
الشرق الأوسط، المنطقة الملعونة
منذ فجر التاريخ، شكل الشرق الأوسط مركزا للصراعات الدينية، العرقية، والسياسية، حتى بات يُشار إليه في بعض الأدبيات باسم "المنطقة الملعونة"، ليس بالمعنى الديني أو الغيبي، بل لوصف تكرار المآسي فيه وتداخل المصالح والقوى المتنازعة. هذا المقال يحلل الجذور التاريخية والاجتماعية والسياسية للصراع في هذه المنطقة الممتدة من وادي الرافدين إلى وادي النيل، ومن جبال الأناضول إلى صحراء شبه الجزيرة العربية، محاولا فهم لماذا لم يجد هذا الصراع حلا منذ آلاف السنين، منذ زمن الأنبياء وحتى يومنا هذا.
تقع منطقة الشرق الأوسط عند تقاطع ثلاث قارات: آسيا، أفريقيا، وأوروبا، وتحتضن عددا من أقدم الحضارات في العالم مثل حضارة ما بين النهرين، مصر القديمة، وفينيقيا. هذا الموقع الاستراتيجي، إلى جانب وفرة الموارد الطبيعية، وأبرزها النفط والغاز، جعل المنطقة مطمعا للقوى العالمية منذ العصور القديمة وحتى الاستعمار الحديث والمعاصر.
لكن هذه الوفرة لم تكن سببا في الازدهار فحسب، بل كانت دافعا للغزو والنهب والهيمنة. من الفرس إلى الإغريق، ومن الرومان إلى العثمانيين، ثم القوى الأوروبية الحديثة، تتابعت موجات السيطرة على المنطقة، مما خلق واقعا دائم التغير من التبعية والانقسام.
الشرق الأوسط هو مهد الديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية، المسيحية، والإسلام. بينما كان من المفترض أن تكون الرسالات السماوية منبعا للسلام والوحدة، تحولت، نتيجة السياسة والتأويلات البشرية، إلى مصدر توتر دائم.
الاختلافات العقائدية بين الطوائف، مثل السنة والشيعة، واليهود الأرثوذكس والعلمانيين، والمسيحيين بمذاهبهم المتعددة، غذت صراعات أهلية وداخلية متكررة. كما أن التداخل بين الدين والسياسة، خاصة في ظل غياب نظم علمانية مستقرة، جعل من الدين أداة للشرعنة والتعبئة السياسية، لا وسيلة للتقارب والتسامح.
الحقبة الاستعمارية، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، تركت جراحا عميقة في الشرق الأوسط. اتفاقية سايكس - بيكو (1916) قسمت المنطقة بين فرنسا وبريطانيا وفقا لمصالحها، دون مراعاة للهويات الثقافية أو القبلية أو الدينية. هذا التقسيم أدى إلى خلق دول قومية حديثة بحدود مصطنعة، ضمت في داخلها جماعات متناحرة، أو فصلت بين شعوب موحدة.
الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي بدأ بوعد بلفور (1917) وبلغ ذروته بقيام دولة إسرائيل عام 1948، يُعد المثال الأبرز على كيفية تدخل القوى الاستعمارية في صناعة نزاع طويل الأمد. وما تزال القضية الفلسطينية عنوانا للظلم والاحتلال في نظر كثيرين، وسببا دائما للتوتر في الإقليم.
منذ منتصف القرن العشرين، شهدت معظم دول الشرق الأوسط انقلابات عسكرية أو نظما شمولية حكمت شعوبها بالحديد والنار. غابت الديمقراطية، وازدادت الفجوة بين الحاكم والمحكوم. الأنظمة استثمرت في القمع، لا في التنمية، وخلقت أجهزة أمنية تفوقت على المؤسسات المنتخبة، مما ساهم في تهميش المواطن وزيادة الشعور بالظلم.
هذا التراكم أدى إلى انفجارات داخلية، مثل ما رأيناه في الربيع العربي، حيث انتفضت الشعوب ضد الفساد والاستبداد، لكن الانتفاضات انتهت في كثير من الأحيان إما بحروب أهلية دامية (كما في سوريا واليمن) أو بعودة أنظمة عسكرية أكثر قسوة.
لم تكن شعوب المنطقة وحدها في الميدان. التدخلات الخارجية، سواء من الولايات المتحدة، روسيا، أو إيران وتركيا، ساهمت في تغذية الصراعات، كلٌ حسب مصالحه. فالصراع في سوريا، على سبيل المثال، ليس فقط نزاعا داخليا، بل ساحة حرب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية.
الشيء نفسه يُقال عن العراق، حيث أدى الغزو الأمريكي في 2003 إلى تفكيك الدولة، وتصاعد الطائفية، وظهور جماعات إرهابية مثل "داعش". التدخلات الأجنبية تزرع عدم الاستقرار، وتطيل أمد النزاعات، لأنها غالبا لا تهدف لحلول عادلة، بل لحماية مصالح آنية.
رغم كل هذا، لا يمكن اعتبار الشرق الأوسط "ملعونا" بالمعنى الحتمي. فالمنطقة ما تزال تملك طاقات بشرية هائلة، وثقافات غنية، وتراثا مشتركا يمكن أن يكون أساسا للتعايش. لكن شرط الحل يبدأ بتفكيك الأسباب الحقيقية للصراع.
السلام في الشرق الأوسط لا يمكن أن يُفرض من الخارج، ولا يمكن أن يقوم على تجاهل المظالم. هو مشروع طويل ومعقد، لكنه ليس مستحيلا. وما دامت الشعوب تتوق إلى الحرية والكرامة، فستبقى هناك فرصة، ولو ضئيلة، لإنهاء هذه اللعنة التاريخية التي أثقلت كاهلها منذ آلاف السنين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة مكة
منذ 7 ساعات
- صحيفة مكة
الشرق الأوسط، المنطقة الملعونة
منذ فجر التاريخ، شكل الشرق الأوسط مركزا للصراعات الدينية، العرقية، والسياسية، حتى بات يُشار إليه في بعض الأدبيات باسم "المنطقة الملعونة"، ليس بالمعنى الديني أو الغيبي، بل لوصف تكرار المآسي فيه وتداخل المصالح والقوى المتنازعة. هذا المقال يحلل الجذور التاريخية والاجتماعية والسياسية للصراع في هذه المنطقة الممتدة من وادي الرافدين إلى وادي النيل، ومن جبال الأناضول إلى صحراء شبه الجزيرة العربية، محاولا فهم لماذا لم يجد هذا الصراع حلا منذ آلاف السنين، منذ زمن الأنبياء وحتى يومنا هذا. تقع منطقة الشرق الأوسط عند تقاطع ثلاث قارات: آسيا، أفريقيا، وأوروبا، وتحتضن عددا من أقدم الحضارات في العالم مثل حضارة ما بين النهرين، مصر القديمة، وفينيقيا. هذا الموقع الاستراتيجي، إلى جانب وفرة الموارد الطبيعية، وأبرزها النفط والغاز، جعل المنطقة مطمعا للقوى العالمية منذ العصور القديمة وحتى الاستعمار الحديث والمعاصر. لكن هذه الوفرة لم تكن سببا في الازدهار فحسب، بل كانت دافعا للغزو والنهب والهيمنة. من الفرس إلى الإغريق، ومن الرومان إلى العثمانيين، ثم القوى الأوروبية الحديثة، تتابعت موجات السيطرة على المنطقة، مما خلق واقعا دائم التغير من التبعية والانقسام. الشرق الأوسط هو مهد الديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية، المسيحية، والإسلام. بينما كان من المفترض أن تكون الرسالات السماوية منبعا للسلام والوحدة، تحولت، نتيجة السياسة والتأويلات البشرية، إلى مصدر توتر دائم. الاختلافات العقائدية بين الطوائف، مثل السنة والشيعة، واليهود الأرثوذكس والعلمانيين، والمسيحيين بمذاهبهم المتعددة، غذت صراعات أهلية وداخلية متكررة. كما أن التداخل بين الدين والسياسة، خاصة في ظل غياب نظم علمانية مستقرة، جعل من الدين أداة للشرعنة والتعبئة السياسية، لا وسيلة للتقارب والتسامح. الحقبة الاستعمارية، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، تركت جراحا عميقة في الشرق الأوسط. اتفاقية سايكس - بيكو (1916) قسمت المنطقة بين فرنسا وبريطانيا وفقا لمصالحها، دون مراعاة للهويات الثقافية أو القبلية أو الدينية. هذا التقسيم أدى إلى خلق دول قومية حديثة بحدود مصطنعة، ضمت في داخلها جماعات متناحرة، أو فصلت بين شعوب موحدة. الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي بدأ بوعد بلفور (1917) وبلغ ذروته بقيام دولة إسرائيل عام 1948، يُعد المثال الأبرز على كيفية تدخل القوى الاستعمارية في صناعة نزاع طويل الأمد. وما تزال القضية الفلسطينية عنوانا للظلم والاحتلال في نظر كثيرين، وسببا دائما للتوتر في الإقليم. منذ منتصف القرن العشرين، شهدت معظم دول الشرق الأوسط انقلابات عسكرية أو نظما شمولية حكمت شعوبها بالحديد والنار. غابت الديمقراطية، وازدادت الفجوة بين الحاكم والمحكوم. الأنظمة استثمرت في القمع، لا في التنمية، وخلقت أجهزة أمنية تفوقت على المؤسسات المنتخبة، مما ساهم في تهميش المواطن وزيادة الشعور بالظلم. هذا التراكم أدى إلى انفجارات داخلية، مثل ما رأيناه في الربيع العربي، حيث انتفضت الشعوب ضد الفساد والاستبداد، لكن الانتفاضات انتهت في كثير من الأحيان إما بحروب أهلية دامية (كما في سوريا واليمن) أو بعودة أنظمة عسكرية أكثر قسوة. لم تكن شعوب المنطقة وحدها في الميدان. التدخلات الخارجية، سواء من الولايات المتحدة، روسيا، أو إيران وتركيا، ساهمت في تغذية الصراعات، كلٌ حسب مصالحه. فالصراع في سوريا، على سبيل المثال، ليس فقط نزاعا داخليا، بل ساحة حرب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية. الشيء نفسه يُقال عن العراق، حيث أدى الغزو الأمريكي في 2003 إلى تفكيك الدولة، وتصاعد الطائفية، وظهور جماعات إرهابية مثل "داعش". التدخلات الأجنبية تزرع عدم الاستقرار، وتطيل أمد النزاعات، لأنها غالبا لا تهدف لحلول عادلة، بل لحماية مصالح آنية. رغم كل هذا، لا يمكن اعتبار الشرق الأوسط "ملعونا" بالمعنى الحتمي. فالمنطقة ما تزال تملك طاقات بشرية هائلة، وثقافات غنية، وتراثا مشتركا يمكن أن يكون أساسا للتعايش. لكن شرط الحل يبدأ بتفكيك الأسباب الحقيقية للصراع. السلام في الشرق الأوسط لا يمكن أن يُفرض من الخارج، ولا يمكن أن يقوم على تجاهل المظالم. هو مشروع طويل ومعقد، لكنه ليس مستحيلا. وما دامت الشعوب تتوق إلى الحرية والكرامة، فستبقى هناك فرصة، ولو ضئيلة، لإنهاء هذه اللعنة التاريخية التي أثقلت كاهلها منذ آلاف السنين.


Independent عربية
منذ 7 أيام
- Independent عربية
أنا من الجيل زد ومستعدة للتطوع دفاعا عن بريطانيا بشرط واحد
على عكس معظم أقراني، فقد حملت بندقية، ليس هذا فحسب، بل حتى أنني تعلمت كيفية تفكيكها وإعادة تركيبها في 60 ثانية. يعود ذلك لأنني كنت طالبة في قوات الاحتياط التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، أشارك في العروض العسكرية، وأخوض تدريبات المغامرات، وأتعلم أساليب الطيران والانضباط، ونوعاً من رباطة الجأش لا تكتسبه إلا حين يصرخ في وجهك رجل بدين يرتدي قبعة عسكرية قبل الساعة السادسة صباحاً. لكن هذه التجربة، على قيمتها، لا تزال بعيدة كل البعد من الاستعداد للقتال، أو القتل، أو الموت من أجل الوطن، فذلك نوع مختلف تماماً من الالتزام. ومع ذلك فإن إعلان كير ستارمر عن المراجعة الدفاعية الجديدة، التي تشمل ضمن توصياتها مقترح اعتماد "أعوام فراغ" من الدراسة [توقف موقت عن الدراسة] من أجل التدريب العسكري لتجهيز بريطانيا للحرب ومعالجة نقص التجنيد في القوات المسلحة، قد يصبح هذا الخيار واقعاً يواجهه كثر، سواء أرادوا ذلك أم لا. أما أنا، فهل من الممكن أن أتطوع للدفاع عن بريطانيا؟ نعم، ولكن بشرط واحد: ألا يقتصر التطوع على البعض منا فقط. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) الحال التي نعيشها الآن ليست متكافئة، فالخدمة العسكرية في المملكة المتحدة، للأسف، تستهدف وتجذب بصورة غير متناسبة الشباب من الخلفيات الأقل حظاً، أولئك الذين يكافحون لإيجاد غاية أو فرصة. فهم يرونها سبيلاً للحصول على التدريب، أو الدخل، أو التوجيه. وهذا ما يشير إليه بحث أجرته "الشبكة الدولية لحقوق الطفل"، إذ وجد أنه بين عامي 2013 و2018، كان تجنيد الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 16 و17 سنة في الجيش في إنجلترا أعلى بنسبة 57 في المئة في الدوائر الخمس الانتخابية الأكثر فقراً مقارنة بالدوائر الخمس الأغنى. مع المقترحات الأخيرة لتجنيد السجناء لتخفيف الازدحام في السجون، يصبح من الصعب عدم ربط الخدمة العسكرية بالعقاب، إذ ثمة إيحاء بأنها قد تصبح عقوبة للمحرومين، بدلاً من كونها واجباً مدنياً مشتركاً بين الجميع. هل ينبغي لجيل الشباب، وبخاصة الشبان، أن يزدهروا بفضل القليل من المهارة والانضباط؟ بصراحة، نعم. أعتقد أن كثيراً منهم سيفعل. لقد انقلب العالم رأساً على عقب، وباتت العزيمة والمرونة الحقيقتان، وحتى أمر تقليدي كالشرف، من النوادر هذه الأيام. يمكن لبرنامج الخدمة الوطنية الشامل، عسكرياً كان أم مدنياً، أن يضفي هيكلية وهدفاً حيث هناك الحاجة الشديدة إليهما. ولكن بقدر ما أرى فوائد الخدمة، يمكنني أيضاً أن أتعاطف مع أقراني الذين يرفضون رفضاً قاطعاً فكرة الدفاع عن بلد يشعرون أنه أهملهم ولا يزال يعاقبهم. بين يناير (كانون الثاني) ومارس (آذار) عام 2025، كان هناك 620 ألف شاب وشابة تراوح أعمارهم ما بين 16 و24 سنة عاطلين من العمل، وفقاً لمكتب الإحصاءات الوطنية. كذلك لا يزال الجيل زد يتعافى من آثار جائحة "كوفيد"، وهذا حتى من دون ذكر أزمة غلاء المعيشة، وتضخم الإيجارات، واستحالة احتمال امتلاك منازلهم الخاصة. ومع ذلك إذا طبقت الخدمة العسكرية بشكل صحيح وعادل، فقد تكون في الواقع جيدة بالنسبة إليهم، إذ توفر لهم دخلاً ثابتاً، ومهارات حياتية، وإحساساً بالغاية. ومن المهم كذلك الإشارة إلى أن كثيراً من الدول حول العالم قد طبقت بنجاح نماذج التجنيد الإجباري على مر الأعوام، كما فعلت بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى. في سويسرا، على سبيل المثال، التجنيد الإجباري ليس مثيراً للجدل، بل إلزامي حتى يومنا هذا. يطلب من كل مواطن سويسري ذكر الخضوع لتدريب عسكري أساس لمدة 18 إلى 21 أسبوعاً في سن الـ18 تقريباً، تليه خدمة الاحتياط الإلزامية، التي تشمل الذهاب لدورات تدريبية تنشيطية مدة ثلاثة أسابيع كل عام على مدى العقد التالي. إنه التزام مكثف، لكنه ينشئ أمة تعتبر فيها الجاهزية العسكرية أمراً طبيعياً وليس مسيساً. بعد إكمال الدورات، يتحلى الشباب بروح من الانضباط، وهوية وطنية مشتركة، والأهم من ذلك، المعرفة أنهم في أوقات الأزمات مستعدون للدفاع عن وطنهم. لا حاجة إلى التخبط لملء الصفوف، ولا للاعتماد المفرط على فئة اجتماعية واقتصادية معينة لأن المسؤولية مشتركة. هل أصاب السويسريون في ذلك؟ في عالم غير مستقر كعالمنا، يبدو نموذجهم أقرب إلى بعد النظر وليس مجرد إرث قديم. لقد تذوقت طعم الانضباط العسكري في المدرسة، إذ كان مطلوب منا أن نتدرب ضمن قوة المتدربين المشتركة كل يوم أربعاء بعد الظهر مدة عام كامل. ما أتذكره أكثر ليس الأيام التي قضيناها في التدريب البحري أو التخييم تحت ملاءة بسيطة، بل المعلمين الذكور وهم يصدرون الأوامر لفتيات في عمر الـ13 بينما كن واقفات يرتجفن خلال تدريبات إطلاق النار وتدريبات التشكيل. في ذلك الوقت، بدا الأمر سخيفاً بل مخيفاً. لكن بالنظر إلى الماضي، علمني شيئاً لم أتوقعه: أن أتصرف بشجاعة، وأن أجتهد، وأحافظ على هدوئي، وأواصل حياتي. التجنيد الإجباري ليس بالأمر الجديد، لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه الآن هو إن كان لا يزال له مكان في بريطانيا الحديثة؟ وإن كنت تعتقد أنه أمر عفا عليه الزمن، فاسأل نفسك: إذا خضنا حرباً غداً، فهل نحن مستعدون لها؟


Independent عربية
٠٨-٠٦-٢٠٢٥
- Independent عربية
ضد سايكس بيكو مع كينغ
لم يكن التكهن بأولوية الاختراق السوري الذي أنجزه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في غير مكانه، وجاء تصريح سفيره في تركيا ثم مبعوثه الخاص إلى سوريا توم باراك ليضفي على هذا الاختراق أبعاداً تتخطى اللحظة السياسية الراهنة إلى أبعاد تاريخية ورؤية استراتيجية مختلفة قد تتبناها الإدارة الأميركية الجديدة. في التركيز على سوريا، دعماً لنظامها الجديد وتسهيلاً لمهامه، بل وحماية له من خصم إسرائيلي في الجنوب وحليف تركي طامح في الشمال، رهان أميركي على تجربة تخوضها قوى سورية وصلت إلى السلطة نتيجة إصرار دؤوب، ومعارك متدحرجة وخيارات متنوعة، لكنها تعبر في العمق عن خيارات سورية أساسية، وهي حققت في آن واحد تغييراً لنظام أتعب الإدارة الأميركية على مدى عقود، وابتز محيطه لسنوات طويلة، كما وجهت ضربة حاسمة لخصوم أميركا الرسميين، من إيران التي فقدت رأس جسرها إلى المشرق، إلى روسيا التي تنتظر مصير وجودها العسكري في بلاد الشام على رصيف التطورات السورية. والرهان الأميركي لا يقتصر على سوريا، بل يمتد إلى محيطها، ومحيطها المقصود هو المنطقة الممتدة من العراق إلى لبنان وفلسطين، وهو ما يعنيه السفير الأميركي لدى تركيا توم باراك، مبعوث ترمب إلى سوريا، ولاحقاً، كما يبدو، إلى لبنان، عندما قال في تصريح نهاية مايو (أيار) الماضي بضرورة تغيير نظرة الغرب إلى منطقة الشرق العربي الذي يضم البلدان المذكورة. انتقد باراك اتفاقية سايكس - بيكو (البريطانية - الفرنسية الموقعة عام 1916 بمشاركة روسيا قبل أن تنسحب منها)، وقال "لقد فرض الغرب قبل قرن من الزمان خرائط وانتدابات، وحدوداً مرسومة، لقد قسمت اتفاقية سايكس - بيكو سوريا ومنطقة أوسع، ليس من أجل السلام، بل من أجل المكاسب الإمبريالية، وقد كلف هذا الخطأ أجيالاً عديدة". ويستنتج باراك، وهنا جوهر موقفه "لن نكرر هذا الخطأ مرة أخرى، لقد انتهى عصر التدخل الغربي، المستقبل هو للدبلوماسية التي تقوم على الحلول الإقليمية، والشراكات والاحترام، وكما قال الرئيس ترمب: لقد ولت الأيام التي كان فيها الغربيون يتدخلون في شؤون الشرق الأوسط ويذهبون إلى هناك ليعلموا الناس كيف يعيشون وكيف يديرون شؤونهم". لم تكن الولايات المتحدة الأميركية شريكاً في مشروع تقسيم المشرق العربي خلال الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة العظمى بعيدة من هذه الحرب وانتظمت فيها متأخرة إلى ما بعد الاتفاقية الإنجليزية الروسية الفرنسية، بل إن مساهمتها في رسم مستقبل المنطقة لم يؤخذ بها، اقتصرت تلك المساهمة على إرسالها لجنة كينغ - كراين إلى بلاد الشام لتستطلع رغبات مواطنيها ونخبها. وخلصت أبحاث تلك البعثة عام 1919 إلى مطالبة غالبية السوريين واللبنانيين والفلسطينيين بالاستقلال في دولة تحمي الحريات والأقليات، كانت اللجنة من نتاج أفكار الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عشية مؤتمر السلام في باريس، ولاقت جولتها ارتياح وترحيب السكان، لكن الأوروبيين المنتصرين فرضوا رؤيتهم في النهاية وقرروا تقاسماً ذهب بنتيجته لبنان وسوريا إلى الانتداب الفرنسي والعراق وفلسطين وشرق الأردن إلى الوصاية الإنجليزية. كان ينقص تصريح باراك (أو منشوره) الإشارة إلى نتائج أعمال تلك اللجنة ليستخلص أن الرؤية الأميركية لوقائع المنطقة تختلف عن رؤية "الإمبرياليين" منذ ما يزيد على قرن، لكن قرناً مر تتحمل فيه أميركا والشركاء الأوروبيون والدوليون المسؤولية عما آلت إليه أحوال الدول والشعوب التي تقاسمها السيدان جورج بيكو ومارك سايكس. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) الآن يبدي ترمب آراء جديدة، بعض تعبيراتها نجدها في كلمات مبعوثه الخاص باراك الذي يشمل في اهتماماته تركيا الواردة في نصه الذي أثار جدلاً وتقييمات، وآراء ترمب ليست في حاجة إلى إيضاحات إضافية، وهي قابلة للتغيير، عرضها في البيت الأبيض في شأن غزة، وكانت آراء صادمة وكارثية، ووجهت بانتقادات ورفض ما جعله يخفف من الإلحاح عليها. في شأن سوريا كان في تصريحاته قدر من التخلي وعدم الاهتمام، لكنه ظهر في مظهر آخر لدى زيارته السعودية وإثر محادثاته مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ولقائه القادة الخليجيين، وعد ترمب عندها بالسعي إلى اتفاق في غزة وتقدم خطوته الكبرى في اللقاء مع رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع ثم قراره رفع العقوبات عن سوريا، فيما كان يعلن عن فرصة أمام لبنان عليه الاستفادة منها لإعادة بناء دولته وترميم اقتصاده. بدا ترمب في خطواته هذه وكأنه يترجم ما قاله في السعودية أيضاً، من أن أيام تدخل الغرب في إدارة الشعوب لشؤونها قد "ولَّت"، وعليهم هم أن يمسكوا أقدارهم بأيديهم بدفع أميركي صريح، بين الإعلان الأميركي وتطبيق مساراته على أرض الواقع مسافات لا بد من قطعها وهو ما ينتظره من أميركا أبناء المشرق العربي من بغداد إلى غزة. تحمل تصريحات السفير باراك وتوجهات رئيسه في الظروف الراهنة رغبة بالقول إن المنطقة لا تتحمل مزيداً من التقسيم والشرذمة، أي أن تكرار سايكس - بيكو في صيغ جديدة غير مطروح على بساط البحث، وهذا يعني الإبقاء على حدود الدول الوطنية كما رسمت قبل قرن، مما يعني عدم السماح بتقسيم سوريا أو لبنان أو العراق، وإنما الذهاب إلى ترتيبات تحمي وحدة هذه الدول وتزيد في تماسك مكوناتها ضمن أنظمة ديمقراطية تعددية، ويعني ذلك دعم الاتفاق بين الأكراد ودمشق، وإشراك الأقليات جدياً في حكم سوريا بما في ذلك الدروز والعلويين، كما يعني تدعيم قيام الدولة في لبنان والانتهاء من ازدواجية سلطة السلاح وعصر الميليشيات الوكيلة، وما يصح في سوريا يصح في لبنان والعراق واليمن. لا تتفق هذه الرؤية التي يقول بها الأميركيون، لا الآن ولا في المدى الأبعد، مع المشروع الإسرائيلي في فلسطين وتجاه الدول العربية المحيطة، فإسرائيل تتمسك بالدولة اليهودية وترفض قيام دولة فلسطينية، إنها في حال تصادم تاريخية مع سايكس - بيكو وحتى مع وعد بلفور، وكلها الآن موضع انتقاد أميركي متجدد. إسرائيل واصلت حتى أيام قليلة ماضية تحريضها على الفوضى في سوريا، وهي تعتبر في خلفية مواقف حكومتها أنه لولا "انتصاراتها العسكرية" في معارك الأشهر الماضية، ما كان للحركة الدبلوماسية الأميركية أن تنشط وتحقق مكاسب في الإقليم، خصوصاً في سوريا ولبنان بعد الضربات التي تلقتها إيران و"حزب الله" وسقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد. ستكون إسرائيل عقدة أساسية ومركزية تواجه المسعى الأميركي إلى رسم خرائط جديدة يأمل فيها ترمب، وسيكون الاختبار الأصعب أمام الرئيس الأميركي هو في كيفية التعامل مع الموقف العربي والدولي الحازم في شأن قيام دولة فلسطينية، فمن دون خطوة حقيقية في اتجاه الحل القائم على تسوية الدولتين لن يمكن استعادة الهدوء في الإقليم، وستتحول التصريحات عن مساوى سايكس - بيكو إلى مجرد "خطاب قومي" آخر وبائد، من مسؤول أجنبي هذه المرة، يدغدغ مشاعر لا تزال قائمة، شكلت دائماً وصفة للشرذمة والخراب.