logo
مصر بين التقشف المالي والضغوط الاجتماعية: البحث الصعب عن الاستقرار الاقتصادي

مصر بين التقشف المالي والضغوط الاجتماعية: البحث الصعب عن الاستقرار الاقتصادي

النهار٢٢-٠٤-٢٠٢٥

مع بداية عام 2024، أعلنت مصر رسميًا خروجها من أزمة صرف عنيفة. ورغم أن هذه الانفراجة أعادت تسليط الضوء على توازنات الحساب الخارجي، فإن المسألة المالية ظلت لفترة طويلة في المرتبة الثانية. ومع تجاوز هذه العاصفة، تواجه السلطات اليوم مساراً مقلقاً للديون يتعين تصحيحه، ما يتطلب قرارات مالية مؤلمة في سياق من التوترات الاجتماعية المتصاعدة. وقد أقرّ صندوق النقد الدولي نفسه، وللمرة الأولى، بـ"الكلفة الاجتماعية" للإصلاحات المالية المفروضة، داعياً إلى إدارة "حذرة" لعملية تنفيذها.
في نهاية آذار (مارس)، أقرّت الحكومة المصرية مشروع موازنة السنة المالية 2025/2026، والمزمع عرضها على البرلمان للموافقة. وجاء نشر هذا المشروع مباشرة بعد مصادقة مجلس إدارة صندوق النقد الدولي على المراجعة الرابعة لبرنامج الدعم، ما أتاح صرف شريحة تمويل بقيمة 1.2 مليار دولار.
ورغم أهمية هذه الخطوة، فإن المراجعة تأخرت ستة أشهر عن الجدول الزمني الأصلي، ما أثار تساؤلات وشكوكاً حول قدرة الحكومة على الالتزام بتعهداتها.
ورغم الإشارة إلى أسباب إدارية لتبرير هذا التأخير، كالرغبة في انتظار الاجتماعات السنوية للصندوق، يصعب تجاهل أن هذا التأجيل قد يعكس صعوبات في تنفيذ البرنامج. وقد أشار بيان الصندوق إلى "تقدم غير متكافئ" في الإصلاحات الهيكلية، مع تعديل طفيف للأهداف المالية، حيث تم خفض الفائض الأولي المستهدف لعام 2026 من 4.5% إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يؤكد عودة توازن المالية العامة إلى صلب النقاش.
أزمة صرف حجبت التحديات المالية
بدأت الأزمة في عام 2022 وتفاقمت بفعل الحرب في أوكرانيا وتأثيرها على واردات القمح، ما أغرق مصر في اضطرابات مالية تميزت بفقدان الثقة وتقلب شديد في سعر صرف الجنيه المصري. وقد ركّزت الأسواق آنذاك على احتياطيات النقد الأجنبي وقدرة البلاد على الوفاء بالتزاماتها الخارجية، فيما تراجعت التوازنات المالية إلى الخلفية.
ومع ذلك، نجحت الحكومة حتى ذلك الحين في كسب ثقة المقرضين، خصوصاً بفضل برنامج صندوق النقد لعام 2016، الذي تُوّج بخفض ملحوظ في العجز الأولي. بل إن مصر أعلنت عام 2023 عن عجز أقل من توقعات الصندوق (6% مقابل 7.8% متوقعة)، ما عزّز الانطباع الزائف بميزانية مستقرة رغم الأزمة الكامنة.
في الواقع، ساهم التضخم المتسارع في خلق وهم التوازن المالي. فقد أدّى تلقائياً إلى زيادة إيرادات الدولة، لا سيما من خلال ضريبة القيمة المضافة التي تمثل نحو 35% من الإيرادات. وبما أن هذه الضريبة تتناسب مع الأسعار، فقد ارتفعت بنفس وتيرة التضخم، ما حمّل المستهلكين العبء الضريبي بغضّ النظر عن مستوى دخلهم.
وعلى صعيد النفقات، أتاح التضخم "تأثيراً بصرياً" مضللًا. إذ ظهرت الزيادات الاسمية في التحويلات الاجتماعية والأجور العامة على أنها سخية، في حين أنها، عند تعديلها وفقاً للتضخم، تراجعت فعلياً. وهكذا، ورغم الوعود الاجتماعية الظاهرة، انخفض الوزن الحقيقي لهذه البنود، ما ساعد على تحقيق تقشف مالي خفي.
تعديلات مالية بثمن اجتماعي باهظ
لكن خلف هذه الدينامية المضللة، تعرضت الميزانية لضغوط كبيرة. فقد تراجعت الإيرادات الضريبية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 0.7 نقطة، وهو أداء دون الطموحات التي حددها صندوق النقد، والذي يستهدف زيادة قدرها نقطتان بحلول عام 2027.
كما ارتفعت كلفة دعم الطاقة، خصوصاً لصالح الشركة العامة للبترول (EGPC)، نتيجة تضخم التكاليف الدولارية. والأهم أن خدمة الدين تفاقمت بفعل خفض قيمة الجنيه، ما زاد من أعباء الفوائد الخارجية بالعملة المحلية. أما داخلياً، فقد أدّت أسعار الفائدة المرتفعة إلى نفس النتيجة.
وأمام هذه التحديات، لجأت السلطات إلى تقليص نفقات الاستثمار، وخفضت أجور الموظفين العموميين ( 1.1% من الناتج المحلي)، وقلّصت التحويلات الاجتماعية. وبذلك تم تنفيذ سياسة تقشف على حساب النفقات الإنتاجية وإعادة التوزيع، وهو توجه مقلق في بلد يواجه تحديات اجتماعية جسيمة.
تراجع الدعم التضخمي وتقلص الهوامش المالية
اليوم، تتغير المعطيات. فالتضخم الذي بلغ ذروته بدأ في التراجع بفضل "تأثير القاعدة" (أي أن زيادات الأسعار المسجلة عام 2023 لا تتكرر في 2024)، ما يبطّئ نمو الأسعار تلقائياً. وهو ما يُعدّ انفراجاً للأسر، لكنه يمثل تحدياً للميزانية.
إذ ان تراجع التضخم يحرم الدولة من أداتها الرئيسة للتقشف، حيث لم تعد الإيرادات تنمو بالقيمة الاسمية بنفس الوتيرة، في حين تبقى أسعار الفائدة مرتفعة. والنتيجة: عودة كلفة الدين، كنسبة من الناتج المحلي، إلى الارتفاع، في ما يعرف بـ"تأثير كرة الثلج"؛ أي عندما تتراكم الفوائد بسرعة أكبر من نمو الإيرادات، ما يصعّب احتواء الدين.
يُجسد مسار الدين المصري صعوبة التوفيق بين الخيارات. فمنذ حزيران/يونيو 2022، ارتفعت نسبة الدين العام من 88.5% إلى 96% من الناتج المحلي. ويُعزى هذا الارتفاع إلى إعادة تقييم الدين الخارجي بعد خفض العملة، وكذلك إلى تراجع معدل النمو من 5% متوقعة إلى 3.3%.
وضعف النمو يحدّ من القدرة على كبح الدين، بينما تُثقِل أسعار الفائدة المرتفعة كاهل المالية العامة. صحيح أن هذه المعدلات تجذب رؤوس الأموال الأجنبية وتُسهم في استقرار ميزان المدفوعات، لكنها تزيد بشدة من كلفة خدمة الدين.
ويحثّ صندوق النقد على اعتماد سياسة نقدية موجهة نحو استهداف التضخم كشرط ضروري لاعتماد نظام صرف أكثر مرونة، لكن هذه المرحلة الانتقالية لا تزال جارية، ومن المحتمل أن تبقى أسعار الفائدة مرتفعة لفترة طويلة. وفي ظل هذا السياق، يبقى الفائض الأولي هو أداة التعديل الوحيدة الممكنة.
أهداف مالية طموحة لكن يصعب تحقيقها
إزاء هذا التعقيد، رفع الصندوق سقف طموحاته، مستهدفاً فائضاً أولياً قدره 5% من الناتج المحلي لعام 2026. وهو هدف ضخم يصعب تحقيقه خاصة في ظل بطء تنفيذ الموازنة حالياً.
فوفقاً لبيانات وزارة المالية، لم يتجاوز الفائض الأولي خلال الأشهر الخمسة الأولى من السنة المالية 2024 (تموز/يوليو – تشرين الثاني/نوفمبر) سوى 1% من الناتج، بعيداً عن الهدف المرحلي البالغ 3.5%. كما بقي تنفيذ الاستثمارات العامة محدوداً للغاية.
وقد وعدت الحكومة باتخاذ إجراءات تصحيحية في النصف الثاني من العام، لكنها تواجه تحديات جديدة، أبرزها تراجع عائدات قناة السويس – وهي مصدر رئيسي للإيرادات – نتيجة الهجمات في البحر الأحمر، مع العلم أن القناة تمثل نحو 7% من الإيرادات العامة (بيانات عام 2023).
أما خفض الفائض الأولي المستهدف لعام 2025 من 4.5% إلى 4% فيعكس هذه الصعوبات. أما الهدف البالغ 5% لعام 2026 فيبدو صعب المنال دون تخفيضات كبيرة تمس الأجور، والدعم، والتحويلات الاجتماعية، والاستثمار، ما يعني جهداً هائلاً لشعب أنهكته سنوات من الأزمة.
تعديل مالي تحت ضغط شديد
تقف مصر اليوم عند مفترق طرق. صحيح أن الخروج من أزمة الصرف أعاد بعض الثقة مؤقتاً، إلا أن الأسس المالية ما زالت هشة. ولم يعد التضخم قادراً على إخفاء واقع متمثل في دين متصاعد، ونمو ضعيف، وهوامش مالية آخذة في التقلص.
وبين ضرورة الاستقرار الاقتصادي الكلي، ومتطلبات صندوق النقد، والاعتبارات الاجتماعية، تضطر السلطات إلى الملاحة في ظروف ضبابية إقليمياً وجيوسياسياً. وهكذا، تصبح الموازنة ساحة المواجهة الأساسية، ويغدو الحفاظ على استدامتها مفتاح الاستقرار المستقبلي.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الأخضر يودع الـ50.. تراجع جديد في سعر الدولار اليوم بالبنوك
الأخضر يودع الـ50.. تراجع جديد في سعر الدولار اليوم بالبنوك

صدى البلد

timeمنذ 2 ساعات

  • صدى البلد

الأخضر يودع الـ50.. تراجع جديد في سعر الدولار اليوم بالبنوك

شهد سعر الدولار مقابل الجنيه تراجعًا في 7 بنوك خلال نهاية تعاملات اليوم الأحد 25 مايو 2025، عقب قرار البنك المركزي المصري بخفض سعر الفائدة بنسبة 1% للمرة الثانية على التوالي. سعر الدولار اليوم مصر وفقًا لبيانات البنوك المنشورة على مواقعها الرسمية، سجّل سعر الدولار تراجعًا طفيفًا في عدد من البنوك تراوح بين قرش و6 قروش مقارنة بيوم الخميس الماضي، مع استقرار في بنكين فقط، وارتفاع محدود في بنك قناة السويس. سعر الدولار في البنك اليوم سجل سعر الدولار في البنك الأهلي المصري 49.84 جنيه للشراء و49.94 جنيه للبيع، بتراجع قرش عن الخميس. أما في بنك مصر فجاء السعر 49.84 جنيه للشراء و49.94 جنيه للبيع، في حين سجل السعر ذاته في بنوك القاهرة، الإسكندرية، والتجاري الدولي بنفس معدلات الانخفاض. في بنك كريدي أجريكول، تراجع الدولار إلى 49.80 جنيه للشراء و49.90 جنيه للبيع، بتراجع 4 قروش. سعر الدولار اليوم بنك مصر جاء سعر الدولار في بنك مصر اليوم عند 49.84 جنيه للشراء و49.94 جنيه للبيع، وهو نفس السعر في البنك الأهلي وبنك القاهرة. سعر الدولار اليوم البنك الأهلي استقر سعر الدولار في البنك الأهلي المصري على 49.84 جنيه للشراء و49.94 جنيه للبيع بانخفاض قرش واحد فقط عن تعاملات الخميس الماضي. سعر الدولار اليوم في البنوك بنك البركة: 49.83 جنيه للشراء، و49.93 جنيه للبيع (انخفاض قرشين) بنك قناة السويس: 49.88 جنيه للشراء، و49.98 جنيه للبيع (ارتفاع قرشين) بنك التعمير والإسكان: 49.85 جنيه للشراء، و49.95 جنيه للبيع (استقرار) مصرف أبو ظبي الإسلامي: 49.88 جنيه للشراء، و49.98 جنيه للبيع (تراجع 6 قروش) سعر الدولار اليوم 25 مايو يسجل اليوم الأحد 25 مايو 2025 حالة من التباين الطفيف في أسعار الدولار بين البنوك، مع توجه عام للانخفاض بعد قرار السياسة النقدية بخفض أسعار الفائدة، وهو ما يعزز من قدرة الجنيه المصري على التعافي التدريجي أمام الدولار. سعر الدولار اليوم 25/5 المتغيرات في سعر الدولار بتاريخ 25/5 تشير إلى أن قرار البنك المركزي المصري بخفض أسعار الفائدة إلى 24% للإيداع و25% للإقراض قد بدأ ينعكس فعليًا على سوق الصرف، حيث بدأت أسعار الدولار تتجه للانخفاض بعد موجة ارتفاعات متلاحقة منذ بداية العام. سعر الدولار اليوم في السوق السوداء انتهت السوق السوداء للدولار، مع اعتماد كامل على البنوك الرسمية لتدبير العملة الأمريكية ،، نظرا لجهود البنك المركزي في ضبط سوق الصرف وتوفر الدولار. كم سعر 100 دولار في البنك؟ وفقًا لمتوسط الأسعار في البنوك اليوم، فإن سعر 100 دولار في البنك يصل إلى نحو 4994 جنيهًا عند البيع، ويبلغ 4984 جنيهًا عند الشراء. سعر الدولار اليوم في مصر تحديث يومي تشير التحديثات اليومية لأسعار الدولار في مصر إلى وجود حالة من الاستقرار النسبي في البنوك، مع تراجع تدريجي نتيجة التحركات النقدية للبنك المركزي ونجاح الحكومة في تعزيز تدفقات الدولار من مصادر متعددة. هل يستمر الدولار في التراجع؟ يتوقع محللون ماليون أن يواصل سعر الدولار تراجعه في ظل التزام الحكومة المصرية بسياسات مرنة لجذب الاستثمارات الأجنبية وزيادة الصادرات، إلى جانب تحسن مؤشرات السياحة والتحويلات من الخارج، مما يدعم موقف الجنيه أمام الدولار خلال النصف الثاني من 2025.

بعد قراره منع هارفرد من قبول طلاب أجانب.. هذا ما قاله ترامب
بعد قراره منع هارفرد من قبول طلاب أجانب.. هذا ما قاله ترامب

بيروت نيوز

timeمنذ 5 ساعات

  • بيروت نيوز

بعد قراره منع هارفرد من قبول طلاب أجانب.. هذا ما قاله ترامب

دافع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الأحد، عن قرار إدارته القاضي بمنع الطلاب الأجانب من التسجيل في جامعة هارفرد، وهي خطوة اعتبرتها الجامعة غير دستورية، وأوقفت قاضية تنفيذها مؤقتا. وكتب ترامب على منصته 'تروث سوشال': 'لماذا لا تعلن جامعة هارفرد أن نحو 31 في المئة من طلابها يأتون من دول أجنبية، بينما هذه الدول، وبعضها لا يعتبر صديقا للولايات المتحدة، لا تدفع شيئا مقابل تعليم طلابها، ولا تنوي أن تفعل ذلك'. وأضاف: 'نريد أن نعرف من هم هؤلاء الطلاب الدوليون، وهو طلب منطقي، خصوصا أننا نقدم لهارفرد مليارات الدولارات، لكن الجامعة لا تتسم بالشفافية'، داعيا المؤسسة التعليمية إلى التوقف عن طلب الدعم من الحكومة الفدرالية. وكانت وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم قد أعلنت، الخميس، إبطال الترخيص الممنوح لبرنامج الطلاب وتبادل الزوار الأجانب في جامعة هارفرد. لكن القاضية أليسون باروز في ولاية ماساتشوستس علقت القرار، الجمعة، بعد أن تقدمت الجامعة بدعوى قضائية ضده صباح اليوم نفسه. ويأتي قرار ترامب ضمن سلسلة من الإجراءات التي اتخذها ضد هارفرد، الجامعة التي تخرج منها 162 من الحائزين على جائزة نوبل، والتي يتهمها بأنها معقل لما يسميه 'أيديولوجيا اليقظة' ومعاداة السامية، على حد وصفه. وكانت الحكومة الأميركية قد أوقفت منحا مالية مخصصة لهارفرد تزيد قيمتها على ملياري دولار، ما أدى إلى تجميد عدد من برامج البحوث العلمية. وتستقبل جامعة هارفرد، بحسب موقعها الإلكتروني، نحو 6700 طالب دولي هذا العام، أي ما يعادل 27 في المئة من إجمالي عدد طلابها، وتفرض رسوما دراسية سنوية تُقدّر بعشرات آلاف الدولارات.

الصناعة البيتروكيماويّة... تموضع استراتيجي ومُستقبل واعد للبنان
الصناعة البيتروكيماويّة... تموضع استراتيجي ومُستقبل واعد للبنان

الديار

timeمنذ 5 ساعات

  • الديار

الصناعة البيتروكيماويّة... تموضع استراتيجي ومُستقبل واعد للبنان

اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب يمتلك لبنان قطاعا كيميائيا متخصصا في إنتاج البلاستيك والمستحضرات التجميلية والأدوية والأسمدة والصابون. وبحسب البيانات الاقتصادية المتوافرة، تُقدّر القيمة المضافة الصافية لهذا القطاع بحوالى 450 مليون دولار أميركي في فترة ما قبل الأزمة. وبالتالي يمكن الارتكاز على هذه البنية التحتية الموجودة والخبرة المتوافرة، للتوسع في إنتاج مواد بتروكيماوية التي تتطلّب آليات أكثر تعقيدا، خصوصا أن لبنان يتمتّع بثروة غازية قابعة في المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة له ، والتي تُقدّر بأكثر من مئتي مليار دولار أميركي (بأسوأ الأحوال). هذه الثروة تُعطي لبنان إمكانات طبيعية كبيرة، لإنشاء صناعة بتروكيماوية من باب توفير المواد الخام لصناعة البتروكيماويات، قادرة على المنافسة، وتدرّ أرباحا كبيرة إذا تمّ الاستثمار فيها. الفوائد الناجمة عن الاستثمار في صناعة البيتروكيماويات في لبنان عديدة، على رأسها دخول استثمارات أجنبية مباشرة إلى الماكينة الاقتصادية اللبنانية، ومعها التكنولوجيا والخبرات العلمية العالمية. وهذا الأمر سيكون له تداعيات مباشرة على عدّة أصعدة، منها التحوّل الاقتصادي الاستراتيجي للبنان، من خلال الاستثمار في قطاع استراتيجي فيه الكثير من المنافسة، وهو ما يفرض تموضع محدّد لهذا القطاع في لبنان. أيضا من بين هذه التداعيات التخفيف من الاستيراد، وهو ما يعني توفير كبير في الفاتورة الاستيرادية ومعها توفير في العملة الصعبة، حيث من المتوقّع أن يؤدّي تحويل إنتاج الطاقة من الوقود إلى الغاز الطبيعي (خطوة أولى نحو الصناعات البيتروكيماوية)، إلى توفير مُقدّر بين 1.5 إلى 2 مليار دولار أميركي سنويا. أيضا من التداعيات لدخول الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تمكين القطاع من تصدير منتجات بتروكيماوية تُغطّي حاجات السوق الداخلي وتسمح بالتصدير، وهو ما سيدّر مدخولا سنويا بالعملة الصعبة، مما يعني خفض عجز الحساب الجاري. هذا النمو في قطاع البتروكيماويات سينسحب من دون أدنى شكّ على قطاعات أخرى تعتمد على المنتوجات البتروكيماوية أو داعمة لها، وهو ما سيؤّدي إلى تفعيل ما يُعرف بالتأثير المضاعف في النمو الإقتصادي، وخلق الوظائف التي تُقدّر بالآلاف وحتى عشرات الآلاف، بحسب نسبة الاستثمارات التي يمكن القيام بها، وذلك على فترة تمتد إلى عشرين عاما. وكنتيجة لذلك يزداد الاستهلاك ومعه النمو الاقتصادي، الذي قد يكون مستداما (ضروري للاستقرار النقدي) إذا تمّ تنويع الاقتصاد والتخفيف من الاعتماد على السياحة والخدمات. هذا النمو سيؤدّي بدوره إلى تحسين المالية العامة ، من خلال الضرائب الناتجة من صناعة البتروكيماويات، وبالتالي تقليص العجز واستطرادا الدين العام. تقدير حجم الفوائد بالأرقام مُهمّة صعبة، نتيجة غياب بيانات دقيقة تسمح بمعرفة مستوى الاستثمارات والأسواق المحتملة وكفاءة العمليات التشغيلية، إلا أن هذا الأمر لا يمنع من القيام بمحاكاة تُعطي فكرة عن الفوائد على ثلاثة مستويات: النمو الاقتصادي، التقليل من الاستيراد وخلق الوظائف. المحاكاة التي قمّنا بها هي عبارة عن نموذج أوّلي، أو إطار مبدئي لتأثير تطوير صناعة البتروكيماويات في لبنان، خصوصا في الناتج المحّلي الإجمالي وحجم الاستيراد وعدد الوظائف. وقد تمّ وضع فرضيات لاستخدامها مثل مُعدّل الاستثمارات، عامل مضاعفة الناتج المحلّي الإجمالي (GDP Multiplier)، نسبة الاستبدال للسلع المستوردة (Import Substitution Rate )، عدد الوظائف المخلوقة لكل مليون دولار أميركي استثمار، نمو الناتج المحلي الإجمالي يتناسب طرديا مع مستوى الاستثمار... كما أخذنا بعين الاعتبار كمّية الاستيراد الحالي من المنتجات البتروكيماوية، والناتج المحلّي الإجمالي. نتائج المُحاكاة (أنظر إلى الرسم البياني) تُظهر حتمية النمو الاقتصادي بما يقارب ثلاثة مليارات دولارات أميركية خلال عشرة أعوام (سيناريو مُتحفّظ)، وتوفير في الاستيراد بأكثر من ملياري دولار أميركي، ووظائف بقمية 30 ألف وظيفة على الفترة نفسها. بالطبع هذه المحاكاة تُقدّم إطارا مبدئيا كما سبق الذكر، ويهدف إلى إعطاء فكرة واضحة عن الفوائد بالأرقام، ويمكن استخدامها كنقطة بداية لتطوير نموذج اقتصادي أكثر تطورا يسمح بأخذ القرارات. إذا كان لبنان يمتلك نقاط قوّة لتطوير صناعته البتروكيماوية، منها موقعه الاستراتيجي وامتلاكه ثروة غازية ونفطية مُهمّة، إلا أن تحقيق الفوائد الآنفة الذكر، يتطّلب تحقيق عددٍ من الشروط: - أولا : المضي قدما في عملية التنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان، خصوصا في الرقع رقم 4، و8، و9. وهو أمر ضروري لضمان توفير مصدر خام مستدام لصناعة البتروكيماويات. - ثانيا : العمل على تأمين استثمارات في البنى التحتية الغازية (منشآت استخراج الغاز، خطوط أنابيب، معالجة وتحويل، تخزين..) وهو ما يفرض «شراكات» دولية مع القطاع الخاص. - ثالثا : تحديد تموضع تجاري في السوق نظرًا الى شدّة المنافسة في هذا المجال (خصوصا مع السعودية والإمارات) واستخراج الميزة التفاضلية (الكلفة، الموقع الجغرافي قريبًا من الأسواق...). - رابعا : تحديد الأثر البيئي عملًا بالقانون 444 واستكمالًا تدعيم التشريعات القائمة للمحافظة على البيئة من هذه الصناغات الملوّثة. بالطبع كل هذه هذه العملية مرهونة بالقيام بإصلاحات، لطالما طالب بها المجتمع الدولي كما وحصرية السلاح. وتُعتبر الإصلاحات المالية والقضائية على رأس هذه الإصلاحات، وخصوصا قانون إعادة الانتظام المالي وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، واستقلالية القضاء، ومكافحة الفساد. أضف إلى ذلك أن مثل هذه العملية تُشكّل تحولا استراتيجيا في الاقتصاد اللبناني، وبالتالي تحتاج إلى أفق زمني بعيد. من هنا ضرورة التحلّي بصبر استراتيجي على صعيد التخطيط الاقتصادي. في الختام، يمتلك لبنان إمكانات طبيعية لإنشاء صناعة بتروكيماوية تفرض عليه الاستفادة منها، وتحويلها إلى واقع اقتصادي ملموس. هذا الواقع الاقتصادي الملموس لا يمكن أن يرى النور، إلا بوجود إرادة سياسية واضحة وتخطيط دقيق للمستقبل، من خلال رؤية واضحة لدور لبنان الاقتصادي في النشاط الاقتصادي العالمي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store