
استدامة الشعوب!
تجد الهمّ الأكثر إلحاحًا للحكومات والملف الذي لا يغادر أي طاولة اجتماعات هو "الاستدامة"؛ يلقون الخطب الرنّانة عن التنمية المستدامة والحفاظ على الموارد، ويقيسون التقدم والازدهار بمؤشرات اقتصادية وجداول وإحصائيات وأرقام ليس للإنسان فيها مكان، متناسين أن الإنسان نفسه هو العنصر الأهم في المعادلة.. فكيف تحقق الدول الاستدامة في الاقتصاد أو الموارد إذا كانت عاجزةً عن ضمان استدامة أرواح مواطنيها؟
من المثير للسخرية أنهم يخططون لكيفية إدارة الأجيال القادمة لمواردها واحتياجاتها ومتطلباتها، بينما يقضون على كل شكل أو مظهر يضمن حتى وجود أجيال قادمة!
منذ أن راج مصطلح "الاستدامة" قبل نحو عقد من الزمان على لسان الأمم المتحدة أولًا، ثم الحكومات ثانيًا، تحوّل إلى شعار منتشر يجب أن يُذكر في أي محفل إقليمي أو عالمي؛ ليدلّ على حرص واهتمام المتحدث بـ "الكوكب" و"التخضير"، ولا تجد أي قائد إلا ويضع أهداف التنمية المستدامة (SDGs) في أجنداته القومية وخططه وإستراتيجياته الوطنية، في حين أن هؤلاء القادة الذين يزعجوننا بخطاباتهم الطويلة في المؤتمرات والقمم والأخبار عن الاستدامة، هم أنفسهم من يؤيدون ويدعمون شنّ الحروب والمجاعات وقتل الشعوب بالفقر والصراعات.
يتحدثون عن "مستقبل الكوكب" وكأن الإنسان، الذي هو أصل وأساس الحياة على الكوكب، ضمِن سلامته ومستقبله وحياته، وحان الآن وقت إيلاء الاهتمام لمستقبل الكوكب الذي يعيش عليه، وكأن التهديد له كل لحظة باندلاع الحروب ليس على يد من يحركون خيوط السلطة! ينادون بـ"الاستدامة البيئية" وهم يسمحون بتهجير الملايين، وتدمير المدن ومظاهر الحياة في الدول، يتحدثون عن "التنمية والازدهار والانتعاش الاقتصادي" وهم يبيدون الأيدي العاملة، ويهلكون ويذبحون ويحرقون البشر، ويرتكبون بحقّهم المجازر.
التناقض الصارخ هو ما يظهر أمام أعيننا في تعريف التنمية المستدامة الرسمي، وهو "تلبية حاجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها"؛ فمن المثير للسخرية أنهم يخططون لكيفية إدارة الأجيال القادمة لمواردها واحتياجاتها ومتطلباتها، بينما يقضون على كل شكل أو مظهر يضمن حتى وجود أجيال قادمة! أجيال سليمة، قادرة على العيش والعمل والسعي والنهوض بأوطانها، فبدون شعب سالم آمن، لا معنى لاستدامة الموارد أو الاقتصاد، فما قيمة "إنقاذ الغابات" و"العمل المناخي والبيئي" إذا كان الأطفال الذين سيحملون الأوطان على أكتافهم في المستقبل يموتون جوعًا؟
الاستدامة ليس من المفترض أن تكون مجرد مشاريع اقتصادية ضخمة، بل هي بالأساس مسألة إنسانية بحتة، فلا يمكن لدولة أن تدّعي التزامها بالتنمية المستدامة إذا كانت مواردها تُنفق على التسليح والإرهاب بدلًا من التعليم والصحة
لا يوجد ما يناقض فكرة الاستدامة أكثر من الحروب، والأكثر سخافة أن الدول الكبرى التي تموّل هذه الحروب هي نفسها التي تصنع وتوقع على اتفاقيات المناخ، وتتغنّى بأهداف التنمية المستدامة! أعتقد أنه حين تُدمّر المستشفيات والمدارس، وتُحرم أجيال كاملة من التعليم والغذاء والمأوى، فإن أي حديث عن "مستقبل مستدام" يصبح كلامًا أجوف، فالاستدامة الحقيقية تبدأ بوقف القتل والدمار، لأن الإنسان الذي يُقتل اليوم لن يعيش ليُشارك في غدٍ أفضل ويساهم في بنائه.
الاستدامة ليس من المفترض أن تكون مجرد مشاريع اقتصادية ضخمة، أو اختراعات تقنية أو استثمارات، بل هي بالأساس مسألة إنسانية بحتة، فلا يمكن لدولة أن تدّعي التزامها بالتنمية المستدامة إذا كانت مواردها تُنفق على التسليح والإرهاب بدلًا من التعليم والصحة.
أتمنى أن يأتي اليوم الذي يكترث فيه القادة لاستدامة شعوبهم أولًا، وضمان حياة كريمة للإنسان من المهد إلى اللحد، حياة ينال فيها حقه في الأمان والغذاء والرعاية الصحية والتعبير والتعليم والعمل، دون تمييز أو قمع أو خوف من الظلم.. حينها تصبح استدامة الموارد والاقتصاد والبيئة موضوعًا قابلًا للنقاش.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 10 ساعات
- الجزيرة
مصادر دبلوماسية للجزيرة: الدول العشر المنتخبة في مجلس الأمن تطلب التصويت اليوم على مشروع قرار إنساني بشأن غزة
عاجل | مصادر دبلوماسية للجزيرة: الدول العشر المنتخبة في مجلس الأمن تطلب التصويت اليوم على مشروع قرار إنساني بشأن غزة


الجزيرة
منذ 11 ساعات
- الجزيرة
الاختلاف قد يكون مفيدا.. هل من الضروري أن يتفق الوالدان على أسلوب التربية؟
تخيل أن يجهش طفلك الصغير بالبكاء، فتسارعين لاحتضانه ومحاولة تهدئته، ليتدخل الأب بنبرة صارمة مطالبا الطفل بأن "يكف عن البكاء، لأنه رجل ولا ينبغي له أن يبكي". في لحظة واحدة، يجد الطفل نفسه في قلب صراع تربوي بين أسلوبين مختلفين، وتجدين نفسك ممزقة بين مشاعر الغضب والإحباط، وعاجزة عن التصرف، وقد يتسلل إليك الشعور بالذنب، لأن صغيرك يتلقى رسائل متضاربة حول ما هو مقبول وما هو مرفوض. فما أسباب هذا الاختلاف بين الوالدين؟ وهل يؤثر سلبا على الطفل؟ أم أن في هذا التباين فرصا لصناعة بيئة تربوية متوازنة؟ لماذا نختلف؟ تنشأ غالبية الاختلافات التربوية من الجذور العائلية لكل من الأبوين، فما نعيشه في طفولتنا ينعكس في تصوراتنا عن التربية "الصحيحة"، لكن معظم الآباء يعيدون تقييم تلك التجارب لاحقا، فيأخذون منها ما يرونه ملائما لأطفالهم، ويتركون ما لم يجدِ نفعا معهم، حسب موقع "هابي فاميلي". ورغم أن بعض الأزواج يخططون سلفا لكيفية تربية أطفالهم، فإنهم غالبا لا يدركون عمق الخلاف إلا عند قدوم الطفل الأول، حين تبدأ المواقف اليومية في كشف الفوارق. فبينما يتمسك أحد الطرفين بأساليب تقليدية ترسخت لديه، يسعى الآخر لتبني منهج معاصر يستجيب لحاجات الجيل الجديد، في محاولة لتجنب أخطاء سابقة. وحسب موقع "كونشيس مامي"، فإن هذا الاختلاف في النهج قد يؤثر أحيانا على شعور الطفل بالأمان العاطفي وعلى صحته النفسية، وقد ينعكس في علاقاته المستقبلية. لكنه، في المقابل، قد يكون مصدر قوة إذا أدار الوالدان هذا التباين بحكمة واتفاق على الأساسيات. مزايا الاختلاف ليس كل اختلاف في الأسلوب التربوي ضارا، فوفق دراسة نُشرت في مجلة "فرونتيرز أوف سايكايتري" عام 2023، قد تنجم عن أسلوب "الحماية الزائدة" أو ما يُعرف بـ"الآباء الهليكوبتر" -الذين يراقبون أطفالهم باستمرار ويتدخلون عند كل عقبة- مشكلات نفسية مثل الاكتئاب لدى الشباب في سن الجامعة. في المقابل، تشير دراسة أخرى نُشرت عام 2018 في مجلة "إنفيرومنتال ريسيرتش آند بابليك هيلث" إلى أن إتاحة حرية الحركة للأطفال -كما في تربية "الباندا" التي تمنحهم استقلالية أكبر- تزيد ثقتهم بأنفسهم وتحسِّن صحتهم النفسية والبدنية. وحين يجمع الطفل بين أساليب تكمّل بعضها بعضا، كأن يوفّر أحد الوالدين بيئة داعمة عاطفيا، ويعلّمه الآخر مهارات التحدي والاستقلالية، فإن النتيجة غالبا ما تكون توازنا صحيا في الشخصية، وفق موقع "هابي فاميلي". فمثل هذا التوازن يعزز المرونة النفسية، ويؤهل الطفل لمواجهة التحديات المختلفة بثقة ووعي. كيف نحقق التوازن؟ الثقة بالشراكة التربوية: التربية المشتركة الناجحة لا تعني تطابق الأساليب، بل تناغمها. فالثقة المتبادلة بأن كل طرف يسعى لمصلحة الطفل هي الركيزة الأساسية. من المهم الاتفاق على القيم الجوهرية التي نريد أن نبني عليها سلوك أطفالنا -مثل الصدق، والاحترام، والالتزام- ثم ترك مساحة من الحرية لكل طرف في التعبير عنها بطريقته. النقاش المنتظم بعيدا عن الأطفال: يشدد موقع "بارنتس" على أهمية عدم إدارة النقاشات أو الاختلافات التربوية أمام الأطفال؛ الأفضل هو تخصيص وقت أسبوعي منتظم للحديث عن القضايا التربوية، بعد خلود الأطفال للنوم أو في لحظة هادئة. هذا النوع من التواصل العميق يساعد على تضييق فجوات الفهم وتقريب وجهات النظر. الاتفاق على القيم قبل الأساليب: ابدآ بوضع قائمة فردية لكل منكما تتضمن القيم التي ترغبان في ترسيخها في أطفالكما، ثم قارنا بين القائمتين للبحث عن القواسم المشتركة. من هناك، يمكن بناء أساس تربوي متين، يضمن وحدة الرسائل الموجهة للطفل رغم تنوع الأساليب. تحديد العوائق الحقيقية: ليس كل اختلاف في الممارسة ناتجا عن تباين في الرؤية، فقد يكون سببه التوتر أو الإرهاق أو ضعف التواصل. لذا، لا بد من البحث عن الأسباب الحقيقية خلف سوء الفهم أو السلوك التربوي الخطأ، فربما كان بالإمكان تجاوزه ببساطة عند إدراك مصدره. ابدآ بخطوات صغيرة: تغيير الأساليب التربوية لا يحدث بين ليلة وضحاها. ابدآ بالاتفاق على تحسين جانب واحد فقط في كل مرة، مثل تنظيم روتين النوم أو أسلوب التعامل مع نوبات الغضب. كل نجاح صغير في هذا الإطار يُبنى على ما قبله، ويجعل التغيير أكثر رسوخا. استشارة متخصص عند الحاجة: إذا بلغ الخلاف بين الوالدين حدّ الصدامات المستمرة أو النقاشات المؤذية، فمن المفيد الاستعانة بمعالج أسري مختص. ففي بعض الحالات، يكون التوتر التربوي علامة على مشكلات أعمق تحتاج إلى معالجة نفسية أو تدريب على مهارات التواصل بين الزوجين. ختاما، لا بد من إدراك أن الاختلاف بين الوالدين في أساليب التربية ليس أمرا غريبا، بل هو في كثير من الأحيان انعكاس طبيعي لتنوع التجارب والمرجعيات. المهم أن يكون هذا الاختلاف واعيا ومدارا بحكمة، حتى لا يتحوّل إلى صراع على حساب الطفل.


الجزيرة
منذ 17 ساعات
- الجزيرة
نشطاء يسرقون تمثال الرئيس الفرنسي ماكرون احتجاجا على "الفشل المتكرر"
استولى نشطاء من منظمة "غرينبيس" البيئية على تمثال شمعي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من متحف "غريفان" الشهير وسط العاصمة باريس، في خطوة وصفت بأنها احتجاج على ما اعتبروه "فشلا متكررا" للرئيس في التعامل مع أزمة المناخ. وأعلنت منظمة غرينبيس في بيان رسمي أن "العملية لم تكن تخريبية، بل رمزية الطابع"، وهدفت إلى تسليط الضوء على ما وصفتها بـ"الفجوة الكبيرة بين الخطاب البيئي للرئيس ماكرون وقراراته الحكومية التي تصب في مصلحة كبريات الشركات الملوِّثة". وأضاف البيان "استعارة تمثال ماكرون من متحف غريفان جاءت لإظهار أنه لا يستحق الوجود في هذا الصرح الثقافي ما لم ينهِ العقود الفرنسية مع روسيا ويقود تحولا بيئيا حقيقيا على المستوى الأوروبي". ووفق ما نقلته وكالة رويترز عن متحدث باسم غرينبيس، فقد دخل النشطاء إلى المتحف صباح أمس الاثنين متظاهرين بأنهم زوار عاديون، قبل أن يتوجهوا مباشرة إلى القاعة التي يُعرض فيها تمثال ماكرون الشمعي. وذكر مصدر أمني لوكالة فرانس برس أن المجموعة غيّرت ملابسها داخل المتحف، ثم غطّت التمثال ببطانية وسحبته إلى الخارج عبر مخرج الطوارئ. إدارة متحف غريفان أكدت الحادثة، مشيرة إلى أن التمثال نُزع من مكانه "بطريقة مفاجئة" لكنه لم يتعرض لأضرار كبيرة. وأعربت عن أسفها لاستخدام التمثال "في غرض سياسي لا يمت بصلة إلى طبيعته الفنية والسياحية"، لافتة إلى أنها بصدد دراسة إمكانية اللجوء إلى المسار القانوني ضد الفاعلين. وتأتي هذه الحادثة في سياق انتقادات متزايدة للسياسات الفرنسية فيما يتعلق بالطاقة والمناخ، وخاصة استمرار العلاقات التجارية مع روسيا في مجال الوقود الأحفوري، رغم الحرب على أوكرانيا. وكانت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" نشرت تحليلا في مايو/أيار الماضي، أظهر أن روسيا ما زالت تجني مليارات الدولارات من صادرات الغاز والنفط إلى الغرب، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي. ووفقا لمركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف، بلغت عائدات روسيا من صادرات الوقود الأحفوري منذ بدء العملية العسكرية في أوكرانيا عام 2022 ما يزيد على 883 مليار يورو، منها 228 مليار يورو من دول فرضت عليها عقوبات، من بينها فرنسا التي تُعد من بين أكبر المستوردين بإجمالي قدره 17.9 مليار يورو. كما أشارت البيانات إلى أن صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا ارتفعت بنسبة تبلغ 20% في عام 2024، وأن نصف صادرات الغاز الطبيعي المسال الروسي تتجه حاليا إلى دول الاتحاد الأوروبي بما في ذلك فرنسا. ورغم دعم فرنسا لكييف بالمساعدات العسكرية وفرضها حزمة من العقوبات على موسكو، فإن المعارضة لسياسات ماكرون البيئية لا تزال تتصاعد. ويقول نشطاء البيئة إن الخطاب الرسمي حول "التحول الأخضر" يتناقض مع استمرار التعامل الاقتصادي مع روسيا في قطاع الطاقة، مما يقوض جهود الانتقال إلى طاقة مستدامة. وكان ماكرون قد أعلن مؤخرا أن بلاده "قد تفرض المزيد من العقوبات على روسيا" إذا لم تُظهر تعاونا في ملف المفاوضات لوقف إطلاق النار، إلا أن مراقبين يرون أن القرارات الاقتصادية الفعلية لا تزال أقل حزما من التصريحات السياسية.