كيف سعت إيران لتجنيد جواسيس داخل "إسرائيل"؟ تقرير لـ'الغارديان' يكشف: 'طلبت اغتيال نتنياهو'
منذ أول وابل صاروخي إيراني على "إسرائيل" في أبريل 2024، تم توجيه اتهامات لأكثر من 30 إسرائيليا بالتعاون مع الاستخبارات الإيرانية.
وقالت صحيفة 'الغارديان' البريطانية في تقرير لها 'في العديد من الحالات، بدأت الاتصالات برسائل مجهولة تعرض المال مقابل معلومات أو مهام بسيطة. ثم تصاعدت المدفوعات تدريجيا بالتوازي مع مطالب تزداد خطورة'.
وبحسب وثائق المحكمة، فإن موجة التجسس الإيرانية خلال العام الماضي لم تحقق سوى القليل، إذ فشلت طموحات طهران في تنفيذ اغتيالات رفيعة المستوى لمسؤولين إسرائيليين، حسب الصحيفة.
وقال الصحيفة 'ومع ذلك، فإن عدد الإسرائيليين الذين كانوا على استعداد لتنفيذ مهام متواضعة كان كافيًا ليجعل من حملة التجسس ناجحة جزئيا، بوصفها وسيلة لجمع معلومات حول مواقع استراتيجية، قد تصبح لاحقا أهدافا للصواريخ الباليستية الإيرانية'.
في المقابل، تجسست "إسرائيل" على إيران بشكل 'مدمر'، مما مكن جهاز الموساد من تحديد مواقع واغتيال عدد كبير من قادة إيران وعلمائها النوويين دفعة واحدة في ساعات فجر الجمعة 13 يونيو، إلى جانب أهداف أخرى.
ومنذ بداية الحرب، اعتقلت السلطات الإيرانية أكثر من 700 شخص بتهمة التجسس لصالح "إسرائيل"، وفقا لوكالة أنباء فارس. وفي ما لا يقل عن ست حالات، أفضت المحاكمات إلى إعدامات فورية، حسب الصحيفة.
من جهتها، السلطات الإسرائيلية قدّمت لوائح اتهام مفصلة بحق المتهمين بالتجسس لصالح إيران. ورغم صدور إدانة واحدة فقط حتى الآن ضمن موجة الاعتقالات الأخيرة – ما يعني أن الذنب الفردي لا يزال قيد التقييم – فإن وثائق المحكمة رسمت صورة واضحة عن الكيفية التي استخدمتها إيران لاصطياد عملاء محتملين، حسب 'الغارديان'.
عادةً ما تبدأ العملية برسالة نصية من مرسل مجهول. إحدى هذه الرسائل، من جهة تُدعى 'وكالة أنباء'، سألت: 'هل لديك معلومات عن الحرب؟ نحن مستعدون لشرائها'. وأخرى، أُرسلت من جهة تُدعى 'طهران – القدس' إلى مواطن فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية، كانت أكثر وضوحا: 'القدس الحرة توحد المسلمين. أرسل لنا معلومات عن الحرب'.
وقالت الصحيفة 'تضمنت الرسالة رابطا لتطبيق تلغرام، حيث يبدأ حوار جديد، أحيانا مع شخص يستخدم اسما إسرائيليا، مع عرض مالي لتنفيذ مهام بسيطة على ما يبدو. وإذا أبدى المتلقي اهتماما، يُنصح بتنزيل تطبيق 'باي بال' وتطبيق لاستلام الأموال بالعملات الرقمية'.
في حالة أحد المشتبه بهم الذين تم اعتقالهم في 29 سبتمبر، كانت أول مهمة مطلوبة هي الذهاب إلى حديقة والتأكد من وجود حقيبة سوداء مدفونة في مكان معين، مقابل مبلغ يقارب 1000 دولار أمريكي. لم تكن هناك حقيبة، وأرسل المجند مقطع فيديو لإثبات ذلك.
فيما بعد، أوكلت إليه مهام أخرى مثل توزيع منشورات، وتعليق لافتات، أو رش كتابات على الجدران، معظمها بشعارات ضد بنيامين نتنياهو، مثل 'كلنا ضد بيبي' (لقب نتنياهو)، أو 'بيبي جلب حزب الله إلى هنا'، أو 'بيبي = هتلر'.
ثم جاء دور التصوير. إسرائيلي 'من أصول أذرية' تم تجنيده لالتقاط صور لمنشآت حساسة في أنحاء البلاد، ويبدو أنه حول الأمر إلى 'عمل عائلي'، إذ شاركه أقاربه في التقاط صور لمرافق ميناء حيفا (والذي استُهدف لاحقًا بصواريخ إيرانية في الحرب التي استمرت 12 يوما)، وقاعدة 'نفاتيم' الجوية في النقب (التي ضُربت بوابل من الصواريخ في أكتوبر)، بالإضافة إلى بطاريات القبة الحديدية المنتشرة في البلاد، ومقر الاستخبارات العسكرية في غليلوت شمال تل أبيب، حسب الصحيفة.
المجند ذاته الذي كُلّف بالبحث عن الحقيبة السوداء، طُلب منه لاحقًا تصوير منزل عالم نووي يعمل في معهد وايزمان، وهو المركز العلمي الأهم في "إسرائيل"، الذي كان محل اهتمام بالغ من قبل إيران. فعلى مدى 15 عاما سبقت الحرب، تم اغتيال خمسة علماء نوويين إيرانيين، ويرجّح أن الموساد كان وراء تلك العمليات. وفي صراع طويل حول ما إذا كانت "إسرائيل" ستحتفظ باحتكارها للسلاح النووي في الشرق الأوسط، سعت طهران للرد.
وقد استهدفت إيران معهد وايزمان بصواريخ باليستية خلال الحرب التي استمرت 12 يومًا، ومن المرجح أن الصور التي التقطها عملاؤها ساهمت في توجيه تلك الضربات. غير أن محاولة اغتيال العلماء فشلت. في الواقع، لا يبدو أن وزارة الاستخبارات الإيرانية أو الحرس الثوري قد نجحوا في اغتيال أي من أهدافهم خلال هذه الحرب الخفية الطويلة.
بينما اعتمد الموساد على زرع مجموعة من العملاء المدربين تدريبا عاليا داخل إيران، فإن الاستخبارات الإيرانية اتبعت أسلوبا مختلفا يتمثل في اختبار مدى استعداد 'المجندين الجدد' للمضي قدما. ووصف خبير الاستخبارات الإسرائيلي يوسي ميلمان الأمر نقلا عن مسؤول في الشاباك بأنه 'نهج الرشّ والدعاء' (spray-and-pray)، أي محاولة تطوير عدد محدود من العملاء الموثوقين من خلال استثمار منخفض المخاطر في عدد كبير من المجندين الآخرين.
بعد تنفيذهم مهام بسيطة مثل تعليق لافتات والتقاط صور، يُطلب من المجندين القيام بأعمال أكبر مقابل مزيد من المال. فعلى سبيل المثال، بعد أن التقط صورا لمنزل عالم نووي في معهد وايزمان، 'عُرض على أحدهم مبلغ 60 ألف دولار لاغتيال العالم وأسرته وحرق منزلهم'.
وبحسب لائحة الاتهام، فقد وافق العميل و'بدأ بتجنيد أربعة شبان من عرب "إسرائيل". وفي ليلة 15 سبتمبر، وصل فريق الاغتيال المفترض إلى بوابة معهد وايزمان، لكنهم لم يتمكنوا من تجاوز الحرس الأمني وغادروا بهدوء.
في اليوم التالي لتلك الفضيحة، طلب المشغّلون الإيرانيون من المجند العودة إلى المعهد والتقاط صور جديدة. وبفضل كونه 'يهوديا إسرائيليا'، تمكن من إقناع الحراس بالسماح له بالدخول نهارا، وصوّر سيارة العالم. دُفع له مبلغ 709 دولارات، وسُئل عمّا إذا كان مستعدًا لوضع جهاز تتبع GPS على السيارة، لكنه رفض.
وقد تكرر هذا النمط في لوائح الاتهام مرارا وتكرارا. ورغم أن المجندين الإيرانيين أثبتوا فعالية في العثور على إسرائيليين مستعدين لالتقاط الصور وتوزيع المنشورات مقابل المال، إلا أن مسؤولي التجنيد في طهران 'كانوا على ما يبدو متسرعين جدا في تحويلهم إلى عملاء طويلَي الأمد'.
فقد طُلب من عدة مجندين – بعد أيام فقط من تنفيذ مهامهم الأولى – التفكير في تنفيذ اغتيالات لمسؤولين كبار. و'طُلب من مجموعة الأذريين' البحث عن قاتل مأجور لكنهم رفضوا. أما المجند الذي رفض وضع جهاز تتبع على سيارة العالم، فقد سُئل بعد أيام عما إذا 'كان يوافق على رمي زجاجة حارقة على سيارة نتنياهو'.
حتى الآن، لم يُدان سوى مشتبه به واحد وتم الحكم عليه بالسجن، بعد أن اعترف بالتهم المنسوبة إليه.
عندما اقتربت الاستخبارات الإيرانية من مردخاي 'موطي' مامان (72 عامًا) في ربيع العام الماضي، كان قد تزوج حديثًا من امرأة أصغر سنا، وكان في حاجة ماسة إلى المال بعد فشل عدة مشاريع تجارية.
كان مامان قد أمضى 'سنوات في مدينة سامانداج' بجنوب تركيا، وفي أبريل تواصل مع شقيقين من رجال الأعمال يعرفهما هناك، بحثا عن فرص ربح. قال له الشقيقان إن لديهما 'شراكة تجارية مربحة مع إيراني يُدعى 'إدي'، يعمل في استيراد الفواكه المجففة والتوابل'، واقترحا أن يلتقي به.
في أبريل، سافر مامان إلى سامانداج عبر قبرص، لكن 'إدي' أرسل اثنين من زملائه بدلا منه، قائلا إنه لا يستطيع مغادرة إيران لأسباب بيروقراطية. وفي الشهر التالي، دُعي مامان مجددا إلى تركيا، إلى بلدة يوكسكوفا في الجنوب الشرقي، حيث نزل في فندق على نفقة 'إدي'.
مرة أخرى، قال 'إدي' إنه لا يستطيع العبور إلى تركيا، لكنه أبلغ مامان أن 'هناك وسيلة لتهريبه إلى داخل إيران'. وافق، وفي 5 مايو، تم تهريبه داخل شاحنة.
التقى به 'إدي' ومسؤول إيراني آخر في فندق فاخر داخل إيران، وقدما له عرضا بمبالغ ضخمة مقابل ثلاث مهام: 'أن يترك أموالا أو أسلحة في أماكن محددة داخل "إسرائيل"، أن يلتقط صورا لأماكن مزدحمة، وأن ينقل تهديدات إلى عملاء آخرين، تحديدا فلسطينيين إسرائيليين تلقوا أموالا من إيران لتنفيذ مهام عدائية لكنهم لم ينفذوها'.
قال مامان إنه سيُفكر بالأمر، وتم تهريبه مجددا إلى تركيا. وهناك، سُلم له مبلغ 1300 دولار نقدا كدفعة أولى.
في أغسطس، عاد مامان إلى تركيا، وتم تهريبه مرة أخرى للقاء 'إدي' ومساعده. هذه المرة، كانت المهام أكثر جرأة. عرض الإيرانيون مبلغ 150 ألف دولار مقابل اغتيال أي من نتنياهو أو رئيس الشاباك رونين بار، أو وزير الدفاع آنذاك يوآف غالانت.
وبحسب الادعاء، ذكر مامان أن له علاقات في العالم السفلي قد تساعده في تنفيذ المهمة، لكنه طلب مليون دولار. وهو مبلغ اعتبره الإيرانيون مرتفعا جدا، واقترحوا هدفا أقل شأنا: رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت، مقابل 400 ألف دولار. لكن مامان أصر على مطلبه، ولم يتم التوصل إلى اتفاق.
تلقى مامان 5000 دولار، وسافر إلى قبرص، ثم في 29 أغسطس عاد إلى تل أبيب، حيث كانت عناصر الشاباك بانتظاره.
في 29 أبريل، حُكم على مامان بالسجن 10 سنوات بعد أن أقر بالذنب في التهم الموجهة إليه، وهي الاتصال بوكيل أجنبي والدخول غير القانوني إلى دولة عدوة. ووصف محاميه، إيال بيسيرغليك، الحكم بأنه قاس للغاية وقدّم استئنافا.
وقال بيسيرغليك إن موكله اعتقد حتى اللحظة الأخيرة أن 'إدي' مجرد رجل أعمال إيراني يعمل في تجارة الزبيب والتوابل، وإنه لم يكن يعلم أنه يُنقل إلى داخل إيران حين أُدخل الشاحنة. وينفي أن مامان طلب مليون دولار، ويؤكد أن موكله اضطر إلى التظاهر بالموافقة على مخططات الإيرانيين خوفا من أن يؤدي الرفض المفاجئ إلى قتله.
وصرح بيسيرغليك لصحيفة الغارديان: 'ما البديل؟ أن يُختطف داخل شاحنة أو يُقتل؟' وأضاف أن مامان تعرّض للضرب في السجن واحتُجز في زنزانة قذرة مليئة بالبراز.
وتابع المحامي: 'لقد ارتكب خطأً جسيمًا، لكنه لا يجب أن يموت بسببه، لأنه في النهاية لن يكون هناك أحد لمحاسبته'، حسب ما اسردت صحيفة 'الغارديان'.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

السوسنة
منذ ساعة واحدة
- السوسنة
سوريا في انتظار تبعات انفتاح تركيا على كردها
القضية الكردية في منطقتنا قضية حيوية محورية ثلاثية الأبعاد. فهي من جهة قضية داخلية تخص كل دولة من دول المنطقة التي تقاسمت الفضاء الكردي على صعيد الديموغرافيا والجغرافيا بموجب اتفاقيات دولية، ضمن إطار اتفاقية سايكس بيكو 1916، وهي الاتفاقيات التي تمت بين القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وألمانيا المهزومة، وتركيا حليفتها وريثة الامبراطورية العثمانية التي كانت قد خسرت تلك الحرب، إلى جانب إيران التي شاركت في مفاوضات ما بعد الحرب، ولكن بدور شبه ثانوي.إلا أنه من جهة أخرى تتجاوز هذه القضية الحدود الوطنية المعترف بها لكل دولة من الدول المعنية بها، وهذا معناه أنها في جانب كبير منها قضية إقليمية، لها تأثير كبير في عملية رسم معالم العلاقات بين دول الإقليم وحساباتها الأمنية.ومن جهة ثالثة، تجاوزت القضية ذاتها حدودها الإقليمية، وأصبحت قضية تحظى باهتمام دولي، تركز عليها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى، خاصة بريطانيا وفرنسا. كما أن روسيا من ناحيتها تتابع هذه القضية، وتحاول في كل المناسبات أن تجد لها ميداناً للتأثير فيها، والدخول في مساراتها المتشابكة مع مسارات تطورات الأمور وتفاعلات المعادلات في الإقليم.وقد اُستخدمت هذه القضية باستمرار من قبل القوى الإقليمية لتكون ورقة ضغط، وأداة للتدخل في شؤون الدول المنافسة. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى الدور الإيراني، والسوري في عهد سلطة حافظ الأسد في استخدام ورقة حزب العمال الكردستاني للضغط على تركيا، وإزعاجها في جوارها الإقليمي.ولعله من المناسب الإشارة هنا إلى أن النظام الإيراني وحليفه الأسدي قد تعاملا مع ورقة حزب العمال الكردستاني كتعاملهم مع ورقة القوى الفلسطينية في سياق السعي؛ والعمل بكل الأساليب من أجل البناء على مظلومية الشعبين الفلسطيني والكردي، وذلك بغية استخدام الورقتين وقت اللزوم بهدف تحسين شروط الصفقات مع القوى الغربية وحتى إسرائيل نفسها.واليوم، وبعد التطورات الدراماتيكية التي كانت بعد عملية طوفان الأقصى 7 تشرين الأول/اكتوبر 2023، والحرب الإسرائيلية على غزة، والضربة المؤثرة التي تعرض لها حزب الله في لبنان، والمجابهة العسكرية المباشرة بين إسرائيل والنظام الإيراني، وقبل ذلك سقوط سلطة آل الأسد في سوريا ومجيء إدارة سورية جديدة بقيادة أحمد الشرع؛ بعد كل هذه التطورات يلاحظ وجود توجه تركي لافت بخصوص إيحاد حل لموضوع نزع سلاح حزب العمال، بل الضغط باتجاه حل هذا الحزب فعلياً، وذلك بعد القرار الذي اتخذه المؤتمر 12 (5-7-أيار/مايو 2024) للحزب المذكور بناء على اقتراح زعيمه عبدالله أوجلان.ومن الواضح، في سياق ما يجري، أن الجانب التركي يحاول تعزيز منطقة نفوذه في شمال غرب سوريا، مع أخذ ضمانات بشأن مناطق شمال شرق سوريا، خاصة في محافظة الحسكة، وفي منطقة كوباني؛ وذلك من خلال التواصل مع قيادة قسد والإدارة الذاتية بصورة غير مباشرة عن طريق عبدالله أوجلان أو عبر الأمريكان؛ وحتى بصورة مباشرة من خلال التواصل مع قيادة قسد نفسها، وربما مظلوم عبدي (قائد قسد) نفسه.فتركيا هي في نهاية المطاف دولة كبيرة، وقوة إقليمية أساسية وازنة لها مصالحها ومطالبها؛ وربما هي مطلعة بالتفصيل على ما ينتظر المنطقة من إعادة ترتيب للمعادلات وأدوار وحدود مراكز النفوذ الإقليمية. وهي تدرك أن إسرائيل بعد كل المعارك التي خاضتها، وما حققته من نتائج ميدانية ملموسة، ستعمل بإصرار، مع التفاهم التام مع الجانب الأمريكي (زيارة بنيامين نتنياهو الأخيرة إلى واشنطن تندرج ضمن هذا الإطار) من أجل التوصل إلى تفاهمات مع الإدارة السورية الجديدة بخصوص الجولان المحتل، والمناطق التي دخلتها القوات الإسرائيلية في الجنوب السوري منذ سقوط سلطة آل الأسد.وإذا صحت التسريبات، وتكاملت مع التصريحات الصادرة عن مختلف الأطراف، ستكون هناك على الأغلب اتفاقية مبدئية بين إدارة الرئيس السوري الانتقالي وإسرائيل، اتفاقية ربما تتحول مستقبلاً إلى اتفاق سلام دائم يستند إلى دعم عربي على أساس الاتفاق بشأن الجولان، وتوزع القوات العسكرية، وتحديد خطوط التماس وغيرها من التفصيلات. هذا إلى جانب التوصل إلى مقاربة مقبولة للموضوع الفلسطيني على أساس حل الدولتين؛ ومن دون حل كهذا ستبقى التشنجات والتوترات وأسباب النزاع والحروب قائمة فاعلة في المنطقة، تقطع الطريق أمام عملية سلام حقيقية بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية.لكن الموضوع الكردي هو الآخر لا يقل شأناً وتأثيراً بالنسبة إلى أمن المنطقة واستقرارها عن الموضوع الفلسطيني. وفي يومنا هذا يبدو من الواضح أن الموضوع الكردي في كل من تركيا وسوريا لهما الأولوية القصوى في نطاق جهود التكيّف مع المتغيّرات المنظورة والمستقبلية التي ستشهدها المنطقة. وما يضفي أهمية خاصة، إن لم نقل استثنائية، على موضوع الربط بين الوضع الكردي السوري والعلاقات مع الإدارة الجديدة في دمشق، والموضوع الكردي في تركيا، هو تأثير حزب العمال الكردستاني عبر أسمائه وتشعباته المختلفة في الوضعين، رغم وجود أحزاب وتيارات وجمعيات وشخصيات كردية مؤثرة في المجتمع الكردي في البلدين. ولكن مع ذلك يبقى التأثير الأكبر في الملفين لحزب العمال الكردستاني، وذلك لأسباب كثيرة منها وجود قوات عسكرية لدى الحزب المذكور، وعلاقاته مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لمحاربة داعش في سوريا، بالإضافة إلى تحكّمه بالإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، إلى جانب علاقاته مع النظام الإيراني وفصائل الحشد العراقية، وعوامل أخرى عديدة يطول الحديث عن تفصيلاتها هنا.ولعله من المناسب أن يُشار هنا إلى عدم إمكانية فصل التحركات والاتصالات الجارية بين مختلف الأطراف الدولية والإقليمية بخصوص الجهود الأمريكية المكثفة الرامية إلى عقد اتفاقية سلام أو تطبيع بين سوريا وإسرائيل، عن الجهود التي تبذلها الحكومة التركية على الصعيد الداخلي من أجل التوصل إلى اتفاق مع عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني بخصوص مستقبل الحزب وأسلوبه في العمل. ومن الواضح أن الجانب الأمريكي يشجع هذا المسعى؛ ويحاول معالجة هذا الملف بتفكيكه إلى ملفين هما: ملف قسد وملف حزب العمال الكردستاني.فبالنسبة إلى موضوع قسد، هناك ضغوط أمريكية على إدارة أحمد الشرع وقيادة قسد تستهدف دفعهما نحو توافق على دمج قوات قسد في الجيش السوري؛ وإيجاد حل لموضوع مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، لتصبح خاضعة لسيادة الإدارة السورية الجديدة مقابل ضمانات تخص الحقوق والدور والصلاحيات وطبيعة العلاقة.أما بالنسبة لموضوع مبادرة بختشلي وصداها الأوجلاني بشأن حل حزب العمال والتخلي عن السلاح، فهو موضوع يخص في المقام الأول الداخل التركي وتصورات وخطط الحكومة التركية على صعيد الانتهاء من ملف حزب العمال الكردستاني؛ ولكن ما يلاحظ في هذا المجال هو عدم وجود رؤية واضحة بخصوص حل الموضوع الكردي في تركيا، ولا يتلمس المرء حتى الآن علائم أو مؤشرات توحي بوجود مبادرة شاملة مطروحة من جانب الحكومة التركية تمثل تصورها لحل عادل للقضية الكردية في تركيا على أساس وحدة البلاد والشعب. وهذا الأمر يثير الكثير من التساؤلات من جانب القوى الكردية السياسية والاجتماعية والثقافية والفعاليات الاقتصادية من خارج دائرة حزب العمال.غير أنه مع ذلك يبدو أن هناك جدية من طرف الحكومة التركية بخصوص الرغبة في الانتهاء من ملف حزب العمال الكردستاني وسلاحه؛ وفي الوقت ذاته يلاحظ وجود اطروحات لدى عبدالله أوجلان، وغالبية قيادات حزب العمال على الاستمرار في موضوع حل الحزب، والقطع مع العمل العسكري، والتوجه نحو العمل السياسي. هذا رغم وجود قيادات، ضمن حزب العمال، ربما أقل عددا وتأثيرا من تلك المناصرة لأوجلان، ليست موافقة تماماً على حل الحزب، وترفض التخلي عن العمل المسلح من دون مقابل، وذلك لأسباب مختلفة داخلية خاصة بالتنظيم، وخارجية مرتبطة بالالتزامات الإقليمية، خاصة مع النظام الإيراني الذي استخدم حزب العمال وواجهاته في كل من سوريا والعراق لصالح مشروع التوسعي في الإقليم.الأحداث التي تشهدها منطقتنا متلاحقة، والمتغيرات سريعة، والمفاجآت كثيرة؛ وهذا معناه أنه لفهم ما يجري، واستشفاف ما سيجري، هناك حاجة للمزيد من الصبر والانتباه والمتابعة والانتظار.*كاتب وأكاديمي سوري


خبرني
منذ ساعة واحدة
- خبرني
مخرج هوليودي ينتظر السجن 90 عاما .. ما علاقة نتفليكس ؟
خبرني - حدّد القاضي الفدرالي جيد إس. راكوف من المحكمة الجزئية للمنطقة الجنوبية في نيويورك بالولايات المتحدة موعد بدء محاكمة المخرج الأميركي كارل إريك رينش في الثامن من سبتمبر/أيلول القادم، وذلك بعد توجيه 7 تهم فدرالية له، من بينها الاحتيال المالي وغسل الأموال، وذلك على خلفية تلقيه أكثر من 55 مليون دولار من شركة نتفليكس لإنتاج مسلسل خيالي لم يُنجز منه أي حلقة. وجاء القرار في جلسة تمهيدية عقدت في نيويورك، حيث أكّد ممثلو الادعاء أن رينش استخدم أموال المنصة العملاقة في استثمارات مشبوهة ومشتريات شخصية فاخرة شملت سيارات رولز رويس وفيراري ومفروشات باهظة، بدلًا من تمويل الإنتاج التلفزيوني كما كان متفقًا عليه. ورينش -الذي تعود أصوله إلى السويد واعتبر مخرجا واعدا ورمزا هوليوديا- دفعت محاكمته نتفليكس إلى مراجعة أنظمة التمويل والمراقبة بعد ضياع ما يقرب من 55 مليون دولار. مشروع واعد عندما وقّعت نتفليكس صفقة حصرية مع رينش عام 2018، كانت تضع ثقتها في عودته القوية إلى الساحة، حيث كان يُنظر إليه في السابق كمصمم بصري موهوب وواعد، ولكنه لم يُقدّم سوى عمل سينمائي رئيسي واحد هو فيلم "47 رونين" (47 Ronin) الصادر عام 2013، والذي حقق إيرادات متواضعة. ومع ذلك، جاءت فكرته الجديدة بطموح أكبر، إذ اقترح مسلسل خيال علمي يدور في مستقبل تتحرر فيه كائنات بشرية اصطناعية من السيطرة. وحمل المشروع في البداية اسم "الحصان الأبيض" (White Horse) قبل أن يُعاد تسميته لاحقًا إلى "كونكيست" (Conquest). وقد أبرمت الصفقة بطلب إنتاج حلقات متعددة. وعلى مدار العامين التاليين، حوّلت نتفليكس عشرات الملايين من الدولارات لتمويل الإنتاج، ليصل إجمالي المبلغ في النهاية إلى أكثر من 55 مليون دولار. وكان من المتوقع أن ينتج رينش 10 حلقات. وتم توقيع العقود، والاتفاق على المراحل الرئيسية، وحافظت الشركة على نهج سلس وبسيط في إدارة رؤية المخرج، واعتمدت تلبية كل ما يطلبه في حينه دون تأخير. ولكن مع مرور السنين، لم ينجز سوى القليل. لا حلقات مكتملة، ولا مونتاج أولي، وتم تصوير بعض المشاهد القصيرة التي بلغت حوالي 4-10 دقائق فقط، وكانت تهدف لأن تكون "مقاطع عرض" أو محاولات أولية لإظهار النمط البصري والتقني. وسجلت هذه المشاهد في عدة مواقع مثل البرازيل، أوروغواي، وبودابست، حيث استخدموا مواقع طبيعية وبعض الاستوديوهات لتصوير لقطات قليلة. ولم يقدم المخرج أي تفسير يرضي القلق الداخلي المتزايد داخل نتفليكس. ومع ذلك، في مارس/آذار 2020، نجح رينش في الضغط للحصول على 11 مليون دولار إضافية، وهي أموال سرعان ما أصبحت محور قضية جنائية. ملايين مفقودة كان من المفترض أن يسهم مبلغ الـ11 مليون دولار الإضافي، الذي دفعته الشركة عام 2020، في سد فجوات الإنتاج. وبدلا من ذلك، استخدمه المخرج في مشروعات شخصية ورهانات مالية عالية المخاطر. وفي غضون أسابيع، حوّل رينش الأموال إلى تداول الأسهم والمضاربة، مما أدى إلى خسائر فادحة في فترة وجيزة، فاتجه بعدها إلى العملات المشفرة. وفي سوق العملات المشفرة، حوّل رينش خسائره إلى مكاسب لفترة وجيزة. وحوّل ملايين الدولارات إلى عملة "دوجكوين" وعملات أخرى خلال ارتفاعها أواخر عام 2020. وبلغت محفظته الاستثمارية ذروتها عند أكثر من 27 مليون دولار، وبدأ بعدها جولة تسوق مجنونة. وتُظهر الوثائق التي راجعها المحققون وملفات المحكمة نفقات شخصية مذهلة: 5 سيارات رولز رويس، وسيارة فيراري واحدة، ومئات الآلاف أُنفقت على مفروشات الأسرّة، والملابس الفاخرة، والأثاث العتيق، والفنادق الفاخرة. كما خُصص جزء من الأموال للنزاعات القانونية وإجراءات الطلاق. ولم يُستخدم أيٌّ من هذه الأموال لإنتاج المسلسل. وبحلول عام 2021، أنهت نتفليكس الصفقة. وفي تحكيم خاص، سعت الشركة للحصول على تعويضات. وقضت المحكمة لنتفليكس بتعويض قدره 8.8 ملايين دولار، وحرمت رينش من أي حق في المسلسل. وخلص المحكمون إلى أنه لم تُستكمل أي حلقة أو تُعرض بشكل قابل للاستخدام. كشف واعتقال وكان رينش قد اعتقل بواسطة عملاء فدراليين في لوس أنجلوس خلال مارس/آذار 2025. وهو يواجه الآن 7 تهم جنائية، بما في ذلك الاحتيال الإلكتروني وغسل الأموال. وفي حال إدانته، قد يواجه عقوبة السجن لأكثر من 90 عاما. ودفع المتهم ببراءته في أول ظهور له أمام المحكمة، في حين أكد المدعي أمام المحكمة أن رينش كذب على نتفليكس بشأن تقدم الإنتاج، وحوّل الأموال عمدا للاستخدام الشخصي، وتورط في تحويلات مالية معقدة لإخفاء مسار الأموال. وقد استعانت المحكمة بشهود من العاملين مع رينش وأكد أغلبهم أنه شخصية مضطربة. وتذكر أفراد الفريق من العاملين معه سلوكًا غريبًا، ونوبات غضب مفاجئة، وانسحابًا من الحياة العامة. وقد ازداد عزلته السنوات الأخيرة من المشروع، وفقًا لمقربين منه. وبحسب ما ورد، باءت محاولات عائلته وشركائه للتدخل بالفشل. والتزمت نتفليكس الصمت في أعقاب لائحة الاتهام. وتشير مصادر داخلية إلى أن الشركة أعادت هيكلة كيفية مراقبتها للصفقات الإبداعية الكبيرة. وكان رينش قد ولد في لوس أنجلوس، ودرس في براون وبوليتسيا كولومبيا، وبدأ حياته المهنية مخرج إعلانات بوكالة (Ridley Scott Associates) المملوكة للمخرج ريدلي سكوت، وحصل على إشادات عالمية عام 2010 بفيلمه القصير "الهدية" (The Gift) الذي فاز بجائزة في مهرجان "كان ليونز" (Cannes Lions)، مهرجان كان الدولي للإبداع، وهو أهم مهرجان عالمي للإعلان والإبداع في مجالات التسويق والتواصل البصري. وقد مكنه هذا النجاح من العمل على مشاريع ضخمة، ورشح للعمل على فيلم مثل "الفضائي" (Alien) الذي أخرجه ريدلي سكوت، وتطوير فيلم (Logan's Run) الذي أخرجه روبين بيلسبيري، ثم انسحب منهما، ليتولى إخراج فيلمه الروائي الأول "رونين 47" (47 Ronin) بموازنة تجاوزت 175 مليون دولار.

السوسنة
منذ 2 ساعات
- السوسنة
مشكلة الاقتصاد الأردني إدارية لا مالية
ليس خافيًا على أحد أن الاقتصاد الأردني يعيش واحدة من أعمق أزماته في تاريخه الحديث، أزمة لا تعود جذورها إلى نقص الموارد أو غياب المال، بل إلى غياب الكفاءة في إدارتهما. فالأردن، رغم محدودية موارده الطبيعية، لم يكن يومًا معدمًا؛ دخلت إليه مليارات من المساعدات العربية والدولية، وتدفقت عليه عوائد الضرائب والفوسفات والبوتاس، ومع ذلك، لم تنعكس هذه الأموال على حياة المواطن ولا على بنية الاقتصاد الوطني. فالمشكلة لم تكن في المال، بل في من يدير المال، وفي الطريقة التي يُدار بها.تُدار الموارد في الأردن بعقلية عاجزة عن مواكبة مرونةالعصر، وبتخطيط يفتقر للرؤية بعيدة المدى، وتنفيذ يُسخّر غالبًا لخدمة الأجندات الشخصية لا الصالح العام. غابت الإدارة الرشيدة، وحلّ مكانها أسلوب الارتجال، وغياب المساءلة، وإعادة تدوير الوجوه ذاتها التي أثبتت فشلها لعقود، في مشهد لا يُعبر عن نقص الكفاءات، بل عن سطوة الشللية والمحسوبية. فحين يُقصى الكفء لصالح القريب أو التابع، فلا عجب أن تُهدر الأموال وتفشل المشاريع، ويتحول الاقتصاد إلى عبء ثقيل على المواطن.وإذا كانت الإدارة السيئة قد أصابت الاقتصاد بالشلل، فإن الفساد كان كالسرطان الذي نخر عظام الدولة. الفساد في الأردن ليس استثناءً، بل قاعدة تغلغلت في المؤسسات، وأصبحت جزءًا من بنية اتخاذ القرار. عقود من المحاباة والفساد المنظم للمال العام، وعشرات المشاريع الفاشلة التي صُممت لتُنهب لا لتُنتج، خلّفت اقتصادًا هشًا، ومجتمعًا منهكًا. يتكرر المشهد ذاته كل مرة: تُمنح العقود لمستفيدين بعينهم، تُمرر الصفقات عبر نوافذ ضيقة، وتُهدر الأموال التي لو أُحسن استغلالها، لتحولت إلى تنمية حقيقية.ووسط هذا كله، يستمر الدين العام في التصاعد حتى تجاوز حاجز الـ60 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من 115% من الناتج المحلي. والمأساة لا تكمن في الرقم وحده، بل في أن هذه القروض لم تُستثمر في بنية إنتاجية، بل وُجهت لتغطية رواتب ومصاريف تشغيلية وفوائد ديون سابقة، مما وضع الدولة في دائرة مغلقة من الاقتراض لتسديد فوائد الاقتراض. ولمواجهة هذا العجز المزمن، لم تجد الدولة وسيلة إلا تحميل المواطن مزيدًا من الضرائب والرسوم، في وقت لم يعد فيه المواطن قادرًا على تأمين أبسط ضروريات الحياة. المواطن بات يُعامل كمصدر دخل لخزينة عاجزة، لا كإنسان يستحق حياة كريمة.وما إن يُصبح المواطن هو الحلقة الأضعف في معادلة الاقتصاد، حتى تبدأ الارتدادات الاجتماعية بالظهور. بطالة مرتفعة، خاصة بين الشباب، وشهادات جامعية تذروها الرياح، وهجرة متزايدة للعقول والأيدي العاملة بحثًا عن وطن بديل يوفر ما عجز وطنهم عن تأمينه. والبطالة لم تعد مشكلة رقمية فقط، بل تحولت إلى حالة نفسية جماعية من الإحباط، والشعور باللاجدوى، واليأس من الإصلاح. الشاب الأردني اليوم، لا يبحث عن الرفاه، بل عن فرصة للبقاء بكرامة.وفي هذا المناخ القاتم، يُمعن الخطاب الرسمي في الغياب عن الواقع. يُطلّ المسؤول بتصريح مفصول عن حياة الناس، ليحدثهم عن نمو اقتصادي، وعن خطط مستقبلية واعدة، وكأن الأردنيين لا يعيشون في الوطن ما يعيشونه من غلاء وحرمان. هذه الفجوة بين الدولة ومواطنيها لم تعد تُقاس بالكلام، بل بالشعور العميق بأن الدولة تخلّت عن دورها، أو في أحسن الأحوال، لم تعد قادرة على أدائه. الصدق غائب، والمكاشفة ممنوعة، والشفافية في أدنى مستوياتها، في وقت أصبح فيه الناس بحاجة إلى الحقيقة أكثر من أي وقت مضى.ولأن الكارثة لا تأتي فرادى، فإن تآكل العدالة الاجتماعية بات ملموسًا، حيث تُحتكر الفرص من قبل طبقة صغيرة تستأثر بكل شيء، بينما يُترك الباقون في العراء. اختفت الطبقة الوسطى تقريبًا، واتسعت الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون، لا نتيجة لتفاوت طبيعي في الجهد، بل بسبب نظام اداري يُكافئ الولاء لا الإنجاز. هذه الفجوة الطبقية، حين تتعمق، لا تُهدد الاقتصاد فقط، بل الاستقرار السياسي والاجتماعي برمّته.أما البنية التحتية، التي كان يفترض أن تكون المظهر الملموس لأي تنمية، فقد أصبحت شاهدة على غياب الرؤية. شوارع متهالكة، مدارس مكتظة، مستشفيات تعاني نقص الكوادر والمعدات، كلها تُبنى بتمويل خارجي، وكأن الدولة غير قادرة حتى على بناء مدرسة أو إصلاح طريق. الإدارة المحلية فاشلة، إما لأنها مسيّسة أو لأنها فاسدة، والمواطن في الأطراف يشعر أنه مواطن مهمش في وطنه.وإذا كان هذا هو الحال اقتصاديًا واجتماعيًا، فإن الارتدادات السياسية لا بد أن تطرق الأبواب. تآكل الثقة بالمؤسسات، غياب المشاركة السياسية الفاعلة، توسع الفجوة بين الشعب والمسؤل، كلها مقدمات لمشهد لا يتمنى أحد أن يراه. المواطن الذي يفقد ثقته بالدولة، ويشعر بأن حقوقه مسلوبة، لن يبقى ساكنًا إلى الأبد. فكل صمت طويل يُولد انفجارًا.من هنا، فإن إنقاذ الاقتصاد الأردني لا يكون بتغيير وزير أو تعيين باشا أو إطلاق شعار، بل بإصلاح جذري وشامل يبدأ من الإدارة. يجب أن تعود الكفاءة إلى موقعها، ويُفصل القرار الاقتصادي عن الحسابات السياسية الضيقة، وتُحاسب شبكات الفساد بجدية لا بمجاملة. كما يجب وقف الاعتماد على الجباية والاقتراض، وتوجيه المال نحو الاستثمار الحقيقي الذي يُنتج ويُشغل، لا نحو الإنفاق الاستهلاكي الذي يُبدد. المطلوب اليوم إصلاح يُعيد الثقة، ويُعيد للناس إحساسهم بالعدالة، ويُشعرهم أن الوطن لهم لا عليهم.الأردن لا تنقصه العقول ولا الموارد ولا الإرادة الملكية في التوجيه نحو الإصلاح، لكن ما ينقصه فعلًا هو إدارة جديدة، مختلفة، تؤمن بالوطن والمواطن، وتضعهما في مقدمة أولوياتها. فليس المطلوب اقتصادًا ينمو على الورق، بل اقتصادًا يُشبع الناس خبزًا وكرامة.