
تصحر إعلامي بتونس.. القضايا الوطنية تحل محلها برامج "بيع الأواني"
ويؤكد مراقبون أن المشهد الإعلامي يشهد "تصحرا" حقيقيا في المحتوى، وهيمنة شبه كاملة للبرامج التلفزيونية التي تحولت إلى منصات لبيع الأدوات المنزلية وآلات الطبخ وغيرها، محتلة ما يفوق نصف ساعات البث اليومي.
ويضيف المراقبون أن هذا النمط من البرامج، الذي يركز على الإثارة والتفاهة، جاء على حساب القضايا الوطنية الجوهرية، وهو ما انعكس سلبا على جودة العمل الصحفي والإعلامي في البلاد.
وطالما نفى الرئيس سعيد -في لقاءات سابقة مع عدد من الوزراء- تقييد حرية الصحافة، مؤكدا أن حرية التعبير مضمونة وأنه لا تراجع عنها، وذلك ردا على الانتقادات الموجهة له بسبب اعتقال عدد من الأشخاص، من بينهم صحفيون ومعلقون في برامج تلفزيونية وإذاعية بموجب المرسوم عدد 54.
ويؤكد أنصار سعيد أن حرية التعبير مضمونة في البلاد وأن عديدا من أصحاب الأقلام المعارضة للرئيس ينشرون مقالات ناقدة للرئيس من دون أن تتم ملاحقتهم، مؤكدين أن توقيف عدد من الأشخاص -من بينهم صحفيون- بموجب المرسوم عدد 54 أو المجلة الجزائية يأتي نتيجة ارتكابهم جرائم تشويه وجرائم مالية.
خطوط حمراء
ويرى الصحفي زياد الهاني أن هذا "التصحر الإعلامي" ليس معزولا عن الإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيد، والتي شكلت -وفق قوله- بداية لمرحلة استبدادية حدت من الحقوق والحريات، وعلى رأسها حرية التعبير.
وفي حديثه للجزيرة نت، أوضح الهاني أن "الانقلاب على الدستور مهد الطريق نحو نظام يقيد حق النفاذ إلى المعلومة، ويكبل الحريات الصحفية"، مضيفا أن "ملاحقة الصحفيين بالقوانين الزجرية وغياب استقلالية القضاء خلقت مناخا من الخوف والرقابة الذاتية، مما جعل الممارسة الصحفية محفوفة بالمخاطر".
ويشير الصحفي إلى أن تغييب المعارضة، وإغلاق المجال أمام النقد والنقاش السياسي، أفرغا الإعلام من مضمونه المهني، وأخضعاه لخطوط حمراء تفرضها السلطة.
ويضيف أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تونس أثرت بدورها على تمويل المؤسسات الإعلامية، مما دفع عددا من القنوات إلى اعتماد برامج تجارية سهلة لجذب المعلنين، حتى وإن كان ذلك على حساب المضمون الإعلامي.
ويجمع مراقبون على أن الأزمة الاقتصادية الخانقة دفعت وسائل إعلام عدة إلى البحث عن مصادر بديلة للدخل، فاختارت تقديم محتوى تسويقي وإعلاني، يسهل جلب التمويل ويحقق نسب مشاهدة عالية، لكنه يفتقر إلى القيمة الصحفية.
ومنذ 25 يوليو/تموز 2021، صدرت عدة مراسيم رئاسية أثارت جدلا واسعا، أبرزها المرسوم عدد 54، الذي اعتبره صحفيون وحقوقيون "سيفا مسلطا" على حرية التعبير. وقد دانت منظمات حقوقية دولية هذه الخطوات، في حين سجلت البلاد توقيف عدد من الصحفيين والنشطاء البارزين، من بينهم مراد الزغيدي وشذى الحاج مبارك، في قضايا عدها كثيرون متصلة بالتضييق على حرية الرأي والتعبير.
واقع الإعلام
في السياق ذاته، يرى الصحفي عبد السلام الزبيدي أن الإعلام التونسي لا يمكن فصله عن الإطار السياسي العام. ويقول الزبيدي للجزيرة نت إن "الإعلام صناعة، لكنه في الأصل جزء لا يتجزأ من السياق السياسي"، مضيفا أن طبيعة الواقع الإعلامي اليوم تعكس تماما الوضع الذي أعقب إجراءات 25 يوليو/تموز.
ويضيف الزبيدي "من يعرف الرئيس قيس سعيد يدرك أنه لا يؤمن بالوسائط، وفي مقدمتها المؤسسات الإعلامية". ويشير إلى أن الإعلام الذي نشأ بعد الثورة عام 2011، وجد نفسه في واقع لا يعترف به رأس السلطة، في حين انخرط جزء منه -نكاية في النظام السابق- في دعم منظومة جديدة لا تؤمن بالديمقراطية ولا بحرية التعبير.
ويقر الزبيدي بأن الإعلام قبل إجراءات سعيد لم يكن مثاليا، وكان يعاني الفساد وغياب المهنية في بعض مكوناته، لكنه كان يتمتع بهامش من الحرية. أما اليوم، فهو يعيش حالة من الخنق التام وغياب شبه كلي للمساحات الحرة.
ويقسم الزبيدي واقع الإعلام في تونس إلى 3 مسارات:
الأول: إعلام يدور في فلك السلطة، ويتبنى خطابها ويشمل الإعلام العمومي وبعض المنصات الخاصة التي تحولت إلى أبواق دعاية.
الثاني: إعلام مقاوم يسعى للحفاظ على الحد الأدنى من الحرية عبر صحافة التحقيق والاستقصاء.
الثالث: إعلام آيل إلى الزوال، يعاني من أزمات تمويل مزمنة، ويعيش على الفتات الإعلاني وبرامج تسويقية مثل "بيع الأواني".
انحدار مستمر
وتؤكد تقارير محلية ودولية تواصل التراجع في مؤشرات حرية التعبير في تونس خلال السنوات الأخيرة. فقد كشفت منظمة "مراسلون بلا حدود" عن تراجع تونس 11 مركزا في مؤشر حرية الصحافة لعام 2025، مشيرة إلى تصاعد الخطاب العدائي تجاه الصحفيين، وتكرار الملاحقات القضائية بحقهم، مما أدى إلى تضييق مساحات النقاش الحر، وتنامي الرقابة الذاتية داخل غرف الأخبار.
وفي مناسبات سابقة، نظم الصحفيون في تونس احتجاجات ووقفات احتجاجية للمطالبة بوقف الملاحقات والاعتقالات التعسفية، مؤكدين أن الدفاع عن حرية الصحافة لا يندرج فقط ضمن المطالب المهنية، بل هو أحد أعمدة النظام الديمقراطي، وشرط أساسي لتحقيق العدالة و الشفافية في إدارة الشأن العام.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 20 ساعات
- الجزيرة
الحرب تعمّق معاناة صحفيين سودانيين بمراكز اللجوء والنزوح
الخرطوم- "لم يكن في نيتي الرحيل، ولم أتخيل يوما أن تُصبِح حياتي مجرد حقيبة على ظهري، لكن حين اندلعت الحرب، خرب كل شيء"، بهذه الكلمات بدأ المصور الصحفي السوداني عباس عزت سرد تفاصيل رحلته الشاقة مع النزوح واللجوء منذ اندلاع الحرب في السودان منتصف أبريل/نيسان 2023. ومن داخل معسكر "كرياندونقو" للاجئين في أوغندا تحدث عزت للجزيرة نت قائلا "وجدتُ نفسي أغادر الخرطوم إلى مدينة ود مدني بحثا عن ملاذ مؤقت، لكن المؤقت طال، وحين ضاق بي الحال، حملني قدري إلى مدينة سنار ، ثم إلى القضارف، وهناك وجدتُ الجوع في انتظاري". وأردف "لم يكن أمامي سوى الرحيل إلى القرى جنوب القضارف، أحمل المنجل بيد، والكرامة باليد الأخرى، فقمت باستئجار قطعة أرض صغيرة، وحرثتها بيدي وزرعتها، وكنت أقاتل وحدي في صمت الأرض، حتى حصدت محصول الذرة الأول". ويضيف أنه باع محصول الذرة بثمن بخس، لا يكاد يبل ريقا، وبعد أن انتهى الموسم، عاد إلى القضارف مفلسا من جديد، وراح يطرق أبواب النازحين والمنظمات، فوجد أبوابا مفتوحة ووعودا مغلقة، حسب وصفه. وقال "ضاقت بي الأرض حتى فكّرت: لماذا لا أموت هناك، في شرق النيل، بطلق ناري نظيف بدلا من الموت البطيء بالجوع هنا؟". بائع للفلافل وفعلا، قرَّر عزت الرحيل إلى حيث "الموت أسرع"، فاستقل حافلة ركاب من مدينة القضارف إلى مدينة ود مدني، ليجد أن قوات الدعم السريع قد سيطرت عليها، والخوف يسكن الطرقات، ويقول إنه قضى ليلته الأولى بين الخراب والرائحة الثقيلة للموت المتعفّن في الطرقات، والظلام المرعب. و"أخيرا"، وصل إلى بيته في إحدى محليات الخرطوم، والتي كان الدعم السريع يسيطر عليها بالكامل، ويضيف "حاولت البدء من جديد؛ حملت غلاية كهربائية، وأعددت الطعمية (الفلافل)، وبعت السندويشات، ومع ابتسامات الزبائن بدأت الحياة تدبّ في قلبي ثانية، لكن سرعان ما قُطعت الكهرباء والماء والاتصالات، وظلّ هذا الحال 4 أشهر كاملة، كأنها 4 سنوات من العتمة". وأفاد عزّت بأنه هرب مرة أخرى عبر طُرق وعرة من منطقة شرق النيل إلى مدينة القضارف، واصطحب معه هذه المرة أدوات صناعة الطعمية التي عاد لصنعها وبيعها للعابرين، حتى تمكّن من جمع مبلغ لتجديد جواز سفره، وخطّط بعدها للخروج النهائي من السودان. وليس الجوع وحده ما دفعه للمغادرة، حسب قوله، بل الخوف من تلفيق الاتهامات، بعد أن نشر أحدهم صورة قديمة له وزعم أنها تعود لعام 2025، وخاصة باجتماع مع قادة الدعم السريع غرب كردفان. وختم قائلا "حاليا، أمزج بين الحكاية والواقع، وبين الأسطورة والمعاناة. ومن قلب معسكر "كرياندنقو" للاجئين في أوغندا، أحاول خلق قصص غنية وعميقة تُحاكي تجارب النسيان والأمل، وتشمل تحقيقات صحفية ومقالات تستعرض قضايا اللاجئين، وقصصهم اليومية وتحدياتهم". الصحفي الحمَّال ويبدو أن حال عزت، الذي اضطر لصنع وبيع الطعمية والعمل في الزراعة قبل أن يصبح لاجئا، أخف وطأةً مما عاشه الصحفي محجوب حسون، الذي قادته الحرب إلى معسكر لجوء قاسٍ بجنوب السودان، حيث يعمل هناك حمالاً على "درداقة" (عربة يدوية صغيرة تُستخدم لحمل البضائع) في سوق المعسكر الصغير ليكسب قوت يومه ويُوفِّر ما يستطيع من عيش كريم لأسرته. وقال محجوب، الذي عمل مراسلا لصحيفة "السوداني" ومستشارا للاتحاد العام للصحفيين السودانيين بولايات دارفور ، للجزيرة نت "نحن نُهَجَّر بلا صوت، ونُباد بصمت، ونُنسى وكأننا لم نكن يومًا صحفيين"، مضيفا أن الوضع المعيشي صعب للغاية في المعسكر الذي لجؤوا إليه، والذي يضم نحو 24 ألف لاجئ، فرّ معظمهم بسبب نقص الغذاء. وواجه كثير من الصحفيين السودانيين واقعا شديد التعقيد بعد فقدان وظائفهم، وعانوا متاعب حقيقية بعد أن كانوا يعتقدون لوقت طويل بأن الصحافة وحدها هي "مهنة المتاعب"، بينما وجدوا أن المهن الأخرى التي اضطر بعضهم للعمل بها، مثل طواحين الحبوب، وأفران الخبز، وزراعة البصل، ومصانع الثلج، وبيع الأطعمة والخضروات في الطرقات، أشد تعبا. لم يكن يدور في خلد الصحفي محجوب، الذي كان يتابع ويدافع عن قضايا عمال الشحن والتفريغ، أنه سيصبح يومًا جزءًا منهم، وأكد أنه لا يتضجّر من مهنة "حمّال" التي يمارسها الآن ويعيل بها أولاده، لكنه يناشد الجهات الصحفية والإنسانية العالمية الوقوف مع الصحفيين والمتأثرين في محنتهم، بعد أن قضى بعضهم نحبه، بينما لا يجد آخرون ما يأكلون. وبدا محجوب منهكا في مقطع فيديو سجّله قبل أيام من داخل معسكر لجوء في جنوب السودان يضم أعدادا كبيرة من الذين فرّوا كذلك من الحرب في السودان، وكشف فيه عن تحوّله من صحفي إلى حمّال، ليكسب لقمة عيشه في المنفى الذي لجأ إليه بعد سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة نيالا منذ 15 أبريل/نيسان 2023. ونوّه إلى مأساة الصحفيين السودانيين الذين شُرّدوا بسبب الحرب، متسائلا "لماذا لا يسأل أحد عنهم؟ أين الاتحاد الدولي؟ أين منظمات الصحفيين؟ نحن نعيش أوضاعا مأساوية بلا دخل، وبلا سكن، وبلا صوت يسمعنا". وأشار محجوب، إلى تفرّق زملائه بين دول الجوار، حيث أصبح بعضهم بلا مأوى أو دعم، ويعمل آخرون في مهن "هامشية"، مطالبا بإطلاق صندوق طوارئ لدعم الصحفيين السودانيين، وإعادة النظر في دور المؤسسات الصحفية الدولية التي تجاهلت واحدة من أكبر أزمات الإعلاميين في العالم العربي. محدودية الفرص من جهته، يقول المدرّب في مجال الحماية الصحفية والقيادي باتحاد الصحفيين السودانيين، الصحفي عبود عبد الرحيم، للجزيرة نت، إن الحرب فرضت واقعا صعبا على الصحفيين، وتسببت بتوقّف الصحف الورقية، مما استوجب السعي بشتى السبل لتوفير حياة كريمة لأسرهم. وكشف أنه عمل لأشهر بعد الحرب في تجارة بسيطة لبيع سلع استهلاكية وتقديم خدمة تحويل الرصيد بسوق مدينة عطبرة ، لكنه مُني بالخسارة، ليدرك بعدها أنه لا بديل له سوى العودة مجددًا للعمل في مهنة الصحافة التي يحبها، فلجأ إلى مصر ، حيث يعمل الآن رئيسًا لتحرير صحيفة "المقرن" الإلكترونية. وفي ظل محدودية فرص العمل في مكاتب الوكالات والفضائيات العربية والأجنبية داخل السودان ، انتقل صحفيون كثر للعمل في صحف إلكترونية أنشئت حديثا، لكن أغلبهم الآن يواجه ظروفا معيشية صعبة، وأصبحوا غير قادرين على إعالة أسرهم بسبب الحرب. وأجبرت الحرب صحفيين كثيرين على العمل بمهن غير الصحافة، وتعتمد على مدخلات متوفرة ورخيصة ورأس مال صغير، وذلك في إطار التكيُّف مع واقع النزوح واللجوء الذي فرضته الحرب، وتوفير احتياجاتهم بعد توقف مؤسساتهم الإعلامية.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
خطة ترامب ونتنياهو في سوريا والسيطرة على قلب العالم
منذ اندلاع الثورة السورية 2011، اتبعت كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أجندات متداخلة ولكنها مختلفة في سوريا، تُمليها أهداف إستراتيجية طويلة الأمد، وتنافسات إقليمية، وديناميكيات جيوسياسية متغيرة. في جوهر هذا التداخل يكمن مشروع أوسع، وهو إضعاف سوريا كدولة موحدة وذات سيادة، وضمان عدم قدرة أي فاعل إقليمي أو عالمي على تحدي النظام الأميركي- الإسرائيلي في الشرق الأوسط. وحيث إن الولايات المتحدة تعطي الأولوية للسيطرة الجيوسياسية وحماية مصالحها في الطاقة والأمن، فإن الكيان الصهيوني يسعى إلى تفكيك سوريا إلى كيانات طائفية وعرقية، في إطار إستراتيجية قديمة تهدف إلى تجزئة العالم العربي، وترسيخ هيمنته الإقليمية. إستراتيجية إسرائيل القديمة في التقسيم ليست مقاربة الكيان الصهيوني لسوريا والمنطقة العربية جديدة. إذ تعود جذورها إلى بدايات نشوء هذا الكيان، حيث دعت وثائق إستراتيجية داخلية من خمسينيات القرن الماضي، صادرة عن وزارة الخارجية الإسرائيلية والموساد، إلى إنشاء دولة كردية كحاجز أمام تيار القومية العربية الذي كان طاغيًا وممتدًا في ذلك الوقت. ولقد تجسد هذا التصور لاحقًا في "خطة ينون" الشهيرة، 1982، والتي كتبها أوديد ينون، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية. دعت الخطة إلى "تفكيك سوريا… إلى أقاليم من الأقليات الدينية والإثنية… [حيث اعتبر أن سوريا هي] المهدد الرئيس لإسرائيل على الجبهة الشرقية على المدى البعيد… ولذا وجب تفكيكها إلى عدة دول وفقًا لبنيتها الطائفية والإثنية". جادلت "خطة ينون" بأن أمن الكيان الإسرائيلي وهيمنته يعتمدان على تفكيك الدول العربية إلى كيانات طائفية وعرقية صغيرة، مثل الدروز والعلويين والأكراد والموارنة والأقباط وغيرهم. كان الهدف هو استبدال الدول العربية القوية والمركزية بدويلات ضعيفة ومجزأة لا تشكل أي تهديد لأمن إسرائيل، بل يمكن أن تتحول لاحقًا إلى حلفاء أو وكلاء تحت الحماية الإسرائيلية. وفي الحالة السورية، تشمل هذه الإستراتيجية تقسيم البلاد إلى أربع مناطق نفوذ رئيسة: 1- دولة درزية: متمركزة في محافظة السويداء جنوب سوريا، حيث يأمل الكيان الصهيوني، في إنشاء كيان درزي متحالف معه. 2- دويلة علوية: في الساحل السوري تحت الحماية الروسية، متمركزة حول مدينتي اللاذقية وطرطوس. 3- منطقة كردية: في الشمال الشرقي، بدعم أميركي، تسيطر عليها قوات "قسَد" بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD/YPG). 4- حزام سني عربي: تحت النفوذ التركي، ويمتد على طول الحدود الشمالية والشمالية الغربية والقلب السوري. تخدم هذه الخطة في التقسيم أهداف الكيان الصهيوني مباشرة، إذ تُبقي على سوريا ضعيفة ومقسمة وغير قادرة على لعب دورها كفاعل إقليمي يدعم المقاومة الفلسطينية، أو يعارض التوسع الإسرائيلي. وقد كان هذا التوجه هدفًا دائمًا للمنظّرين الصهاينة. فقد كتب أحد أكثر المفكرين تأثيرًا في الدوائر الإسرائيلية والأميركية، برنارد لويس، 1992: "إن معظم دول الشرق الأوسط… معرضة لمثل هذه العملية [أي "اللبننة"]، فإذا ما تم إضعاف السلطة المركزية بما فيه الكفاية… فإن الدولة تتفكك إلى فوضى من الطوائف والقبائل والمناطق والأحزاب المتناحرة". تدمير إسرائيل للمقدرات العسكرية والإستراتيجية السورية منذ 2013، نفذ الكيان الصهيوني مئات الغارات الجوية ضد أهداف في سوريا، غالبًا تحت ذريعة استهداف مواقع تابعة لإيران أو حزب الله. وبعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، واصل الكيان اغتيال قادة من إيران وحزب الله على الأراضي السورية. كما أدت هذه الهجمات إلى تدمير ممنهج لمنظومات الدفاع الجوي السورية، ومستودعات الأسلحة، والقواعد العسكرية، ومراكز البحث العلمي. ولقد كان الهدف واضحًا: منع سوريا من إعادة بناء قدراتها العسكرية وفرض تفوق عسكري ونفسي دائم لإسرائيل، واستعادة قدرتها على الردع في المنطقة. ومنذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024، تصاعدت الهجمات الإسرائيلية لتشمل احتلال أكثر من 400 كيلومتر مربع من الأراضي السورية، بالإضافة إلى الجولان المحتل، مع استمرار استهداف القدرات العسكرية السورية والبنية التحتية الحيوية. هذا التدمير كان لا يهدف فقط لردع إيران والجهات الفاعلة الإقليمية، بل أيضًا إلى ضمان عدم عودة سوريا كدولة موحدة، أو أن تبقى جزءًا من محور الممانعة والمقاومة. ما بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول: إعادة رسم خريطة المنطقة عقب هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول على الكيان الصهيوني وردّه الوحشي بارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، اهتزت عقيدته في الردع اهتزازًا عنيفًا. وفي إطار هذا الردّ، وسّع العدو الإسرائيلي حملته ضد ما يُسمى بمحور المقاومة، مستهدفًا حماس، والجهاد الإسلامي، وحزب الله والجماعات المتحالفة في لبنان، والعراق، وسوريا، واليمن، وإيران. ولقد صرح القادة الإسرائيليون علنًا أن هذه اللحظة فرصة تاريخية لإعادة تشكيل المنطقة، والقضاء على التهديدات، واستعادة الردع، وتغيير قواعد الاشتباك، وتحقيق عمق إستراتيجي. وفي هذا السياق، كثّف الكيان الصهيوني هجماته على سوريا، بما في ذلك قصف دمشق وحمص والسويداء، لمنع سوريا من أن تصبح قاعدة للمقاومة أو حليفة لها، كما قام باستغلال الفوضى الإقليمية لتعزيز خطط التقسيم. ومن أجل زيادة زعزعة الاستقرار في سوريا والمنطقة ككل، كان يترافق مع كل ذلك سياسات التجويع الجماعي والإبادة في غزة من أجل تهجير أهلها، واستخدام سياسة القصف والاغتيالات المستمرة لكوادر حزب الله في لبنان. الأجندة الأميركية: الهيمنة عبر الفوضى المنضبطة تتفق الإستراتيجية الأميركية في سوريا مع إستراتيجيتها الكبرى بعد الحرب الباردة: منع ظهور أي قوة -إقليمية أو عالمية- قادرة على تحدي الهيمنة الأميركية. وخلال الحرب الباردة، نظرت واشنطن إلى سوريا، خصوصًا في عهد حافظ الأسد، كدولة تابعة للاتحاد السوفياتي وداعمة للتيار القومي العربي، والمقاومة الفلسطينية، والتحالفات المعادية للنفوذ الأميركي. وبعد غزو العراق 2003، سعت الولايات المتحدة إلى عزل سوريا ومنعها من ملء الفراغ الإقليمي بعد سقوط صدام حسين. ومنذ اندلاع الانتفاضة السورية 2011، تبنت الولايات المتحدة سياسة "الانخراط الانتقائي"، حيث دعمت القوات الكردية في الشمال الشرقي؛ بحجة محاربة الجماعات المتطرفة وتقليص النفوذ الإيراني، بينما سمحت للكيان الإسرائيلي بشن هجمات مستمرة لتقويض القدرات العسكرية السورية والإيرانية. ورغم أن واشنطن تبدو داعمة لتقسيم فعلي لسوريا، فإن هدفها ليس بالضرورة تحقيق تقسيم إثني أو طائفي على النمط الإسرائيلي، بل الحفاظ على وجود لها طويل الأمد، ومنع روسيا وإيران من السيطرة على شرق المتوسط، وضمان أن أي حكومة سورية مستقبلية تبقى خاضعة أو خادمة للمصالح الأميركية. تصعيد السويداء: طموحات إسرائيل في المنطقة الدرزية برزت خطورة التصعيد الأخير في السويداء، المدينة ذات الأغلبية الدرزية جنوب سوريا، في خلخلة الوضع الداخلي السوري. حاز الوضع الهش والاقتتال الداخلي اهتمامًا إسرائيليًا في سعيه لإنشاء كيان حليف له على حدوده الشمالية. كما تشير تقارير إلى أن فصائل درزية موالية للكيان الإسرائيلي كانت قد أثارت الاضطرابات في السويداء، مستغلة المظالم الاقتصادية والاجتماعية. وبينما دعت الولايات المتحدة إلى التهدئة واحترام وحدة الأراضي السورية، فإنها لم تدن التدخل الإسرائيلي علنًا. تعكس الأهداف الإسرائيلية في السويداء مضمون "خطة ينون" الأوسع: بناء تحالفات مع الأقليات العرقية والدينية -مثل الدروز- التي قد تفضل الحكم الذاتي تحت الحماية الإسرائيلية. ومع ذلك، فإن المجتمع الدرزي منقسم، حيث يرفض كثيرون التدخلات الخارجية، ويؤكّدون ولاءَهم للدولة السورية. التباين الأميركي الإسرائيلي حول القضية الدرزية بينما يسعى الكيان الصهيوني إلى إنشاء كيان درزي في جنوب سوريا، تبقى سياسة الولايات المتحدة حذرة. فهي تدرك أن دعمًا علنيًا لمثل هذه الخطوة قد يُثير ردود فعل عنيفة في الأردن ولبنان، بل وحتى بين الدروز داخل الكيان الصهيوني نفسه، الذين قد يرفضون أن يكونوا أدوات بيد السياسة الإسرائيلية المتلاعبة بهم. كما تخشى واشنطن أن يؤدي تقسيم سوريا إلى تعزيز قوة الجماعات الإسلامية المتطرفة، أو تمكين النفوذ الإيراني والروسي. لذلك، تفضل الولايات المتحدة سوريا منقسمة ولكن غير منهارة، حيث يمكنها الحفاظ على نفوذها دون إثارة فوضى إقليمية واسعة. أما الكيان الصهيوني، فهو مستعد لتقبل- بل وحتى تغذية- الفوضى إذا كان الثمن هو القضاء على التهديد السوري إلى الأبد. دور تركيا: تثبيت النفوذ الإستراتيجي تلعب تركيا دورًا محوريًا في إعادة تشكيل سوريا الجديدة. فبعد أن دعمت المعارضة والفصائل المسلحة أثناء سنوات الثورة السورية بهدف إسقاط الأسد، غيّرت أنقرة إستراتيجيتها بعد فشل هذه المحاولات، وتركزت على منع إقامة كيان كردي على حدودها الجنوبية. دخلت القوات التركية شمال سوريا، حيث دعمت مليشيات عربية وتركمانية سورية للحد من النفوذ الكردي. ولكن منذ سقوط بشار الأسد، أصبحت تركيا هي الداعم الرئيس للنظام السوري الحالي. تتعارض مصالح تركيا بشكل حاد مع سياسات الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين ركزتا على دعم المليشيات الكردية والانفصاليين الدروز. وتعتبر أنقرة أن أي شكل من أشكال الحكم الذاتي الكردي تهديد لأمنها القومي ولحمتها الداخلية. وقد صرح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مؤخرًا بسياسة تركيا الحازمة ضد كل محاولات تقسيم أو تجزئة سوريا، حيث قال: "ستتدخل تركيا ضد أي محاولة لتقسيم سوريا أو منح الجماعات المسلحة حكمًا ذاتيًا… نحذر الجميع: لا ينبغي لأي طرف الانخراط في مشاريع تقسيم". رسم جديد لخريطة سوريا: صراع على مستقبل المنطقة تنطبق مقولة شهيرة لأحد مؤسسي الجيوبوليتيكا، السياسي والمفكر البريطاني هالفورد ماكيندر، على سوريا حيث يقول: "من يحكم أوروبا الشرقية يسيطر على قلب العالم؛ ومن يحكم قلب العالم يسيطر على جزيرة العالم؛ ومن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم". وبالمثل، تحتل سوريا موقعًا محوريًا في قلب العالم العربي، حيث تسيطر على طرق التجارة والتحالفات الإقليمية، تمامًا كما هو حال "قلب العالم" لدى ماكيندر. وتؤمن القوى الإقليمية والعالمية بأن من يسيطر على سوريا، أو على جزء كبير منها، سيملك قدرة التأثير على الشرق الأوسط بأكمله. في هذا السياق، تنفذ الولايات المتحدة وإسرائيل سياسة مزدوجة في سوريا. فبالنسبة لواشنطن، سوريا هي رقعة شطرنج لمنع الخصوم، وحماية الهيمنة على البترودولار، وضمان موقع حليفتها إسرائيل دون الغرق في الفوضى. أما الكيان الصهيوني، فيرى في سوريا تهديدًا وجوديًا يجب تفكيكه وإعادة تشكيله إلى فسيفساء من الدويلات. الخطر يكمن في المعاناة المستمرة للشعب السوري، وتآكل الأمن القومي العربي ومفهوم السيادة العربية، واحتمالية اندلاع صراعات إقليمية أوسع. ما لم تُشكّل القوى الإقليمية -خصوصًا تركيا، ومعها إيران والدول العربية المركزية- ردًا منسقًا، فقد يصبح تفكيك سوريا واقعًا حقيقيًا، يحقق المخطط الصهيوني القديم في خلق شرق أوسط مفكك ومجزأ ومهيمن عليه.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
في الذكرى الرابعة لإجراءات سعيّد الاستثنائية.. هل تحولت تونس لسجن كبير؟
تونس- يُوافق غدا الجمعة الذكرى الرابعة للإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد. وعلى امتداد كل هذه السنوات، عرف المشهد السياسي تحولات عميقة، يعتبرها أنصار الرئيس تصحيحا لمسار الثورة، وترى المعارضة أنها مرحلة "صفحة سوداء" في تاريخ البلاد. وبموجب تلك التدابير الاستثنائية قبل 4 سنوات، قام سُعيد بحل البرلمان ، وعزل حكومة هشام المشيشي، وحل المجلس الأعلى للقضاء وعددا آخر من المؤسسات الدستورية كالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وأصدر سعيد المرسوم 117، ليكون دستورا مؤقتا حكم من خلاله البلاد بصلاحيات رئاسية واسعة غير مسبوقة، وقام بعزل عشرات القضاة ورفض إرجاعهم لعملهم رغم قرار المحكمة الإدارية. كما قام بصياغة دستور بنفسه في 25 يوليو/تموز 2022، وغير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، يتمتع فيه بصلاحيات مطلقة، ورغم أنه عرضه على الاستفتاء الشعبي لكن لم تشارك فيه إلا نسبة قليلة من الناخبين. ونهاية سنة 2022، دعا سعيد لانتخابات تشريعية لم تشارك فيها إلا نسبة قليلة أيضا، وقاطعتها أحزاب المعارضة، ليتم تنصيب برلمان موال له ذي مهمة وظيفية، ولا يتمتع بأي صلاحيات قوية أمام الرئيس. وفي فبراير/شباط 2023 قامت السلطات التونسية بحملة أمنية واسعة ضد عشرات المعارضين الذين اعتقلوا وزج بهم في السجون، ثم حوكموا ابتدائيا بتهمة التآمر على أمن الدولة بموجب قانون الإرهاب، وحكم عليهم بأحكام قاسية. يرى أنصار الرئيس أن الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها في يوليو/تموز 2021 مثّلت تصحيحا ضروريا لمسار الثورة، بعد ما اعتبروه عشرية من الفوضى والتجاذب السياسي وتفشي الفساد في الفترة ما بين عامي 2011 و2021، كما يعتبرون أن محاكمة المعارضين تتم وفق القانون على جرائم إرهابية ومالية حقيقية. ويؤكد مؤيدوه أن الرئيس لا يزال يحظى بثقة شريحة واسعة من التونسيين الذين يرونه رمزًا لنظافة اليد والتعفف، في وقت يتهمون فيه ما يُعرف بالإدارة العميقة بمحاولات متواصلة لتعطيل مساره الإصلاحي وإفشال مشروعه السياسي، سواء من داخل أجهزة الدولة أو عبر حملات التشويه الإعلامي والمعارضة السياسية. ويرى أنصار الرئيس أنه يسعى إلى ترسيخ أسس دولة اجتماعية عادلة، تحمي الفئات الهشّة وتقطع مع مظاهر الاستغلال والتمييز، ويستشهدون بجملة من التشريعات التي يصفونها بـ "التاريخية" على غرار القانون المتعلق بمنع المتاجرة باليد العاملة، والمبادرات القانونية الرامية إلى تحسين وضعية العاملات الفلاحيات وضمان حقوقهن، مؤكدين أن هذه الخطوات تعبّر عن توجّه جديد يجعل من العدالة الاجتماعية جوهر المشروع السياسي لسعيّد. ملاحقات قضائية وفي المقابل يؤكد معارضون بارزون أن تونس تحولت إلى "سجن كبير" خلال فترة حكم سعيّد، بعد إيداع عشرات المعارضين والنشطاء السجون، من بينهم زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان المحلول راشد الغنوشي (84 عاما) المعتقل منذ أكثر من عامين في قضايا يصفها خصوم سعيّد بأنها سياسية بامتياز. كما طالت حملة التوقيفات والسجون عددا من أمناء الأحزاب، من بينهم الأمين العام ل لحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي، والأمين العام لحزب الاتحاد الشعبي الجمهوري لطفي المرايحي، إلى جانب قيادات بارزة من جبهة الخلاص المعارضة. كما امتدت الإجراءات لتشمل صحفيين ونقابيين ونشطاء المجتمع المدني، من خلال استخدام المرسوم رقم 54 الذي يعتبره ناشطون سيفا مصلتا على رقاب المنتقدين، إلى جانب قوانين مكافحة الإرهاب والمجلة الجزائية وقانون الاتصالات، ويصفه مراقبون بحملة ممنهجة للتضييق على الحريات. ومؤخرا، أصدر القضاء -المتهم بالتبعية لسلطة الرئيس- أحكاما سجنية قاسية في حق عشرات المتهمين في قضايا تتعلق بالتآمر على أمن الدولة، وذلك في الطور الابتدائي. ومن المنتظر أن ينظر القضاء في طور الاستئناف، بعد انتهاء العطلة الصيفية، في إمكانية تثبيت تلك الأحكام. حصيلة سلبية وفي تقييمه السياسي لمسار سعيّد، يرى القيادي في حركة النهضة رياض الشعيبي أن هذا المسار كان منذ البداية يرتكز على توظيف بعض المطالب الاجتماعية كغطاء للسيطرة على البلاد وتوسيع نفوذه، دون أن يحمل أي برنامج سياسي حقيقي أو رؤية اقتصادية. ويؤكد أن الحصيلة بعد 4 سنوات من الحكم الفردي كانت "سلبية جدا" على المستوى السياسي، معتبرا أن السلطة لم تكتف بتهميش المعارضة من المشهد العام، بل صعّدت استهدافها من خلال محاكمة المعارضين وغلق مقرات أحزاب كحركة النهضة، وملاحقة نشطاء المجتمع المدني، لترهيب المجتمع. ويرى الشعيبي أن تونس، التي كانت تمثل تجربة ديمقراطية واعدة وتطمح لأن تكون أول ديمقراطية ناشئة في المنطقة بعد ثورة 2011 ، قد شهدت انتكاسة خطيرة أعادت البلاد إلى مربع الاستبداد، حتى باتت أشبه بسجن كبير، بعد أن كانت تقدم نموذجا يُحتذى به في مسار الانتقال الديمقراطي، وفق تعبيره. وبعيدا عن الملف السياسي، يشير الشعيبي إلى تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، إذ يرى أن البلاد لم تشهد تحسنا يذكر، حيث ظلت معدلات النمو منخفضة، وتفاقمت معاناة المواطنين بسبب ارتفاع نسب البطالة وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب الأزمات المتكررة في تأمين المواد الأساسية. ويوضح أن الفجوة بين الواقع الاقتصادي والشعارات التي ترفعها السلطة واسعة جدا، فخطابات مثل "سياسة التعويل على الذات" لم تنعكس في سياسات واضحة أو نتائج ملموسة، بل كانت مجرد أدوات خطابية تُوظف لإضفاء مشروعية شعبية على خيارات فاشلة، ولبناء ولاءات سياسية موالية لسعيد. ويقول أيضا إن السلطة استندت إلى إصدار ترسانة من القوانين والإجراءات الشكلية، لكنها فشلت في أن تمس جوهر الأزمة الاقتصادية أو تقدم حلولًا جدية لوقف النزف المالي والاجتماعي لأن منطق الاقتصاد يختلف كليا عن منطق الإجراءات القانونية الشكلية التي لا تصلح مشكلات الاقتصاد. ويرى القيادي بالتيار الديمقراطي هشام العجبوني أن تجربة 25 يوليو/تموز مثّلت انزلاقا خطيرا نحو الحكم الفردي المطلق، معتبرا أن الرئيس سعيد استغل فقدان الثقة في المنظومة السياسية السابقة لتعزيز سلطاته دون ضوابط، مما أدى إلى ضرب مؤسسات الدولة وتهميش دور الأحزاب والمنظمات. ويشير إلى أن البلاد دخلت منذ ذلك التاريخ مرحلة غياب المساءلة وتعطيل الحياة السياسية "حيث تم تجميع السلطات بيد شخص واحد، وسط خطاب تقسيمي يعتبر كل مختلف خائنا ومتآمرا". ويرى العجبوني أن البرلمان المنتخب في ظل دستور 2022 أُفرغ من مضمونه التشريعي، وتحوّل إلى مؤسسة شكلية لا تعكس التعددية ولا تمثل المواطنين تمثيلا حقيقيا، بل غلبت عليه عقلية الولاء والخوف من انتقاد الرئيس، مما ساهم في تغييب النقاش الجاد وتعطيل الرقابة على السلطة التنفيذية. أما على المستوى الاقتصادي، فيقول العجبوني إن الإنجاز الوحيد بعد 4 سنوات من حكم سعيّد هو توسيع استخدام مرسوم 54 الذي أصبح سيفا مصلتا على رقاب المعارضين والمنتقدين لسياساته. ويضيف العجبوني "نظام سعيّد فشل في تحقيق أي إنجاز اقتصادي يُذكر، باستثناء ضرب استقلالية القضاء وتصفية المعارضة والزجّ بمنتقديه في السجون" مشددا على أن الشعارات الشعبوية لم تنعكس على واقع التونسيين الذين يرزحون تحت عبء التضخم والبطالة وغلاء المعيشة. واعتبر أن شعار "التعويل على الذات" الذي يروّجه الرئيس "مجرّد وهم" موضحا أن الدولة "اعتمدت على سياسة اقتراض مفرطة، حيث بلغت القروض الداخلية والخارجية خلال سنتين فقط رقماً قياسيًا يعادل 36% من حجم الميزانية". وأشار العجبوني إلى أن النمو الاقتصادي يراوح الصفر، مع تراجع الاستثمارات وانعدام الثقة، قائلا "كل المشاريع الكبرى التي تم الترويج لها، من الشركات الأهلية إلى الصلح الجزائي، بقيت وعودا بلا أثر ملموس في الواقع". وأضاف "حتى قانون منع المناولة الذي قُدّم كإنجاز اجتماعي، تم تمريره دون تقييم للواقع الاقتصادي، مما تسبب في تسريح عمال وإلغاء عقود، وهو ما يضرب الفئات التي يُفترض أن نحميها". وختم العجبوني بتأكيد أن "خطابات الرئيس المليئة بالشعارات لم تعد تقنع أحدا" وأن "تونس اليوم تدفع ثمن الحكم الفردي والقرارات الارتجالية التي زادت من عزلتها وعمّقت أزمتها الاقتصادية".