logo
ثبات غزة يقهر الطغيان ويغيظ العدى

ثبات غزة يقهر الطغيان ويغيظ العدى

جريدة الرؤية٢٧-٠٧-٢٠٢٥
سالم البادي "أبو معن"
بادئ ذي بدء نعرج على مفهوم الطغاة والطغيان في اللغة قبل أن نشرع في المقال.. ففي معاجم اللغة العربية: طَغَا، يَطْغُو، مصدر طَغْوٌ، طُغْوَانٌ .. وطَغَا الْحَاكِمُ: تَجَاوَزَ الْحَدَّ، تَجَبَّرَ، جَارَ... والطّاغُوتُ: الطاغي المعتدي، أو كثيرُ الطغيان.. والطّاغُوتُ: طاغية ظالم ومعتدٍ غاشم.
الطّاغُوتُ: كل ما عُبِدَ من دون الله، من الجن والإنس والأصنام في التنزيل العزيز: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوتِ ويُؤْمِنْ باللهِ فَقَدِ استمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى} (البقرة: ٢٥٦).
إذا الطاغوت أو الطاغية هو كل حاكمٍ متكبرٍ، متجبرٍ، متغطرسٍ، ديكتاتوري؛ يحكمُ الناسَ بالحديد والنار؛ ويفرض حكمَه على الناس بقوةِ السلاح، ويحكمُ الناسَ بالظلمِ، والاستبدادِ، والطغيانِ.
قال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} (المائدة: ٦٠).
لقد حذرنا الله تعالى من الطغيان في أول آيات نزلت في الكتاب: {كلا إن الإنسان ليطغى*أن رآه استغنى*إن إلى ربك الرجعى} (العلق: ٨،٧،٦).
بالرغم من عاقبة الطغاة في الدنيا والآخرة كما وضحها لنا ديننا الإسلامي الحنيف وأثبتتها أحداث ونهاية الأمم التي خلت، تجد أن زماننا مليء بالدهماءِ، والغوغاءِ الخانعين الراضخين المنبطحين للطواغيت.. يمجدونهم، ويعظمونهم، ويطيعونهم في كل شيء، حتى لو أمروهم بدخول جُحرِ ضبٍ لدخلوه، أو أمروهم بقتل أنفسهم لقتلوا أنفسهم.
بل أشرُ وأخزى من ذلك! تجد أن هؤلاء الفئة يدافعون بكل قوةٍ وشراسةٍ عن الطغاة؛ بل ويتعاونون معهم؛ ويحبونهم، ويعشقون تقبيل أرجل طواغيتهم، ويعلنون الولاء الكلي لهم؛ بل ويتجسسون على أهلهم، وأقربائهم، وأصحابهم -الذين لا يزال لديهم مسحة من العزة والكرامة- فيصبحون طاغوتيين أكثرَ من الطاغوتِ.
ومن الأمورِ العجيبةِ والغريبةِ التي تجعلُ الإنسانَ محتارًا ومذهولًا، أن تُصبحَ الضحيةُ تعشقُ جلادَها؛ وتساعدَه وتعاونَه على سلخِ جلدِها؛ وهي ضاحكةٌ مستبشرةٌ!!!
ولو أن هؤلاء الخانعين رفضوا الانصياعَ لأوامر الطغاة، واستيقظت ضمائرهم، وأحسوا بحلاوة العزة والكرامة وشعروا بلذة الحرية من التذلل لعبيدٍ أمثالهم، وفروا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد...لأبادوا الطواغيتَ، ومحقوهُم من الوجود، كما حصل مع المسلمين الأوائل، الذين استطاعوا بقوة العبادة لرب العالمين، أن يقتلوا طواغيت قريش، وطواغيت فارس والروم؛ ويحرروا العبيد من أسار العبودية لطواغيتهم.
بسبب أن الشعوب هم مصدرُ الطواغيت، فقد قال ابن خلدون في مقدمته المشهورة: «لو خيّروني بين زوال الطغاة أو زوال العبيد، لاخترت بلا تردّد زوال العبيد، لأنّ العبيد يصنعون الطواغيت ولا يبنون الأوطان».
لا يولد الطاغي طاغية من بطن أمه، ولكن الشعوب هي التي تصنع طغاتها بنفسها، وذلك بإطاعتهم العمياء، ومؤازرتهم على الظلم، والسكوت عن الحق، وغيرها من الأمور التي تحسسهم بأنهم جبابرة متسلطين.
وفي الحقيقة هم أقل ثقافة وعلما ومكانة من الآخرين، وربما يكونوا أشباه الرجال، والشعوب هي المسؤولة عن وضعهم في هذه المناصب وتسليمهم السلطة والقيادة.
أليست الشعوب هم من جعلوا من الخونة والعملاء أمناء ومسؤولين...؟؟ أليست الشعوب من جعلت من الأقزام عمالقة وزعماء...؟؟ أليست الشعوب من جعلت من المرتزقة والإرهابيين مقاما وشأنا...؟؟ ألا تعلم الشعوب بأن الطغاة المستبدين هم سبب هزيمتهم وذلهم وخنوعهم وتشردهم وتجويعهم وفقرهم.!! ألم تستوعب الشعوب الدروس والعبر وتصحو من غفلتها وسباتها العميق...؟؟
ما زالت الشعوب تصفق وتهتف للطغاة، والإعلام المزيف يقدس ويمجد لهم، ويكذب ويلفق الأكاذيب، ويزور الحقائق.
بيد أن الطاغية يُصنع له مجدا وتاريخا مزيفا عن طريق المتملقين والمتسلقين والمنتفعين والانتهازيين، ورجال باعوا مبادئهم وقيمهم وأخلاقهم، وخانوا أوطانهم وشعوبهم من أجل إرضاء الطاغية.
نرى في عالمنا المعاصر الطغاة راسخين على عروشهم، فإذا سقط أحدهم خلَّفه على الفور طاغية آخر أسوء منه.. وكأن الطغيان يعيد إنتاج نفسه.
منذ فجر التاريخ وهناك حكام وملوك طغاة جبارون، حاربوا دعاة الإصلاح وأهل الإيمان في كل ملة ودين، وقد كان الرسل وأتباعهم، أول من تعرض للمحاربة والعداوة من هؤلاء، ولكنهم صبروا على ذلك، وطال صبرهم، حتى ظن البعض منهم أن ملك هؤلاء الطغاة لن يزول أبدا، وأنه قد مكن لهم من أمر الدنيا، وقد مدَّ الله في طغيانهم حينا من الدهر {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة: ١٥]، حتى ازدادوا إثما، ثم انتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ومكن للرسل وأتباعهم في الأرض.
ل قد حمل القرآن الشعوب المسؤولية، فقد عاقب الله تعالى تلك الأمم بالقوارع، فأهلك قوم نوح بالطوفان، وعاد بريح صرصر في يوم نحس تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر، وثمود بالصيحة مشرقين وجعل عاليها حجارة من سجيل، وقوم شعيب أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، وأهلك فرعون وقومه بالغرق ومن قبل بالسنين ونقص الثمرات، وبالجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والرجز.
إلا أنه جلَّ وتعالى شرع بعد ذلك الجهاد لقتال أهل البغي والطغاة، وأمر بالتصدي لكل متكبر جبار، يعادي الحق وأهله.
يجب على الشعوب أن تقف عند استلهام الدروس والعبر والعظة من مصير هؤلاء الطغاة، والتصدي لهم بكل الوسائل المشروعة وترسيخها في نفوس وأذهان الاجيال.
يقول الشاعر الخالد أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر… ولا بد لليل أن ينجلي .. ولا بد للقيـد أن ينكسـر
ولا يفوتنا أن نذكر أحد طواغيت هذا العصر، تثبيتا لإخواننا المجاهدين في فلسطين وخاصة غزة، ألا وهو "شارون" الذي وصل به الحال أن يتعفن وهو حي، وتلك نهاية الطغاة وإن بدت نهاية متميزة تليق بتاريخه الدموي المشحون بالجرائم والمذابح، كانت كل حياته ملوثة بدماء الأبرياء، وسيرته مكتوبة بأنين الضحايا ودموع الثكلى وعذاب الأسرى، وصرخات المعذبين والمقهورين، وكانت أبشع جرائمه طحن عظام أطفال فلسطين، وتلك جريمة تميز بها شارون بين كل طغاة التاريخ، فاستحق من أجلها تلك النهاية المتميزة، حيث تحول جسده إلى صديد، وأيام حياته الأخيرة إلى ألم ربما تتضاءل أمامه آلام النمرود.
هكذا نرى عدو الله والإسلام "شارون"، سفاح صبرا وشاتيلا، وجزار جنين وقد جعله الله عبرة وعظة للعالمين، فمن جلطة في المخ إلى شلل تام في أطرافه كلها، بحيث لا يستطيع أن يحرك حتى جفون عينيه، وهو الذي قاد الجيوش واكتسح سيناء ولبنان وذبح الأسرى المصريين، وهو الذي كان يتحكم في مصير الدول، وكما سقط طغاة وجبارون سقطت أمم وأنظمة، ففي بضع سنوات من تاريخ الإنسانية سقطت أشهر النظم الديكتاتورية في العالم في الاتحاد السوفيتي وفي رومانيا وفي بولندا والمجر وصربيا وتشيكوسلوفاكيا وفي بلغاريا وألبانيا، فالباطل لن يدوم وإن طال بقاؤه حينا من الدهر.
وهذه هي "غزة" المحاصرة المجاهدة المقاومة الصابرة تضرب أروع الملاحم الأسطورية في الحروب، وتبرهن للعالم معنى الصمود والرباط والثبات والكفاح والجهاد من أجل الحرية.
وهنا مفارقة غريبة وكأن الزمان يعيد نفسه... فهذا الطاغية السفاح "نتنياهو" يصف شارون بأنه طاغية ومستبد في انتخابات حزب الليكود عام ٢٠٠٥م، وجاء "طوفان الأقصى" ليسقي الطاغية السفاح نتنياهو من نفس كأس "شارون" وكأنه يخلفه في طغيانه وجبروته وبشاعة حربه الصهيونية على قطاع غزة.
على مدار أكثر من ٢٢ شهرا وهذا الطاغية السفاح المستبد المجرم الفاسد " نتنياهو" المطلوب جنائيا من قبل محكمة جرائم الحرب العالمية، وقضايا فساد يقع في قعر الطغيان، والطغاة على أشكالها تقع".
هذا الطاغية المستبد المجرم "نتنياهو" يدخل التاريخ من أوسع أبوابه ويسجل اسمه في سجل أكبر مجرم وطاغية وظالم وفاسق وفاسد وقاتل وحارق الأطفال والنساء والشيوخ في عصرنا الحديث، ومطلوب للعدالة.
وإننا مؤمنون بالله عزوجل، وليس لدينا أدنى شك بأن نهاية "الطغاة والطغيان" حتمية طال الزمن أو قصر.
المجرم الطاغية "نتنياهو" لا يعلم من أين سيأتيه انتقام الله تعالى، فجنود الله تعالى كثيرة ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو﴾ وأخذ الله تعالى أليم.
قال تعالى: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (العنكبوت:٤٠)، وسينتقم الله من المجرمين الطغاة بعزَّته وجلاله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (السجدة:٢٢).
جرائم الصهاينة المحتلين الطغاة في "غزة" لن تمر مرور الكرام، وسيلقى كل مجرم وطاغية وظالم وعميل وخائن مصيره في الدنيا والآخرة، قال تعالى: }فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ{ (المعارج: 42).
أخيرا... ثبات أهل غزة لا يمكن تفسيره بأنه ثبات من عند أنفسهم؛ ولكنه تثبيت من الله تعالى لهم، أو كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد: ٨ - ١١).
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

جلالة السلطان يعود إلى أرض الوطن بعد زيارة خاصة للمملكة المتحدة
جلالة السلطان يعود إلى أرض الوطن بعد زيارة خاصة للمملكة المتحدة

عمان اليومية

timeمنذ 2 ساعات

  • عمان اليومية

جلالة السلطان يعود إلى أرض الوطن بعد زيارة خاصة للمملكة المتحدة

جلالة السلطان يعود إلى أرض الوطن بعد زيارة خاصة للمملكة المتحدة العُمانية: بحمد الله وتوفيقه، عاد حضرة صاحب الجلالة السلطان ⁧‫هيثم بن طارق‬⁩ المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ إلى أرض الوطن بعد زيارة خاصة للمملكة المتحدة الصديقة. وفّق الله سلطان البلاد المعظم لتحقيق المزيد من التقدّم والإنجازات، وأحاطه بالحفظ والسّداد.

في الذكرى الأولى لاستشهاده.. إسماعيل هنية كما عرفته
في الذكرى الأولى لاستشهاده.. إسماعيل هنية كما عرفته

جريدة الرؤية

timeمنذ 4 ساعات

  • جريدة الرؤية

في الذكرى الأولى لاستشهاده.. إسماعيل هنية كما عرفته

المستشار د. أحمد يوسف لم يكن يخطر ببالي يومًا أن أكتب في رثاء الصديق والأخ إسماعيل هنية، "أبو العبد"؛ ذاك الذي كنت أراه أصغر من أن يُرثى، وأقرب إلى روح الحياة من أن يخطفه الموت بهذه الطريقة الفاجعة. لقد أصابت عملية اغتياله في طهران الجميع بالذهول، وأعادت مشاهد التغريبة الفلسطينية بكل ما فيها من جراح ونزيف ومآسٍ، فيما شيّعه الآلاف من رفاقه ومحبيه من إيران إلى قطر، حيث دُفن بين دعاء القلوب ودموع العيون. في الذكرى الأولى لاستشهاده، أجدني أسترجع ما يقارب العقدين من الزمن قضيناها معًا في ميادين العمل السياسي والفكري والتنظيمي، جمعتنا تفاصيل كثيرة من المسؤولية اليومية والحوارات والمواقف التي تكشف عن معدن هذا الرجل وعمق تجربته وإنسانيته. صفحات من الذاكرة لم أعرف الشهيد إسماعيل هنية عن قرب قبل الانتخابات التشريعية عام 2006، لكن خطاباته خلال الحملة كانت لافتة؛ يمتلك حنجرة قوية وكاريزما خطابية تلامس وجدان الجماهير، خاصة في الأوساط الإسلامية التي تهتم بقوة البيان وبلاغة الطرح. فاز هنية، كما فازت حماس، بأغلبية مفاجئة، وتشكلت الحكومة العاشرة التي كنت أحد مستشاريها السياسيين، بتكليف مباشر منه، في لقاء جمعنا في القاهرة. كان أبو العبد قريبًا من الجميع، هادئًا، مستمعًا جيدًا، وصاحب صدر رحب للحوار والتعدد. لم يكن رجل تصادم، بل رجل توازن، يسعى للتوفيق أكثر من فرض الرأي. تلك الروح التوافقية جعلته محبوبًا حتى عند خصومه، وكانت إحدى أبرز نقاط قوته. القيادة بالكاريزما والمرونة لم يكن هنية مجرد وجه إعلامي أو خطيب مفوه؛ بل كان سياسيًا حاذقًا، يتقن فن الإدارة واللعب ضمن تعقيدات المشهد الفلسطيني والإقليمي. كان -رحمه الله- يدرك أن السياسة ليست شعارات بل توازنات، ولهذا سعى بذكاء إلى فتح قنوات الحوار مع العالم الخارجي، والتواصل مع الدبلوماسيين والسفراء، رغم التحريض المتواصل ضده وضد الحكومة من قبل الاحتلال الإسرائيلي. كنت أرافقه في كثير من هذه اللقاءات، وأشهد له ببساطة التعبير، ورشاقة العرض، وقدرته على نقل الرسائل بلغة يفهمها الغرب دون أن يفرّط في ثوابت القضية. لم يكن يخشى النقد الداخلي، وإن ضاق به أحيانًا، لكنه بقي ثابتًا على قناعته بأهمية الانفتاح السياسي والدبلوماسي. وحدة لم تكتمل كانت العلاقات بين أبو العبد وعدد من قيادات حركة فتح، وعلى رأسهم الرئيس أبو مازن والنائب محمد دحلان، علاقات قديمة تتجاوز حدود الخصومة السياسية. لقد ظل أبو العبد يرفض الانزلاق إلى القطيعة، ويحرص على "شعرة معاوية"، حتى في أشد الأوقات حرجًا بعد الانقسام عام 2007. لم يُعرف عنه أنه أساء لخصومه، بل ظل متمسكًا بلغة الاحترام، محافظًا على ما تبقى من خيوط الوحدة الممكنة. ولكن الواقع الفلسطيني بانقسامه المعقّد لم يكن ليسمح بإصلاحٍ يسير، وقد باءت كل محاولاته -رغم إخلاصه- بالفشل، نظرًا لتشعب المصالح وتعقّد الحسابات. مدرسة الاعتدال داخل الحركة كان أبو العبد يمثل تيارًا معتدلًا داخل حركة حماس. وقد جلب عليه ذلك انتقادات المتشددين، خاصة مع ما كان يُكتب عني-كمستشار له- من توصيفات غربية مثل "الوجه الباسم لحماس" أو "الذي يهمس في أذن هنية". ورغم ذلك، كان يحتضن هذا التنوع داخل فريقه ويؤمن بأهمية تعدد الآراء. وقد ساعدت تجربته كابن للمخيم وصاحب مسيرة طويلة في النضال والميدان في أن يوازن بين منطق القيادة وشعور القرب من الناس. لم تكن المناصب عنده تشريفًا، بل تكليفًا، ولهذا بقي قريبًا من الجميع، يحمل همّ الوطن والمخيم والقضية في قلبه، دون أن تغريه الأضواء أو يفسده الكرسي. الإرث الذي تركه لا يمكن الحديث عن مسيرة أبي العبد دون التوقف عند محطات رئيسة: توليه رئاسة الوزراء، ثم قيادة الحركة سياسيًا، وصولًا إلى تمثيلها على المستوى الإقليمي والدولي. لقد عرّف العالم بحماس بلغة جديدة، وأكسبها حضورًا لم تكن تحظى به من قبل. فتح له خطاب الاعتدال أبواب العواصم العربية والإسلامية، واحتضنته القاهرة وتونس وقطر وتركيا، كما استقبله قادة الحركات الإسلامية والعلماء والدعاة باعتباره نموذجًا لحكم الإسلاميين عبر صناديق الاقتراع. وحتى في الغرب، حيث الصورة مشوّهة، استطاع أن يكسر بعض الحواجز، رغم حملات "الشيطنة" التي لم تهدأ. كلمة وداع في عام على استشهاده، لا يسعنا إلا أن نذكره بما له لا بما عليه. ليس من باب المجاملة، بل اعترافًا بالفضل، واحترامًا لما قدمه من تضحيات وخدمة، وبذل دمائه من أجل القضية والوطن. سيكتب التاريخ عن إسماعيل هنية أنه كان رجل وحدة، وأنه سعى -رغم كل المعوّقات- إلى تجاوز الانقسام. وستذكره الأجيال كقائد حمل همّ شعبه، وصبر على التجربة بكل ما فيها من تعقيد وضغوطات، دون أن يتخلى عن إنسانيته أو يُسقط البُعد الأخلاقي من العمل السياسي. رحم الله الأخ الشهيد، وتقبله في الصالحين، وألحقنا به على خير، وجعل من ذكراه منارة يهتدي بها القادة الجدد في درب التحرر والكرامة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store