logo
دروس من حياة الجرادة

دروس من حياة الجرادة

الجزيرةمنذ يوم واحد

هل رأيت جرادة ذات يوم؟ ما الذي أثارك فيها؟ أهو شكلها الغريب؟ أم قفزتها المضحكة؟ أم نهمها الذي لا يكفّ؟ أم طيرانها الناقص؟ إن في هذه الجرادة حكمة لا تخطر على بال كثيرين، فما هي تلك الحكمة؟
في صمت الحقول، قد تسمع صوتًا خافتًا قد يفزعك، ليس وراء ذلك الصوت سوى جرادة تلتهم طعامها في صمت، وإذا تأملت في شكلها المدهش فستجبرك على التوقف، لا لأنك تحبها، بل لأنها أثارت فيك دهشة ما.
فما هي الدروس التي تريد أن تعلمنا إياها هذه الحشرة الغريبة؟ دعونا نستمع لخفقة المعاني التي ينطوي عليها هذا الكائن العجيب.
كم مرةٍ خشينا القفز، وكم مرةٍ أعاقنا الخوف عن بلوغ النجاح! وأنت تعلم أن النجاح يحتاج إلى شيء من المغامرة المحسوبة، فلماذا نرهب المجهول؟ الجرادة تقفز ولا تتردد، فلِمَ لا نحارب التردد في داخلنا؟
قفزات أم زحف؟
تقفز الجرادة مسافةً تساوي طولها مضاعَفًا عشرين مرة، بواسطة قوائمها الخلفية القوية، سواء للهرب أو للتحليق أو للبحث عن الغذاء، فماذا نتعلم من هذا القفز؟ بعضنا يقفز في مسارات حياته، والبعض يسير زاحفًا، ورغم أن الزحف آمن والقفزات خطيرة، فإن الزحف بطيء وممل، بينما القفز يحقق الانتشاء والإنجاز، ويختصر عليك المسافات.. فماذا تختار الجرادة؟ الجرادة لا تتسلل، بل تفاجئك بقفزة غير متوقعة، وتصل إلى هدفها وتطحن ما تراه أمامها.
بعض البشر يخترقون السكون بقفزات جريئة، لذلك يصنعون فارقًا ويبلغون القمم! فأي المشيتين تختار؟ في بعض الأحيان يحاصرك الزمن، ولتبلغ طموحك يلزمك تكنيك القفز المتوالي؛ فالتردد أو الزحف يقتل الهمة ويُفشل المشاريع. فلماذا نمارس الزحف في تكوين العلاقات وفي بناء الطموح، ونحن نعلم أن الحياة لا تكافئ الزاحفين؟!
قفزات نحو النجاح
الجرادة لا تزحف، بل تنطلق بوثبةٍ تختصر المسافة والزمن.. في قفزتها جرأة، وفي قصر المسافة حكمة.. تحدد الهدف ثم تندفع في الهواء لتصل برشاقة.
يا صاحبي، كم مرةٍ خشينا القفز، وكم مرةٍ أعاقنا الخوف عن بلوغ النجاح! وأنت تعلم أن النجاح يحتاج إلى شيء من المغامرة المحسوبة، فلماذا نرهب المجهول؟ الجرادة تقفز ولا تتردد، فلِمَ لا نحارب التردد في داخلنا؟
يا صاحبي، احسم أمرك ثم اقفز؛ فإنّ خلية النحل من نصيب الجَسور، والجرادة إذا قررت قفزت، فمن طبيعتها اختصار المسافة بقفزة، وفي غريزتها ترجيح "متى" و"أين"، ثم تقفز. يا صاحبي، كم خطوة ترددت فيها ولا تزال في مكانك؟ والحكمة تقول: إذا عقلت فتوكل، والحنكة ترى في اختصار المسافات مكسبًا.
إننا نعيش في عالم الجراد، عالم يصفَّق فيه لمن حضر في النهاية، ويُنسى من حمل أتعاب البدايات على ظهره. عالم الجرادة، عالم الظهور بلا بذل، عالم القطف دون تعب! ورغم كونه مؤلمًا فإنه حقيقي!
أجنحة بلا طيران
للجرادة فشل، فرغم امتلاكها الأجنحة لا تطير، فلِمَ لا تحلق وأنت تمتلك الأجنحة؟ لديك الأدوات والإمكانات، ومع ذلك تقتفي سلوك الجراد والجنادب!
إنّ الطيران أجدى من القفز القصير والمعتاد، فهل فكرت بالتحليق؟ إن لديك أجنحة ولكنك لا تطير! تحتاج لتذكير، وشحذ، وشيء من المساندة حتى نراك في العلياء.. أفستقتفي أثر الجراد أم تطير؟ لماذا نتشبث بالتراب، ونعشق الكسل؟ نتعذر بالحجج، ونراوغ بالظروف، وكل الظروف مواتية لسباق الطيران، ومع ذلك نفضل القفز البسيط. لقد اكتشفنا مكمن الخلل، الخلل ليس في الأجنحة، بل في عدم الإصرار على التحليق!
الزراعة أم الحصاد؟
هناك درس آخر في فشل الجرادة، فهي تحصد ولا تزرع! والأسوأ أنها تجور على ما زرعه الغير، فهي عاطلة باطلة لا تعرف الإنتاج. فهل يرضيك أن تكون عالة وقد كرّمك الله بالموهبة؟ لماذا لا تمتلك الاكتفاء الذاتي؟
فرق شاسع بين النحلة التي تصنع غذاءها بعرق جبينها، وبين الجراد الذي يحيل مواسم بأكملها إلى طيف ذكرى في لحظات! إنها حكاية بشرية بامتياز، ففي جميع المؤسسات، وفي جميع المجتمعات، هناك من يحصد دون أن يزرع، هناك من يظهر على خشبة المجد بينما يُدفن آخرون خلف الكواليس. فلِمَ نقتفي أثر الجراد في أسوأ حالاته؟
إعلان
صدقوني.. إننا نعيش في عالم الجراد، عالم يصفَّق فيه لمن حضر في النهاية، ويُنسى من حمل أتعاب البدايات على ظهره. عالم الجرادة، عالم الظهور بلا بذل، عالم القطف دون تعب! ورغم كونه مؤلمًا فإنه حقيقي، فمتى نسحق هذا الوباء؟
كن مستعدًا للمفاجآت، واحسب لأسوأ الاحتمالات حسابًا؛ فقبل أن تغامر اتخذ لك صندوق طوارئ، ووسادة حماية، وخطة بديلة
في التكاتف قوة
لو قلنا: مَن أضعف المخلوقات؟ لوجدنا الجراد ضمن القائمة، حيث لا يملك إبرة ولا شوكة، لكنه يملك حكمة الاتحاد؛ فإذا غزا دولة أهلك محاصيلها وقلبها رأسًا على عقب! هذا الفرد الضئيل، الذي لا يخيف أحدًا، إذا تجمع في موجة أو سرب أصبح ماردًا يُحسب له ألف حساب، فإنه إذا بلغ حقلًا أكل الأخضر واليابس!
لو كانت أعداده محدودة، لكان من السهل القضاء عليه، ولكن تكاتف أفراده جنبًا إلى جنب جعل القضاء عليه مستحيلًا.. هذا هو الدرس المثالي لمعنى قوة الاتحاد، فهل سنستفيد منه؟ إن تراكم الدراهم يولد ثروة، وتراكم الغيث يولد الطوفان.. فهل أدركت الدرس وبلغت ما بمقدورك أن تفعله به؟
هكذا يصنع الضعفاء الأعاصير حين يجتمعون.. إذا أهملنا الضعفاء، فسيولّدون الكارثة! والحكمة: لا تستهِن بالصغار إذا تكاثروا، فإنهم سيخلفون الحطام.. وكم من حشدٍ بسيط هزّ مدنًا بأكملها! يا صاحبي، لا تستهِن بالسرب، فما بعده إلا الدمار.
مفاجآت الأيام
في هذه الحياة، مفاجآت تأتي دون سابق إنذار، تهجم عليك كسرب جراد لا يعرف الرحمة، يأكل ثرواتك وأنت في قمة الويل والثبور، تقف أمام المنظر مندهشًا دون حراك!
ماذا ستفعل لمزرعتك إذا غزتها أسراب الجنادب؟ هناك أمور فجائية تأتي كالصفعة، كالعاصفة، لا تمنحك فرصة للتأهب، تأتي دون إشعار، دون تمهيد.. يحل الدمار فجأة دون أي تنبيه، كما يفعل الجراد تمامًا، يحل في ضيافتك فجأة، فماذا تفعل؟
لا نرى لهذه الكوارث حلًّا، كمفاجآت الطريق، وكزَلّات القدم من بقعة زيت أو قشرة موز. فقط نقول: كن مستعدًا للمفاجآت، واحسب لأسوأ الاحتمالات حسابًا؛ فقبل أن تغامر اتخذ لك صندوق طوارئ، ووسادة حماية، وخطة بديلة.
نهم لا يتوقف
من طبيعة الجرادة النهم طيلة الوقت، فهي تأكل على الدوام، تأكل ولا تشبع، خلقها الله هكذا، تولد جائعة، وتعيش جائعة، وتموت جائعة! فهل نحن مثلها؟
إعلان
إننا جراد في هيئة بشر إذا دخلنا فخ الحياة الاستهلاكية؛ نشتري أكثر مما نحتاج، نأكل أكثر مما نهضم، نلهث خلف المزيد دون وعي، لا نفرق بين ما نحتاج وما لا نحتاج.
إنّ الرواتب تتبخر في لحظات، فهل تساءلنا لماذا؟ لأننا -ببساطة- تحولنا إلى جراد لا يعرف الشبع. يا صاحبي، الوفرة لا تعني التخمة، والشهية التي لا تتوقف ليست نعمة، بل هي طوفانٌ ينتظر لحظةً لينفجر!
هل رأيت أسنانًا لا تهدأ، وفمًا لا يتوقف عن الأكل؟ إنها الجرادة يا صاحبي، فلا تتقمص دورها، واحذر من فخ الاستهلاك قبل أن يرديك!
حساسية فائقة
من الدروس الجيدة في الجراد أنّ لديه مقدرة باهرة على التكيف، والتلوّن بألوان البيئة؛ فقد ترى الحشرة خضراء فوق العشب، وصفراء فوق الجذع، وقد تراها بنّية داكنة أو زهرية فاتحة؛ إنها تنتخب فساتينها بحذر وعناية.. فهل فطنت لحماية نفسك من الأخطار كما تفعل الجرادة؟
إنها تتقافز هنا وهناك، ومن الصعب اصطيادها، إنها تعرف متى تتوقف، ومتى تهرب، ومتى تصمت، ومتى يحلو لها وقت الطرب والغناء! فهل نمتلك هذه الحساسية في حياتنا؟ هل نتقن فن انتقاء الأوقات والأفعال؟ أم إننا نفعل الأمور كيفما اتفق دون تمحيص أو دراية؛ فنأكل في أي وقت، وننام دون نظام، ونتجول دون تخيّر، وهكذا نسير في حياة بلا حكمة ولا بوصلة؟ فمتى سنتعلم فن الانتقاء ونتقن الدرس؟
خراب بلا ندم
بعض بني البشر أمرهم غريب، يتقمصون أدوار الجراد في التخريب والتدمير! ألم تسمع بآفة الجراد؟ ألم تشاهد كيف أحالت أسرابه المزارع الخضراء المثمرة قاعًا صفصفًا؟ هذا ما يفعله بعض البشر، يفسدون كل ما يجدونه أمامهم، حتى البحر المتلاطم لم يسلم من تلويثهم. فهل يعتذرون؟ إنهم يتقمصون سلوك الجراد الفاتك، فهل يعتذر الجراد بعد الاجتياح؟ بالطبع لا يعتذر من يسري في عروقه دماء الجراد!
هؤلاء البشر لا يقتصرون على الإفساد المادي، بل لهم مع الإفساد حكاية لا تنتهي؛ فهم يخربشون العلاقات، وينشرون القلاقل، ويقوضون الأمن، ويحيلون ما يلمسونه إلى رماد. هم وباء بشري مستشرٍ في كل المجتمعات، إنهم أبناء الجراد، يفسدون ولا يندمون ولا يعتذرون، فهل يندم من نُزِع الضمير من جوفه؟
نقول إن حياة الجراد مليئة بالدروس: في البقاء، وفي التمويه، وفي الصبر، وفي الاتحاد، وفي غيرها.. تحتاج فقط إلى عين ثاقبة تميّز بين الخير والشر، بين الصواب والخطأ. فهل نستمع؟ أم نتكبر على كائن ضعيف قد يُسحق بوطأة حذاء؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم
'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم

الجزيرة

timeمنذ 8 ساعات

  • الجزيرة

'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم

لطالما كان هلاكنا في نظام تشغيلنا نحن سادة الكون، فنحن نصنع كل هذه الأدوات السحرية، لكن الهمجية لا تزال متأصلة في عقولنا، رؤوسنا مليئة بالبرمجيات المعيبة ذاتها، مثلما كانت قبل آلاف السنين، محرومة من أي تطور. في زمن إنسان الكهف، كان العنف ضروريا للعيش، أما الآن فقد صار السبيل الوحيد لنجاتنا -نحن جنس البشر- أن نتعاون معا، لكننا لا نستطيع ذلك لأننا ما زلنا محكومين بالخوف، ما زلنا متملكين وأنانيين، متعجرفين وعنيفين. يأتي هذا الحوار الذاتي الحكيم ضمن حلقة 'لعبة' من الموسم السابع من مسلسل 'المرآة السوداء' (Black Mirror 7)، على لسان عجوز مهوس بكائنات صفراء صغيرة، تسكن عالما رقميا للعبة اخترعها عبقري مجنون، وتحاول هذه الكائنات السيطرة على البشرية، لتخليصها من خوفها الأبدي، وهي تسمى الحشد، ولها حياة ووعي. ما تقترحه هذه الحكاية الغريبة أن العقل البشري أقرب لحاسوب، وأن الحشد رموز برمجية مكتوبة، تستطيع النفاذ إلى عقلك مباشرة، ثم إعادة برمجته. هل الوعي البشري برمجية يمكن اختراقها؟ تنتمي هذه الحلقة إلى دراما الإثارة النفسية والتحقيق، ومع ذلك تأتي نهايتها المفتوحة بفيض من الأسئلة ذات الجوهر الفلسفي، مثل التساؤل عن الطبيعة الحقيقية للوعي البشري، وعن ما إذا كنا نسير في الحياة بما يشبه البرمجيات الموروثة، أو التي دونتها في عمق الوعي نشأتنا وبيئتنا، وما الأخطار التي تواجهنا في المستقبل، وهل يمكن التأثير علينا واختراقنا بمثل هذه السهولة؟ وما معنى الإرادة الحرة في ظل هذه المعطيات؟ هذه الأسئلة بالتأكيد هي أفضل ما يمنحه لمشاهديه مسلسل 'المرآة السوداء'، الذي يرى البعض أنه مسلسل الخيال العلمي الأفضل والأعمق تأثيرا خلال الـ15 عاما الماضية. واقع اليوم هو مستقبل الأمس سئل مبدع المسلسل 'تشارلي بروكر' في حوار حول الموسم السابع، هل ستستمر حلقاته إلى الأبد؟ فقال إن التطور التقني السريع يمنحه إلهاما أكثر مما حلم به ذات يوم. يستطيع 'بروكر' الآن أن يبتكر حكايات لم يكن يتخيل كتابتها حين بدأ العمل على مسلسله قبل 14 عاما، فلا تبدو حكاياته اليوم كأنها تدور في مستقبل قريب، بل في واقع آني، ولم يبد المسلسل حقيقيا من قبل مثلما يتجلى اليوم، وذلك ما يجعله أكثر إثارة للقلق. اشتهر 'المرآة السوداء' برؤاه المظلمة والقلقة حول مستقبل علاقتنا بالتكنولوجيا، وتدور بعض الحلقات في فلك هذه الرؤى، لكن المسلسل أساسا عن الطبيعة الإنسانية، عن نقاط ضعفنا البشرية، التي تتضخم بسبب التكنولوجيا حتى تبلغ أفقا مرعبا. تظل التكنولوجيا مجرد أداة بين أيدينا، يمكن استخدامها على أي نحو شئنا، وهذه ليست قصة آلات تنقلب على الإنسان، بل قصة ذوات جريحة، معطوبة على نحو جذري، تصير التكنولوجيا سلاحها. قدرات التكنولوجيا.. أدوات جبارة في أيادٍ مختلة أفضل ما يقدمه 'بروكر' في عمله هو تأطير رؤيتنا لأنفسنا في مسارات مستقبلية محتملة، مستبدلا المرايا التقليدية بشاشة التلفاز الباردة اللامعة، أو الهاتف الذكي، فنشاهد انعكاسا مظلما لذواتنا الفردية وللمجتمع كافة، هنا تصبح التكنولوجيا عدسة تمكننا من تفكيك المخاوف البشرية، وهذا أفضل ما تقدمه سرديات الخيال العلمي، فهي تجعلنا نرى أنفسنا على نحو أفضل. يفتتح الموسم الجديد بحلقة 'أناس عاديون'، وتدور حول زوجين محبين من الطبقة العاملة، تنقلب حياتهما حين تشخص الزوجة بورم في المخ، ويكون الحل المنقذ هو تقنية تحول عقلها إلى خوادم سحابية، لكن باشتراك شهري مكلف، والشركة التي تديره تغير الشروط باستمرار. يضطر الزوج للعمل ساعات إضافية، لإبقاء زوجته حية، وتلك استعارة حزينة ساخرة من الرأسمالية في صورتها الأقسى، إذ تعد السلطة الساحقة للشركات موضوعا رئيسيا في المسلسل. يلجأ الزوج يائسا إلى موقع يسمى 'أغبياء أغبياء' (Dum Dummies)، وهو موقع يدفع المشتركون فيه مالا لليائسين، لفعل أشياء قاسية ومهينة بأنفسهم. إنه مشهد كئيب للغاية، لكن لا علاقة له بالتكنولوجيا، بل بالمرض البشري الذي يجد لذة في عذاب الآخرين. وأما حلقة 'الوحش الأسود'، فتثير فيها زميلة دراسة قديمة تدعى 'فيريتي' ارتياب 'ماريا'، التي تعمل عالمة أغذية، بعد أن تلتحق بوظيفة جديدة، وهي قصة انتقام قاتمة، تلعب على فكرة الأكوان المتوازية. تخيل أن بإمكان 'فيريتي' أن تكون كل ما تحلم به في أي كون تشاء، ومع ذلك نجدها عالقة في حكاية جرحها الحزينة، الذي لم تستطع علاجه، وهو يملؤها بالغضب وبرغبة سوداء في الانتقام من كل تسبب في جرحها. قد تخلق الجراح وحوشا سوداء، والتكنولوجيا تمكّن تلك الوحوش من ابتكار عذابات مبتكرة. مرة أخرى لا علاقة للتكنولوجيا بهذه الرغبات، وإنما هي أداة في يد هذا الانتقام. وسيط للانتقام والتشوه النفسي ربما تكون حلقة 'يولوجي' أكثر الحلقات إيلاما في الموسم، وقد أدى فيها الممثل 'بول جياماتي' أداء استثنائيا يكسر القلب، وهو يجسد دور رجل يستكشف ذكريات حبيبته القديمة برفقة 'مرشد رقمي'، فيجمع المعلومات لذكراها. ما من مفاجآت كبيرة، مجرد رجل يدرك الهوة بين الذكرى والواقع، ثم يقع من جديد في حب المرأة التي اتخذها عدوا، عبر تشوهات ذاكرته غير الواعية. ومن بين جميع حلقات 'المرآة السوداء'، كانت هذه الحلقة الأكثر دفئا وعاطفية، إنها قصة حب نوعا ما. وفي حلقة 'فندق ريفيري' أيضا، نواجه تكنولوجيا حديثة قيد التجريب، فتصبح العوالم الافتراضية مساحة لاكتشاف حقيقة الذات والرغبات. إنها قصة رومانسية تأخذك إلى فضاءات وجودية غريبة. تتكسر مرآة في مقدمة كل حلقة من المسلسل منذ بدايته، وإنما تنكسر حين تفلت الظلال المقموعة -ظلالنا الداخلية- من مكمنها، وهي اللحظة التي تؤطرها كل حلقة من هذا المسلسل. الواقع المزيف وقلق الحقيقة 'لقد فقدنا صلتنا بالواقع، فقدنا الأرض الصلبة التي كنا نقف عليها'. هكذا يرى الفيلسوف الفرنسي 'جان بودريار'، ويرى أننا نعيش في 'محاكاة'، وأننا محاصرون ومعزولون دائما عن الواقع. إن فكرة 'بودريار' عن المحاكاة من أكثر الأفكار الفلسفية إثارة للخوف، فالمحاكاة هي ديستوبيا (المدينة الفاسدة) حاضرنا، وهي عالم الواقع الافتراضي التقني الذي نتصل به جميعا. إن محاكاة 'بودريار' هي أكثر رعبا مما نظن، فلا وجود لواقع فيها، بل لنسخ منه فقط، ومن ثم ينهار الفاصل بين الافتراضي والواقع، فما من مخرج من المحاكاة؛ إنها سجن لا ينفك يعيد اختراع نفسه، ولهذا السبب فهي مرعبة للغاية. من أين يبدأ الواقع وأين ينتهي إذن؟ ما تعريف الحقيقي وغير الحقيقي؟ تلك أسئلة تتكرر دائما بتنويعات شتى في المسلسل، وتتجلى واحدة من أكثر اللحظات المرعبة داخل هذا الموسم من المسلسل، عندما تحاول شخصية 'ماري' في حلقة 'الوحش الأسود' التحقق من صحة شيء ما، عبر البحث على الإنترنت، فتكتشف أن الإنترنت قد محا الحقيقة وبدلها، ومن ثم تصبح الحقيقة الزائفة واقعا مصدقا. الأمر المروع للغاية أننا نستعين بغوغل للتحقق من الواقع، ولا تتلاعب 'فيريتي' بعقول معتديها فحسب، بل تعيد تصميم الواقع الذي يعيشون فيه، فهي لا تمارس الحيل في عقولهم فحسب، بل تجعل العالم من حولهم نسخا مشوهة. تيه بين نسخ الواقع المتصارعة أصبحت التكنولوجيا أداة انتقام في يد ملاك مظلم، جاعلة ضحاياها يعيشون في نسخة مشوهة من عالمهم، مصمّمة خصيصا لتعكس ارتباك ذواتهم وهشاشتها. إنها قصة انتقام تستخدم التكنولوجيا لتزييف الواقع والحقيقة، وفي كل مرة تصير الحقيقة المزيفة أمرا واقعا، إنها أكثر اللحظات إثارة للقلق في هذا الموسم، حين تجد أن الواقع كله يتعرض للهجوم. فنحن نعيش في زمن تتنافس فيه نسخ من الواقع، والنسخة المنتصرة ربما لا تكون النسخة الأكثر حقيقية أو صدقا؟ والمسلسل يجعلنا أيضا نطرح أسئلة أخلاقية ووجودية، حول الاحتمالات التي تثيرها التقنيات الجديدة. يواصل مبدع المسلسل 'بروكر' هنا انشغاله بما هو حقيقي وما هو واقعي، وما هي التجربة الأصيلة، وأيضا بما تثيره كائنات رقمية ذات وعي بشري من أسئلة أخلاقية مشكلة، فهو مهتم دائما بعالم الألعاب، وقد عمل صحفيا في مجال الألعاب خلال التسعينيات. من المواضيع الرئيسة في أغلب حلقات المسلسل، وهو أن الكائنات الرقمية إذا كانت ذات وعي بشري، فهل يُقبل السماح بقتل هذه الكائنات الواعية، حتى إذا كانت تعيش في عالم مواز أو افتراضي؟ يمكنك أن تلاحظ ذلك التطرق إلى حد ما في مخلوقات 'ثرونجليتس' في حلقة 'لعبة'، وكذلك في حلقة 'يو إس إس كاليستر: إلى اللانهاية. أخلاقيات العنف ضد التكنولوجيا الواعية نشاهد إنسانا يقتل إنسانا آخر انتقاما لهذه الكائنات، بعد أن ألقى عليها كل تثبيته العاطفي، فأصبحت هاجسه الوحيد، فكرس حياته لمساعدتها على النمو والازدهار. يكشف مشهد من الماضي أن 'لامب' -صاحب الجثة التي تظهر في بداية الحلقة- قد قتل عشرات من مخلوقات 'الثرونجليتس' مرحا، فأثار بذلك غضب 'كاميرون'، فخنقه ثم قطع أوصاله وتخلص من جثته. في حلقة 'يو إس إس كاليستر'، رأينا شخصيات مخلقة بالذكاء الاصطناعي، وقد اكتسبت مستوى الوعي الكافي، لتشعر بالألم والأسى والخوف من الزوال. ويقوم الجوهر العاطفي لهذه الحلقة على تعاطفنا مع هذه الشخصيات، التي تدور سفينتها الفضائية في فلك كوكب افتراضي، ضد بشر يحاولون محوهم تماما لأجل مكاسب مادية. هذا ما يلعب به 'بروكر' هنا، متسائلا عن أخلاقية العنف الممارس على وعي رقمي، وإن كان بشريا. ربما يبدو سؤال كهذا نوعا من الترف، في لحظة نجد فيها من يجد مبررا لعنف مماثل ضد بشر من لحم ودم. جانب التكنولوجيا المشرق لا تدور كل حلقات هذا الموسم في أفق 'ديستوبي' وليست فقط حكاية تحذيرية، فبعض الحكايات تظهر التكنولوجيا ضوءا حقيقيا، كأنها يد ممدودة للمساعدة. ففي حلقة 'تأبين'، ينجح الذكاء الاصطناعي في وضع خاتمة لقصة حب 'فيليب' الحزينة (بول غياماتي)، بل إنه استعاد مشاعر الحب لحبيبته الراحلة، إنها حكاية عن تقبل إنسانيتنا وقت الضعف والخطأ، وأن نكون أكثر تعاطفا مع أنفسنا ومع الآخر. في حلقة 'فندق ريفيري' تعيش 'براندي' (الممثلة إيسا راي) تجربة حب شاذة مع 'كلارا' (الممثلة إيما كورين)، أما 'براندي' فهي ممثلة هوليودية مرموقة، وقد أزهرت قصتها في فضاء فيلمي لكلاسيكية حب قديمة مستعادة بتقنية حديثة. وفي لحظة من مسار هذه التجربة، تتمنى 'براندي' أن يظل وعيها المسقط حرا داخل هذا الفيلم، حتى لو كان معنى ذلك موتها في عالم الواقع. ومع أن هذه العلاقة وقعت في بعد افتراضي، فإنه من الممكن القول إن هذا كان حبا حقيقيا، شعرت به 'براندي' على نحو لم تعشه من قبل. تثير كل حلقة من حلقات هذا المسلسل أسئلة يظل صداها ممتدا بعد المشاهدة بكثير، أسئلة تقول الكثير عنا وعن واقعنا المعيش في هذا اللحظة القائمة، عن العنف المتفجر والوحدة الصاخبة، وعن الجراح الأبدية في روح الإنسان، وقد جرحتها شظايا التكنولوجيا الحديثة مرة أخرى.

عبد الرحمن أبو زهرة اعتُبر متوفيا.. هيئة المعاشات توقف راتب تقاعد الفنان المصري
عبد الرحمن أبو زهرة اعتُبر متوفيا.. هيئة المعاشات توقف راتب تقاعد الفنان المصري

الجزيرة

timeمنذ 14 ساعات

  • الجزيرة

عبد الرحمن أبو زهرة اعتُبر متوفيا.. هيئة المعاشات توقف راتب تقاعد الفنان المصري

تصدر اسم الفنان الكبير عبد الرحمن أبو زهرة عناوين الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، بعد أن كشف نجله عن توقف صرف معاش والده بشكل مفاجئ، رغم تجاوزه الـ90 من العمر. أثار الموقف حالة من الجدل والتعاطف الشعبي، خاصة مع القيمة الكبيرة التي يمثلها الفنان في تاريخ الفن المصري عقب تداول الأزمة، تلقى الفنان عبد الرحمن أبو زهرة اتصالا هاتفيا من الرئيس عبد الفتاح السيسي للاطمئنان على صحته، مؤكدًا تقديره لما قدمه من عطاء فني وثقافي على مدى عقود. الرد الرسمي من هيئة التأمينات عقب نشر المنشور، أكد نجل الفنان عبد الرحمن أبو زهرة أن الأزمة المتعلقة بتوقف صرف معاش والده لاقت استجابة سريعة من الجهات المعنية. وأوضح أن الدكتور أشرف زكي، نقيب المهن التمثيلية، تواصل معه فورا وسعى لحل المشكلة بالتنسيق مع الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي. وأضاف أن اللواء جمال عوض، رئيس مجلس إدارة الهيئة، تواصل معه شخصيا، وقدّم اعتذارا رسميا باسم الهيئة عما حدث من خطأ تقني، مؤكدا احترامه وتقديره للفنان عبد الرحمن أبو زهرة. وأشار إلى أن رئيس الهيئة لم يكتفِ بالاعتذار الهاتفي، بل أوفد وفدا من الهيئة إلى منزل الأسرة لتقديم الاعتذار بشكل مباشر، مصحوبا بباقة ورد، تعبيرا عن التقدير والاحترام. ونظرًا لعدم قدرة الفنان على استقبال الوفد، قام نجله باستقبالهم نيابة عن العائلة، مقدمًا شكره لهم على هذه اللفتة، وأكد أنه تلقى الوثائق الرسمية التي تثبت حل المشكلة على النظام وإعادة صرف المعاش. واختتم نجل الفنان تصريحاته بتوجيه الشكر للدكتور أشرف زكي، ولكل من تفاعل وتابع وأسهم في حل الأزمة بسرعة واحترام. من جهته، أوضح اللواء جمال عوض، رئيس الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي، السبب الحقيقي وراء توقف صرف المعاش. وأكد عوض، خلال مداخلة هاتفية لبرنامج "حضرة المواطن"، أن ما حدث يعود إلى خلل تقني ناتج عن عدم تسجيل الرقم القومي لبعض الحالات القديمة ضمن قاعدة بيانات الهيئة، مشيرا إلى أن بعض هذه الحالات تعود لفترة الستينيات والسبعينيات، مما أدى إلى تعذر الربط الرقمي الحديث معها. وخلال المداخلة، أقر اللواء عوض بأن ما حدث هو خطأ غير مقصود، وقدم اعتذارا رسميا للفنان عبد الرحمن أبو زهرة ولكل المتضررين، مشيرا إلى أن المشكلة تم حلها فورا بعد تداول منشور من نجل الفنان عبر وسائل التواصل. معاشات 325 شخصا مهددة وكشف رئيس هيئة التأمين الاجتماعي أن الفنان أبو زهرة لم يكن الحالة الوحيدة، بل إن الأزمة طالت 325 شخصا من كبار السن، جميعهم تجاوزوا الـ90 عاما، وتوقف صرف معاشهم بسبب غياب أرقامهم القومية عن النظام الرقمي الجديد. ورغم أن الرقم يبدو صغيرا نسبيا مقارنة بإجمالي عدد المستفيدين من المعاشات في مصر والذي يبلغ نحو 11 مليون شخص، فإن توقيت الأزمة وطبيعة الفئة المتضررة من كبار السن، أثارت قلقا واسعا بين المصريين. وأضاف عوض أن الهيئة تحركت بسرعة فور اكتشاف الخلل، وتم التواصل مع الحالات المتضررة لتحديث بياناتها واستئناف الصرف بشكل فوري، مضيفًا أن الهيئة تسعى إلى تنقية قواعد البيانات وضمان ألا تتكرر هذه المشكلة مستقبلا، خاصة مع المسنين الذين يعتمدون على المعاش كمصدر دخل رئيسي.

التشجيع واتخاذ القرار لدى الطلبة
التشجيع واتخاذ القرار لدى الطلبة

الجزيرة

timeمنذ 18 ساعات

  • الجزيرة

التشجيع واتخاذ القرار لدى الطلبة

ومن أجمل ما يقاس به الطالب معرفة تميزه في القدرات، التي تتنوع باختلاف الظروف والأحوال. عمومًا، هناك الطلاب الذين قدموا مثالًا رائعًا ونموذجًا قيّمًا طول حياتهم، وهناك العديد الذين يجهلون مرور الأوقات دون أن يغتنموها فيا للعجب! ويمكن القول إن الناس بمهاراتهم الطبيعية والصناعية صنفان؛ فالأول هو الذي لديه دوافع ذاتيّة، يسعى بها إلى أن يذلل طرقه الشوكية للوصول إلى أسرار النجاح، والثاني يعتمد نجاحه على تشجيع الآخرين ومدحهم له. لذا فإن مسؤوليتنا الاجتماعية أن نقوده إلى ما تُضاء به معيشته المستقرة وراء لهاب الخسارة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله". إذ إن كثيرين منا لا يجدون ضوضاء التفوق والترقي بسبب نقص التشجيع والتقدير، ولذا فإن من الأمور الهامة عندما نحتاج إلى بناء الصداقة العثور على من يشجعنا بشكل إيجابي، حتى لأصغر مواهبنا. وكذا المنازل والمدارس والملاعب، كل منها له دور رئيسي في التنمية الثقافية والاجتماعية للطلبة.. وإذا اهتم الآباء والأساتذة والأصدقاء اهتمامًا وثيقًا بها، فيمكنهم تشكيل مجموعات من الطلاب الذين سيقومون بتجميل مسارات النجاح، وتحسينها بالمعرفة والثقافة. وبالنسبة إليهم، يتوفر العالم الناصع بروعة العلوم من عوالم الفرص الجديدة التي يحتاجون إلى الاعتبار بها، وإدراك الإمكانات التي تخفى خلف ستار القلوب، والتقدم على آفاق الفرص الرائعة. ولله در الإمام الشافعي (رحمه الله) القائل: بادر الفرصة واحذر فوتها .. فبلوغ العز في نيل الفرص اعلم أن بوابات النجاح عديدة أمامنا وعندنا مفاتيحها، والاختيار في أيدينا لفتحها أو عدمه، ويمكن لقرارات جيدة أن تعد بحياة بديعة والرحلات تهدف إلى إزالة عوائق النجاح، من أبواق الصعوبات وأصوات التحديات، وعلى المرء أن يكون لديه الشجاعة للتغلب عليها جميعًا. فالإيمان بعدم الكفاءة هو ضرر كبير، تهلك به الهمة وتخرج القوة، والعبقري يتخلص من مثل هذه الأوهام وتتبع عيناه الأحلام التي تتفتح في النهار. واعلم أن بوابات النجاح عديدة أمامنا وعندنا مفاتيحها، والاختيار في أيدينا لفتحها أو عدمه، ويمكن لقرارات جيدة أن تعد بحياة بديعة، وبعض القرارات تحتاج إلى التشجيع والثناء، فمنحهما خدمة عظيمة. وعندما نتسبب في نجاح من هو معنا فهذا فضل جليل عندالله الباري، لما ورد عن رسوله الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store