logo
نصوص غير منشورة تكشف وجها آخر للشاعر يوسف الخال

نصوص غير منشورة تكشف وجها آخر للشاعر يوسف الخال

Independent عربية٢٣-٠٢-٢٠٢٥

في الكتاب الجديد، (450 صفحة) الصادر حديثاً عن دار نلسن- بيروت، بعنوان "نصوص من خارج المجموعة" (1934-1987) للشاعر يوسف الخال، يكشف الأب أماتييس الساليزياني وجهاً آخر للشاعر، مؤسس مجلة "شعر" (1957-1970)، كان لا يزال كامناً أو متوارياً تحت كمّ هائل ومتفرق من المقالات، والأعمال والمداخلات والمحاضرات في الجامعة الأميركية - بيروت، حيث تلقّى دروسه في الفلسفة، وغيرها من الإسهامات النثرية، وكان سبق للراهب الساليزياني نفسه أن أعدّ أربعة كتب عن الشاعر، وهي "يوسف الخال ومجلته شعر"، و"صدى الكلمة_ مقابلات مع يوسف الخال"، و"يوسف الخال، الجدول المتسلسل زمنياً لأهمّ وقائع حياته وكتاباته" وكتاب عن وقائع وجلسات خميس مجلة "شعر"، وجميعها تتصل تباعاً بسيرة الخال وبأعماله الشعرية وبالمواد الأدبية التي تشكّلت من خلال الأنشطة الأدبية والثقافية والفنية.
وهنا، لا بدّ من كلمة وفاء لهذا الراهب الذي تنكّب القيام بما توجّب على مؤسسات البلد (لبنان) الثقافية أن تؤدّيه، بأن أخذ على عاتقه وعاتق جمعيّته الدينية، البحث الدؤوب عن نصوص يوسف الخال النثرية التي توإلى نشرها على صفحات الجرائد والمجلات، وفي سجلات الجامعة، والمدارس حيث كان للخال حضور، وذلك على امتداد 53 عاماً (1934-1987).
مضامين القسميْن
الكتاب الجديد الذي يضم نصوصاً غير منشورة (دار نلسن)
وبالعودة إلى الكتاب، يتشكّل من قسمين كبيرين؛ الأول خصّه الباحث بالخلاصات أو الاستنتاجات التحليلية برؤوس أقلام هي قابلة لأن تُستعاد، من قبل باحثين مختصّين آخرين غيره، وذلك بعد تفحصه المئات، بل الآلاف من متون الصفحات المتفرقة والسجلاّت التي وقع عليها، سواء في مجلّة "شعر"، ومجلة آفاق، وثمرة الفنون، والشباب، والمكشوف، والنهضة، والكلّية، والنشرة، وصوت المرأة، والهدى، وغيرها الكثير. وقد شكّلت هذه المصادر المتفرقة ما يسميه علم اللسانيات الحديث بالمدوّنة الكبرى، التي عاد إليها الباحث لاستنطاقها حول مفاصل رؤيته النقدية، وتبيّن مصادر موسوعيته الفكرية والفلسفية التي أتاحت له أن يكون رائداً كبيراً من رواد الحداثة في الشعر العربي، أواسط القرن الـ20، ومحفّزاً لها، إضافة إلى كونه شاعراً ذا حضور مميز، وصاحب رأي مؤثّر في اللغة العربية والمحكية، نعود إليه في سياق استعراضنا لأهم مضامين القسم الأول.
أما القسم الثاني من الكتاب فيخصه الباحث بالنصوص، أي المدوّنة الكبرى، التي كانت موضوع درس الأب أماتييس الساليزياني وتفحّصه، والتي سوف تكون مادة دراسية خصبة لعدد من الباحثين-لاحقاً- في شؤون لها صلة برؤية يوسف الخال، وبمصادر فلسفته، والمؤثّرين في تكوين أسلوبه، وآرائه النقدية.
توصيف الأدب اللبناني
وأول تلك العناوين التي انطوى عليها القسم الأول، توصيف الأدب اللبناني، أواسط القرن الـ20، بالاستناد إلى مقال سابق لأحد النقّاد يُدعى نسيب عازار، صاحب كتاب "نقد الشعر في الأدب العربي" الصادر عام 1939، وفيه يصف الخال "النشاط الأدبي في لبنان" بأنه لا يزال، إلى حينه، يراوح في التقليد، وأنّ لا أحد ممن تسلّقوا ذروة الشعر اللبناني الحديث في تلك المرحلة قد تعدّاها إلى مرحلة تقدّمية أخرى، فالشعر ما برح حيث كان منذ ربع قرن". ويروح يقارن حاله بما بدر في الشعر الأوروبي مع ت. إس. إليوت وغيره.
يوسف الخال يتوسط شعراء مجلة "شعر" (دار شعر)
وفي مقالات أخرى تحدّث يوسف الخال عن كيفية العبور إلى مرحلة الحداثة، فيعرّج في سبيله على نظرية أفلاطون في الشعر، باعتبارها أحد المنطلقات الفلسفية التي ينبغي للشاعر العربي أن يتبنّاها حتّى يقوى على الخروج من الجمود الذي كان يحيق بالشعر العربي، في حينه. وههنا، أثر من إعداد يوسف الخال الفلسفي، في الجامعة الأميركية ببيروت، وعلى يد الفيلسوف شارل مالك، الباحث في فلسفة وايتهيد وهايدغر، والمسهم في وضع شرعة حقوق الإنسان.
أما المدخل الإلزاميّ إلى الحداثة، بنظر الخال، فيتمثّل في تعرّف الشاعر العربي إلى الاتّجاهات الأدبية الحديثة، سواء الفرنكوفونية منها أو الإنكلوفونية، عبر التعرّف إلى آراء كبار الشعراء والنقّاد الغربيين، أمثال كولردج، وسانت بوف، وأرنولد، وفاليري، وأناتول فرانس، وكارليل، وغيرهم، ومن هذا القبيل رأى لزاماً عليه أن يخصص باباً يكاد يكون ثابتاً، في مجلّة "شعر" لترجمة آثار هؤلاء الشعراء والنقّاد، إلى العربية، فيكسب فضليْن في آن؛ أن يغتذي شعراء المجلّة من هذه الترجمات، فيندفعوا إلى مغامرة التجديد، وأن يفيد منها القرّاء العرب للتعرّف إلى الاتجاهات الأدبية الجديدة في الشعر والنثر والنقد.
وما إصرار الشاعر (يوسف الخال) على استنطاق أرسطو حيناً، وأفلاطون حيناً آخر، في شأن فنّ الشعر سوى تمهيد نظري لتشكيل مرجع فلسفي غربيّ لحداثة شعرية يدعو إليها، إلاّ نوعاً من الصدى لما قدّمته الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية من خدمات جليلة للنهضة العربية الأولى (في القرن السابع الميلادي).
في مفاهيم شعرية نظرية
ويواصل الباحث الأب أماتييس السالزياني استخلاص المواضيع والأفكار التي تشكّل نظريّته في الشعر، طبعاً من خلال نصوص المدوّنة الكبرى التي سبقت الإشارة إليها، فيقول إنّ يوسف الخال أفرد عدداً من التعريفات التي تدخل في تكوين الشعر، وإن يكن في رده على عدد من النقّاد والشعراء المعاصرين له، من أمثال نسيب عازار وغيره. ومن تلك التعريفات مفهومه لغاية الشعر، وهي الفنّ؛ إذ لا يكون الفنّ فنّاً ما لم يتّصل بالحياة رامياً إلى تهذيب النفس البشرية، وخلق جيل صالح يرتكز على المثُل العليا في الحياة".
أما تعريفه للقالب والمادة في الشعر، فينقله عن الشاعر والناقد الإنكليزي كولردج، وهو ما سماه بالحياة الاتّساقية، والحياة العاطفية، والحياة الذهنية كما يعيها الشاعر، ويُلزم نفسه التعبير بمقتضاها شعراً. ولئن يأخذ يوسف الخال على الرمزيين تطرّفهم في تفضيل الحياة الاتّساقية، أي الألفاظ وموسيقاها ونبرتها وقصرهم الشعر عليها، فإنه يرى أنّ الحياة الحقّة بأبعادها النفسية والفكرية والمادية أولى من غيرها بالاعتبار لدى تشكيل الشاعر قصيدته.
وفي تحديده لمفهوم طبقات الشعراء- طبعاً في معارضته لمفهوم طبقات الشعراء لدى ابن سلّام الجمحي- يروح يوسف الخال يقارن بين الشعراء الغربيين الذين يشكّلون ثلاث طبقات: الغنائيين، والبطوليين، والتمثيليين. ولدى تفحّصه نتاج الشعراء العرب لا يجد سوى الغنائيين، إلاّ الشاعرين سعيد عقل وأحمد شوقي اللذين كانت لهما تجربة في كتابة الشعر التمثيلي.
ومن ثمّ كانت للخال التفاتة إلى مفهوم الأغراض الشعرية المتعددة داخل الشعر العمودي القديم، الذي اعتبره عائقاً دون صلاح الفكرة وبناء القصيدة بنياناً سليماً، وقال في المقابل، بضرورة التزام الشاعر بالفكرة الواحدة شرطاً لنماء الأفكار في القصيدة الواحدة والتعمّق فيها، وهذا ما لمحه يوسف الخال الناقد في نتاج الشعراء اللبنانيين، والعرب، لزمن ما بعد الحرب العالمية الأولى، وما قبل الثانية، بتأثير من دعوات الرابطة القلمية وأبوللو وغيرهما إلى التجديد، إلاّ أنّ هذا التجديد الذي لاحظه الخال في قصائد أبي شبكة، وخليل مطران قبله، وشعراء الرابطة القلمية، لم يبلغ بنظره حدّ الحداثة الذي تطلّبه، إذ بقي جلّهم ملتزماً بالقافية وبأوزان البحور الخليلية، خلافاً لما انتهى إليه الشعراء الغربيون الذين تخلّوا عن الأوزان التقليدية، وآثروا بنية الشعر الطليق أو الحرّ في نظمهم القصائد.
في تكوين الشعر
ومما استخلصه الأب الباحث من المدوّنة الكبرى أيضاً عدد من المفاهيم التي تدخل في تكوين الشعر، ومنها الكلمة في الشعر؛ إذ قال إنّ الشعر وسيلته الكلمة. وهذه ميزة طبيعية إنسانية، وهي تحمل في ذاتها معنى. وما دامت الكلمة كذلك في الشعر، اعتبر هيغل الشعر أرقى الفنون، ويستلزم هذا الأمر أن تكون كلمات الشعر في القصيدة حاملة تجربة الشاعر الإنسان العميقة.
ولدى تداوله قضية الشكل في الشعر، ارتأى الخال أنه ليس ثمة قواعد معيّنة يحسن بالشاعر الالتزام بها حتّى يبدع قصيدة، أي حتّى يخرج الأثر الفني إلى الوجود، وإنما المبدأ الأول والأخير للخلق الفني هو الموهبة. لذا، لا شكل سابقاً للقصيدة يمكن للشاعر اعتماده ليبني شعره على أساسه، لذا، لا قواعد موضوعة سابقاً للخلق الشعري، وإنما لا ننفي وجود قواعد لاحقة تسمى صفات يتّسم بها الأثر الشعري، على حد اعتبار يوسف الخال الناقد.
أما في كينونة القصيدة فقال بما معناه أنّ القصيدة قيمة مخلوقة لا تخضع للحكم الموضوعي، وإنما للحكم وهي مزيجٌ من الموضوعية والذاتية، وهي بناء موضوعيّ يتميّز بالتضمين وتلاقي الأضداد وبالتلميح، في حين أنّ حجارة البناء الموضوعي هي الألفاظ، بيد أنّ الألفاظ في الشعر تومئ إلى ما وراء المعاني المباشرة والمضمرة.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي السياق نفسه، تطرّق الخال إلى وحدة القصيدة العضوية التي رآها شرطاً لازماً لضمان التعبير عن وحدة تجربة الشاعر الذاتية، وبانتقاله للكلام على شعراء النهضة عندنا، قال الخال- استناداً إلى النصوص من خارج المجموعة أي المدونة الكبرى- إنهم لم يقووا على خلق قصيدة عربية بهذا المفهوم؛ فهم لم يراعوا وحدة القصيدة العضوية، ولم يخرجوا عن نطاق العموميات والكلّيات شأن الفلسفة، وفاتهم التركيز على الخصوصيات والجزئيات التي هي من أعمال المخيّلة الفنّية والشعرية، والتي تكفل جدّة النظرة إلى الموضوع المعالج، وتثبّت أصالته في آن. ولئن اعترض يوسف الخال، بحسب الأب أماتييس، على الرومانسية الغربية لكونها تركّز على المعاني والمشاعر، فإنه اعتبر أنّ القصيدة "وليدة مخيلة خلاقة لا تعمل عملها إلا باللغة"، ولهذا نراه يولي اهتماماً متوازناً بالأفكار والمشاعر، من دون إغفاله اللغة ومفرداتها الموحية.
أما في الإيقاع والوزن فيردّ الشاعر الناقد يوسف الخال باقتراح مفهوم شعري جديد ينطوي على استخدام أدوات ووسائل تعبير جديدة تستوعب التجربة الشعرية الحديثة؛ ومن تلك الأدوات الصور الشعرية والأساطير والإيقاع الخالي من القوافي والأوزان التامة، ما دامت تقيّد المعاني، على حدّ قوله.
أين موقع النقد عند الخال الشاعر؟
وبعدُ، هل يُعتبر النقد شرطاً أو عنصراً موازياً لقيام تجربة الشاعر الشعرية، كما بيّنها الباحث أماتييس الساليزياني، من خلال المدوّنة الكبرى التي أشرنا إلى بعض خلاصات الباحث؟ بالطبع لا، ولئن كان تسنّى للشاعر يوسف الخال إعداد أكاديميّ جلّه في الفلسفة، صنو الأدب ورديفته ومنبع الكثير من توجّهاته، فإنّ عمارة النقد تأتّت له بالثقافة المعمّقة حول الأدب أولاً، وبشروعه في إطلاق مجلّته "شعر" التي تتطلّب منه قدراً من الموسوعية الفكرية والنقدية لم يكن متوفّراً لدى غالبية الشعراء الذين انضووا في حلقته، لاحقاً، وإن سعى البعض منهم (أدونيس، مثلاً) إلى التمكّن الأكاديمي لمزيد من الدفاع عن رؤيتهم الشعرية الحديثة.
وأياً يكن فإنّ مدونة يوسف الخال الكبرى التي جهد الباحث في إعدادها، والتي صارت في متناول مجتمع المعرفة، في العالم العربي وغيره، أتاحت للباحثين مادة لا أغزر ولا أكثر موضوعية لدراسة خطاب يوسف الخال النقدي؛ منهجه النقدي، والمؤثرات الكبرى في شعره، ودوره الريادي في تشجيع الأدب الحديث، والفنّ الحديث، ومكانة الترجمات الشعرية وغيرها في نظرته النقدية، وغيرها.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الشاعر السوري جعفر العلوني وقصائد بحبر ملتهب
الشاعر السوري جعفر العلوني وقصائد بحبر ملتهب

الشرق السعودية

timeمنذ 19 ساعات

  • الشرق السعودية

الشاعر السوري جعفر العلوني وقصائد بحبر ملتهب

منذ الصفحات الأولى من ديوان "خريطة تحترق"، الصادر حديثاً عن دار الساقي في بيروت، يعلن الشاعر والمترجم السوري المقيم في إسبانيا جعفر العلوني، عن تموضعه في قلب الحريق، وفي داخل "خريطة" ملتهبة تدور حولها القصائد. في قصيدة "صديق الموت"، يفتتح الشاعر المشهد برجل يسير في فضاء مشحون بالغياب، يبحث عن اسمه، عن صوته، عن مكان يحتمل الحياة. لكن الشعر وحده، كما يقول، لا يتركه وحيداً. القصيدة هنا ليست تعبيراً فحسب، بل وسيلة إنقاذ، ومخرجاً للطوارئ. يتّخذ العلوني من التنقّل والهجرة رمزاً للتشظّي، ومن الرحلة مجازاً للتعبير عن الذات العربية المشتتة، التي لا تسكن إلا الخرائط أو القصائد. يقول: "رجل المسافات جاءَ متعباً من كثرة الموت على كتفه/ جاء متعباً من ثقل الحياة في صدره/ ها أنا، رجل المسافات، أعود من حيث لا عودة/ لا وقت له، لا مكان، لا قلب ولا دم". في القسم الثاني من الكتاب، يظهر العنوان "توقّعات الأبراج للإنسان العربي"، وهو ضرب من الهجاء الكوني، حيث يتحوّل كل برج إلى صورة رمزية للواقع العربي، من الحمل، القربان الدائم على مائدة السلطان، إلى الأسد، المحاصر في أحجية الدين والسياسة، مروراً بـالعذراء التي لا تعيش إلا على هامش جسدها، والعقرب الجندي الذي يلسع الجميع باسم النظام. إنها ليست قراءة ساخرة للمصير العربي المعلّق ككرة طائرة في الهواء، بل تراجيديا معلّقة على قوس المعنى. كل برج يحمل عبء أمةٍ هاوية، وكل طالع يشبه نشرة أخبار عاجلة عن مستقبل عربي صعب. "هكذا أروي حياتي لنفسي" هو عنوان القسم الثالث، وفيه يتفجّر النص إلى شظايا نثرية، يتداخل فيها كل شيء. هنا، لا يكتب العلوني قصيدةً بقدر ما ينقّب عن ذاته في ركام اللغة والزمن والذاكرة. إننا لا نقرأ شاعراً يكتب سيرته الذاتية، بل نواجه كائناً يعيش بين الرماد والقصيدة، بين الهامش والهوية، وبين الحب والغياب. ينكسر الزمن في هذا القسم، كما تنكسر المرآة، فلا تتبع القصائد ترتيباً كرونولوجياً أو سردياً، بل تتناثر في شكل شذرات أشبه بـنصوص يومية، اعترافات، ومونولوجات داخلية. هذه ليست مجرد تجزئة شكلية، بل تعبير عن تفكك الذات نفسها، وعن العيش فيما يشبه المنفى الوجودي الدائم، حتى داخل اللغة الأم. الآخر حاضر دائماً في الكتاب، ويظهر عبر صوت أنثوي لا يسمّيه الشاعر، بل يمرّ كظلّ، كذاكرة، كاحتمال حياة لم تكتمل. هذا الصوت ليس أنثوياً فحسب، بل رمز لكل ما كان يمكن أن ينقذ، ويمنح اتزاناً في فوضى الحياة العربية. في القسم الأخير، "تحوّلات آلية"، يذهب العلوني إلى أقصى درجات التجريب الشعري، ليطرح قصيدة ميتاشعرية تقف على تخوم التحوّل البشري – التقني، حيث يتفكك الجسد، وتتحلّل اللغة، وتُستبدل الحواس بالشرائح، والعاطفة بالدوائر الإلكترونية. في هذا السياق، يتحوّل الحب من تجربة مرتبطة بعوالم الجسد، إلى معادلة اتصال بين مَخرج ومدخل. اللمسة تُستبدل بـ"الإرسال"، والقبلة تصبح "أرشيفاً"، والحضن "مسار بيانات". بهذا التفكيك اللغوي، يعيد العلوني صياغة العلاقة بين الخالق والمخلوق، بين اللغة والإلكترون، بين الحبر والنبضة الرقمية. وكأنه يسأل: هل ما يخلق الحياة الآن هو الإله أم الآلة؟ وهل نحن بشر حقاً أم برمجيات قابلة للتحميل؟ يذكر أن جعفر العلوني شاعر ومترجم سوري مقيم في إسبانيا. من ترجماته إلى العربية: "الجمالية في الفكر الأندلسي" (2024)، "شاعر من تشيلي" (2022)، "تجريد الفن من النزعة الإنسانية" (2013). ومن ترجماته إلى الإسبانية: "ديوان الشاعرات العربيات المعاصرات" (2017)، "أول الجسد آخر البحر" (2021)، "بين الثابت والمتحول" (2023)، "أدونيادا" (2023).

بين صرحين أكاديميين.. فـاس ووجـدة
بين صرحين أكاديميين.. فـاس ووجـدة

الرياض

timeمنذ يوم واحد

  • الرياض

بين صرحين أكاديميين.. فـاس ووجـدة

هناك مدن عرفناها على الخارطة الصماء حتى إذا زرناها سكنت خارطة القلب وخصصنا لها قاموساً كتبناه بتجاربنا ومشاهداتنا وأحرفنا الخاصة، واكتسبنا منها قصصاً تروى ووجوه لا تشيخ في الذاكرة ومنها وجدة التي زرتها أول مرة عند كتابة هذا المقال؛ حيث دعتنا جامعة محمد الأول فيها ممثلة برئيسها القدير معالي د. ياسين زغلول الذي تتجلى الجامعة بجهوده وتميزه، وقد دعينا لأمسية شعرية شارك بها شعراء من المملكة العربية السعودية والمغرب، استقبلتنا فرقة وجدة الفلكلورية التي قدمت عروضاً رائعة شاركها الشعراء السعوديون بعض رقصاتها، وتعرفنا على أصوات شعرية مهمة قامتها عالية وومنجزها الشعري عظيم كشاعرة وجدة سميرة فراجي، التي أتحفت الحضور بقصائدها على منبر جامعة محمد الأول في وجدة ومنبر جامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس في قصائد عن الرثاء والحب والغياب والوطن، والتي غنى قصائدها الشاعر الكبير لطفي بوشناق والفنان السعودي خالد عبدالرحمن، ولم نكن نعرف أن صاحبة الكلمات هي المحامية الشاعرة ابنة وجدة سميرة فراجي. «تواشج من الخليج إلى المحيط» عنوان لقاء الجامعة بفاس، وهو تواشج جمع الشعراء على منصة أكاديمية مهمة في العاصمة الثقافية للمغرب فاس العريقة التي فيها أقدم الجامعات العالمية جامعة القرويين والتي زرنا فيها مكتبة القرويين وأطلعنا فيها الدكتور الباحث أبو بكر على مخطوطات عمرها مئات السنين تمت معالجتها بطريقة محترفة احتفظت بها بروح وهيئة المخطوطة الأصلي، وبعضها يوجد في خزانة المكتبة التي تفتح بمفاتيح وأرقام كخزانات البنوك الموصدة بإحكام وموقعها المدينة القديمة التي كان معظم محالها مغلقاً يوم الجمعة يوم زيارتنا، لأن المغاربة احتفظوا بطقوسهم الدينية والروحية والاجتماعية وقت الصلاة، ومن عاداتهم في هذا اليوم إعداد الأطباق التراثية للمنطقة. استعدت بزيارتي للمغرب ذكريات قوافل مؤسسة الفكر العربي مع أمير الفكر والثقافة خالد الفيصل التي كان يجتمع فيها قرابة 400 شخص من العالم، وكذلك ملتقيات كثيرة شاركت فيها مع الشاعر عبدالعزيز البابطين -رحمه الله- الذي كانت مؤسسته بنشاطاتها جسراً بين شرقنا العربي والمغرب العربي بملتقيات احتفت بشعراء من المنطقتين. زيارتنا لم تكن عابرة تقتصر على قراءات منبرية فقط بل كانت أياماً نبدأ من الصباح الباكر في جولة في المدينة القديمة في فاس، ثم وجدة المبهرة الواسعة الطرق التي تشتهر بنظافتها وعمرانها الحديث في نسق سريع لتطور المدينة التي تقع في شرقي المملكة على حدود الجزائر، ثم مشاركات الشعراء في الأمسيات الجامعية، وتنتهي بمأدبة عشاء من أطباق مغربية كالبسطيلة بالحوت والطاجن والدجاج المقلي مع البرقوق واللحم بالبصل والزيتون والسلطات المغربية والخبز الذي تبدع فيه السيدات كل ليلة مع ليالٍ أندلسية وأخرى من غرناطة وأخيرة فرقة وجدة بزيها الفريد والبنادق التي يرقص معها أعضاء الفرقة. عرفت لاحقاً أن رئة وجدة هي البحر في السعيدية التي تبعد عنها ساعة بالسيارة والتي بها منتجعات فاخرة، وعرفت أن لوجدة مطاراً دولياً به رحلات لمدينتي مارسيليا وطولون بفرنسا، فقد كان من الأفضل لي أن أستقل رحلة من وجدة بدلاً من رحلة العودة من وجدة إلى الدار البيضاء جواً ثم إلى وجهتي جنوبي فرنسا. مدن المغرب كثيرة يعرفها العالم وهي وجهة سياحية عالمية كمراكش وطنجة وأغادير، ومازال هناك وجهات جديدة للاكتشاف كوجدة عاصمة المساجد.. المدينة الألفية والسعيدية. لن أغفل عن ذكر المنتجات المغربية التي لم أنسها كزيت أركان المشهور والصابون المصنوع منه، كذلك عسل أملو وعسل الليمون والزعتر والقفطان المغربي، وغيرها. الثقافة كلمة ولحن وموسيقى وروح وأناقة وصناعات ومأكولات وضيافة، الثقافة خارطة حياة وبوصلة ووجهة وقد عبر الشعراء السعوديون عن وطنهم وتغنوا به في قصائدهم وأحاديثهم وتجلى فخرهم بمملكة الحب التي بادلهم المغاربة حبها وذكر مواقفها التي يقدرونها حيال الصحراء المغربية وثقل المملكة في قلب عالمنا العربي والإسلامي وحضورها العالمي. المقال ذو كلمات محدودة لكن ختامه تحية لكل من قابلناه وأكرمنا بلقائنا والأيام محملة بالكثير.

رحيل الدكتور محمد السيد إسماعيل... صاحب العطاء الوافر في النقد والشعر
رحيل الدكتور محمد السيد إسماعيل... صاحب العطاء الوافر في النقد والشعر

الشرق الأوسط

timeمنذ 2 أيام

  • الشرق الأوسط

رحيل الدكتور محمد السيد إسماعيل... صاحب العطاء الوافر في النقد والشعر

فقدت الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي واحداً من النقاد المتميزين المتابعين بدأب ومحبة لفعالياتها وحراكها الإبداعي. فقد غيَّب الموت الشاعر والناقد الدكتور محمد السيد إسماعيل، بعد معاناة مع مرض الكبد، وشُيعت جنازته الثلاثاء بقريته عن عمر يناهز 63 عاماً، بعد أن وهب أكثر من ثلثي سنوات حياته للأدب والثقافة، شاعراً وناقداً وباحثاً أكاديمياً وكاتباً مسرحياً، وترك للمكتبة العربية الكثير من الكتب المهمة. وُلد إسماعيل عام 1962 في قرية طحانوب (30 كيلومتراً شمال القاهرة)، وبدأ مشروعه الثقافي مع مطلع الثمانينات وهو لا يزال طالباً في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، لحق أخيراً برفاق جيله من مبدعي الثمانينات وأصدقاء رحلته، الشعراء محمود قرني، وشريف رزق وفتحي عبد الله، وغيرهم من الذين سبقوه في الرحيل، ويبدو أن شعراء جيل الثمانينات في الشعر المصري مُنذَرون للموت مبكراً، دون أن يحصلوا على ما يوازي عطاءهم الشعري والنقدي. لم يكن غريباً أن تتحول صفحات المثقفين المصريين في مواقع التواصل الاجتماعي سرادق عزاء مفتوحاً، يعزون فيه بعضهم بعضاً في فقيدهم، فهم يعرفون قيمته وقدره جيداً، رغم أنه ليس من المنتشرين في اللجان وتحكيم الجوائز والسفريات لمعارض الكتب والمؤتمرات بالخارج، وكان منشغلاً بأن يضع بصمته في الداخل، يتابع المبدعين الشبان، يكتب عنهم في بداياتهم، يشجعهم ويشد على أيديهم، ويكتب عن المبدعين الكبار بغض النظر عن شهرتهم، أو ما سيجنيه من ورائهم من مكاسب كما يفعل كثيرون، فالراحل تقريباً له يد بيضاء على معظم مبدعي مصر، شعراء وروائيين، ويندر أن تجد مبدعاً مصرياً لم يكتب إسماعيل مقالاً عن روايته أو ديوانه، أو على الأقل يذهب ليناقش هذه الأعمال في ندوة هنا أو هناك، دون حتى سابق معرفة أو مصلحة. كان محمد السيد إسماعيل يسافر إلى كل محافظات مصر تقريباً، بلا مقابل، ليناقش مبدعاً في بداية طريقه، ولم يعرفه أحد بعد، لمجرد أنه يتوسم في كتابته الموهبة، فيأخذ بيده، ويرشده إلى بدايات الطريق. وكان يشارك بأبحاثه في مؤتمرات قصور الثقافة بكل المحافظات، متجشماً عناء السفر، إيماناً منه بأهمية وصول الثقافة إلى القاطنين في الهامش، هناك في المدن والقرى البعيدة عن مركزية العاصمة. هذا الخط الذي انتهجه، كان نابعاً من إيمانه بأن المثقف ليس دوره فقط أن يبدع الكتب وينشرها؛ بحثاً عن شهرة أو مال، أو جائزة هنا أو هناك، بل كانت قناعته أن وظيفة المثقف الأولى أن يساهم في نشر الوعي في محيطه القريب، ودائرته الأولى الصغيرة، ثم تتسع هذه الدائرة إلى دوائر أكبر، ولعل فهمه هذا لطبيعة المثقف ودوره ووظيفته، كان دافعه لأن يعدّ رسالة الدكتوراه عن موضوع «المثقف والسلطة في الرواية السياسية»، ولعل هذا التصور هو الذي جعله محافظاً على الإقامة في قريته، دون الانتقال إلى العاصمة بكل أضوائها، وكان كثيراً ما يقيم ويشارك في ندوات في مكتبة صغيرة بها، ويدعو لها كبار المثقفين من أصدقائه، محاولاً إضاءة شمعة وسط عتمة الليل في فضاء القرية. محمد، القروي، ظل يتعامل مع الثقافة والأدب كفلاح يرعى الأرض ويحرثها، ويغرس النبتة ويرويها؛ أملاً في أن تزهر وتؤتي ثمارها، دون أن يكترث بمن الذي سيحصد ثمارها في نهاية المطاف، فالمهم لديه أن تطرح شجرة الثقافة والوعي، أما جني الثمار فلا يشغل حيزاً من تفكيره، ويترك الآخرين ليتسابقوا على الحصاد، مستمتعاً بأن غرسه أثمر. كل هذا نتيجة تكوينه الشخصي، وتركيبته النفسية وقناعاته الآيديولوجية، فقد كان اعتناقه أفكار اليسار عن العدالة الاجتماعية هو المرجعية العقلية لمساره الثقافي. وإضافة إلى عقله يساري التوجه، كان يتحرك بروح متصوف زاهد، لا يسعى إلى مكاسب الدنيا، ويعيش كأنه ناسك، لا يلهث وراء مكاسب زائلة. العقل اليساري والروح المتصوفة، امتزجا بقلب الشاعر الحالم، الباحث دوماً عن عالم أفضل، والحالم بالمدينة الفاضلة، مؤمناً بأن نشر الثقافة والجمال والإبداع والشعر هو أقصر طريق لمقاومة القبح والتطرف وكل سلبيات العالم. حصل الراحل على الماجستير والدكتوراه في الدراسات الأدبية من كلية دار العلوم جامعة القاهرة، وعمل طوال حياته مدرساً للغة العربية، بدأ كتابة الشعر في مرحلة مبكرة، ورغم النزعة المحافظة التي تسم خريجي دار العلوم، فإنه اختط لنفسه مساراً مغايراً، فكان أحد المبشرين للحداثة الشعرية والنقدية، حتى أنه كان أحد أهم شعراء قصيدة النثر، وأحد نقادها البارزين أيضاً. نُشرت قصائد الشاعر الراحل ودراساته النقدية في مجلات مصرية وعربية، وشارك في مهرجانات شعرية متعددة. وأصدر الكثير من الأعمال الإبداعية، منها سبعة دواوين، هي: «كائنات في انتظار البعث»، و«الكلام الذي يقترب»، و«استشراف إقامة ماضية»، و«تدريبات يومية»، و«قيامة الماء»، و«أكثر من متاهة لكائن وحيد»، و«يد بيضاء في نهاية الوقت». هذه الدواوين جعلته واحداً من أهم الأصوات الشعرية في جيل الثمانينات، ولا يمكن لباحث أو ناقد عمل مقاربة شعرية لهذا الجيل دون أن يتوقف طويلاً عند هذه الدواوين. كما أصدر أربعة أعمال مسرحية: «السفينة»، و«زيارة ابن حزم الأخيرة»، و«وجوه التوحيدي»، و«رقصة الحياة». كما أصدر إسماعيل الكثير من الكتب النقدية التي رسّخت اسمه واحداً من أهم العقول النقدية الفاعلة في المشهدين الأدبي والنقدي، ولم تتوقف أعماله النقدية عند نوع أدبي بعينه، بل تناولت الشعر والقصة والرواية، منها: «رؤية التشكيل»، و«الحداثة الشعرية في مصر»، و«غواية السرد»، و«حداثة النص الشعري: الوعي النظري والاستجابة الجمالية»، و«شعرية شوقي»، و«الخروج من الظل: قراءة في القصة النسائية القصيرة في مصر»، و«بناء فضاء المكان في القصة العربية القصيرة»، و«أساليب السرد في الرواية الأفريقية»، و«الرواية والسلطة»، و«دلالات المكان السردي»، و«التراث والحداثة: قراءة في القصيدة العربية المعاصرة». إضافة إلى ثلاثة كتب فكرية، هي: «التراث والحداثة» و«نقد الفكر السلفي» و«تنوير المستقبل». حاز الراحل جوائز عدة تقديراً لجهده المتواصل على مدار أربعة عقود، منها جوائر في النقد من المجلس الأعلى للثقافة، وهيئة قصور الثقافة، ودائرة الإبداع بالشارقة، ومجمع اللغة العربية، وجائزة في الشعر من صندوق التنمية الثقافية، وأخرى في المسرح من اتحاد الكتاب، وجائزة إحسان عبد القدوس. كُرم بصفته أفضل ناقد أدبي في مؤتمر أدباء مصر، واختير شاعراً في معجم البابطين، وتولى أمانة مؤتمر القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافي. لكن بعيداً عن هذه الجوائز، فإنه حاز جائزة أكبر، وهي تقدير الأوساط الثقافية المصرية لدأبه وتجرده، ومسيرته الإبداعية والنقدية الناصعة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store