logo
السينما حين تعري الطغاة وتقاوم النسيان

السينما حين تعري الطغاة وتقاوم النسيان

Independent عربيةمنذ 7 ساعات

التأثير الكثيف الذي يصاحب المرء بعد أن يشتبك مع الذكريات له مذاق لا يمكن تحديده، ويصعب تسميته، بل يصعب الحكم عليه بأنه محفّز، أو مثير للألم. وربما هذان الإحساسان وسواهما ما يترك علاماته على من ينتهي من مشاهدة الفيلم البرازيلي "ما زلتُ هنا"، (I'm Still Here) الفائز بجائزة الأوسكار 2025 عن أفضل فيلم عالمي.
قد يقول سياسي إن الفيلم يأتي في سياق "حتى لا ننسى"، وقد يرى مؤرخ أنه "محطة من تاريخ التحولات في البرازيل"، أما الشاعر فينظر إلى الأمر من زاوية "توثيق لعذابات المضطهدين، وهزائم الطغاة"، وكذلك ربما تفعل الناشطة النسوية التي ترى في شخصية (فرناندا توريس) رمزاً لإسهام النساء الخلاق في النضال ضد الديكتاتورية. وكل هؤلاء يتقاسمون الحق في تأويل الفيلم استناداً إلى ضرورة صيانة الذاكرة الفردية والجماعية من الفساد والتحلل والاجتزاء، وكذلك فضح محاولات السلطات طمس الماضي، والتنصل من مسؤوليتها عن تشويهه وتزييفه وتكدير صفو البشر.
الفيلم، باللغة البرتغالية، لا يقدم نفسه باعتباره هجاءً سياسياً مباشراً لنظام العسكر الديكتاتوري، مع أن الأمر في عمقه كذلك، لكنه، وهذا أهم ما في الفيلم، يصوغ طريقة آسرة لكيفية التعبير السينمائي من خلال سبر أعماق الألم والقهر والخذلان. واختار المخرج والتر سالس أن يلجأ إلى السينما المتقشفة، إذ لا جماليات لونية بالطريقة المهندَسة التي نراها في سينما ويس أندرسون، ولا نعثر على تنقيب نفسي في دواخل الشخصيات، كما يحلو لأفلام تشارلي كوفمان أن تفعل. وحتى الانتقال عبر الأزمنة بتقنية (الفلاش باك) يتم في حدود بناء السرد السينمائي، ليكون قطعة من زمن تجري وقائعه عام 1970، خلال فترة الديكتاتورية العسكرية في البرازيل من عام 1964 إلى 1985.
المخرج سالس صرح بأن الأفلام "أدوات ضد النسيان"، وأنه يعتقد أن "السينما تُعيد بناء الذاكرة"، لذا يهدف فيلمه إلى ضمان ألا ينسى أحد، وإدامة التواصل مع التاريخ.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كتب سيناريو الفيلم موريلو هاوزر وهيتور لوريجا، وهو مستوحى من مذكرات مارسيلو روبنز بايفا الصادرة عام 2015، الذي كان والده اليساري، عضو الكونغرس، روبنز بايفا، من بين ما يُقدر بـ20 ألف شخص تعرضوا للتعذيب، وثمة من يقول إن الرقم أعلى بكثير.
الفيلم غني بالتفاصيل التي تستحق الثناء، وفي التعاطي مع الأحداث نلمس نفَسَاً جديداً يبدأ من الخاص ويغوص فيه إلى أبعد حد، من خلال حكاية عائلة تتبعثر سكينتها ذات يوم أحد، حينما يلقي العسكر القبض على رب العائلة (سيلتون ميلو) البرلماني المنشق عن السلطة العسكرية، ومن ثم على زوجته وابنته ذات الـ14 سنة، يتعرض الثلاثة إلى ضغط نفسي. تخرج الأم وابنتها ويبقى الأب، ولا تعود الأسرة تعرف عن الرجل شيئاً. غلالة كثيفة جداً من الغموض والأخبار المضللة تحيط بمصير الأسرة التي تتفسخ طمأنينتها، وتضطر إلى الرحيل من المنزل بعد بيعه. وعندما يصل الزوجة نبأ وفاة زوجها تخوض، بحكمة وصلابة، في دوامة معرفة الملابسات المحيطة بالموت، ثم تبدأ في المعاناة الكبرى والأشد التي تنتهي بسقوط نظام العسكر، وإصدار الحكومة المدنية اللاحقة شهادة وفاة تستخدم دليلاً رسمياً موثقاً لفظائع الديكتاتورية التي حكمت البرازيل، ويقول شهود إنها كانت مدعومة من الولايات المتحدة.
أداء الزوجة، التي أصبحت في ما بعد محامية ومرجعاً قضائياً للدفاع عن حقوق المضطهدين وأصحاب الأرض الأصليين، هو الذي رفع الفيلم إلى مصاف التتويج في المناسبات العالمية، فحصدت جائزة غولدن غلوب، وحصد الفيلم جائزة أفضل سيناريو في مهرجان البندقية، وحاز أيضاً جائزة الأوسكار 2025، مع أنه حورب بعد إصداره في السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من قبل اليمين البرازيلي المتطرف الذي يمثل امتداداً أيديولوجياً للديكتاتورية العسكرية.
الفيلم ينهض على أرشيف عائلي ثري، فضلاً عن أرشيف سياسي تفصيلي عن أعوام القمع الطويلة. ويصح أن يوصف بأنه روائي وثائقي، لكن الوثائقية جاءت في حلة الاستعادة الذكية للماضي، من دون فصل بين الأزمنة. ولعل أجواء التصوير بالألوان الباهتة القليلة الجودة (وهذا مقصود) قد محت الفواصل، وجعلت المشاهد يعيش في عام 1970. أضف إلى ذلك الجهد المبهر الذي بذل من أجل إثبات أن الحياة تسير بكل عنفوانها على رغم سيارات العسكر ومعداته الثقيلة التي تجوب الشوارع بهدف بث الذعر في نفوس الناس. العائلة تلهو على شاطئ البحر برفقة الأصدقاء والبشر الكثير الذين أقبلوا على الحياة هازئين بالعسكر وبطشهم وزنازينهم.
الفيلم بسِمته الهادئة وبالشحنة العاطفية الهادرة في مفاصله يعد انعطافة في تاريخ التناول السينمائي للديكتاتورية، لكنه يأتي امتداداً لأفلام عالمية لم تبدأ بفيلم شارلي شابلن "الديكتاتور العظيم" (The Great Dictator) الذي عرض للمرة الأولى في الـ15 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1940، ويتضمن هجاءً ساخراً للنازية وهتلر، على رغم العلاقة غير المتوترة في ذلك الحين بين أميركا وألمانيا.
وشهدت أميركا اللاتينية مراجعات لحقب حكم العسكر، ومن أبرز طغاة تلك القارة كان الجنرال التشيلي بينوشيه الذي قدمه المخرج التشيلي بابلو لارين عام 2023 في فيلم (El Conde) بصورة مصاص دماء يبلغ من العمر 250 سنة، إذ بعد أن تظاهر بموته، يختبئ بينوشيه (خايمي فاديل)، المعروف أيضاً باسم "أل كوندي"، في عرينه المتداعي في باتاغونيا، آملاً في الموت.
ومن تشيلي إلى الأرجنتين نطل عبر فيلم "أزور" (Azor) على الأحوال السياسية العاصفة في الأرجنتين عام 1980، لنكتشف كيفية استيلاء الاستبداد على السلطة في فترة استمرت ما بين عامي 1976 و1983 حين جرى تطهير عسكري للحكومة والمدنية، مما أسفرعن قتل وتعذيب واختفاء آلاف والسيطرة الباطشة على ممتلكات الناس وأراضيها. وعن جرائم الاختفاء القسري التي ارتكبها الحكم العسكري في الأرجنتين أنجز المخرج خوان ماندلباوم فيلمه الوثائقي "مفقودنا" مدفوعاً بالرغبة الشديدة في تخليد ذكرى الضحايا، وعدم إفلات الجناة من العقاب. ولا يمكن الخروج من الأرجنتين من دون التنويه بفيلم "التاريخ الرسمي أو الحكاية الرسمية" (La historia oficial) الذي أنتج عام 1985، وأخرجه لويس بوينسو، وفاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية عام 1986. يعالج الفيلم الاختفاء القسري من خلال قصة زوجين أرجنتينيين يصطدمان بحقيقة كون ابنتهما المتبناة مختطفة، أم من أُم معتقلة سياسية.
ونالت القارة السوداء حصة كبيرة من الأفلام التي هجت الأنظمة الديكتاتورية فيها، ومن أبرز تلك الأفلام "آخر ملوك اسكتلندا" (The Last King of Scotland)‏ الذي أنتج عام 2006 والمستوحى من رواية تحمل الاسم نفسه.
يجسد الفيلم، شخصية الجنرال عيدي أمين حاكم أوغندا منذ 1971 إلى 1979، وأدى هذا الدور باقتدار بليغ الممثل فوريست ويتاكر، واستحق بفضله جائزة الأوسكار لأفضل ممثل رئيس عن دوره في هذا الفيلم الذي أخرجه كيفين ماكدونالد.
الطغاة منتشرون في القارات جميعها، من أوروبا إلى أميركا اللاتينية إلى أفريقيا إلى آسيا، حيث نطالع في الأخيرة نموذجاً للديكتاتورية التي ما زال يجسدها النظام في كوريا الشمالية. فعلى رغم أن فيلم "المقابلة" (The Interview) زاد من اشتعال الخلاف بين بيونغ يانغ وواشنطن، فإن أثر الفيلم، الذي أخرجه عام 2014 سيث روغن وإيفان غولدبيرغ، كان كبيراً لجهة تعريف العالم بما يجري في هذا البلد. الفيلم يتحدث في قالب كوميدي عن صحافيين يتلقيان تعليمات باغتيال الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، بعد أن يتمكنا من الحصول على مقابلة معه.
ما يميز الأفلام التي استُعرضت أنها مشغولة بحس جمالي فائق وبأداء تمثيلي مبهر، فنُبل القضية لا يبرر التفريط بالقيم الفنية لحساب تمرير خطاب سياسي أو أيديولوجي، ولعل هذه النقطة تشير إلى بعض الأفلام العربية التي غرقت في الإسفاف والمباشرة، فكانت بمثابة محامٍ فاشل عن قضية عادلة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

اشتباه في قطع متعمد للكهرباء بجنوب شرقي فرنسا
اشتباه في قطع متعمد للكهرباء بجنوب شرقي فرنسا

Independent عربية

timeمنذ ساعة واحدة

  • Independent عربية

اشتباه في قطع متعمد للكهرباء بجنوب شرقي فرنسا

تعرضت محطة كهرباء فرعية وبرج كهرباء للتخريب في المنطقة المحيطة بمدينة كان الفرنسية التي شهدت انقطاعاً كبيراً للتيار الكهربائي في اليوم الأخير من المهرجان السينمائي، وفقاً لمسؤولين. وقالت النيابة العامة ومسؤولون محليون، إن محطة كهرباء فرعية في قرية تانيرون تزود مدينة كان تعرضت لما يشتبه في أنه هجوم حرق متعمد، بينما قُطعت ركائز برج يحمل خط جهد عال في فيلنوف لوبيه. وانقطع التيار الكهربائي عن جنوب شرقي فرنسا بما يشمل مدينة كان ومحيطها اليوم السبت، وهو اليوم الأخير لمهرجان كان السينمائي، لكن المنظمين قالوا إن الحفلة الختامية لن تتأثر بذلك. وقال مسؤول إدارة المنطقة عبر منصة "إكس"، "يسجل عطل كهربائي كبير غرب مقاطعة ألب-ماريتيم راهناً". وسارع مهرجان كان السينمائي إلى التأكيد أن "قصر المهرجانات انتقل فوراً إلى نظام تغذية كهربائية مستقل مما يسمح بالمحافظة على كل الفعاليات والعروض المقررة اليوم بما يشمل حفلة الختام، في ظروف طبيعية". وأوضحت شركة "أر تي إي" (RTE) المشغلة لشبكة الكهرباء، أن الانقطاع يشمل "كان والبلدات المحيطة بها و160 ألف منزل". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وبدأ انقطاع التيار الكهربائي بعيد الساعة 10:00 صباحاً (08:00 بتوقيت غرينتش). وقالت مصادر في الدرك إن العطل ناجم عن حريق قد يكون متعمداً طاول خلال الليل منشأة للتوتر العالي في تانيرون في مقاطعة فار المجاورة. وتختم الدورة الـ78 لمهرجان كان الذي انطلق في الـ13 من مايو (أيار) الجاري، مساء اليوم في قصر المهرجانات الشهير حيث توزع الجوائز الرئيسة.

"عائشة لا تستطيع الطيران" في قاهرة الغربة
"عائشة لا تستطيع الطيران" في قاهرة الغربة

Independent عربية

timeمنذ 2 ساعات

  • Independent عربية

"عائشة لا تستطيع الطيران" في قاهرة الغربة

في هذه الدورة من مهرجان كان، الممتدة بين الـ13 والـ24 من مايو (أيار) الجاري، حيث عُرضت بضعة أفلام عربية بمستويات متفاوتة، يمكن تمييز "عائشة لا تستطيع الطيران"، باكورة الأعمال الروائية الطويلة للمخرج المصري مراد مصطفى الذي شارك في مسابقة "نظرة ما". عمل مميز ينطوي على عدد من العناصر التي ستحول دون عرضه في كثير من الدول العربية، وفي مقدمها مصر التي سترى فيه، كالعادة، تشويهاً لصورة البلاد، على غرار ما حدث لـ"ريش" لعمر الزهيري، آخر فيلم مصري مهم عُرض في كان. وجوه القاهرة المستثناة من خلال ما يظهره من أحداث، يحمل الفيلم خطاباً سياسياً غير مقبول من السلطات، كاشفاً عن وجوه القاهرة التي كثيراً ما تُستثنى من السينما المصرية. عائشة التي يحمل عنوان الفيلم اسمها شابة عشرينية سودانية تقيم في أحد أحياء العاصمة المكتظة، حيث تتواجه عصابات مصرية مع عصابات تتألف من مهاجرين أفارقة، سنراها تكافح من أجل البقاء، من دون أن تملك ترف الحلم أو حتى القدرة على الرفض، كل شيء مفروض عليها؛ حتى أمنها لا يتحقق إلا مقابل إسداء خدمات لمن يحميها. الفيلم يبدأ بلقطة بسيطة لها وهي تكنس الغبار في شقة مطلة على ميدان التحرير، حيث تهتم بسيدة عجوز مريضة، لكن هذه البداية الصامتة تتكثف بسرعة إلى صرخة مكتومة تُنبئ بأننا أمام عمل ينتمي إلى الواقعية الاجتماعية بكل ملامحها، الكاميرا المحمولة، غياب الموسيقى التصويرية، الشخصيات الثانوية التي لا تقل أهمية عن الرئيسة، والعالم الذي لا يحاول المخرج تجميله، يحضر هذا كله مع رشة فانتازيا تأخذ الفيلم إلى مستوى آخر. عائشة، صاحبة البنية القوية التي تؤدي دورها بهدوء لافت بوليانا سيمون، تنتقل بين منازل الغرباء لرعاية المسنين، علاقاتها متقطعة، وصمتها طويل، لكنه ليس فراغاً. من خلال عينيها (لكل عين لون مختلف)، سنطل على وجه مغاير للقاهرة: عالمها السفلي، وجه لا تلمع فيه الأهرام ولا أماكن جذب السياح، بل تتراكم فيه الطبقات المُهملة من بشر تُركوا لمصيرهم. يروي مراد مصطفى يوميات بقعة جغرافية من منظور مهاجرة، لا تُستَخدم كرمز أو استعارة، بل هي إنسانة بكل معنى الكلمة، مع صفاتها الحسنة وعيوبها، حتى لو لم يُفسَح لها المجال لتتكلم كثيراً لنعرف رأيها بما يحدث، هذا السكون هو ما يمنح الفيلم قوته، فالمَشاهد لا تُشرح، ولا تُزخرف. ظالمة ومظلومة معاً الكاميرا ترافق البطلة كما لو كانت تتنفس معها، تراقبها من الخلف في الشوارع، أو ترصد وجهها وهي تتلقى الإساءة من دون أن ترد. في الجزء الثاني، مع دخول حيوان النعامة إلى السياق مفضياً عليه طابعاً سحرياً، تبدأ المرحلة الثانية من الفيلم، حيث نكتشف انتزاع إنسانية عائشة مع ظهور أول عوارض تحولها إلى الحيوان الذي تجد نفسها ذات ليلة في مواجهة معه. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) أحد أفضل قرارات الفيلم هو الامتناع التام عن الموسيقى التصويرية، وبدلاً منها نسمع هدير المدينة وزمامير السيارات، ومع الوقت تكاد هي أيضاً تصبح غير مسموعة، تماماً كما هي عائشة في الحياة. هذه الأصوات تُشكّل خلفية موسيقية عضوية للواقع اليومي الذي على البطلة معايشته رغماً عنها. هذا الخيار الجمالي يُعزز من شعور الغربة، المكان الذي لجأت إليه هرباً من الحرب في بلادها لا يُرحّب بها، لكنه لا يطردها أيضاً، يستنزف مَن يعيش فيه، من دون أن تعترف بذلك. الثلاثيني مراد مصطفى، الذي نشأ في حي عين شمس بالقاهرة، ينقل تجربته الشخصية في الفيلم، لكنه يضعها في قالب لا يعكس الذات بل يُصور الآخر، هذا الآخر الذي هو في الوقت نفسه جزء لا يتجزأ من النسيج المصري، فالحي الذي كان يسكنه في طفولته بات مأهولاً بكثافة من مهاجرين أفارقة، لكن هذا الواقع لم يجد صداه في السينما المصرية التي كثيراً ما اختزلت غير المصريين في أدوار هامشية وكاريكاتورية، وتأتي هذه الرغبة في إعطاء هؤلاء غير المرئيين صوتاً وصورة، امتداداً لفيلمه القصير السابق، "عيسى"، الذي عُرض في كان قبل عامين. ما يفعله مصطفى هنا هو إعادة توزيع الأدوار، جعل المهاجرة السودانية "بطلة"، ولو بطلة مضادة، بينما تنسحب الشخصيات المصرية إلى الخلفية أو تظهر كجزء من منظومة كاملة متكاملة، ظالمة ومظلومة في آن معاً، وفي الحالتين لا تعرف ذلك. هذه المفارقة تُنتج ديناميكية غنية، تضع المُشاهد أمام مرآة مجتمع يرفض الاعتراف بالتغيير الحاصل فيه. لا معجزات في الحياة تواجه عائشة سلسلة من الانتهاكات التي تمارَس ضدها لأنها هشة وبلا سند، وحتى عندما تتلقى بعض المساعدة، كما في علاقتها مع الطاهي عبده، فإنها لا تأتي من موقع مساواة، بل من باب الشفقة أو المصلحة الموقتة. الفيلم لا يمنحها لحظة انتصار، لا هرب، لا نهاية سعيدة، لا طيران في الأجواء، كما يؤكد عنوانه. استمرارية العذاب هذه لا تتشكل من أجل صدم المتفرج، بل لأنها الحقيقة كما يراها الفيلم، ليست هناك معجزات في حياة مثل حياة عائشة، ولا حلول سينمائية جاهزة، لكن على رغم ذلك، هناك كرامة لا تُنتزع من هذه الشخصية، كرامة مستترة تحت الغبار الذي تكنسه في بداية الفيلم، لكنها تظهر في كل مرة ترفض فيها الاستسلام الكامل. في مقابلاته، يقول مصطفى إنه لا يكتب سيناريو تقليدياً، بل يركب اللقطة بصرياً في أثناء تخيله المشهد، هذه الطريقة في العمل تمنح الفيلم حيوية وصدقاً، وتُعطي الممثلين، وغالبيتهم من غير المحترفين، حرية التعبير التلقائي، والنتيجة هي أداءات غير مصطنعة، تنبع من التجربة أكثر من التلقين، مما يُضيف للفيلم صدقيته الخام. مراد مصطفى في أولى تجاربه الطويلة الواعدة جداً، لا يقدم فيلماً عن الهجرة بقدر ما ينجزه عن الوجود في مكان لا يعترف بك، وعن البقاء من دون انتماء. عن امرأة، تُشبه كثيرات حولنا، غير مرئية في الواقع، وبطلة على الشاشة.

أمهات عازبات في المغرب لكنهن مؤثرات فضائيا
أمهات عازبات في المغرب لكنهن مؤثرات فضائيا

Independent عربية

timeمنذ 3 ساعات

  • Independent عربية

أمهات عازبات في المغرب لكنهن مؤثرات فضائيا

قبل أعوام كان من الصعب علي كصحافية إقناع أم عازبة في المغرب بالظهور ومشاركة تجربتها والحديث عن العقبات التي تواجهها، بسبب خوفها من نظرة المجتمع، إذ كان تناول الأمهات العازبات يعد من التابوهات في المجتمع المغربي. لكن مع تزايد شعبية مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، تحول عدد من الأمهات العازبات إلى مؤثرات بعضهن يظهر أطفاله ويعرض يومياته وأيضاً قصصه، ويكشف عن تفاصيل حياته بكل جرأة وبوجه مكشوف، فهل ظهور أمهات عازبات مؤثرات في العالم الافتراضي أثر في نظرة المجتمع المغربي للأم العازبة؟ أم أن قبولهن في المجتمع لا يتجاوز الحياة الافتراضية وإشباع فضول المتابعين الراغبين في التعرف على حياة الناس الحميمية؟ "أعجبت بشخصيتها" تحظى (س ك)، وهي شابة مغربية مقيمة في إسبانيا، بشهرة واسعة ويتابعها ملايين، ونشرت تفاصيل حياتها قبل أن تكون أم عازبة، وشاركت خبر حملها وتفاصيل ترك شريكها لها، وتستعمل المراهقات لقطاتها في فيديوهاتها، كما تعد من أكثر المؤثرات شهرة. "إنها امرأة قوية، تربي ابنتها بمفردها، أتمنى لها الحياة السعيدة"، "لم أكن أحترمها، لكن عندما رأيت كيف تربي ابنتها أعجبت بشخصيتها. إنها أم جيدة"، هذا مثالان من تعليقات كثيرة تشيد بقوة شخصية (س ك). أصبح الإنترنت بفضل انتشاره الواسع وخصوصيته قوة مؤثرة في المغرب، وتمنح منصاته الافتراضية مساحات تمكن الأفراد من استكشاف مواضيع كانت محظورة سابقاً، والاطلاع على وجهات نظر متنوعة مثل حياة الأمهات العازبات. في البث المباشر على "إنستغرام" تتحدث (س ك) عن حياتها الخاصة وتشارك مع متابعيها كيف تربي بناتها، كما تقدم النصائح للمراهقات. وتعد (ن ح) من أكثر الأمهات العازبات شهرة في المغرب، وكانت نشرت تفاصيل على قناتها في "يوتيوب" منذ كانت مراهقة، وبعد ذلك حملها وعدم اعتراف شريكها بالابنة، وأيضاً زواجها من رجل آخر. على رغم حملات الكراهية التي تعرضت لها (ن ح) في فترة المراهقة، لكنها بعد إنجابها تلقت كميات من دعم جمهورها، وحققت فيديوهاتها ملايين المشاهدات، يعرف المتابعون جميع تفاصيل حياتها. "يتاجرن بقصصهن لأجل الربح" تظهر (ن ح) وهي تتسوق وتركب سيارة فاخرة، وتظهر لمشاهديها كيف تعيش حياة مثالية، وفي عالم مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب تزداد شهرة الشخص كلما نشر تفاصيل حياته الخاصة. لكن لحكيمة (24 سنة)، وهي أم عازبة في مدينة الدار البيضاء، رأي آخر، فتقول "ليس جميع الأمهات العازبات يعشن حياة رفاهية، بل نعيش تهميشاً، عائلتك ترفضك ولا أحد يساندك، وأنا لا أريد أن أستغل ابنتي وأظهرها على مواقع التواصل الاجتماعي لأربح المال من معاناتها". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) تبلغ ابنة حكيمة أربع سنوات، ويعيشان في غرفة مستأجرة، وتضيف في هذا الصدد، "مثل هؤلاء المؤثرات يظهرن للمراهقات بأنهن بمجرد من أن يكن أمهات عازبات يمكنهن العيش حياة سعيدة، ولكنهن لا يخبرهن بأنهن يتاجرن بقصصهن لأجل الربح وتأمين حياتهن، وهو أمر لا يمكنني فعله". تعمل حكيمة في مقهى وتكافح لأجل تأمين لقمة العيش لابنتها، حياتها اليومية مختلفة عن حياة المؤثرات، تضطر إلى تغيير عملها بسبب غيابها المتكرر للعناية بطفلتها. وتقول في هذا السياق، "عندما أنظر كيف تروج المؤثرات لحياة الأم العازبة بأنها حياة مثالية، أشعر بالغضب لأنهن لا يقلن الحقيقة ولا يتحدثن عن واقعهن". تأثيرات غير مباشرة أشارت دراسة لمجلة "أجهزة الحاسوب وسلوك الإنسان" تحمل عنوان "عذراً.. لقد شاركت أكثر من اللازم!"، إلى أن المستويات العالية من الإفصاح عن الذات يمكن أن تعزز مشاعر التواصل لدى الأفراد تجاه الشخص الذي يكشف عن المعلومات، مما يعني أن الكشف عن الحميمية لمؤثري وسائل التواصل الاجتماعي يؤدي إلى الإضرار بتصورات صدقية المصدر. وتضيف "إدراكاً لإمكان تحسين المحتوى الشخصي للتفاعل عبر الإنترنت، يستخدم مسوقو المحتوى المؤثرون بصورة متزايدة الإفصاح الذاتي الحميمي كجزء من استراتيجية التواصل الخاصة بهم". وأظهرت نتائج الدراسة أن "محتوى الحميمية العالي يلبي حاجة الفرد إلى الارتباط بصورة أكبر، وكلما كان المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي يحتوي على مستويات عالية من الكشف عن الحياة الخاصة كان قادراً على ممارسة تأثيرات غير مباشرة ودليلاً على الصدقية من خلال إشباع حاجة المتابعين إلى الارتباط، وذلك مقارنة بالمنشور ذي المستويات المنخفضة من الكشف عن الذات والحياة الحميمية".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store