
باحثون يطورون نظام ذكاء اصطناعي يمكّن الروبوتات من التحرك مثل الحيوانات
وتساعد هذه التكنولوجيا، الروبوت على تغيير طريقة حركته بشكل مستقل تمامًا، دون حاجة إلى توجيه مسبق بموعد أو كيفية تغيير خطواته، إذ أنه يتعلم من اخطائه، على عكس الجيل الحالي من الروبوتات.
وتُعد هذه القدرة على التكيف إنجازاً محورياً يُمكن أن يفتح آفاقًا جديدة لاستخدام الروبوتات في مهام حرجة، مثل تفكيك المنشآت النووية، أو عمليات البحث والإنقاذ في الكوارث، خاصة أن عدم القدرة على التكيف مع المجهول ربما يؤدي لوقوع خسائر في الأرواح.
واستلهم الباحثون في دراستهم، التي نشرتها دورية "نيتشر ماشين أنتليجنس" ما يحدث في مملكة الحيوان، لتعليم الروبوت كيفية التنقل في تضاريس لم يسبق له رؤيتها.
وشملت التجارب حيوانات رباعية الأرجل مثل الكلاب، والقطط، والخيول، المعروفة بقدرتها الفائقة على التكيف مع التضاريس الطبيعية المتنوعة.
وتُغير هذه الحيوانات طريقة حركتها بهدف توفير الطاقة، أو الحفاظ على التوازن، أو الاستجابة السريعة للتهديدات.
روبوت يهرول ويركض ويقفز
ونجح الباحثون في إنشاء نظام يُمكنه تعليم الروبوتات كيفية الانتقال بسلاسة بين أنواع مختلفة من المشي، مثل الهرولة، والركض، والوثب، تمامًا كما تفعل الثدييات في الطبيعة.
ومن خلال تضمين نفس الاستراتيجيات التي تستخدمها الحيوانات للتنقل في عالم لا يمكن التنبؤ به ضمن نظام الذكاء الاصطناعي، يتعلم الروبوت، الذي أُطلق عليه اسم "كلارنس"، التبديل بسرعة بين أنواع المشي أثناء الحركة، استجابةً للتضاريس المتغيرة.
وبفضل قدرة الذكاء الاصطناعي الهائلة على معالجة البيانات، تعلم الروبوت الاستراتيجيات اللازمة في 9 ساعات فقط، وهو زمن أسرع بكثير من الأيام أو الأسابيع التي تستغرقها معظم صغار الحيوانات لتجاوز الأسطح المختلفة بثقة.
وأشار المؤلف الأول للورقة البحثية، جوزيف همفريز، الباحث في مرحلة ما بعد الدكتوراه بكلية الهندسة الميكانيكية في جامعة ليدز، إلى أن إطار العمل يمكّن الروبوت من تغيير خطواته وفقًا لبيئته، متغلبًا على مجموعة متنوعة من التضاريس مثل الأخشاب غير المستوية، ورقائق الخشب المتناثرة، والنباتات الضخمة، دون أي تعديلات على النظام نفسه.
وقال همفريز: "نتائجنا يمكن أن يكون لها تأثير كبير على مستقبل التحكم في حركة الروبوتات ذات الأرجل من خلال تقليل العديد من القيود السابقة المتعلقة بالقدرة على التكيف".
وأضاف: "هذا الإطار للتعلم المعزز العميق يُعلّم استراتيجيات وسلوكيات مستوحاة من الحيوانات الحقيقية - أو مستوحاة بيولوجيًا - مثل توفير الطاقة، وتعديل الحركات حسب الحاجة، وذاكرة المشية، لتحقيق حركة عالية التكيف والأمثل، حتى في بيئات لم تُصادفها من قبل".
وقال الباحثون إن كل التدريب يحدث في المحاكاة، إذ تُدرب السياسة على الكمبيوتر، ثم تُنقل وتُوضع على الروبوت، وتكون بنفس الكفاءة كما في التدريب، موضحين أن الأمر يُشبه فيلم "ماتريكس" في إشارة إلى مهارة جديدة في الفنون القتالية إلى دماغ البطل، لكنه لا يخضع لأي تدريب بدني في العالم الحقيقي.
تعليم الروبوت "الذكاء الغريزي"
واختبر الباحثون الروبوت بعد ذلك في العالم الحقيقي، على أسطح لم يُصادفها من قبل، ونجح في التنقل عبرها جميعًا.
وغالبًا ما تكون أنظمة التعلم المعزز العميق جيدة في تعلم مهمة محددة، ولكنها تُعاني من صعوبة التكيف عندما تتغير البيئة.
وتتمتع أدمغة الحيوانات بهياكل مدمجة ومعلومات تدعم التعلم، بينما يمكن لبعض الأنظمة الاصطناعية محاكاة هذا النوع من التعلم، فإن أنظمتها عادة ما تكون أقل تقدمًا أو تعقيدًا.
وأشار الباحثون إلى أنهم تغلبوا على هذا التحدي من خلال غرس استراتيجيات الحركة الطبيعية للحيوانات في نظامهم، مؤكدين أن إطار عملهم هو الأول الذي يدمج في آن واحد المكونات الثلاثة الحاسمة للحركة الحيوانية في نظام تعلم معزز، والتي تشمل استراتيجيات الانتقال بين أنواع المشي، والذاكرة الإجرائية للمشية، والتعديل التكيفي للحركة.
ويقول الباحثون إن هذا التكامل يُمكّن من النشر الفعلي متعدد الاستخدامات في العالم الحقيقي مباشرة من المحاكاة، دون الحاجة إلى تعديل إضافي على الروبوت الفعلي، فالروبوت لا يتعلم فقط كيف يتحرك، بل يتعلم كيف يقرر أي نوع من المشي يستخدم، ومتى يُغيره، وكيف يُعدله في الوقت الفعلي، حتى على تضاريس لم يواجهها من قبل.
ويقول الباحثون إن هذا البحث كان مدفوعًا بسؤال أساسي هو ماذا لو تمكنت الروبوتات ذات الأرجل من التحرك غريزيًا كما تفعل الحيوانات؟
وأوضحوا: "بدلاً من تدريب الروبوتات على مهام محددة، أردنا أن نمنحها الذكاء الاستراتيجي الذي تستخدمه الحيوانات لتكييف أنواع مشيتها، باستخدام مبادئ مثل التوازن، التنسيق، وكفاءة الطاقة".
ومن خلال تضمين هذه المبادئ في نظام ذكاء اصطناعي، تمكنت الروبوتات من اختيار كيفية التحرك بناءً على الظروف في الوقت الفعلي، وليس القواعد المبرمجة مسبقًا، ما يعني أنها يمكنها التنقل في بيئات غير مألوفة بأمان وفعالية، حتى تلك التي لم تواجهها من قبل.
وتتمثل رؤية الباحثين طويلة الأمد في تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي مجسدة - بما في ذلك الروبوتات الشبيهة بالبشر - تتحرك وتتكيف وتتفاعل بنفس السلاسة والمرونة التي تتمتع بها الحيوانات والبشر، ويُقلد المهندسون بشكل متزايد الطبيعة – المعروفة باسم المحاكاة الحيوية – لحل تحديات التنقل المعقدة.
وأوضح فريق الباحثين أن النظام يمثل خطوة رئيسية في جعل الروبوتات ذات الأرجل أكثر قابلية للتكيف وقدرة على التعامل مع تحديات العالم الحقيقي، في البيئات الخطرة أو حيث يصعب الوصول؛ موضحين أن الروبوت القادر على التنقل في تضاريس معقدة وغير مألوفة يفتح إمكانيات جديدة لاستخدامه في الاستجابة للكوارث، واستكشاف الكواكب، والزراعة، وتفتيش البنية التحتية.
ويُقدم هذا النظام مسارًا واعدًا لدمج الذكاء البيولوجي في أنظمة الروبوتات، وإجراء تحقيقات أكثر أخلاقية لفرضيات الميكانيكا الحيوية؛ فبدلًا من إثقال كاهل الحيوانات بأجهزة استشعار غازية أو تعريضها للخطر لدراسة استجابتها لاستعادة الاستقرار، يمكن استخدام الروبوتات بدلاً منها.
القدرة التكيفية
باستخدام التعلم المعزز العميق - يُشبه عملية التجربة والخطأ فائقة القوة - تدرب الروبوت في مئات البيئات في وقت واحد، ليحل أولاً تحدي الحركة بأنواع مشي مختلفة ثم اختيار أفضل نوع مشي للتضاريس، ما أدى إلى توليد الأدوات اللازمة لتحقيق حركة عالية التكيف.
ولاختبار هذه القدرة التكيفية المكتسبة في العالم الحقيقي، أُطلق الروبوت في بيئات حقيقية تشمل رقائق الخشب، والصخور، والجذور المتضخمة، والأخشاب المتناثرة.
كما تم ضرب أرجل الروبوت مرارًا بفرشاة كنس، لاختبار قدرته على التعافي من العثرات، واستخدم الفريق مسارًا مبرمجًا أو عصا تحكم (جو-ستيك) لتوجيه الروبوت.
التعلم المعزز العميق
طريقة تدريب للذكاء الاصطناعي تجمع بين:
التعلم المعزز (Reinforcement Learning): يتعلم من التجربة والخطأ/ والمكافأة والعقاب.
التعلم العميق (Deep Learning): يستخدم شبكات عصبية عميقة لتحليل بيانات معقدة.
الهدف: اتخاذ قرارات ذكية لتحقيق أفضل نتيجة بمرور الوقت.
يستخدم في: الألعاب الروبوتات السيارات ذاتية القيادة أنظمة التداول الذكية
الميزة: قادر على التعامل مع بيئات معقدة دون تعليمات صريحة مسبقة.
ولم يتعرض الروبوت لأي تضاريس وعرة أثناء التدريب، ما يُسلط الضوء على قدرة النظام على التكيف ويُظهر أن هذه المهارات أصبحت غريزية تقريبًا للروبوت.
وعلى الرغم من أن هذا الإطار جرى اختباره حتى الآن على روبوت واحد رباعي الأرجل بحجم الكلب، إلا أن المبادئ الأساسية قابلة للتطبيق على نطاق واسع؛ إذ يمكن استخدام نفس المقاييس المستوحاة من البيولوجيا عبر مجموعة واسعة من الروبوتات رباعية الأرجل، بغض النظر عن الحجم أو الوزن، طالما أنها تشترك في مورفولوجيا -شكل وبنية- مماثلة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربية
منذ 15 ساعات
- العربية
الذكاء الاصطناعي: معلم أم منافس؟
في عالم يتسارع فيه التقدم التكنولوجي، أصبح الذكاء الاصطناعي محور نقاش حيوي في قطاع التعليم، حيث يثير تساؤلات حول دوره: هل هو معلم يعزز جودة التعليم، أم منافس يهدد مكانة المعلمين التقليديين؟ مع التطورات الأخيرة والدراسات الحديثة، يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة ثورية تحمل إمكانات هائلة، لكنها لا تخلو من التحديات والمخاوف. تشير دراسة أجرتها جامعة هارفارد في سبتمبر 2024 إلى أن الطلاب الذين استخدموا معلمي الذكاء الاصطناعي حققوا نتائج أكاديمية أعلى بنسبة ملحوظة مقارنة بالتعليم التقليدي. الدراسة، التي شملت عينة من الطلاب في تخصصات متنوعة، أظهرت أن متوسط درجات الطلاب الذين اعتمدوا على أدوات الذكاء الاصطناعي بلغ 4.5 من 5، بينما سجل الطلاب في الفصول التقليدية متوسط 3.5. هذه النتائج تعكس قدرة الذكاء الاصطناعي على تقديم تجربة تعليمية مخصصة، حيث يستطيع تحليل احتياجات الطالب الفردية وتقديم محتوى يتناسب مع مستواه وقدراته. على سبيل المثال، تستخدم منصات مثل الدروس التفاعلية القائمة على الذكاء الاصطناعي خوارزميات لتتبع تقدم الطالب، مما يتيح تقديم تمارين مخصصة تزيد من فعالية التعلم. ومع ذلك، هناك مخاوف جدية حول تأثير الذكاء الاصطناعي على الوظائف التعليمية. دراسة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في عام 2024 كشفت أن 27% من الوظائف التعليمية في الدول المتقدمة قد تكون عرضة للأتمتة بحلول عام 2030، خاصة المهام الإدارية والتدريس الروتيني. هذه الإحصائية تثير تساؤلات حول مستقبل المعلمين، خاصة أولئك الذين يعتمدون على التدريس التقليدي. ومع ذلك، تؤكد الدراسة أن المهام التي تتطلب التفكير الإبداعي، التفاعل البشري، واتخاذ القرارات المعقدة ستبقى حكرًا على المعلمين البشر، مما يعزز فكرة أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون مكملًا وليس بديلاً كاملاً . من ناحية أخرى، تبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التعليم كعامل محفز للإبداع. على سبيل المثال، أظهرت تجربة أجريت في المملكة المتحدة أن استخدام ألعاب تعليمية مدعومة بالذكاء الاصطناعي زاد من مشاركة الطلاب بنسبة 43% مقارنة بالفصول التقليدية. هذه الأدوات لا تعزز تجربة التعلم فحسب، بل تساعد الطلاب على تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات. رغم هذه الفوائد، هناك تحديات أخلاقية وتقنية. دراسة أجرتها جامعة ستانفورد في أكتوبر 2023 أشارت إلى أن الافتقار إلى الشفافية في نماذج الذكاء الاصطناعي يثير مخاوف بشأن المساءلة. على سبيل المثال، قد تؤدي الخوارزميات غير المنظمة إلى تحيزات في تقييم الطلاب أو توجيههم نحو مسارات تعليمية غير مناسبة. علاوة على ذلك، هناك قلق من أن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي قد يقلل من التفاعل البشري، وهو عنصر أساسي في عملية التعلم. وتشير إحصاءات من تقرير QuestionPro لعام 2023 إلى أن 62% من الطلاب يفضلون التفاعل المباشر مع المعلمين على الأدوات الرقمية، مما يعكس أهمية التوازن بين التكنولوجيا والتفاعل البشري. في الختام، يمثل الذكاء الاصطناعي ثورة تعليمية تجمع بين الإمكانات والتحديات. من خلال تقديم تجارب تعليمية مخصصة وأتمتة المهام الروتينية، يثبت الذكاء الاصطناعي أنه معلم فعال وداعم. ومع ذلك، فإن دوره كمنافس محتمل لا يمكن تجاهله، خاصة مع تزايد الأتمتة في المهام التعليمية. الحل يكمن في الدمج الذكي للذكاء الاصطناعي مع التدريس البشري لضمان تحقيق أفضل النتائج. مع استمرار التقدم، يتعين على المؤسسات التعليمية وضع سياسات تعليمية تضمن الدقة في استخدام هذه التقنيات، ليبقى الذكاء الاصطناعي شريكًا في بناء مستقبل التعليم، وليس بديلاً يهدد جوهره الإنساني.


الشرق السعودية
منذ 21 ساعات
- الشرق السعودية
بالتهجين مع الطماطم قبل 9 ملايين سنة.. علماء يكشفون أصول البطاطس
البطاطس (البطاطا) من الأغذية الأساسية في العالم، وزُرعت لأول مرة منذ آلاف السنين في منطقة "الأنديز" في أميركا الجنوبية، قبل أن تنتشر في أنحاء العالم منذ القرن السادس عشر، لكن على الرغم من أهميتها للبشرية، ظلت أصول تطوّر البطاطس محيرة حتى الآن. وكشف تحليل جديد تضمن 450 شريطاً وراثياً من البطاطس المزروعة، و56 شريطاً وراثياً من أنواع البطاطس البرية أن سلالة البطاطس نشأت من خلال التهجين الطبيعي بين نبات الطماطم البري ونوع شبيه بالبطاطس في أميركا الجنوبية منذ نحو 9 ملايين سنة. ويقول الباحثون إن هذا التهجين أدى إلى ظهور درنة نبات البطاطس الوليد، وحددوا أيضاً عاملين وراثيين مهمين مشاركين في تكوين الدرنات. وفي حين أن الجزء الصالح للأكل في نبات الطماطم هو الثمرة، فإن الجزء الصالح للأكل في نبات البطاطس هو الدرنة. والاسم العلمي لنبات البطاطس في العصر الحديث هو "سولانوم تيوبروسوم". وكان النوعان اللذان نتج عنهما هذا النوع، والمذكوران في الدراسة أسلاف نوع شبيه بالبطاطس موجود الآن في بيرو اسمه "إتيوبروسوم"، وهو يشبه إلى حد كبير نبات البطاطس، لكنه يفتقر إلى الدرنة، ويشبه نبات الطماطم. ويتقاسم هذان النباتان سلفاً مشتركاً عاش قبل نحو 14 مليون سنة، وتمكنا من التزاوج بصورة طبيعية عندما وقع التهجين بالصدفة بعد 5 ملايين سنة من تباعدهما عن بعضهما. وقالت عالمة النبات ساندرا ناب من متحف التاريخ الطبيعي في لندن: "أدى هذا الحدث إلى إعادة خلط العوامل الوراثية وأنتجت السلالة الجديدة درنات، ما سمح لهذه النباتات بالتوسع في البيئات الباردة والجافة التي نشأت حديثاً في سلسلة جبال الأنديز". وذكر الباحثون أن نتائج الدراسة قد تساعد في توجيهات تحسين رعاية البطاطس المزروعة، لمكافحة التحديات البيئية، التي تواجهها المحاصيل حالياً بسبب عوامل منها تغيّر المناخ. وقال الباحث في الأكاديمية الصينية للعلوم الزراعية تشيانج تشانج إن الدراسة قد تفتح الباب أيضاً أمام إنتاج أنواع جديدة من المحاصيل، التي يمكن أن تثمر الطماطم فوق الأرض ودرنات البطاطس تحت الأرض.


الاقتصادية
منذ يوم واحد
- الاقتصادية
معركة صينية - أمريكية على سوق الذكاء الاصطناعي البالغة 4.8 تريليون دولار
في الوقت الذي كانت فيه الروبوتات الشبيهة بالبشر تتصارع داخل حلبة ملاكمة خلال مؤتمر الذكاء الاصطناعي الصيني الأبرز في شنغهاي، كانت معركة موازية تدور ضمن فصول الحرب التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة، لكن ببزّات رسمية، في سباق محموم على من يضع قواعد الذكاء الاصطناعي. جاء رد الصين على هذا التحدي عبر إطلاق منظمة عالمية جديدة تهدف إلى توحيد الجهود الدولية لضمان الاستخدام الآمن والشامل لهذه التكنولوجيا الجديدة القوية. فخلال مؤتمر الذكاء الاصطناعي العالمي السنوي الذي عُقد نهاية الأسبوع، حذّر رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ من مخاطر "احتكار" الذكاء الاصطناعي، داعياً المسؤولين الأجانب الحاضرين في القاعة، وغالبيتهم من الدول النامية، إلى التعاون في مجال الحوكمة. تجسّد المنظمة الجديدة، التي تحمل اسم المنظمة العالمية للتعاون في الذكاء الاصطناعي، خطة الصين لمنافسة الولايات المتحدة على النفوذ العالمي، عبر تقديم نفسها كداعم للذكاء الاصطناعي للجميع. ومن شأن القواعد التنظيمية الأكثر ملاءمة أن تمنح الشركات الصينية دفعة عالمية في سباقها مع نظيراتها الأمريكية في بيع المعدات والخدمات ضمن سوق يُتوقّع أن تصل قيمتها إلى 4.8 تريليون دولار بحلول عام 2033. الذكاء الاصطناعي ساحة تنافس جيوسياسي رغم هيمنة الولايات المتحدة على سوق رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة، تمكّنت الشركات الصينية من تقديم حلول تنافسية تلقى رواجاً لدى العديد من الدول المشاركة في المؤتمر. وبهذا الصدد، قال إريك أولاندر، من مشروع "الصين والجنوب العالمي" (China-Global South Project)، إن "الصينيين يأتون بمزيج مختلف كلياً من منتجات الذكاء الاصطناعي، سيكون جذاباً للغاية بالنسبة للدول منخفضة الدخل التي تفتقر إلى البنية التحتية الحوسبية والكهربائية اللازمة لتشغيل أنظمة ذكاء اصطناعي شبيهة بتلك التي تطورها "أوبن إيه آي" (OpenAI) على نطاق واسع". بحسب وزارة الخارجية الصينية، شهد المؤتمر مشاركة أكثر من 800 شركة متخصصة في الذكاء الاصطناعي، تمثل أكثر من 70 دولة ومنطقة حول العالم. تتبنى بكين نهجاً قائماً على استخدام التكنولوجيا كأداة ترويج ووسيلة جذب في آنٍ واحد، مستعيدة تجربتها السابقة ضمن مبادرة طريق الحرير الرقمي، التي وضعت الشركات الصينية في قلب شبكات الاتصالات العابرة للقارات. على مدى سنوات، سعت الصين إلى صياغة المعايير العالمية للتقنيات الناشئة، مثل شبكات الجيل الخامس، في محاولة واضحة لتوجيه مسار التطوير التكنولوجي وفتح المجال أمام شركاتها للفوز بحصة في الأسواق الخارجية. وقد أصبح الحضور القوي لشركة "هواوي تكنولوجيز" (Huawei Technologies) داخل الكيانات التي تضع المعايير الدولية موضع تدقيق من قبل الحكومة الأميركية، التي فرضت قيوداً صارمة على استخدام معدات الشركة. أصبحت الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي ميداناً جديداً للمنافسة بين القوى الكبرى، فكل من الولايات المتحدة والصين تعتبر أن هذه التكنولوجيا أداة حيوية ليس فقط لاقتصادها، بل للأمن القومي كذلك. وقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الأسبوع الماضي أن بلاده "ستفعل كل ما يلزم" لتتولى ريادة الذكاء الاصطناعي من خلال خطة تتضمن التصدي للنفوذ الصيني المتنامي داخل الهيئات الدولية المعنية بالحوكمة. بكين تروج لحوكمة آمنة للذكاء الاصطناعي في ظل غياب قواعد دولية ملزمة لتطوير الذكاء الاصطناعي، تدفع الصين بخطة طموحة تركز على تعزيز البنية التحتية الرقمية المعتمدة على الطاقة النظيفة، وتوحيد معايير القدرة الحوسبية. كما تؤكد بكين دعمها لدور الشركات في صياغة معايير فنية متعلقة بالأمن والصناعة والأخلاقيات. لم يتم الإفصاح عن تفاصيل كثيرة بشأن الكيان الصيني الجديد، ومقره شنغهاي. ففي تصريح مقتضب قبل مغادرة الصحفيين من القاعة، قال المسؤول الكبير في وزارة الخارجية الصينية ما تشاو شيو إن المنظمة ستركز على وضع معايير وأطر حوكمة للذكاء الاصطناعي، مضيفاً أن الصين ستناقش التفاصيل مع الدول الراغبة في الانضمام. ومع احتدام السباق بين الشركات الأميركية والصينية لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي قد تضاهي، أو تتفوق على، القدرات البشرية، دفعت المخاوف بشأن السلامة أيضاً إلى المطالبة بوضع ضوابط صارمة. وفي هذا الإطار، عبّر جيفري هينتون، أحد رواد الذكاء الاصطناعي، خلال مشاركته في الحدث الصيني، عن دعمه لتعاون الهيئات الدولية في معالجة قضايا السلامة المرتبطة بهذه التكنولوجيا. الصين تراهن على دعم الجنوب العالمي يبدو أن جزءاً من استراتيجية بكين في مجال الذكاء الاصطناعي يستند إلى توجهها الدبلوماسي بدعم دول الجنوب العالمي لتعزيز حضورها في الساحة الدولية. وخلال كلمته الافتتاحية يوم السبت الماضي، شدد لي تشيانغ على ضرورة مساعدة هذه الدول في بناء قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي. وشكّلت تلك الدول الغالبية العظمى من أكثر من 30 دولة تمت دعوتها للمشاركة في اجتماعات الحوكمة رفيعة المستوى، من بينها إثيوبيا وكوبا وبنغلاديش وروسيا وباكستان. كما شاركت مجموعة محدودة من الدول الأوروبية مثل هولندا وفرنسا وألمانيا، إلى جانب الاتحاد الأوروبي وعدد من المنظمات الدولية. في المقابل، لم ترصد "بلومبرغ نيوز" وجود أي لافتة باسم الولايات المتحدة، فيما رفضت السفارة الأمريكية في بكين التعليق على ما إذا كان هناك تمثيل رسمي للولايات المتحدة في الحدث. من جانبه، قال أحمد أديتيا، المستشار الخاص لنائب رئيس إندونيسيا، الذي حضر الاجتماع، لـ"بلومبرغ نيوز" إن مبادرة الصين "تحظى بتقدير كبير من الحكومة الإندونيسية". وأضاف أن بلاده تُعد مناهج دراسية مخصصة للذكاء الاصطناعي لتطبيقها في نحو 400 ألف مدرسة، وتُدرب 60 ألف معلم على هذه التقنية. يبدو أن تركيز بكين على مفهوم "الانفتاح"، وهي كلمة وردت 15 مرة في خطة عملها للحوكمة، يستند إلى نجاح شركة الذكاء الاصطناعي الناشئة "ديب سيك" (Deepseek) مطلع هذا العام، حين أدهشت العالم عبر إطلاق نماذج ذكاء اصطناعي تضاهي في قدراتها تلك التي طورتها "أوبن إيه آي" مع إتاحتها للجميع مجاناً وقابليتها للتعديل دون قيود. وسارعت شركات صينية أخرى إلى تبنّي النموذج نفسه، حيث أطلقت أسماء عملاقة مثل "علي بابا" (Alibaba)، ولاعبون جدد مثل "مون شوت" (Moonshot) نماذج لغوية ضخمة متطورة ومفتوحة المصدر. ويكتسب هذا التوجه أهمية خاصة بالنسبة للدول النامية، التي غالباً ما تفتقر إلى الموارد اللازمة لتجميع قواعد بيانات ضخمة أو تطوير نماذجها الخاصة للذكاء الاصطناعي من الصفر، وهي عملية تتطلب رقائق إلكترونية مرتفعة التكلفة من شركات مثل "إنفيديا" (Nvidia). التنافس على مستقبل الذكاء الاصطناعي كما تولي الصين أهمية كبيرة لمفهوم "سيادة الإنترنت"، وهو ما قد يجذب الأنظمة ذات الطابع السلطوي حول العالم. وجاء في مبادرة الصين لحوكمة الذكاء الاصطناعي العالمية الصادرة عام 2023 أنه "ينبغي احترام سيادة الدول الأخرى والامتثال التام لقوانينها عند تزويدها بمنتجات وخدمات الذكاء الاصطناعي". في المقابل، تنص خطة الذكاء الاصطناعي التي طرحها ترمب على أن الحكومة الأمريكية لن تتعاون إلا مع المهندسين الذين "يضمنون أن أنظمتهم موضوعية وخالية من التحيّز الأيديولوجي المفروض من الأعلى". هذا التنافس بين الولايات المتحدة والصين يضع العديد من الدول أمام معضلة مألوفة تتمثل في الشعور بالضغط لاختيار أحد الجانبين، إلا أن وزير الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية في جنوب أفريقيا، سولي مالاتسي، رفض الانجرار وراء هذه الثنائية. وقال مالاتسي من المؤتمر: "الأمر لا يتعلق باختيار نموذج على حساب الآخر، بل يتعلق بدمج أفضل ما في النموذجين".