيلة المثلى لمنع إيران من إنتاج القنبلة النووية تسبّبت بمحادثة واحدة متشنّجة على الأقل بين نتنياهو وترامب، وسلسلة من الاجتماعات الصاخبة بين المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين". دمغة الدجال ليس هذا ادعاء بأن ما جرى بدعة دهاء من ترامب، أو حتى نتنياهو. في الواقع، ما زالت الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تعيد تدوير استراتيجية "الشرطيين" ذاتها في التعامل مع إيران منذ مطلع الألفية الثانية، وهذا بشهادة نائب وزير الخارجية الأميركية السابق، ريتشارد أرميتاغ، الذي قال في نوفمبر/تشرين الثاني 2004، إن "الإغراءات الأوروبية تعمل بوصفها دعامة خلفية للموقف الأميركي المتصلب حيال القضية؛ وفي اللغة الدارجة، هي نوع من تنسيق الشرطي الجيد والشرطي الشرير". لكن أبعد من ذلك، يمكن القول إن "ثنائية الدجل" تلك هي، في أساسها، دمغة جوهرية في العقل السياسي الأميركي، وأنها تمثّل قاعدة غير مكتوبة تحكم أسلوب عمل المنظومة، يعيها الرؤساء المتعاقبون جيّداً، ودونهم المرؤوسون، من الوزراء وأعضاء الكونغرس، إلى الموظفين الفيدراليين. يشرح جون شيتل، في مقال يعود إلى عام 1995، منشور في مجلة "ذا ناشونال إنترست"، كيف أن فكرة "الشرطيين" ليست فبركة "مسرحيّة" وحسب، بل متأصلة في ثنائية "الصقور والحمائم" الأميركية، في تشعّبها الرئيسي الممثّل بـ"المحافظين والديمقراطيين"، وأيضاً تلافيفها العابرة للحزبين. يقف معظم القراءات السياسية عند تصديق مبسّط لتلك الثنائية على أنها قادحة لتبدّلات واختلافات حقيقية في السياسة الخارجية الأميركية، والواقع أن تلك التبدّلات يكمّل بعضها بعضاً، بالطريقة ذاتها التي يتكامل فيها النظام السياسي الأميركي داخليّاً على امتداد القطبين. بكلمات شيتل نفسه، فإن "النظام السياسي الأميركي يبدو غير متناسق إلى حد الفوضى، ومتنازعاً إلى حد الجمود، وغير قابل للتنبؤ (...) لكن تلك الاختلافات، التي يرى فيها بعض الملاحظين ضعفاً، كانت موضع القوة الرئيسي للسياسة الأميركية: لقد شكّلت نمطاً تبادليّاً بين الشرطي الجيد والشرطي الشرير؛ وهذه التبادلية لم تصعّب على الخصوم فهمنا وحسب، بل كانت مزعزعة للأنظمة الديكتاتورية". يمكن إسقاط هذه القراءة أيضاً على اللحظة الراهنة. لقد كانت التسريبات الصحافية -التي يصفها المعلّق الإسرائيلي بـ"المدبّرة"- حاضرة أيضاً في عهد بايدن، مع كل تلويح بضرب إيران، وقد سرّبت إدارة هذا الأخير حتى الخطط العملياتية للهجوم الإسرائيلي إلى الإعلام. بمعزل عما إذا كان ذلك "مدبّراً" أم لا، فإن الحقيقة هي أن كلّ ما حدث، بين عهدي بايدن وترامب، كان يخدم عمليّاً الخديعة التي وقعت أخيراً. كما يمكن إسقاط القراءة إياها أيضاً على سيرورة الملفّ النووي الإيراني برمّته، منذ زمن أوباما، إلى الحرب الدائرة اليوم. لم يكن الاتفاق النووي صنيعة أوباما وحده، بل عملاً متقاطعاً بين الوكالات الفيدرالية، من الـ"سي آي إيه" إلى البيت الأبيض، ولم يكن نقضه رهن جرّة قلم انفعالية من رئيس لاحق، بل حاصل حركيّة أعمق من ذلك. المراد قوله هنا كلّ ما أنجزته خلية العمل المتشابكة في خدمة تلك الرؤية "الحمائمية" كان يحدث في دائرة أوسع، تشمل القطب الأكثر تصلّباً في النظام السياسي الأميركي؛ وتتيح لقادة صقوريين آخرين، على شاكلة ترامب، الصعود إلى السلطة عند أي مفترق انتخابي. هكذا يصير الاتفاق تحت طائلة النقض مع تداول السلطة، وتبلغ الحيلة تمامها. هذا ليس ادعاء بأنه كان مؤامرة محبوكة سلفاً بين أوباما وترامب، بل للقول إن النظام الأميركي مصمّم بطريقة تسمح بتبدّل دائم بين الدبلوماسية ونقيضها، وبين الاتفاقات ونقضها؛ وكلٌّ مكمّل للآخر. لقد استعاد معاون أوباما الأول، بايدن، السلطة سريعاً، وصارت استعادة الاتفاق ممكنة؛ غير أن هذا لم يحدث، وكان الأخير متناسقاً مع ترامب في طلب تنازلات إضافية من طهران. عملية "الاستدراج" تلك، أي التقلّب بين الاتفاقيات لانتزاع التنازلات، كانت حاضرة أيضاً في الحرب على غزة. كان "ترامب (الشرطي الشرير) بحاجة إلى بايدن (الشرطي الجيد) لتحقيق وقف إطلاق النار) في غزة، كما تكتب "ذا ديلي تليغراف"، لكن أيضاً، أدى الطرفان دوراً تكامليّاً حينما انتهى الرئيس الحالي إلى نقضه، والاستعاضة بآخر يستلب المزيد من المقاومة. لقد دشّن بوش الابن عهده بعداء معلن للعالمين العربي والإسلامي، وقدّم الحجة على ذلك في حربين طاحنتين؛ ثم بعدما استهلكت الحرب مشاعر الأميركيين وجيوبهم، جاء أوباما، بـ"سلامه" الشهير في جامعة القاهرة خلال فاتحة زياراته الخارجية، وخصومته المشهودة مع نتنياهو؛ لكن في زمنه قتل من المدنيين في أفغانستان، في الهجمات المسيّرة الصامتة، أضعاف ما قتل بوش، ووصل الدعم العسكري لإسرائيل مستوى قياسيّاً. في الصورتين، العدوانية والاعتذارية، كان الأخير يستكمل ما بدأه الأول، تماماً كما كان ترامب يستكمل ما بدأه سلفه مع إيران. بمعزل عن حقيقة اعتقاد كلّ طرف بسياسته، الواقع أن حاصلهم كان يخدم الهدف ذاته، المتأصل في الحمض النووي الاستعماري الأميركي: خديعة الشعوب، إخضاعها، الهيمنة. نظرية "الرجل المجنون" تُستدعى هذه النظرية عادة في توصيف حالة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، الذي عرف عنه جموحه وانفلاته، وهو في ذلك، وكذاك فضائحه الداخلية، يتشارك الكثير من الخصال مع ترامب. من هذا المنطلق، ما لم يكن يقدم عليه رؤساء سابقون ممن باب اللياقة السياسية، كان مستساغاً -أو مسوّغاً- بالنسبة لنيكسون، كتلويحه باستخدام النووي إبّان الحرب مع فيتنام. لكن في الغرف المغلقة، كان وزير خارجيته، هنري كيسنجر، يؤدي دبلوماسية "الشرطي الطيب"، ويقنع الخصوم بأنه من يمسك رئيسه عن جنونه. أفضى تكامل الأدوار هذا، كما يشرح شيتل، إلى اتفاق باريس لإنهاء الحرب في فيتنام عام 1973، وإلى التدشين التاريخي للعلاقات مع الصين قبلها بعام. تصحّ تلك النظرية على ترامب أيضاً. يقول تشيستر كروكر، إن أهم شروط فكرة "الشرطي الجيد والشرطي الشرير" هي مصداقيتها؛ أي ألا يكون هذا كلّ دور من هذين أدائيّاً، بل متوائماً مع طبيعة الشخص ذاته. في حالة ترامب، يمكن القول إن كلّ ما جرى تصديقه عن "تقلّباته المزاجية"، "انفلاته"، "شخصانيته مع نتنياهو"، "لا عقلانيته" -وكلّها طبائعه فعلاً منذ ما قبل رئاسته- كان مفيداً في تصديق ما سبق الخديعة؛ بل أبعد من ذلك، هو أيضاً عامل فائدة بالنسبة للنظام السياسي الأميركي برمّته الذي لا ينبني في أسسه على طبائع الرئيس، بل يتلوّن وفقها. في مصنع السياسة الأميركية -الذي تغذيه آلة جمع وتحليل ضخمة للمعلومات يمثّل الرئيس ومعاونوه قمة جبل الجليد فيها وحسب- تلك الصفات/العيوب الشخصية تخدم المنطق الاستراتيجي الأوسع الذي تعمل الولايات المتحدة وفقه: الدجل، عدم القابلية للتوقع، القتل والتطهّر، الإيهام بأن القرارات الاستراتيجية هي محض قرارات شخصية للرئيس لا المؤسسة. لقد ختم هذا الأخير، مثلاً، على ما ظلّ يؤجله الرؤساء السابقون، حينما نقل سفارة بلاده إلى القدس، واعترف بها عاصمة لإسرائيل، وبالجولان جزءاً منها؛ وهو ما لم تستدرك عليه إدارة بايدن. يحتاج هذا النظام الاستعماري انفلات شخص كترامب لإنجاز ما يعجز "شرطيوها الطيبون" عن إنجازه ضمن نفاق الدبلوماسية والقانون. أميركا المستعمرة كلّ هذا لفهم الطريقة التي يعمل بها النظام الأميركي، ويحبك وفقها صفقاته وحروبه. نظريّاً، تقع تلك الثنائية الماكرة بين "الشرطي الطيب والشرير" في قلب المثاليات الليبرالية الأميركية المنافقة حول تقنين العنف وأداء السلمية. لكن أيضاً، لا شطط في القول إن التاريخ الأميركي برمّته هو صيرورة من كل ذلك الدجل. تَدين الولايات المتحدة في حدودها القائمة اليوم إلى "المجرمين البيض"، الذين كانوا يسلبون، وينهبون، ويقتلون السكان الأصليين في مساكنهم، ويدفعونهم إلى الرحيل. بالقدر ذاته، تدين الولايات المتحدة كذلك لنظامها القضائي الذي كان يلاحق "رعاعه البيض" ذاتهم، ويجنّد لهم أفراد إنفاذ القانون، وصائدي الجوائز، ويزجّ بهم في السجون أحياناً؛ النظام القضائي ذاته الذي رفض في نهاية المطاف مرافعات بعض الشعوب الأصلية لاستعادة أراضيها، مستخدماً مفردات من قبيل "مسار التاريخ"، و"الأمر الواقع". ترامب، وأيضاً نتنياهو، وكلاهما كذلك مجرم أبيض مدان في القضاء المحلي و/أو الدولي، ما هما إلا امتداد لذلك.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store