logo
الشرق الأوسط ومحنة الفقر السياسي

الشرق الأوسط ومحنة الفقر السياسي

الشرق الأوسطمنذ 5 أيام
دفعَت المنطقة، على امتداد نصف قرن، أثماناً مرعبة جراء النزاع مع إسرائيل، إذ صُورتْ إسرائيل بأنَّها كيانٌ هش، قائم على الدعم الخارجي أكثر مما هو قائم على تماسك داخلي أو شرعية وجود. وهذا أفرز سرديات قومية وإسلامية ويسارية كاملة تدعو لانتظار سقوطِها الحتمي والوشيك. ونابت هذه الترسانة العقائدية دوماً عن الحاجة إلى تطوير مشاريع سياسية، وبررت لأصحابها افتقارهم للمسؤولية التاريخية عن أحوالهم وأحوال شعوبهم وبلدانهم.
يتسلل، في الاتجاه المعاكس، وهم قد يكون أخطر، مفاده أن إسرائيل ما عادت بحاجة إلى السياسة وأفكارها، وأن فائض القوة ومنطق الردع الدائم ينوبان عن الاعتراف بها عبر ترتيبات السلام والتطبيع والتسويات، ويتيحان لها أن تعيد تشكيل الإقليم وحدها بلا مفاوضات أو شراكات.
هذا تماماً ما أفصحت عنه الضربة التي تعرّضت لها دمشق في أعقاب أحداث السويداء. قصف مذهل بتوقيته، وقوته، وبالاستعراض العنيف الذي انطوى عليه في قلب العاصمة؛ فهي رسالة جيو - سياسية، تفيد بأن إسرائيل ما عادت تكتفي بإجهاض تهديدات قائمة، بل جاهزة لتوظيف تفوقها العسكري بغية فرض معادلات سياسية تناسبها. ولئن جاء القصف في أعقاب سيل من التقارير عن مفاوضات سلام بين دمشق وتل أبيب، فإن رسائله آذت كثيراً الرهان العاقل على أن تحييد مهددات الاستقرار في الاقليم يمر عبر تطوير التحالفات وتعميق التفاهمات والبناء على المصالح المشتركة.
كأن إسرائيل تعيش اليوم لحظتها «الناصرية» بشكل معكوس، وتتقمص مقولة إن «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة»، باعتبارها عقيدة سيطرة مستدامة، لا ترى في التسويات إلا تهديداً لوجودها ولا في الحاجة للاعتراف السياسي إلا عبئاً، يعطل قدرتها على فرض نموذج إقليمي جديد يعيد إنتاج التوازنات من الجو، بلا شركاء، بلا تفاوض، وبلا حاجة حتى إلى وسطاء.
بيد أن الناصرية سقطت حين أوهمت الجماهير أن امتلاك الميكروفون يغني عن امتلاك المشروع، وهذا يكاد يؤشر إلى مصير النموذج الإسرائيلي الراهن الذي يرى أن طائرات «إف - 35» تغني عن الأفق السياسي، وتحرر تل أبيب من الحاجة لتقديم «رؤية»، لا لخصومها فقط، بل لحلفائها، ولمجتمعها، وللعالم.
ثمّة خلط قاتل بين حاجة إسرائيل لامتلاك أدوات ردع فعالة، وأن تُحسن توظيف هذه الأدوات ضمن استراتيجية مستدامة يحميها غطاء سياسي داخلي متماسك، ودعم إقليمي ودولي واضح، بغية تحقيق مشروع سياسي للمنطقة؛ لأن البديل الذي يلوح في الأفق الآن هو حالة استنزاف دائمة تدخلها إسرائيل (والمنطقة)، تستهلك مواردها، وتفاقم التشظي المجتمعي، وتضعف شرعية القرار السياسي والاستراتيجي، على نحو يجعل من السعي إلى فرض الاستقرار بالقوة، مجرد دينامية اضطراب مزمن. كما يهدد هذا النموذج بضرب ما تبقى من مراكز التوازن في المنطقة، ويُضعف منطق الواقعية، ويُحرج كل رهانٍ على الاعتدال والتجسير بين إسرائيل ومحيطها.
إن مثل هذا الافتقار المرعب لأي أفق سياسي، حتى لإدارة الصراع، وتحويل التفوق العسكري إلى ما يشبه الهوية، والإقليم إلى حقل عمليات مفتوح، يحرر على المقلب الآخر، جماعات الرفض من عبء التأقلم والتغيير، ويسمح لها بإعادة إنتاج سردياتها عن وجود إسرائيل ودورها في «تقسيم الدول العربية وإضعافها»!
قبلاً، فشلت إسرائيل، رغم ما راكمته من تفوق عسكري وتكنولوجي، في تثبيت شرعية موقعها الإقليمي، لأنها لم تغادر، إلا لماماً، منطق الدفاع الدائم؛ فكثيراً ما عرفت نفسها من خلال ما ترفضه، لا ما تقترحه، ومن خلال ما تخشاه، لا ما تأمله. واليوم، تبدو إسرائيل مكتفية بمنطق الهجوم الدائم، من خان يونس إلى أصفهان. وبين المنطقين، يكاد يندر أن يُعثر على أي جهد لبناء سردية سياسية أو أخلاقية تسمح لها بتثبيت وجودها في زمن الشرق الأوسط، لا في جغرافيته فقط.
ما يفوت إسرائيل الحالية، وما يفوتنا أيضاً، أننا في الشرق الأوسط، لا نعيش سباق تسلّح، بل سباق سرديات.
وفي هذا الخصوص، ثمة مسؤولية عربية أيضاً، عن إنتاج أفق سياسي متماسك، يكف عن التعامل مع الأزمات في غزة وسوريا ولبنان واليمن والسودان والعراق، بمنطق التجزئة، ومن دون أن يُطرح تصور إقليمي شامل يُعيد تعريف ما هو ممكن. يضاف إلى ذلك أنَّ هناك بعض الارتياب والتردد لدينا حيال فكرة أن الأنظمة المأزومة قابلة لإعادة التشكيل السياسي، وليست محكومة سلفاً بضرورة إرجاعها إلى «ما قبل» الانهيار، من دون تغيير؛ فانفجار الأنظمة ليس مجرد «حالة يجب استيعابها»، بل فرصة لفرض هندسات سياسية مختلفة، تفتح الباب أمام تسويات داخلية قابلة للبقاء.
والحال، يكمن التهديد الحقيقي لإسرائيل ولنا، في الجفاف السياسي. العرب يحتمون بقوة الجغرافيا كأنها شرعية دائمة، وإسرائيل تهاجم بقوة العسكرة كأنها مشروع مستدام.
إن اختزال السياسة إلى تفوق جوي واستخباراتي، والشرعية إلى معطى جغرافي وتاريخي فقط، مصيره أن يصنع فراغاً عملاقاً، والفراغ، في هذا الإقليم، لا يطول أبداً قبل أن يملأه خصمٌ ما، أو كارثة.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"الشرق" تحاور رئيس وزراء إقليم كردستان العراق
"الشرق" تحاور رئيس وزراء إقليم كردستان العراق

الشرق السعودية

timeمنذ 22 دقائق

  • الشرق السعودية

"الشرق" تحاور رئيس وزراء إقليم كردستان العراق

رحب رئيس وزراء إقليم كردستان العراق مسرور بارزاني بالمحادثات بين تركيا، وحزب العمال الكردستاني لإنهاء الحرب، وقال لـ"الشرق" إن "مبادرة عبد الله أوجلان لنزع السلاح خطوة جيدة إلى الأمام، ونأمل أن تنتهي هذه الصراعات والمشكلات المستمرة". وأضاف مسرور بارزاني خلال مقابلة أجرتها مذيعة "الشرق" هديل عليان: "إننا نعاني من آثار الحرب المستمرة، و800 من قرانا لم يتم إعادة إعمارها بسبب الاشتباكات، والانسحابات، ونأمل أن يتمكن أهلنا من العودة إلى قراهم، والآن علينا أن ننتظر، وندعم فكرة السلام حتى تنجح. وبشأن العلاقات مع المملكة العربية السعودية قال بارزاني: "نكن احتراماً كبيراً لقيادة المملكة العربية السعودية، وشعبها، وتربطنا علاقات تاريخية مع العائلة المالكة، وكذلك مع الحكومة، والشعب السعودي، ومستعدون لمزيد من التعاون، ونأمل أن ينظر المستثمرون السعوديون تحديداً إلى كردستان كمنطقة استثمارية يمكنهم الاستثمار فيها". كما أوضح رئيس وزراء إقليم كردستان العراق أن السلطات في كردستان تعرف من يقف وراء الهجمات على منشآته النفطية، والتي جرت في وقت سابق من الشهر الجاري باستخدام طائرات مسيرة، لكنه قال إنه سينتظر نتائج التحقيق، لافتاً إلى أن الهجمات تزامنت مع توقيع حكومة الإقليم على صفقات مع شركات أميركية بقطاع الطاقة. وأضاف: "الولايات المتحدة حليف، ونتبادل المعلومات الاستخباراتية معها بشأن مهاجمة منشآتنا النفطية، لأن بعض الحقول التي تمت مهاجمتها تديرها شركات أميركية" وأشار إلى أن الإقليم الواقع في شمال البلاد "يحاول التعاون مع بغداد لإيجاد حلول بشأن تصدير نفط الإقليم". وبخصوص ملف الرواتب، انتقد بارزاني ما وصفه باستخدام الحكومة العراقية مسألة صرف رواتب موظفي الإقليم كورقة ضغط سياسية في الخلاف بين الجانبين، مشيراً إلى أن ذلك يشكل انتهاكاً دستورياً. وقال رئيس وزراء الإقليم: "من المؤسف جداً أن تصبح رواتب الشعب ورقة سياسة أو محل خلاف بين بغداد وأربيل.. بموجب القانون والدستور، يحق للشعب تلقي رواتبهم بدون تأخير ومن دون أي مشاكل.. استخدام رواتب الشعب كضغط سياسي أمر غير مقبول.. شهدنا تأخر صرف الرواتب لمدة 3 أشهر، في الأيام القليلة الماضية فقط تم صرف رواتب شهر مايو". وأضاف: "وزارة المالية على المستوى الاتحادي تتدخل في تفاصيل رواتب وموازنة الإقليم، مما يشكل انتهاكاً للدستور وحقوق كردستان.. الحل الأكثر دستورية هو الاتفاق على موازنة لكردستان في قانون الموازنة المقبل".

لازاريني: عمليات إسقاط المساعدات من الجو في غزة «غير فاعلة»
لازاريني: عمليات إسقاط المساعدات من الجو في غزة «غير فاعلة»

الشرق الأوسط

timeمنذ 22 دقائق

  • الشرق الأوسط

لازاريني: عمليات إسقاط المساعدات من الجو في غزة «غير فاعلة»

وصف المفوّض العام لـ«وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)»، فيليب لازاريني، السبت، استئناف إسقاط المساعدات الإنسانية من الجو في غزة بأنه خطوة «غير فاعلة» في مواجهة الكارثة الإنسانية التي تعصف بالقطاع الفلسطيني. وكتب لازاريني على منصة «إكس»، «لن تنهي عمليات الإسقاط من الجو خطر المجاعة المتفاقم؛ إنها مكلفة وغير فاعلة، ويمكن حتى أن تقتل مدنيين يتضورون جوعاً». #Gaza: airdrops will not reverse the deepening starvation. They are expensive, inefficient & can even kill starving is a distraction & screensmoke.A manmade hunger can only be addressed by political the siege, open the gates & guarantee safe movements... — Philippe Lazzarini (@UNLazzarini) July 26, 2025 وتدهورت الأوضاع الإنسانية في غزة؛ حيث حذّرت منظمات دولية من تفاقم سوء التغذية لدى الأطفال. وعدّ لازاريني أن «مجاعة سببها الإنسان لا يمكن إيجاد حل لها إلا بالإرادة السياسية». ومن دون توجيه انتقادات مباشرة لإسرائيل، دعا لازاريني إلى تمكين الأمم المتحدة من التدخل «على نطاق واسع ومن دون عراقيل» في غزة. وتواجه إسرائيل ضغوطاً دولية متزايدة بسبب تدهور الأوضاع الإنسانية في غزة. وفي نهاية مايو (أيار) خفّفت إسرائيل جزئياً حصاراً مطبقاً كانت تفرضه منذ مارس (آذار)، أدّى إلى نقص حاد في المواد الغذائية والأدوية وغيرهما من السلع الأساسية. وفي بيان صدر الجمعة، شدّد الجيش الإسرائيلي على أن «إسرائيل لا تحد من عدد الشاحنات التي تدخل غزة»، وأن «المنظمات الإنسانية الدولية ووكالات الأمم المتحدة» لا تجمع المساعدات بمجرد دخولها القطاع. فلسطينيون يحملون أكياس دقيق يسيرون في أحد شوارع خان يونس بعد دخول شاحنات محملة بالمساعدات الإنسانية إلى جنوب قطاع غزة عبر معبر كرم أبو سالم الذي تسيطر عليه إسرائيل (د.ب.أ) وتعمل منظمات إنسانية عدة في غزة، وتؤكد منذ أشهر أنها تواجه قيوداً تحول دون استجابتها للأزمة الإنسانية، تشمل تحديد أنواع السلع وقيوداً إدارية مشددة. والاحتياجات في غزة هائلة، وفق منظمات غير حكومية وشهادات ميدانية جمعتها «وكالة الصحافة الفرنسية». وأفادت وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية (كوغات) التابعة لوزارة الدفاع السبت بأن حمولات 600 شاحنة تنتظر تفريغها بواسطة المنظمات الدولية.

"تحوّل نوعي في مكانتها القانونية والسياسية".. ماذا يعني الاعتراف بدولة فلسطين؟
"تحوّل نوعي في مكانتها القانونية والسياسية".. ماذا يعني الاعتراف بدولة فلسطين؟

صحيفة سبق

timeمنذ 22 دقائق

  • صحيفة سبق

"تحوّل نوعي في مكانتها القانونية والسياسية".. ماذا يعني الاعتراف بدولة فلسطين؟

في خطوة أثارت ترحيبًا واسعًا، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزم بلاده الاعتراف بدولة فلسطين خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل بنيويورك. وهذا القرار، الذي يضع فرنسا إلى جانب أكثر من 142 دولة اعترفت بفلسطين، يهدف إلى تعزيز حل الدولتين ودعم معسكر السلام، وسط انتقادات إسرائيلية وأمريكية حادة. فماذا يعني هذا الاعتراف؟ وكيف سيؤثر على المشهد السياسي في الشرق الأوسط؟ الاعتراف بدولة فلسطين يعني الارتقاء بمكانتها من كيان سياسي إلى دولة ذات سيادة، تتمتع بحقوق وواجبات في القانون الدولي. ووفقًا للمحلل السياسي الفلسطيني أنيس محسن، يشمل هذا الاعتراف المساحة الجغرافية للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس الشرقية. وهذه الخطوة تعزز شرعية فلسطين دوليًا، وتدعم مطالبها بحق تقرير المصير، مما يمنحها حضورًا أقوى في المحافل الدولية، وفقًا لـ"فرانس برس". وعندما تصبح دولة فلسطين عضوًا كامل العضوية في الأمم المتحدة، كما أوضحت خبيرة حقوق الإنسان رينة صفير، فإنها تكتسب القدرة على رفع دعاوى أمام المحاكم الدولية، مثل محكمة العدل الدولية. وهذا يعزز قدرتها على مواجهة الانتهاكات وطرح قضاياها على المستوى العالمي، مما يمثل تحوّلًا نوعيًا في مكانتها القانونية والسياسية. ودافع وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو عن قرار بلاده، مؤكدًا أنه لا يمثل دعمًا لحركة حماس، بل رسالة واضحة لدعم حل الدولتين. وفي تعليق عبر منصة "إكس"، شدّد بارو على أن فرنسا ترفض نهج الحركات الرافضة للسلام، وتؤكد أن معسكر السلام على صواب. وهذا الموقف يعكس رؤية فرنسا لتعزيز الحلول الدبلوماسية في مواجهة التصعيد العسكري. وأثار القرار الفرنسي انتقادات حادة من إسرائيل والولايات المتحدة، التي رأت فيه "تحيزًا" ضد إسرائيل. ومع ذلك، يرى مراقبون أن هذه الخطوة قد تشجع دولًا أوروبية أخرى على اتخاذ مواقف مماثلة، مما يعزز الضغط الدولي لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. والاعتراف بدولة فلسطين قد يفتح الباب أمام مفاوضات جديدة، لكنه يثير تساؤلات حول تأثيره على العلاقات الدولية. فهل سيدفع هذا القرار الدول الأخرى لإعادة تقييم مواقفها؟

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store