التجويع ليس مجرّد أداة ضغط
في هذه الأثناء كلّها كان سيتمّ إطعام سكّان «مدينة السجن الكبير» بالقدر الذي يُبقيهم أحياءً للقدرة على المغادرة، وكل ذلك محسوب بالسعرات الحرارية في العقل الإجرامي الذي نشهد فصوله تباعاً، وبما يتفوّق على كلّ التوحُّش الذي شهدته البشرية على مدار قرون متتالية.
من المؤكّد أنّ إستراتيجية التجويع كانت حاضرةً بصورة مرسومة، وبأعلى درجات الحساب السياسي، وقبل «طوفان الأقصى» بسنوات طويلة - لمن لا يملكون ذاكرة وطنية حقيقية - وكان التجويع والحرمان من الدواء، يشمل قوائم من الممنوعات، ما أدّى إلى موت آلاف من المرضى، وإلى تفشّي وانتشار أمراض خطيرة، ولم يقتصر الأمر في حينه على هذا الحرمان، بل وصلت الأمور أن تخوض المنظمات الدولية الإنسانية معارك ضارية مع الاحتلال على مطاعيم الأطفال.
حصل كل ذلك في مراحل لم تكن المقاومة تهاجم دولة الاحتلال، وكانت الأخيرة لا تتوقّف عن حروبها العدوانية على القطاع، وقد شنّت خمس حروب كبيرة منها كما نعرف ويعرف العالم كلّه.
حرب الإبادة والتجويع على القطاع بدأت قبل «الطوفان» بعدة سنوات، وسنوات طويلة إلّا إذا اعتقد أصحاب الذاكرة المغيّبة أن الأطفال بغزّة في سنوات عمرهم الأولى كانوا يشكّلون خطراً أمنياً على الاحتلال!
اتخذت إستراتيجية التجويع أبعاداً جديدة، وغير مسبوقة في شدّتها وأشكالها، وفي ساديّتها، أيضاً، بعد «الطوفان»، وتحوّلت إلى إستراتيجية همجية معلنة، وعلى لسان القيادات العسكرية والأمنية من أعلى المستويات في دولة الاحتلال، وهي موثّقة بالصوت والصورة، وترافقت مع التعطيش والحرمان من كلّ أشكال الحياة التي تعرفها البشرية، وتحوّلت هذه الإستراتيجية إلى «فرصة» غير مسبوقة في مفارقة عجيبة للتنافس بين قيادات دولة الاحتلال على من يستطيع أن يفرض هذه الإستراتيجية الوحشية الخاسرة بصورة «محكمة» أكثر من الآخر، وبين الأحزاب والقوى الصهيونية على من هو المؤهّل، أو الأكثر تأهيلاً لفرضها، ولتعذيب الفلسطينيين وإيلامهم بها.
منذ أكثر من أربعة شهور دخلنا في مرحلة أعلى من كل المراحل السابقة. فقد غرّزت «عربات جدعون» في رمال غزّة، ولم تعد قادرة على التقدّم إلّا لماماً، وبدأت مرحلة جديدة من الضربات الموجعة التي وجّهتها المقاومة لها، ووصفت حملة العربات بأنها الحملة الأكثر فشلاً في كلّ الحروب البرّية التي قامت بها دولة الاحتلال في كل معاركها البرّية، وأُجبرت القيادة العسكرية الإسرائيلية على إيقافها تحت ذرائع شتّى كان من أبرزها أن العملية قد استنفدت «كامل» أهدافها، وأنه على المستوى السياسي وحده أن يقرّر في ضوء ذلك ما هي الإستراتيجية القادمة.
في الزيارة الأخيرة لبنيامين نتنياهو إلى واشنطن، واللقاءات المطوّلة مع دونالد ترامب - كما كتبنا سابقاً - كان الاتفاق على مدّة زمنية قصيرة تسبق صفقة التبادل، أو ربما الصفقة الشاملة.
وأغلب الظنّ أن الإدارة الأميركية قد طلبت من نتنياهو ألا تزيد أعداد الضحايا الفلسطينيين اليومية كثيراً على معدل 100 ضحية في اليوم الواحد، وأن يتم التركيز على التجمّعات السكانية التي تحاول الوصول إلى الطعام المفقود والنّادر أصلاً، وأن يُعهد إلى العصابات والتجّار بتولّي مهمّة التجويع، أو استكمال حلقات التجويع حتى يؤدّي ذلك من جهة إلى تسريع توجّه عشرات الآلاف إلى المعتقل النازي الجديد في رفح، ومن جهة أخرى إلى المزيد من إذلال الفلسطينيين، وإلى إجبارهم على الضغط تحت وطأة الجوع القاتل، حتى لو كانوا من الحاضنة الشعبية المباشرة للمقاومة، على قيادات هذه المقاومة لتقديم كلّ أشكال التنازلات الممكنة، وبأسرع وقتٍ ممكن.
ومن أجل تسهيل هذه المهمّة، بدأت دولة الاحتلال بالتظاهر أنها معنيّة «فعلاً» بالتوصّل إلى صفقة، وغيّرت وبدّلت من خرائط إعادة انتشار قوّتها، وبدأت بالحديث عن قرب التوصّل إلى هذه الصفقة بالتزامن مع أحاديث متواصلة ومتواترة على لسان ترامب نفسه عن قرب التوصّل إليها، وبدأ ستيف ويتكوف يتمهّل في عودته إلى العاصمة القطرية ليس بانتظار المفاوضات، وإنّما بانتظار حملة التجويع.
هنا علينا أن نلاحظ بدقّة - كما أرى - أنّ الجوع بدأ يفتك بالناس، وقد يتحوّل الأمر في أي لحظة إلى موت جماعي للعشرات في اليوم الواحد بهذه المرحلة، وفي هذه الأيام، لكن كما نعرف من طبيعة هذه الحالة، فإن الانتقال إلى الموت بالمئات يمكن أن يحدث في الساعات القليلة القادمة، ويمكن أن يتحول إلى رقم الألف، ثم إلى عدّة آلاف في اليوم الواحد بدءاً من الأسبوع القادم، وهكذا إلى أن تصل الأمور إلى الأعداد المرعبة.
لا يهمّ نتنياهو أن تصل الأمور إلى هذا المستوى من الإجرام، وترامب نفسه سيعرف كيف يحتال على هذه الجرائم؛ لأن الهدف هو أن يؤدّي هذا التجويع إلى فرض وقائع جديدة إن كان على مستوى تحقيق الأهداف المباشرة للحرب الإبادية، أو كان على مستوى «التأسيس» لـ»التهجير الطوعي» المنتظر.
هذا في الوقت الذي تسبّبت به الحرب في هجرة الاسرائيليين، خصوصاً اليهود الأكثر تأصيلاً من الزاوية المهنية والمالية على حدّ سواء، أو الهجرة التي ستعقب هذه الحرب بعد أن فقدت دولة الاحتلال قدرتها على توفير الأمن والأمان، وفقدت بصورة لا رجعة عنها خاصية الدولة المزدهرة، وأصبحت لسنواتٍ طويلة قادمة مجبرة على تخفيض الإنفاق الاجتماعي، ليس بسبب الخسائر الفادحة التي أُصيب بها اقتصاد دولة الاحتلال فقط - لأن ذلك قابل للتعويض حتى ولو بصعوبة كبيرة - وإنما بسبب هروب رؤوس الأموال في القطاعات الريادية، وبسبب توقف الأخيرة عن تقديم نفسها كمنطقة جذب استثماري من جهة، و»كواحة» للديمقراطية والنيوليبرالية بعد أن تحوّل الكيان الكولونيالي، ويتحوّل المجتمع فيه، إلى كل ما من شأنه تحويله إلى كيان طارد للفرص الاقتصادية من جهة أخرى.
والتجويع بهذا المعنى هو إستراتيجية وحشية أكبر وأعلى وأخطر بكثير من كونه وسيلة ضغط تفاوضية، وأعمق في أبعاد متعدّدة منه من مجرّد إذلال وإيلام نفسي وجسدي للفلسطينيين في القطاع، لأنه كما ثبت بالوقائع أمامنا، تحوّل إلى البديل المباشر عن الحرب الإجرامية والهمجية، وعن «عربات جدعون» لتحقيق الأهداف البعيدة، وربما غير المعلنة منها في الإبادة والتطهير العرقي من جهة، وفي وضع القواعد والأسس والمرتكزات للتهجير الجماعي بدءاً من القطاع، والانتقال إلى الضفة الغربية في أسرع وقت ممكن، وصولاً إلى المخطّطات التي ترسم الآن، وعلى قدمٍ وساق لـ»الداخل» الفلسطيني كذلك من جهة أخرى.
ولا بدّ أن نقول لأصحاب الذاكرة المثقوبة والمعطوبة عندنا قبل غيرنا، أن دولة الاحتلال، وبتواطؤ مباشر من الإدارة الأميركية، وبصمتٍ عربي وإقليمي، ثم الخذلان والجُبن الأوروبي الرسمي، لا بدّ أن نقول لهم جميعاً: إن شعبنا سيخرج من هذه الكارثة التي تطبق عليه من كل جانب، مهما كان حجمها.
وإذا كان كل هؤلاء يراهنون على كسر هذا الشعب الصامد، فعلى كلّ من يراهن على ذلك أن يراجع حساباته لأن كسر شعبنا هو مليون مستحيل.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


معا الاخبارية
منذ 16 دقائق
- معا الاخبارية
ترامب: لا أعتقد أن هناك مجاعة بغزة وقدمنا أغذية ولم يشكرنا أحد
واشنطن-معا- قلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب "قدمنا 60 مليون دولار قبل أسبوعين لإدخال أغذية إلى غزة ولم يشكرنا أحد". واضاف"على حماس أن تعيد الرهائن والمحتجزين وقد استعدنا معظمهم". وتابع"على إسرائيل اتخاذ قرار بشأن غزة ولا أعلم ما الذي قد يحدث في غزة". واضاف"تحدثت مع نتنياهو بشأن إدخال المساعدات إلى غزة وأمور أخرى". واكد "سنقدم مزيدا من المساعدات إلى غزة لكن على بقية الدول المشاركة في هذا الجهد". ووقال ترامب "لا أعتقد أن هناك مجاعة في غزة والأمر يتعلق بسوء تغذية فحماس تسرق المساعدات".


معا الاخبارية
منذ يوم واحد
- معا الاخبارية
أكسيوس: ترامب لم يضفط على نتنياهو لإنهاء الحرب
واشنطن- معا- نقل موقع "أكسيوس" عن مسؤولين إسرائيليين، اليوم السبت، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رغم انزعاجه من "مقتل" المدنيين الفلسطينيين، لم يمارس أي ضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال الأشهر الماضية لإنهاء الحرب في غزة. وبحسب المصادر، قال ترامب لنتنياهو في معظم الاتصالات بينهما: "افعل ما يجب عليك فعله في غزة". بل إنه في بعض الحالات شجعه على اتخاذ مواقف أكثر صرامة تجاه حركة حماس. وبحسب "أكسيوس"، خلال الأشهر الستة الماضية، أعطى ترامب نتنياهو يدا شبه مطلقة في إدارة الوضع في غزة من العمليات العسكرية إلى مفاوضات الأسرى وتوزيع المساعدات الإنسانية. يأتي ذلك وسط تصاعد الانتقادات الدولية بشأن الوضع الإنساني في القطاع واستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية. وكان ترامب من أوائل القادة العالميين الذين حذروا علنا من المجاعة في غزة، لكنه كان أيضا أقل انتقادا من سلفه لسياسات إسرائيل التي تحد من دخول المساعدات. وقد دعم مبادرة "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF) التي ترعاها إسرائيل، والتي تهدف إلى إيصال المساعدات عبر شركة أمريكية خاصة بدلا من الأمم المتحدة، بدعوى ضمان عدم وقوعها بيد حماس.


قدس نت
منذ يوم واحد
- قدس نت
ترامب يعيد تقييم استراتيجية غزة بعد ستة أشهر من الفشل: المفاوضات تنهار والأزمة الإنسانية تتفاقم
أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن نيتها "إعادة النظر بجدية" في استراتيجيتها حيال الحرب في قطاع غزة، بعد مرور ستة أشهر من ولايته دون تحقيق أي اختراق سياسي أو إنساني، في ظل تعثر مفاوضات وقف إطلاق النار وتفاقم الأزمة الإنسانية بشكل غير مسبوق. وجاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو خلال اجتماع جمعه بأهالي عدد من الرهائن المحتجزين في غزة، حيث أقر بفشل المحاولات الحالية قائلاً: "نحن بحاجة إلى إعادة التفكير بجدية... الأمور لا تسير في الاتجاه الصحيح"، وفق ما نقلته شبكة Axios عن مصادر حضرت الاجتماع. انهيار المفاوضات وتصاعد الضغط الدولي تأتي هذه التصريحات عقب فشل جولة جديدة من مفاوضات التهدئة بين إسرائيل وحركة حماس، وسط اتهامات متبادلة بعدم الجدية. وأشار مراقبون إلى أن الجمود السياسي في الملف بات يهدد بتفاقم العزلة الدولية لكل من إسرائيل والولايات المتحدة، خاصة مع تصاعد الإدانات من قبل الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة التي وثّقت تزايد حالات الوفاة جوعًا في غزة. ترامب: على إسرائيل "إنهاء المهمة" وفي خطوة لافتة، صعّد الرئيس ترامب من لهجته تجاه الملف، حيث صرّح الجمعة بأنه يدعم توجّه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتصعيد العمليات العسكرية في غزة، مشيرًا إلى ضرورة "التخلّص من حماس نهائيًا"، بعد فشل جهود التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. تصريحات ترامب تزامنت مع نشر تقارير حقوقية وإنسانية تؤكد دخول غزة مرحلة كارثية، مع آلاف الأطفال والنساء الذين يصطفون يوميًا أمام مطابخ خيرية في خان يونس للحصول على الماء أو الطعام، وسط انهيار شبه تام في الخدمات الأساسية. أزمة إنسانية غير مسبوقة وقالت تقارير صادرة عن الأمم المتحدة ووكالات إغاثة دولية إن الوضع الإنساني في غزة "تجاوز كل الحدود المقبولة"، مشيرة إلى وفاة أعداد متزايدة من المدنيين بسبب الجوع، ونقص الغذاء، وانعدام المياه الصالحة للشرب، في حين يبقى أكثر من مليوني إنسان تحت الحصار الشامل. مستقبل غامض وسط هذا المشهد القاتم، يرى مراقبون أن فشل واشنطن في إدارة الملف قد يفرض تحولًا استراتيجيًا خلال الفترة المقبلة، في ظل ضغوط داخلية من أهالي الرهائن، وضغوط دولية متزايدة تطالب بوقف الحرب وإدخال المساعدات بشكل عاجل إلى القطاع المنكوب. المصدر: وكالة قدس نت للأنباء - قطاع غزة