
قراءة في أسباب التعطيل الحضاري للعرب
الإرث الثقيل لما بعد الخلافة
منذ سقوط الخلافة العثمانية، والمنطقة تعيش حالة من التمزق الثقافي والهُوياتي، غذّاها الاستعمار بإحياء النزعات العرقية والمذهبية والقومية، لتفتيت ما تبقى من الوحدة الجامعة، ومهما كانت مآخذنا على تجربة الخلافة، فإنها شكلت حاجزًا أمام التغلغل الكامل للمشروعات الغربية، وغيابها ترك فراغًا لا يزال أثره قائمًا حتى اليوم!
التبعية الفكرية واستيراد الأيديولوجيات
أدى الانبهار الأعمى بالتجربة الغربية إلى استيراد أنماط فكرية وسياسية كاملة، دون تمحيص أو تكييف، منذ بدايات القرن التاسع عشر، فقد ساهمت البعثات التعليمية إلى أوروبا- التي أطلقها محمد علي باشا- في نقل رؤية غربية للنهضة، لكنها كانت مشبعة بروح التغريب، مما عزز الفجوة بين الأصالة والمعاصرة، ومع مرور الوقت سادت أطروحات تُحمّل الدين مسؤولية التخلف، دون الالتفات إلى السياق التاريخي والسياسي الذي عاشته الأمة.
القوالب الجاهزة: عندما يصبح الاستيراد بديلاً عن الإبداع
انتشرت الأفكار الغربية في العالم العربي عبر التعليم والإعلام، في ظل غياب حصانة فكرية راسخة، ما جعل المجتمعات تتعامل مع كل وافد جديد بوصفه رمزًا للتقدم والتحضر، ولأن نموذج "النهضة الأوروبية" كان حاضرًا في الذهن العربي كقصة نجاح مطلقة، جرى التماهي معه دون نقد، رغم اختلاف السياقات والمرجعيات!
ظهور الجماعات المتطرفة لم يكن حدثًا بلا سياق؛ فالكبت السياسي، وغياب العدالة، وانسداد أفق التغيير، ساهم في دفع بعض الشباب نحو خيارات حادّة، وإنكار هذا السبب الجذري يبقي الأزمة مستمرة في أزماتها
الأنظمة والدولة الوطنية: بين السلطة والهوية
ساهمت قوى الاستعمار، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تشكيل أنظمة حكم استبدادية في العالم العربي، وجعلت من "الوطنية" مفهومًا يُعاد تعريفه ليخدم فكرة التقسيم أكثر من وحدة الشعوب، حيث أصبحت الحدود التي رسمتها اتفاقيات سايكس بيكو بمثابة مقدسات، تُسفك من أجلها الدماء، بينما تراجعت مفاهيم الأمة الجامعة والمسؤولية المشتركة، وهذا كان سببًا كافيًا للابتعاد عن اليقظة.
أزمة المواجهة: وعظ بلا مشروع
أمام تغوّل التغريب، اكتفى كثير من المصلحين بردود فعل وعظية، تفتقر إلى العمق المنهجي، والمبادرة العملية، والعمل الجماعي. وانتشرت ثقافة الانتظار والتمني بدل المبادرة والتخطيط، وغابت نماذج النهوض الفعلي لصالح الاستغراق في الحنين أو الخطابة.
الجهاد والالتباس الحضاري
أثّرت الضغوط الدولية، وتبدُّل أولويات بعض الحركات الفكرية، في تغييب فريضة الجهاد عن الخطاب العام، أو تهميشها، بل وجعلها محلّ تهمة وريبة، وتحوّل دور كثير من المفكرين والعلماء إلى الدفاع المستمر ضد الشبهات في موقف دفاعي دائم، بدل المبادأة الفكرية، وهو ما أضعف الحضور الحضاري للفكرة الإسلامية.
عنف ناتج عن انسداد سياسي
ظهور الجماعات المتطرفة لم يكن حدثًا بلا سياق؛ فالكبت السياسي، وغياب العدالة، وانسداد أفق التغيير، ساهم في دفع بعض الشباب نحو خيارات حادّة، وإنكار هذا السبب الجذري يبقي الأزمة مستمرة في أزماتها، كما أن التعامل مع التطرف باعتباره حالة طارئة فقط، دون معالجة جذور الغضب، يُبقي الباب مفتوحًا لتكراره.
الطريق إلى مشروع نهضوي لا يبدأ بالخطاب وحده، بل يتطلب بنية فكرية متماسكة، ومشروعًا عمليًّا، وفهمًا دقيقًا للواقع.. الوعي لا يُستورد، ولا يُمنح، بل يُصنع بالتراكم، والنقد، والعمل الجماعي طويل النفس
صناعة الوعي الزائف
تروّج وسائل الإعلام، بشكل ممنهج، لرموز فنية وترفيهية بوصفها "نموذجًا للنجاح" و"صوتًا للحرية"، في حين يتم تهميش الرموز الفكرية الحقيقية، أو تشويهها، كما تسهم بعض الكتب والروايات السطحية، والبرامج التي تُروّج للفردانية والراحة النفسية تحت شعار "التنمية البشرية"، في خلق حالة من الانفصال عن الواقع والمجتمع، ما يُضعف الحسّ الجماعي ويُكرّس العزلة.
علماء بلا مشروع
في ظل هذا الواقع، ظهرت فئة من "العلماء الرسميين"، ممن جرى تقديمهم إعلاميًّا بوصفهم ممثلي الدين، دون أن يحملوا مشروعًا إصلاحيًّا حقيقيًّا، ما زاد من التباس الصورة لدى عامة الناس، وساهم في تفريغ الدين من جوهره التغييري.
الحاجة إلى يقظة واعية
الطريق إلى مشروع نهضوي لا يبدأ بالخطاب وحده، بل يتطلب بنية فكرية متماسكة، ومشروعًا عمليًّا، وفهمًا دقيقًا للواقع.. الوعي لا يُستورد، ولا يُمنح، بل يُصنع بالتراكم، والنقد، والعمل الجماعي طويل النفس. ومهما تعدّدت العوائق، فإن أول خطوة للتغيير تبدأ من تسمية الأشياء بأسمائها، وبناء وعي جمعي لا يخاف من طرح الأسئلة الكبرى، ولا يرضى بالأجوبة الجاهزة، ويبني نفسه من الداخل مستفيدًا من تجارب الآخرين دون تقليد ولا ذوبان.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 15 ساعات
- الجزيرة
الحضارة الغربية: أنطولوجيا السيطرة وفقدان الإنسانية
تتميز الحضارة الغربية بنظام معرفي وأنطولوجي يقوم على تقديس العقلانية الآلية، الفردانية، والسيطرة على الطبيعة والإنسان. هذا النظام، الذي تبلور عبر قرون من الاستعمار والرأسمالية، يختزل الوجود الإنساني إلى أداة في خدمة التقدم المادي. يمكننا أن نرى في دعم القوى الغربية للكيان امتدادا لهذا النظام، حيث يجسد الكيان مشروعا استعماريا استيطانيا يهدف إلى إعادة تشكيل العالم العربي وفقا لقيم السيطرة والاستغلال. "طوفان الأقصى" ليست مجرد عملية عسكرية، بل هي لحظة أنطولوجية تعيد طرح السؤال عن معنى الوجود الإنساني في عالم ينكر حق الشعوب المضطهدة في تقرير مصيرها مارتن هايدغر، في كتابه الوجود والزمان (1927)، يحذر من "نسيان الوجود" في الحداثة الغربية، حيث يصبح الإنسان أداة في نظام تكنولوجي يهيمن على كل شيء. في هذا السياق، يمثل الدعم الغربي للكيان نسيانا للوجود الفلسطيني، إذ يختزل الشعب الفلسطيني إلى مجرد "مشكلة أمنية" تبرر القمع ضدها. هذا الاختزال يكشف عن أزمة أنطولوجية في الحضارة الغربية: عدم قدرتها على الاعتراف بالإنسان ككائن يحمل كرامة جوهرية، خاصة عندما يتعارض ذلك مع مصالحها الإستراتيجية. إن هذه الأزمة تتجلى في التناقض بين القيم المعلنة للحضارة الغربية، مثل الحرية وحقوق الإنسان، وممارساتها الفعلية، التي تتجاهل القمع المنهجي ضد الفلسطينيين، من حصار اقتصادي إلى تدمير ممنهج للبنية التحتية. هذا التناقض ليس سياسيا فحسب، بل هو انهيار أخلاقي يسائل قدرة الحضارة الغربية على الحفاظ على إنسانيتها في ظل منطقها الهيمني. "طوفان الأقصى" ليست مجرد عملية عسكرية، بل هي لحظة أنطولوجية تعيد طرح السؤال عن معنى الوجود الإنساني في عالم ينكر حق الشعوب المضطهدة في تقرير مصيرها. هذه العملية، تجسد رفضا لاختزال الفلسطينيين إلى ضحايا سلبيين، وتؤكد على إرادتهم كفاعلين أخلاقيين وسياسيين. إنها لحظة تتحدى منطق السيطرة الغربي، الذي يبرر القمع باسم الأمن، وتعيد صياغة الصراع كصراع على الكرامة الإنسانية. إعلان في هذا السياق، يمكننا أن نرى في "طوفان الأقصى" فعلا وجوديا يشبه ما وصفه جان بول سارتر في الوجودية -مذهب إنساني- بالحرية كجوهر للوجود الإنساني. المقاومة الفلسطينية، من خلال هذه العملية، تؤكد على حريتها في مواجهة القمع، ليس فقط من خلال القوة، بل من خلال إبداع إستراتيجي كشف هشاشة النظام الأمني للكيان. هذا الفعل ليس مجرد تحدٍّ مادي، بل هو إعلان عن أن الوجود الفلسطيني هو وجود أخلاقي يرفض الخضوع لمنطق الإبادة الثقافية والمادية. إن التعاطف الغربي المتزايد مع القضية الفلسطينية يشير إلى أن المقاومة نجحت في تحويل الصراع إلى سؤال إنساني عالمي: كيف يمكن للإنسانية أن تتعايش في عالم يحترم الكرامة بدلا من الهيمنة؟ صدمة الغرب: التعاطف الشعبي كإجازة للطوفان إحدى أعمق إجازات "طوفان الأقصى" هي الصدمة التي أصابت النخب الغربية نتيجة التعاطف المتزايد من مواطنيها مع القضية الفلسطينية. هذا التعاطف، الذي تجلى في مظاهرات حاشدة في عواصم مثل باريس، لندن، ونيويورك، وفي الحركات الشعبية التي دعت إلى وقف العنف ضد الفلسطينيين، يشكل تحديا أنطولوجيا للخطاب الغربي المهيمن. إن هذه الظاهرة تظهر أن المواطنين الغربيين، وخاصة الشباب والمثقفين، بدؤوا يرفضون الرواية الرسمية التي تصور المقاومة الفلسطينية كـ"إرهاب"، ويدركون السياق التاريخي للقمع الذي يواجهه الفلسطينيون. هذا التعاطف ليس مجرد رد فعل عاطفي، بل هو انعكاس لأزمة أخلاقية داخل المجتمعات الغربية. إنه يبرز وجود صدع في المنظومة الأيديولوجية الغربية، حيث بدأ المواطنون يسائلون تناقضات قيمهم المعلنة. على سبيل المثال، كيف يمكن لمجتمعات تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان أن تبرر دعم كيان يمارس قمعا منهجيا؟ إن هذه الصدمة تظهر أن "طوفان الأقصى" نجح في اختراق الحواجز الثقافية والأيديولوجية، مما جعل القضية الفلسطينية قضية إنسانية عالمية تتحدى منطق الهيمنة الغربية. تقدم المقاومة الفلسطينية، و"طوفان الأقصى" كتجلٍّ لها، رؤية أنطولوجية بديلة تستند إلى قيم التضامن، الصمود، والعدالة. هذه الرؤية تتحدى المنطق الغربي الذي يختزل الوجود إلى السيطرة المادية، وتؤكد على أن الإنسانية تقاس بقدرتها على الدفاع عن الكرامة في وجه الظلم. إن هذه القيم، التي تتجذر في التراث العربي والإسلامي، تجسد مفهوما للوجود يرفض الفردانية المادية ويعزز التكافل الجماعي. يمكننا أن نرى في هذه الرؤية تأثيرا لفكرة إيمانويل ليفيناس في الكلية واللانهائية، حيث يؤكد على أن الأخلاق تبدأ من الاعتراف بالآخر ككائن يستحق الاحترام المطلق. المقاومة الفلسطينية، من خلال "طوفان الأقصى"، تجسد هذا الاعتراف بأن الكرامة الفلسطينية هي جزء لا يتجزأ من الإنسانية. إنها ترفض اختزال الفلسطينيين إلى تهديد وتطالب بإعادة تعريف العلاقة بين الذات والآخر بعيدا عن منطق الهيمنة. علاوة على ذلك، تظهر العملية نضجا أنطولوجيا في قدرتها على تحدي التفوق المادي للكيان وداعميه. من خلال كشف هشاشة النظام الأمني، أعادت المقاومة صياغة الصراع كسؤال عن معنى الوجود في ظل القمع. هذا النضج يعكس تحولا من المقاومة كفعل دفاعي إلى مشروع حضاري يقدم رؤية لعالم يحترم الكرامة بدلا من القوة. طوفان الأقصى أثبت أن المقاومة قادرة على إحداث تأثير أنطولوجي عميق، من خلال إلهام حركات شعبية عالمية وكشف تناقضات النظام الغربي. إن التعاطف الغربي المتزايد مع القضية الفلسطينية يشير إلى أن المقاومة نجحت في تحويل الصراع إلى سؤال إنساني عالمي: كيف يمكن للإنسانية أن تتعايش في عالم يحترم الكرامة بدلا من الهيمنة؟ في المستقبل، يمكن أن تشكل هذه اللحظة بداية لتحول حضاري أوسع، حيث تلهم المقاومة الفلسطينية شعوبا أخرى لرفض منطق السيطرة وبناء عالم يقوم على العدالة. لكن هذا يتطلب استمرار الصمود، وتوحيد الجهود الداخلية، واستثمار التعاطف الدولي لخلق ضغط أخلاقي وسياسي على النظام العالمي. إن "طوفان الأقصى" ليس مجرد حدث، بل هو لحظة أنطولوجية تعيد طرح السؤال عن معنى الإنسانية في عالم تهيمن عليه الحضارة الغربية بمنطقها السيطري. من خلال تحديها للكيان وداعميه، وإلهامها لتعاطف عالمي غير مسبوق، تبرز المقاومة الفلسطينية تناقضات النظام الغربي وتقدم رؤية بديلة تستند إلى الكرامة والعدالة. هذه اللحظة تذكرنا بأن المقاومة، في جوهرها، هي فعل وجودي يسعى إلى استعادة المعنى في عالم فقد بوصلته الأخلاقية. إن "طوفان الأقصى" ليس نهاية الصراع، بل بداية لتأمل عميق في إمكانية بناء عالم يحترم الإنسان كغاية في ذاته.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
مشروع قانون فرنسي لتسريع إعادة منهوبات الحقبة الاستعمارية
أعلنت الحكومة الفرنسية عن مشروع قانون جديد يهدف إلى تسريع استعادة الممتلكات الثقافية التي نُهبت خلال الحقبة الاستعمارية، وذلك من خلال تبسيط الإجراءات القانونية وإشراك خبراء من فرنسا ومن الدول المعنية. ويأتي هذا المشروع في إطار توجه رسمي لمعالجة ملف الموروث الثقافي المنهوب، خصوصًا من الدول الأفريقية، إذ ينص القانون على تسهيل إعادة الأعمال الفنية والمقتنيات التاريخية إلى "الدول التي حُرمت منها نتيجة الاستيلاء غير المشروع" بين عامي 1815 و1972، وفقا لوزارة الثقافة الفرنسية. استثناء من مبدأ "عدم قابلية التصرف" ينص مشروع القانون على استثناء خاص من مبدأ "عدم قابلية التصرف" الذي يحكم المجموعات الوطنية الفرنسية، مما يتيح إخراج الأعمال من هذه المجموعات في حال ثبوت أنها حصلت نتيجة "سرقة أو نهب أو تنازل تم تحت الإكراه أو العنف، أو من جهة لا تملك الحق في التصرف بها". وبموجب النص الجديد، لن تتطلب عملية الاستعادة سن قانون خاص لكل حالة، بل ستتم عبر مرسوم يصدر عن مجلس الدولة الفرنسي، بعد استشارة لجنة علمية ثنائية عند الحاجة. وتُكلف هذه اللجنة بتوثيق ودراسة مدى شرعية امتلاك فرنسا لتلك الأعمال، بمشاركة خبراء ومؤرخين من الجانبين الفرنسي والدولة المطالبة بالاستعادة. اختيار الفترة بين 1815 و1972 اختارت الحكومة الفرنسية الفترة الممتدة بين عامي 1815 و1972 كإطار زمني للمراجعة، حيث يمثل العام الأول بداية حركة أوروبية لإعادة الأعمال المنهوبة خلال الحروب النابليونية، في حين يشير العام الأخير إلى بدء تطبيق اتفاقية اليونسكو الدولية لحماية الممتلكات الثقافية من الاتجار غير المشروع.


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
الوقفة الشجاعة لحزب النهضة في تونس
تعيش حركة النهضة التونسية لحظة مفصلية تتقاطع فيها أزمتها الداخلية مع أزمة البلاد بعد انقلاب 25 يوليو/ تموز، مما يجعل من تجديدها الذاتي ضرورة حزبية ووطنية في آن واحد. فالرهان لم يعد فقط على تغيير الأشخاص، بل على مراجعة شاملة للفكرة، والهوية، والأداء السياسي، من خلال دمج الطاقات الشبابية والنسائية، وتحديث القيادة، والانتقال من الخطاب إلى البرامج. ويمكن للنهضة، إن اختارت هذا المسار بجدية، أن تتحول من حزب مأزوم إلى قوة وسطية ديمقراطية محافظة تساهم في ملء الفراغ السياسي، وتدعم إعادة تأسيس الحياة السياسية، وتكون جزءا من الحل لا من الأزمة. إنها لحظة مراجعة مسؤولة، وفرصة لإعادة صياغة المشروع على أسس واقعية ومنفتحة، تواكب تطلعات المجتمع وتحترم مكتسبات الديمقراطية. منذ نشأتها في سبعينيات القرن الماضي، شكلت حركة النهضة تجربة فريدة ضمن مشهد الحركات الإسلامية في العالم العربي. فقد حاولت الربط بين الإسلام والديمقراطية، وبين القيم الدينية والعمل السياسي، في بلد يشهد تحولات اجتماعية وثقافية عميقة. ورغم سنوات القمع في عهدي بورقيبة وبن علي، فقد تمكنت الحركة من الصمود والعودة بقوة بعد الثورة، لتصبح واحدة من أهم الفاعلين في الساحة السياسية الجديدة. لكن الواقع السياسي بعد أكثر من عقد على الثورة أظهر أن رصيد النهضة النضالي لم يكن كافيا لمواصلة التأثير والقيادة. فقد أصاب مشروعها الكثير من الجمود، وغابت عنه القدرة على تجديد أدواته وخطابه، ما جعله يبدو، في نظر الكثيرين، وكأنه فقد صلته بالمجتمع وبالواقع الجديد. من الأزمة التنظيمية إلى الأزمة الوجودية من السهل إرجاع تراجع النهضة إلى عوامل خارجية مثل انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021، الحملة على الإسلاميين، التضييقات الإعلامية والقضائية. نعم، كلها وقائع لا يمكن إنكارها، لكن الحقيقة الأكثر إيلاما أن جزءا كبيرا من الأزمة هو داخلي: أزمة قيادة، أزمة خيال سياسي، وأزمة جرأة على المراجعة. لقد طغى على الحركة في السنوات الأخيرة منطق الإدارة البيروقراطية على حساب الحيوية الفكرية والتنظيمية. كما تحول المؤتمر الحادي عشر، الذي كان يُفترض أن يكون محطة للتجديد، إلى أداة تأجيل وتدوير للمشكل، لا لحله. وبات من الواضح أن النهضة اليوم ليست فقط مطالبة بتغيير الأشخاص أو توزيع المهام، بل بمساءلة مشروعها نفسه: لماذا تستمر؟ وبأي مضمون؟ ولمن؟ بين الفكرة والتنظيم: هل من أفق جديد؟ عانى مشروع النهضة من أزمة تعريف: هل هو حزب مدني بمرجعية إسلامية؟ حركة قيمية؟ أم إطار سياسي بهوية ثقافية؟ غموض هذه الهوية أثر في الخطاب وأربك الجمهور. فبين محاولة كسب ثقة الداخل وطمأنة الخارج، ضاعت البوصلة. هناك حاجة ماسّة اليوم إلى إعادة تعريف مشروع النهضة على أسس جديدة، تتجاوز ازدواجية الحركة والحزب، وتتبنى بوضوح تموضعا كـ"حزب محافظ وسطي" يعبر عن شريحة اجتماعية واسعة، تؤمن بالقيم وتطمح إلى التقدم، وتحترم مؤسسات الدولة دون قطيعة مع الموروث. تجديد يتجاوز الأشخاص إلى الفكرة التجديد ليس مجرد شعار أو تبادل مواقع، بل هو مراجعة شاملة للفكرة والأسلوب، وهو كذلك فعل جماعي لا نخبوي، تشارك فيه مختلف مكونات الحزب: الشباب، النساء، الكفاءات المهمشة، والجهات التي طال تهميشها لصالح المركز. لقد أثبتت تجارب سابقة داخل النهضة نفسها أن الدفع بوجوه جديدة إلى الصفوف الأولى لا يقتصر على إرضاء التوازنات الداخلية، بل هو شرط ضروري لتحديث المشروع وتجاوز الإرث التنظيمي الثقيل. والتجديد أيضا لا يمكن أن ينتظر مؤتمرات مؤجلة، بل يبدأ من القواعد، من العمل المحلي، من لجان التفكير، ومن منصات التواصل الجديدة التي باتت فضاءات إنتاج سياسي موازية لا تقل أهمية عن الهياكل الرسمية. معادلة الرمزية التاريخية وضرورة التجديد القيادي لا يمكن الحديث عن تجديد النهضة دون التوقف عند المسألة القيادية التي أصبحت اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. تمتلك النهضة زخما رمزيا كبيرا يتجلى أساسا في شخصية زعيمها راشد الغنوشي، أحد مهندسي المشروع وواجهاته الفكرية والسياسية منذ التأسيس. لعب الغنوشي دورا محوريا في ترسيخ التوجه الديمقراطي داخل الحركة وفي حماية مسار الانتقال بعد الثورة. لكن الزمن السياسي يفرض اليوم معادلة جديدة تقوم على الموازنة بين الحفاظ على هذا الرصيد الرمزي الذي لا يمكن إنكاره أو الزهد فيه، وضرورة فتح المجال أمام قيادات شبابية تعبر عن المتغيرات داخل الحركة والمجتمع، وتعكس تطلعات الأجيال القادمة. لم يعد الانتقال القيادي والجيلي مطلبا تنظيميا فقط، بل أصبح شرطا لبقاء المشروع نفسه. والبحث عن صيغة ذكية ومرنة تمكن النهضة من الاستفادة من تجربة قيادتها التاريخية، دون أن تبقى أسيرة لها، هو مفتاح من مفاتيح الإنقاذ والتجديد. فالحركات التي تتجدد دون أن تتنكر لذاكرتها، هي وحدها القادرة على الجمع بين الوفاء للماضي والانفتاح على المستقبل. الشباب والمرأة والكفاءات: قوى التغيير الحقيقي لا يمكن لأي تجديد حقيقي داخل النهضة أن يتم دون تمكين فعلي ودائم للشباب والنساء والكفاءات، ليس بوصفهم "زينة تنظيمية"، بل باعتبارهم قوى تغيير حقيقية طال تهميشها. فالحركة لطالما عُرفت تاريخيا بديناميكيتها الشبابية، خصوصا من خلال فصيلها الطلابي الذي لعب دورا محوريا في تطوير خطابها وتجديد أدواتها، لا سيما في فترات الحصار والمراجعة. كما كانت مشاركة المرأة في النهضة، على امتداد عقود، جزءا من تميزها داخل الحركات الإسلامية. اليوم، تعج النهضة بطاقات شبابية ومهنية ناضجة، قادرة على تقديم رؤى جديدة، وتحويل مسار الحزب من حالة الاستنزاف إلى حالة إبداع سياسي. المطلوب هو انتقال قيادي وجيلي سلس، يعطي لهذه القوى موقع القرار، ويكسر الحلقات المغلقة التي عطلت التجديد لعقود. فبدون هذه الطاقات، لن تتجدد الفكرة، ولن تتغير الأداة، ولن تستأنف النهضة مسارها كقوة سياسية حية ومواكبة لعصرها. تجديد الأداء القيادي والبرامج القابلة للتنفيذ لعله من أبرز ملامح الجمود داخل النهضة في السنوات الأخيرة، غياب التطوير في الأداء القيادي من حيث الفهم العميق للتحولات، والقدرة على التحليل والاستشراف، ثم ترجمة ذلك إلى تخطيط عملي وتنفيذ ناجع. فقد بقيت الكثير من الخطابات أسيرة العناوين الكبرى والمبادئ العامة، دون أن تتحول إلى سياسات ملموسة أو برامج تنموية قابلة للقياس والتطبيق. لا يقتصر التحدي اليوم على طرح أفكار جديدة، بل على الارتقاء بالأداء السياسي إلى مستوى يواكب تعقيد الواقع التونسي، من خلال توظيف أدوات التفكير الإستراتيجي، والعمل البرنامجي، وبناء فرق عمل متخصصة تتقاطع فيها السياسة مع الاقتصاد، والتنمية، والتعليم، والبيئة. هذا الانتقال من "الخطاب" إلى "البرنامج"، ومن "التصريحات" إلى "الحلول"، هو ما سيعيد للنهضة موقعها كقوة فاعلة قادرة على التأثير في الواقع، لا مجرد التفاعل معه. المشهد التونسي بحاجة إلى قوى وسطية ديمقراطية متزنة تعيش تونس اليوم فراغا سياسيا حقيقيا. يكشف السياق الوطني الأوسع عن فراغ سياسي مقلق. فقد تآكلت الثقة في الطبقة السياسية وفي النخب عامة، وبات المشهد العام أسيرا لاستقطاب ثنائي بين شعبوية سلطوية من جهة، وخطاب نخبوي منفصل عن الواقع من جهة أخرى. في هذا السياق، تبدو تونس في حاجة ملحة إلى توسيع قاعدة الوسط السياسي الديمقراطي، وهو الوسط الذي يمكن أن يعبر عن الأغلبية الصامتة من التونسيين: محافظين اجتماعيا، منفتحين سياسيا، رافضين للتطرف، وقلقين من الاستبعاد والاستقطاب. توسيع هذا الوسط ليس خيارا نخبويا، بل ضرورة وطنية لحماية المسار الديمقراطي وضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي. يمكن لحركة النهضة، إن اختارت فعليا طريق التجديد الجاد، أن تساهم في ملء هذا الفراغ وبناء هذه الحالة الوطنية، لا بوصفها الحزب "الإسلامي" الوحيد، بل عبر تقديم نفسها قوة وطنية محافظة وواقعية، وحزبا وطنيا محافظا، يحمل مشروعا اجتماعيا واقتصاديا واقعيا، ويعيد للعمل السياسي معناه الأخلاقي والمؤسساتي، يلتزم بالديمقراطية ويدافع عن الحريات ويعمل من داخل الدولة، لا على هامشها. بهذا المعنى، يمكن أن تكون النهضة جزءا من حل الأزمة السياسية في تونس، لا امتدادا لمشكلاتها. تجديد النهضة كجزء من استعادة الديمقراطية لا يمكن فصل أزمة النهضة عن الأزمة الوطنية العامة التي تعيشها تونس منذ انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021. لكن من الخطأ التعامل مع الانقلاب فقط كسبب خارجي يبرر الإخفاقات، إذ إن أحد دروس ما بعد الانقلاب هو أن استعادة الديمقراطية لا تمر فقط عبر مقاومة الاستبداد، بل أيضا من خلال تجديد عميق للمشهد الحزبي والسياسي، وتجاوز عجز النخب عن تجديد أدواتها وخطاباتها. في هذا الإطار، يجب على النهضة أن تنظر إلى مسار التجديد ليس فقط كحاجة داخلية، بل كمساهمة ضرورية في إعادة تأسيس الحياة السياسية على أسس ديمقراطية وتعددية أكثر نضجا. فالانقلاب، رغم كلفته السياسية والمؤسساتية، كشف حدود التجربة السابقة، وفتح- لمن أراد أن يقرأ- فرصة للتفكير في التغيير الجذري، لا في حدود النهضة فقط، بل على مستوى الخريطة السياسية برمتها. ومتى التقت مراجعة الذات الحزبية بإرادة وطنية جماعية للتصحيح، يمكن حينها الحديث عن بداية خروج حقيقي من الأزمة. لحظة مفصلية في تاريخ الحزب وفي مستقبل البلاد لا يحتمل الوضع الراهن مزيدا من الانتظار. فالتاريخ السياسي مليء بأحزاب سقطت لأنها لم تواكب التحولات، واختارت الدفاع عن الماضي بدل الاستثمار في المستقبل. تقف النهضة اليوم أمام خيارين: إما أن تثور على ذاتها، أو تتحول إلى مجرد أثر سياسي في ذاكرة الانتقال الديمقراطي. المطلوب مراجعة شجاعة ومسؤولة تعيد المشروعَ إلى سكته الأصلية: مشروعًا سياسيًا وطنيًا، ينطلق من المجتمع، ويتفاعل مع العصر، ويخدم الدولة لا الجماعة. رغم ما تمر به من أزمة، لا تزال لدى النهضة إمكاناتٌ هائلة كامنة: رصيد نضالي، تنظيم منضبط، حضور رمزي في وجدان شريحة واسعة من التونسيين. لكنها إمكانات قابلة للتآكل إذا لم تُرفد بفكر جديد وروح متجددة. لا شك أن النهضة قادرة على التجدد، لكن ذلك يتطلب شجاعة الاعتراف بأخطاء الماضي، والجرأة على القطيعة مع ما لم يعد صالحا، والرغبة الحقيقية في الانفتاح على جيل جديد من الكفاءات والقيم والأولويات. فتونس لا تحتاج إلى نسخة مكررة من الأحزاب التقليدية، بل إلى حزب يعبر عن روحها المحافظة المنفتحة، ويعيد إلى السياسة معناها الأخلاقي والبراغماتي في آن واحد. وحركة النهضة، إن اختارت هذا المسار، قد تكون قادرة على لعب دور أساسي في ترميم الحياة السياسية، واستعادة التوازن، وتجديد الأمل في العمل الحزبي كأداة إصلاح، لا مجرد وسيلة للسلطة. النهضة، مثل تونس، تقف على حافة مرحلة جديدة. فإما أن تكتب فصلها القادم بعقلانية وشجاعة، أو تُترك للتاريخ كفرصة ضاعت حين لم يُحسن أصحابها قراءتها.