
الكلّ في انتظار ترامب
بقلم: طلال عوكل
يمكن للمراقبين والمحلّلين أن يمضوا في تحليلاتهم وتوقّعاتهم وتقييماتهم للآثار التي ترتّبت عن مجريات حرب الإبادة، والحروب العنصرية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزّة خصوصاً، يمكن لهؤلاء أن يتحدّثوا عن الزلزال التي أحدثته غزّة على المستوى العالمي، وما نجم عن ذلك الزلزال المستمرّ من إنجازات تاريخية عظيمة، كما يمكن لآخرين أن يتحدّثوا عن نكبة ربما أكثر إيلاماً من نكبة العام 1948، وأن يكثروا في تحميل المقاومة الفلسطينية المسؤولية عن ذلك.
لقد هزمت السردية الفلسطينية السردية الإسرائيلية، وأطاحت بها على نطاق واسع، ولكن ثمّة ما يستدعي من الكلّ العمل بما يتجاوز الإدانة والاستنكار من أجل وقف هذه الحرب العدوانية المجنونة، وإدخال المساعدات بكل أشكالها وأنواعها لأهالي القطاع، وعلى نحو عاجل.
وفيما يحذّر الكثير من المسؤولين الأمميّين والنشطاء والسياسيين، من الاقتراب أكثر من مرحلة المجاعة، فإن الوقائع على الأرض تتحدّث بوضوح شديد عن أن الناس دخلوا مرحلة المسغبة منذ أسابيع، بلغني أن الناس بدأت في خلط المعكرونة مع البرغل وقليل من الدقيق لصناعة الخبز، وحين اختفى البرغل أخذوا يستبدلونه بالعدس الأصفر (المجروش)، مع أنّ أسعار هذه المواد غالية جداً، ولم تعد في متناول أيدي مئات الآلاف فضلاً عن أنها أصبحت شحيحة.
بكى صديقي العزيز، صاحب الدمعة المتحجّرة، حين سألته عن كيفية تدبُّر أمور الطعام، وبكت زوجته ابنة مخيم تل الزعتر – لبنان، التي عاشت مذبحة ذلك المخيم في (12-8-1976)، إبّان الحرب الأهلية اللبنانية.
من مفارقات الزمان، أن يتّفق مئات آلاف الإسرائيليين ممّن يتظاهرون، كل يوم، مع الفلسطينيين في القطاع، فالطرفان يطالبان بوقف الحرب كل لأسبابه، وينتظران الحلّ من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ربما من الطبيعي أن يطالب إسرائيليون ترامب بالتدخّل ويراهنون عليه لوقف جنون حكومتهم العنصرية المتطرفة، ولكن من غير الطبيعي، وإن كان منطقياً، أن يراهن الفلسطينيون على ترامب لوقف مجزرة الإبادة، والتدمير، والتجويع، وسياسة التعطيش التي تنتهجها دولة الاحتلال في القطاع.
لقد أبدى الفلسطينيون خشيتهم من وصول ترامب إلى البيت الأبيض، فهو من اتخذ قرار نقل سفارة بلاده إلى القدس، التي أعلن اعترافه بسيادة دولة الاحتلال عليها.
في نظر الفلسطينيين، فإن شخصية وسياسة ترامب تتماهى مع شخصية وسياسة نتنياهو، وكلاهما يتّسم بالتطرف الشديد تجاه القضية الفلسطينية وشعبها.
هذا التلاقي بين جمهور واسع من الإسرائيليين، وآخر واسع من الفلسطينيين ليس في غزّة وحسب، ينطوي على فقد الأمل بالمؤسسات الدولية، وبالمنظومة العربية والإسلامية التي عقدت قمتين خلال حرب الإبادة، دون أن تخرج قراراتها من القاعات التي جمعتهم.
إذا كان العرب والمسلمون لا يعترفون بتقصيرهم وعجزهم وتواطؤهم، ويغطّون ذلك بفيضٍ من التصريحات والبيانات، والمتحدثين الرسميين، وأكاذيب الإعلاميين، فإن جوزيب بوريل، المسؤول السابق عن السياسة الخارجية والأمن للاتحاد الأوروبي، قد تجرّأ على قول الحقيقة أو جزء منها، نصف القنابل التي تسقط على رؤوس الغزّيين هي أوروبية، وأن أوروبا مقصّرة ولم تبذل جهداً لوقف حرب الإبادة الجماعية، كما صرّح بذلك بوريل.
أوروبا تشهد المزيد من المطالبات التي تتقدّم بها دول أعضاء في الاتحاد لمراجعة اتفاقيات الشراكة التجارية مع دولة الاحتلال، التي تنتهك شروط الاتفاقية، وبعضها مثل فرنسا، ومن خارج الاتحاد بريطانيا، لا تزال متردّدة في الاعتراف بدولة فلسطين.
يبدو أن مفتاح السرّ موجود لدى واشنطن، فإن فعلت لحقت بها الكثير من الدول الأوروبية، ودول العالم.
ترامب الذي يعتمد سياسة قفزات الكنغر، لا يزال يلقي بمفاجآته التي يرهق المحلّلين والمتابعين في معرفة أو التقرّب من معرفة كنهها.
لعلّ إعلانه قبل أيام عن تصريح مهمّ جداً إزاء قضية مهمة جداً، قبل وصوله إلى الخليج الذي اعتمد انتماءه العربي، واحداً من الإعلانات التي أشعلت التكهّنات.
البعض ذهب إلى الاعتقاد بأن الأمر يتعلّق كأولوية من بين احتمالات، بأنه سيعلن الاتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي، خصوصاً أن المرحلة الرابعة من المفاوضات تجري قبل يوم أو اثنين من وصوله إلى محطته الأولى في الخليج العربي.
على كلّ حال، لم ينجح أي محلّل سياسي في أن يحصر الاحتمالات بواحد أو اثنين، وبعضهم يتحدث عن ثلاثة احتمالات ويمضي حتى الخمسة من دون أن يعي ذلك.
هل سيعلن عن تطبيع العلاقات الإسرائيلية السورية واللبنانية، أم أن الأمر يتعلق باحتمال التوصل إلى اتفاق بشأن قطاع غزّة يرمي به في وجه نتنياهو وحكومته المتطرفة.
على أن هناك من توقّع أن يعلن عن اعترافه بدولة فلسطينية، خصوصاً بعد الفجوات التي تتّسع بين ترامب ونتنياهو والتي تشير إلى افتراق مهمّ في المصالح.
كل شيء متوقّع من ترامب، والإسرائيليون يعبّرون عن مخاوف حقيقية، إزاء إمكانية تحوّل السياسة الأميركية عن مواصلة ربط مصالحها بمصالح دولة الاحتلال ودورها الذي يتراجع في المنطقة.
وفق الإعلانات المتكرّرة من الإدارة الأميركية، فإن الأميركيين قد قرروا إعادة تنشيط سياستهم ومصالحهم في المنطقة من بوابة من يملكون المال، وأنهم جادّون جدّاً في التوصّل إلى اتفاق مع إيران يضمن ألا يكون برنامجها النووي عسكرياً.
وفي انتظار ما ستسفر عنه زيارة ترامب، الذي تجاهل على غير العادة الدولة العبرية، فإن ما سينجم عنها، سيرسم ملامح المستقبل القريب للمنطقة، وقضاياها المهمة، وأيضاً يرسم ملامح قدرة العرب على استثمار إمكانياتهم وثرواتهم، التي تستحوذ على جزء كبير من اهتمامات الإدارة الأميركية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


فلسطين أون لاين
منذ 39 دقائق
- فلسطين أون لاين
من التَّهديد إلى التَّوقيت... تقارير تكشُّف: هل وضعت واشنطن خطَّ النِّهاية لحرب غزَّة؟
متابعة/ فلسطين أون لاين مع اتساع الهوة بين رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تُسلط الصحافة العبرية الضوء على ما تصفه بـ"تآكل الصبر الأميركي"، في وقت تُسرّع فيه إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة ضمن ما بات يُعرف بـ"معركة الدقيقة 90"، وفق تحليل للكاتب إيهاب جبارين. من جهتها، كشفت صحيفة يسرائيل هيوم اليوم الثلاثاء عن توتر متزايد بين البيت الأبيض وحكومة نتنياهو، مشيرة إلى أن إدارة ترامب قد تطالبه بتحديد موعد لإنهاء الحرب على غزة. واعتبرت الصحيفة العبرية أن ترامب لم ينتقد إسرائيل علناً بعد، لكن كل المؤشرات تدل على أن البيت الأبيض على وشك تغيير نبرته، ونقلت عن مصادر، لم تسمها، قولها إن مقرّبين من ترامب يتحدثون عن تحديد موعد لإنهاء الحرب على غزة، وحتى عن دعوة "استفزازية" إلى البيت الأبيض لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت، الذي تمنحه استطلاعات الرأي حظوظاً كبيرة في حال ترشحه للانتخابات الاسرائيلية المقبلة. وفي قراءة متقاطعة، رأت صحيفة يديعوت أحرونوت أن حكومة نتنياهو "عزلت إسرائيل دبلوماسيًا" و"كذبت على الجمهور" بشأن شروط إدخال المساعدات مقابل تحرير الأسرى. وحمل الكاتب نداف إيال الحكومة مسؤولية الانهيار في شرعية الحرب، مؤكدًا أن "إسرائيل بقيت وحدها في العالم"، وسط انتقادات غربية متزايدة. وأشار إلى أن جميع استطلاعات الرأي أظهرت عدم ثقة الجمهور بالحكومة الإسرائيلية وأنه "لا يعتقد أن اعتبارات رئيس الوزراء موضوعية، بل يراها تتعلق بالحفاظ على الائتلاف الحكومي. وتشعر عائلات المختطفين (المحتجزين الإسرائيليين في غزة)، التي تعد أكثر الفئات معاناة في المجتمع الإسرائيلي حالياً، أن الحكومة تزدريها". أما هآرتس، فذهبت أبعد، إذ اتهم الكاتب يوسي فيرتير الحكومة بأنها "تعطّشت للدم وأبعدت ترامب وأغضبت العالم المتحضر"، واصفًا قرار وقف المساعدات لغزة بأنه نتاج "غباء استراتيجي" لا يُراعي حتى أكثر الحلفاء حماسة لإسرائيل داخل الكونغرس الأميركي. وأردف الكاتب بأنه "تم اتخاذ قرار وقف المساعدات الإنسانية إلى غزة في الكابينت الإسرائيلي، 2 مارس (آذار)، كان المنطق وراءه أن الإدارة الأميركية الجديدة ستكون غير مبالية بالعواقب المروّعة. لكن اتضح أن الرئيس ترامب إنساني، (وفقاً لستيف ويتكوف) ومصدوم مما يراه عبر شاشة التلفزيون ولا يتوقف عن الحديث عن المعاناة وعن الأشخاص الذين يموتون جوعاً. ووزير الخارجية ماركو روبيو، اليميني المتطرّف، اتصل بنتنياهو ثلاث مرات خلال 24 ساعة بشأن المساعدات. أما أعضاء مجلس الشيوخ الودودون، فهم يمينيون ومؤيدون، لكن اتضح أنهم ليسوا متعطشين للدماء مثل ممثلي اليمين المتطرف المسياني في الحكومة (الإسرائيلية)". ولفت الكاتب أيضاً إلى أن نائب الرئيس الأميركي، جي دي فانس، "الذي كان في طريقه إلى إسرائيل، كجائزة ترضية عن تخطي ترامب لزيارتها الأسبوع الماضي" ألغى زيارته، وذلك "على الأرجح بسبب تجدد الحرب وغياب صفقة لإطلاق سراح المختطفين". جبارين: إسرائيل تُراهن على نصر اللحظة الأخيرة في هذا السياق، يرى الصحفي والمحلل إيهاب جبارين أن التحركات العسكرية الإسرائيلية ليست مجرد تصعيد، بل تأتي في إطار إستراتيجية أشبه بـ"تكتيك الانقضاض في الدقيقة 90"، حيث تسعى تل أبيب لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الميدانية قبل أن تُغلق نافذة العمل العسكري بفعل الضغوط الأميركية أو التفاهمات الإقليمية. ويؤكد جبارين أن إسرائيل تُدرك التغير الحاصل في أولويات واشنطن، لا سيما بعد التقارب مع الحوثيين وإشارات التهدئة في غزة، ما يدفعها لتكثيف عملياتها بغرض "فرض وقائع تحت النار"، مثل تفكيك شبكة الأنفاق في رفح أو تنفيذ اغتيالات نوعية لقادة المقاومة. ويُضيف أن هذا التكتيك نابع من شعور بالإرباك أكثر من كونه تعبيرًا عن ثقة، خاصة مع بدء إدارة ترامب بإعادة ترتيب أوراقها الإقليمية من دون إسرائيل في بعض الملفات، ما يُفاقم مخاوف نتنياهو من فقدان الدور المحوري في المعادلات الجديدة. الوقت ينفد… والمعركة قد تتجاوز غزة بحسب جبارين، تسعى إسرائيل لتحقيق "نصر رمزي" يُعزز موقف نتنياهو سياسيًا، في ظل تآكل شعبيته داخليًا، إلا أن المخاطرة تكمن في أن هذا التكتيك قد يفتح جبهات جديدة بدلًا من إغلاق الحالية، في حال لم يتمكن من إنتاج نتائج واضحة قبل أن تُجبرها واشنطن على التوقف. بحسب تحليلات إسرائيلية، تسعى تل أبيب إلى تحقيق مكاسب ميدانية "تحت النار" في غزة، أبرزها تدمير شبكة الأنفاق في رفح واغتيال قادة من حماس، إلى جانب توجيه ضربات نوعية في اليمن ضد أهداف مرتبطة بإيران، في محاولة لإثبات التفوق الاستخباراتي وإعادة تأهيل الردع الإقليمي. على المستوى الداخلي، يواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ضغوطًا سياسية، ويرى في التصعيد العسكري فرصة لتثبيت موقعه وسط تراجع شعبيته وفشل أهداف الحرب. مع انسحاب حاملات طائرات أميركية وتقليص الغطاء العسكري الأميركي، تدرك إسرائيل أن الوقت ليس في صالحها، وأن قرار وقف الحرب قد يُفرض عليها خارجيًا، ما يدفعها إلى محاولة انتزاع "نصر اللحظة الأخيرة" – ولو كان مؤقتًا. ويختم قائلاً إن القرار النهائي بيد الولايات المتحدة، التي تملك وحدها مفتاح ضبط الإيقاع العسكري والدبلوماسي، بينما تسابق إسرائيل الزمن – لا لتحقيق نصر استراتيجي، بل للهروب من هزيمة سياسية. المصدر / فلسطين أون لاين


فلسطين اليوم
منذ 4 ساعات
- فلسطين اليوم
إدارة ترامب تحجب التمويل عن جامعة هارفارد بسبب دعمها لفلسطين
فلسطين اليوم - نيويورك حجبت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تمويلاً فيدراليًا عن جامعة هارفارد بسبب ما اعتبرته تقاعسا منها عن اتخاذ إجراءات كافية ضد المظاهرات الطلابية المؤيدة لفلسطين. وفي منشور على منصة إكس، اليوم الثلاثاء، أفادت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية بأنها ستحجب تمويلا فيدراليًا كان مخصصا لجامعة هارفارد بقيمة نحو 60 مليون دولار 'لحماية الحقوق المدنية في التعليم العالي'. وزعمت الوزارة أن 'هارفارد' التي برزت بين الجامعات التي شهدت مظاهرات داعمة لفلسطين، 'فشلت في التعامل مع المواقف المعادية للسامية والتمييز القائم على أساس العرق'. وتستخدم الإدارة الأمريكية التخفيضات المالية والتحقيقات في الجامعات للضغط على إداراتها لمنع المظاهرات الطلابية الداعمة لفلسطين. وسبق لإدارة ترامب أن هددت بتجميد التمويل الفدرالي لعدد من الجامعات، بينها 'هارفارد'، مستندةً في ذلك إلى احتجاجات طلابية متضامنة مع القضية الفلسطينية داخل الحرم الجامعي. ومطلع مايو/ أيار الجاري، أعلنت وزارة التعليم الأمريكية أنها لن تمنح جامعة هارفارد أي تمويل فيدرالي جديد إلى حين تلبية الأخيرة مطالب البيت الأبيض، في إشارة إلى عدم منعها المظاهرات الداعمة لفلسطين. وفي وقت سابق، أعلن البيت الأبيض فتح تحقيق للتأكد من أن المنح التي تتجاوز قيمتها 8.7 مليارات دولار والتي تتلقاها جامعة هارفارد من مؤسسات مختلفة تُستخدم بما يتوافق مع قوانين الحقوق المدنية. وفي مواجهة هذا التهديد الفيدرالي، أعلنت جامعة هارفارد رفضها لمطالب ترامب المتعلقة بـ'إجراء إصلاحات' داخل الجامعة. كما رفع عدد من أساتذة الجامعة دعاوى قضائية ضد قرار إدارة ترامب التحقيق في التمويل اليفدرالي المخصص للجامعة. وفي أبريل/ نيسان 2024، اندلعت احتجاجات داعمة لفلسطين بدأت بجامعة كولومبيا الأمريكية وتمددت إلى أكثر من 50 جامعة في البلاد، واحتجزت الشرطة أكثر من 3 آلاف و100 شخص، معظمهم من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس.


فلسطين أون لاين
منذ 4 ساعات
- فلسطين أون لاين
الغرب... أصوات تكسر جدار الصمت والتواطؤ
المهدي مبروك تعدّدت، في الأسابيع القليلة الفارطة في بلدان غربية مختلفة، الأصوات المندّدة بما يجري في غزّة من حرب إبادة تطاول الأطفال والنساء والشيوخ، وتنسف مقوّمات الحياة بمعناها البيولوجي الصرف. يجري ذلك في برلمانات ومجالس شيوخ، وكذلك في مؤسّسات اقتصادية وشركات كبرى (بنوك وشركات تصنيع السلاح...) متهمة بتمويل الكيان الإسرائيلي، أو دعمه على الأقلّ. رأينا برلمانيين وإعلاميّين وجامعيين يحتجّون على رؤساء حكوماتهم لتواطئهم وجبنهم ولامبالاتهم. تقدّم فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة نماذجَ من هذه الموجات المتتالية، تساندها بين حين وآخر (وبأشكال متفاوتة) مظاهرات شعبية، يقودها سياسيون في جلّهم من اليسار، بالمعنى الثقافي والإنساني الواسع، وطلاب الجامعات والفنّانين. وذهبت بلدان أخرى إلى ما هو أبعد، حين عبّرت بصريح العبارة عن أن ما يجري في فلسطين حقيقةً حرب إبادة، فأصدر قادة سبع بلدان أوروبية: إسبانيا ولوكسمبورغ والنرويج وأيسلندا وأيرلندا ومالطا وسلوفينيا، بياناً صارماً أعربوا فيه عن رفضهم المطلق سياسة الصمت الدولي تجاه ما يجري، واعتبار ذلك كارثةً إنسانيةً تحتاج إلى إدانة، مطالبين برفع الحصار الفوري وكفّ اعتداءات المستوطنين على الضفة الغربية، في حين اتّخذت بلدان أخرى قراراتٍ ديبلوماسيةً جريئةً: قطع العلاقات أو التهديد به أو استدعاء السفير... إلخ. يجري ذلك كلّه تزامناً مع حدثَين بالغَي الأهمية. الأول، زيارة ترامب إلى المنطقة وسط احتفاء غير مسبوق به، والحال أنه شريك في كلّ ما يجري لغزّة، ولا يزال يصرّ على رؤيته المارقة لها، أرضاً صالحةً لـ"البناء"، واحتضان المنتجعات الفخمة، حتى لو على جثث أبنائها، ملح التراب وعشبها الذي لا ينقطع. الحدث الثاني، انعقاد قمّة عربية باهتة تعمّق الشروخ العميقة بين البلدان العربية. ردّات الفعل الغربية المشار إليها، من صنع نُخب الحكم أو المعارضة، دالّة بشكل عميق، ويمكن أن يكون لها بالغ الأثر مستقبلاً لو أفلحنا في قراءة هذه المواقف ورسملتها، فهي تبرهن مرّة أخرى أن الغرب ليس "دار حرب أزلية"، بل مجتمعات وأنظمة تتنازعها اختلافات عديدة عادة، تعبّر عن مواقف ومواقع وعقائد ومصالح يعتريها، بين حين وآخر، تحوّلات وتبدّلات، وأنه رغم انحسار دوائر الحرّية تحت ضغط اللوبيات الصهيومسيحية وجماعات النفوذ المالي والإعلامي في سياق الرهاب من الإسلام والمسلمين، ما زال هذا الغرب يتيح لمواطنيه ومثقّفيه الأحرار التعبير الحرّ عن مواقفهم، وأن هذا الضمير الحيّ لم يمت، بل إنه يستعيد رهافة حسّه وعدله وإنصافه تدريجياً. تحرص إسرائيل أن تظلّ "الجماعة" الوحيدة التي تحتكر صفة الضحية، وأنها الوحيدة أيضاً التي تعرّضت لإبادة خلال التاريخ المعاصر، وأن غيرها لا يستحقّ أن يكون محلّ تعاطف إنساني مهما نُكّل به. فما يزعج إسرائيل هو أن ينافسها على هذه "المنزلة" "طرف ثانٍ، لأنها بذلك تفقد رأسمالها الذي لا يخلو من أسطرة، والذي استثمرته (ولا تزال) في ترسيخ القبول بكل تجاوزاتها الراهنة. إنها الابن المدلّل الذي يُسمَح له بارتكاب الممنوعات كلّها، تعويضاً عن "الحرمان" و"الأذى" اللذين لحقا به. لذلك، تُخرس الجميع، وتلجمهم، لأن الغرب لم يتحرّر بشكل نقدي وعقلاني من خطيئة الإبادة، هذا ما تقوله جلّ الانتفاضات الجارية حالياً، وإنْ بشكل متلعثم ومربك، من فرط مشاعر الخطيئة تلك. غير أن هذا الأمر يحتاج منّا (نحن العرب) أن نلتقط صحوة هذا الضمير الإنساني وتعظيمه، خصوصاً أننا لم نشهد ما يضاهيه في ما يجرى بيننا من نقد لاذع تحت قباب البرلمان، أو في حرم جامعاتنا، لأن أنظمتنا، بما فيها التي تدّعي مساندة الفلسطينيين، لا تتيح لمواطنيها التعبير الحرّ عن تضامنهم الذي يظلّ بحسب اعتقادها تضامناً رسمياً تحتكره الأنظمة، وتعبّر عنه وفق إرادتها. هذه المواقف الغربية تظلّ قابلةً لأن تذهب بعيداً، فوراءها قيادات ومنظّمات وهيئات سياسية وحركات اجتماعية. ومع ذلك، علينا أن ننتبه إلى محدودية انتفاضات الضمير هذه، وقصورها الراهن عن صناعة وعي ورأي عامّين، وسياسات واضحة المعالم في هذه البلدان، وذلك لعدّة اعتبارات، لعلّ أكثرها أهمية أننا (عرباً) عجزنا عن "تسويق عدالة قضيتنا ونبلها". لقد أضرّ الإرهاب، وكل أشكال التطرّف الديني، ومزاعم "أسلمة" القضية الفلسطينية، بالقضية ذاتها، التي انحدرت أحياناً إلى قضية طائفية أو عرقية خالية تماماً من كلّ نفَس إنساني عميق. لقد عجزت النُّخب الفلسطينية عن الارتقاء بقضيتهم إلى مرتبة كونية إنسانية، تغدو فيها مشتركاً إنسانياً على قواعد كونية، بعد أن كانت القضية الفلسطينية في ستينيّات القرن الفارط تجلب تعاطفاً وانخراطاً. يقول الزعيم اليساري الفرنسي جان لوك ميلانشون حرفياً: "إن الجرائم المخطّط لها من الغرب، والمسموح بارتكابها في غزّة، هي تواطؤ منه، وما يجري فيها غدا قوّةً إجراميةً يرتكبها الغرب ذاته". المصدر / العربي الجديد