logo
كيف نفهم ماكرون الحائر؟

كيف نفهم ماكرون الحائر؟

الجزيرة١٥-٠٤-٢٠٢٥

حلَّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضيفًا على نظيره المصري عبد الفتاح السيسي مطلع هذا الأسبوع، ولأول مرة منذ سنوات طويلة، شملت الزيارة جانبًا شعبيًّا، حيث رُتِّبَت جولة للرئيسيْن في منطقة الأزهر، ثم لقاءٌ لماكرون داخل جامعة القاهرة، وأخيرًا زيارة لمدينة العريش.
وقد أظهرت الصور علاقة دافئة بين البلدين، بالتزامن مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وقد شملت تصريحات ماكرون في الزيارة التأكيد على رفض تهجير الفلسطينيين من غزة، والتمسُّك بوقف إطلاق النار، ودعم الخطة المصرية لغزة.
استدعى كثيرون زيارة الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان للقاهرة قبل حوالي نصف قرن، حين استضافه الرئيس السادات إبَّان نقد لاذع من معارضيه في مصر، وهي زيارة أتت في خضم محاولات الرئيس الراحل أنور السادات وضع مصر في قلب التحالف الغربي.
ولكن إذا ما نظرنا إلى زيارة الأسبوع الماضي من منظور فرنسا وتاريخ تفاعلها مع المنطقة، فسنجد تشابُهًا بينها وبين زيارة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك للضفة وغزة عام 1996.
في سنوات شيراك بَدَت فرنسا في ذروة تملمُلها من الهيمنة الأميركية المُطلقة التي سبَّبها انهيار الاتحاد السوفياتي ، ومن ثمَّ قرَّرت أن تدخل -بما يتيحه لها ثقلها- في تفاعل مع العالم العربي بعيدًا عن السياسة الأميركية.
كان ذلك يعني بالطبع أن تصبح باريس أقرب إلى منظمة التحرير الفلسطينية ، ولم يكُن ذلك صعبًا على أي حال بالنظر إلى تخلِّي الأخيرة عن خيار المقاومة المُسلَّحة بعد اتفاق أوسلو في مطلع التسعينيات، وهو وضع رضخت له للمفارقة بسبب تفرُّد واشنطن بالهيمنة في النظام الدولي.
كان منطقيًّا إذن أن تبحث فتح وزعيمها عرفات عن قوة بديلة ولو جزئيًّا لمناورة الضغوط الأميركية بشأن مستقبل الدولة الفلسطينية وجيشها وسيادتها.
في رام الله، تحدَّث شيراك من قلب المجلس التشريعي الفلسطيني، وكان أول رئيس دولة على الإطلاق يفعلها. وفي شوارع القدس القديمة، تحرَّك الرئيس الفرنسي بعفوية مصافحًا الفلسطينيين في الشوارع، وحاول رجال الأمن الإسرائيليين أن يحُولوا بينه وبين الناس.
كان شيراك قد طلب ألا تتضمَّن ترتيبات تأمينه أي مسؤول إسرائيلي، تأكيدًا على رفضه الأمر الواقع في المدينة، وتمسُّكه بحدود 1967، التي تجاهلتها إسرائيل وتجاهلها كذلك الأميركيون بدرجة ما في ذلك الوقت.
لكن حكومة نتنياهو فرضت نفسها كالعادة وأقحمت رجالها، حتى صاح فيهم شيراك فجأة: "ماذا تريدون منِّي؟ تريدوني أن أذهب إلى طائرتي وأعود إلى فرنسا؟ دعوا الناس يقابلوني!" بلغ التوتُّر مداه إلى حد اضطُر معه نتنياهو إلى الاعتذار للرئيس الفرنسي، بالتوازي مع تزايد كراهية الإسرائيليين المحافظين له.
"كان شيراك يرى القضية الفلسطينية بعيون ياسر عرفات".
إريك أشيمان وكريستوف بولتانسكي، متحدِّثَيْن عن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، في كتابهما "شيراك العربي: سرابُ سياسة فرنسية".
ديغول والمسافة من واشنطن
مثله مثل ديغول، لم يكُن شيراك على استعداد لإدراك الحدِّ الذي تقلَّص إليه وزن فرنسا. لقد خرجت فرنسا بتراجع كبير في قوتها العسكرية وحضورها الدولي بعد الحرب العالمية الثانية رغم انتصارها في الأخير.
وبعد الحرب، لم تكن موسكو على اقتناع بأن الجزائر والمستعمرات الفرنسية في الهند الصينية من المفترض أن تعود إلى السيادة الفرنسية، وتردَّدت واشنطن نفسها لكنها رضخت للمطالب الفرنسية رغبة منها في تعزيز قوة فرنسا لمواجهة الهيمنة السوفياتية.
بعد سنوات قليلة، سيصبح الموقف الأميركي تحت قيادة أيزنهاور وكنيدي داعمًا لاستقلال الجزائر ورافضًا لاستمرار المستعمرات البريطانية والفرنسية، ولكن بعد أن انفكّت الجزائر بالفعل من سطوة الفرنسيين، حيث نشبت الحرب الأكثر دموية في المنطقة منذ حروب نهاية الدولة العثمانية، وضحَّى الجزائريون بدماء مليون شهيد حتى انتزعوا استقلالهم من فرنسا، وهي حرب خَدَم فيها جاك شيراك جنديًّا في شبابه.
ويقول أشيمان وبولتانسكي في كتابهما عن شيراك إن سنوات الخدمة في الجزائر أكسبته -على عكس المتوقَّع- تأثُّرًا وإعجابًا بالثقافة العربية لازمه حتى نهاية رئاسته عام 2007.
رغم أن ديغول كان له الفضل فيما بعد في إدراك استحالة الاحتفاظ بالجزائر، فإنه لم يتنازل عن استقلالية فرنسا وضرورة أن تؤدّي دورًا موازِنًا، لا متماهيًا، مع الإنجليز والأميركيين.
ورغم افتقادها للوزن والقوة اللازمين لكي تحصل على دور مكافئ لواشنطن ولندن، فإن ديغول أصرَّ على أن يصنع لبلاده قوة خاصة بها، ومن ثمَّ أبدى مع الوقت تملمُلًا من الهيمنة الأنغلو-أميركية، أفضى في النهاية إلى انسحاب فرنسا من القيادة العسكرية الموحَّدة لحلف الناتو في الستينيات، كي يحتفظ الجيش الفرنسي باستقلاله الكامل.
لاحقًا، أصبحت فرنسا تبحث عن موطئ قدم منفصل لها عن الناتو بالتقرُّب من حركات وقيادات يُنظر إليها بوصفها مناوئة لواشنطن، ولذلك قرَّرت أن تعترف بجمهورية الصين الشعبية عام 1964، وأن تنحاز إلى العرب في حرب 1967، وندَّدت بالعدوان الإسرائيلي، بل حظرت تصدير السلاح إلى تل أبيب بعض الوقت، رغم أنها قبل عقد واحد فقط كانت أقرب إليها من واشنطن نفسها.
حين تبلور التحالف الإستراتيجي بين أميركا وإسرائيل بالكامل، أصبح يُنظر إلى إسرائيل والانحياز الأعمى إليها بوصفه عبئًا على استقرار المنطقة، ومن ثمَّ تبلورت سياسة الميل النسبي إلى العرب.
في السبعينيات، رأت باريس في صدَّام حسين قوة وازِنة يمكن الاستثمار فيها، بل ساعدت الرئيس العراقي على بناء مشروع نووي بالتعاون مع إيطاليا، دونما إمعان نظر في جرائمه اتجاه شعبه داخل العراق.
لم تعبأ إسرائيل بأيٍّ من ذلك، فقتلت المُشرِف على المشروع، العالم المصري يحيى المشد ، بدم بارد في العاصمة باريس وهو في إحدى زياراته لها عام 1980، وبعد عام واحد من اغتياله، قرَّرت ضرب المشروع بالكامل بضربة جوية في عملية عُرِفَت باسم أوبرا.
لم تكُن إسرائيل أكثر اعتدادًا بنفسها فحسب بعد أن حصلت على كل ما أرادت من طي صفحة الجبهة المشتعلة مع مصر بتوقيع اتفاق كامب ديفيد، بل كانت على عِلم أيضًا بأن فرنسا في الحقيقة لا تملك قوة وهيمنة فعلية على الأرض.
بيد أن أيًّا من ذلك لم يمنع جاك شيراك، الذي تولَّى الرئاسة عام 1995، من العودة إلى الديغولية بقوة وواشنطن في ذروة قوتها، بدلًا من مسايرة البيت الأبيض وهو على قمة النظام الدولي وحده.
ليس ذلك فحسب، بل إن شيراك دخل إلى الإليزيه ومعه انحيازاته الثقافية والشخصية للعرب بشكل أغضب الكثير من صناع القرار الأميركيين، ودفع الصحافي الأميركي جون فينوكور إلى وصفه بأنه يتحرَّك في الشرق الأوسط وكأنه يلعب لعبة من ألعاب الفيديو ويحارب بين أزقة مدينة عربية من أجل العرب.
كانت الديغولية دومًا أشبه بمحاولة إلقاء ظلال طويلة على الساحة الإقليمية والدولية بقامة قصيرة للغاية، وكأنها نوع من أنواع التلاعب بالضوء. ولكن في السياسة، وحيث تُهيمن الولايات المتحدة وحلفاؤها بلا رادع في واحدة من أكثر المناطق التي منحت الأميركيين ما أرادوا مُبكرًا (منذ منتصف السبعينيات)، لم يكن هناك سوى مرآة الأمر الواقع، التي نظر فيها شيراك بنفسه عام 2003 ليعرف الحقيقة.
في ذروة عربدتها في المنطقة، قرَّرت الولايات المتحدة تحت إدارة جورج بوش الابن أن تغزو العراق دون رادع حقيقي، وقرَّرت فرنسا أن تشن حربًا دبلوماسية على القوة الدولية الأولى في العالم دفاعًا عن استقلال العراق، وتعاطُفًا أيضًا مع حليفها القديم.
احتاج الأمر شجاعة كبيرة من جانب فرنسا، التي رأت أنها تستطيع مواجهة واشنطن من موقعها الراسخ الآن في النظام الأوروبي والدولي. غير أن أصدقاء شيراك من العرب، على عكس شيراك نفسه، لم يأخذوا الأمر بجدية. فلم يكُن القادة العرب في مطلع الألفية يملكون الندية التي امتلكها أعضاء الناتو في تحالفهم مع واشنطن، ولم يجرؤ أحد منهم على إغضابها.
وحين خرج شيراك من السلطة عام 2007، أشارت صحيفة نيويورك تايمز إلى أن الزعماء العرب وبَّخوا شيراك في النهاية على تماديه أكثر من اللازم في استعداء واشنطن! كان الدرس قاسيًا لفرنسا التي اكتشفت بعد انتهاء رئاسة شيراك أن ما تحاول الاستثمار فيه في العالم العربي غير موجود، وأن العرب أنفسهم -على عكس ديغول وشيراك- غير مهتمين بمناورة الهيمنة الأميركية، بل إنهم مستفيدون منها ومتوائمون معها.
حين وصل نيكولا ساركوزي إلى الرئاسة عام 2007، بدت فرنسا نادمة على الحرب الدبلوماسية التي شنَّتها على واشنطن وحدها، بل وعازفة عن الديغولية التي لم تؤت أُكُلها. ولذا، حاول ساركوزي ومن جاء بعده أن يداوي المرض بتعميق الداء لا بتناول دواء مناسب.
كان الحل هو الانحياز الكامل للرابطة الأطلسية في ذروة الهيمنة الأميركية في المنطقة، وهو قرار لم يكُن مواكبًا للمزاج الفرنسي أو تقليد الدولة هناك، لكنه أتى وكأنه يحاول تقليد العرب أنفسهم. شملت تلك السياسة انحيازًا غير مسبوق لإسرائيل لم تشهده فرنسا منذ الخمسينيات حين تحالفت مع تل أبيب إبَّان أزمة السويس.
لكن محاولة استرضاء واشنطن جاءت متأخرة، إذ إن الهيمنة الأميركية ذاتها كانت بصدد إعادة تعريف أولوياتها تحت إدارة أوباما بسبب صعود الصين، حيث قررت واشنطن أن تتواءم -وإن ظاهرا- مع الثورات العربية بعد تردد في بدايتها، لعلها تظفر بحلفاء جدد وحكام أكثر جدية يخففون عنها أعباء إدارة المنطقة.
لم يكُن القرار على هوى إسرائيل بالطبع، لكنه كذلك لم يكن على هوى فرنسا أيضا، التي قرَّرت أن تصبح مَلكية أكثر من الملك، وأن تنتزع ورقة دعم النظم الاستبدادية في المنطقة من الولايات المتحدة، فتشكَّلت علاقة وطيدة بين باريس ومحور الثورات المضادة، سرعان ما أثَّرت بشدة في شعبية فرنسا.
نسي الجميع شيراك ومآثر شيراك، وأصبحت فرنسا عنوانًا للتحالف مع أسوأ النظم السياسية، حتى جاءت الفضيحة الكبرى بتدخُّل فرنسا العسكري والكارثي في منطقة الساحل (أو الصحراء الكبرى)، الذي أسفر عن موجة كراهية شعبية كبيرة لوجودها وقواتها في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، بشكل حفَّز في الأخير الانقلابات العسكرية في الدول الثلاث لصالح نخب عسكرية جديدة ناقمة على فرنسا، وراغبة في التقرُّب من روسيا للحصول على الدعم في مواجهة "الحركات الإرهابية".
حين وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2016، أبدى الرجل سياسة مغايرة كُليًّا لسلفه، وأعاد توطيد علاقات بلاده مع كل النظم في المنطقة (سوى الإيراني بالطبع)، ومن ثمَّ تآكلت أكثر المساحة المتاحة لفرنسا ولأوروبا عمومًا.
في تلك الظروف وصل إيمانويل ماكرون إلى الإليزيه عام 2017، ووجدت فرنسا نفسها في حاجة ربما إلى صياغة ديغولية جديدة تتيح لها صياغة دور حقيقي، واستعادة المصداقية التي تمتَّع بها أمثال ديغول وشيراك.
لكن ماكرون اكتفى باللقطات الإعلامية لإثبات حضوره عربيًّا، وكانت أشهرها لقطته الشهيرة مع المطربة اللبنانية فيروز في أعقاب كارثة انفجار مرفأ بيروت ، دون أن يكون للرجل أي دور في حل الأزمة السياسية أو الاقتصادية في لبنان.
في ردِّه على تصريح نتنياهو بأن دولة الاحتلال تخوض صراعا من أجل الحضارة في غزة، ردَّ ماكرون مستنكرًا وبلهجة بدَت مفاجئة قائلًا: "لست متأكِّدًا من أنك تستطيع الدفاع عن الحضارة عبر نشر البربرية (في غزة)".
إعلان
أتى تصريح ماكرون بعد مرور عام على طوفان الأقصى والحرب التي شنَّها الاحتلال على قطاع غزة، وحمل نبرة نقد قاسية غير مُعتادة من الإليزيه لإسرائيل، وقد عدَّه بعض المحللين حينها انعكاسًا لتراجع الموقف الفرنسي عن دعم إسرائيل، بعد أن أدان هجوم 7 أكتوبر في حينه واتجه مباشرة لزيارة نتنياهو وإعلان تضامنه وتضامن باريس مع الإجراءات التي سيتخذها جيش الاحتلال.
ثمَّة مؤشرات شعبية على غياب أي دعم حقيقي لدولة الاحتلال في صفوف الفرنسيين، فقد أظهر استطلاع للرأي أن 29% فقط من الفرنسيين يعتقدون أن إسرائيل تريد السلام. يُضاف إلى ذلك أن العام ونصف العام الماضي شهد انتخابات برلمانية فرنسية عُدَّت مفاجأة، بعد أن حققت الجبهة الشعبية الجديدة من اليسار العدد الأكبر من المقاعد، يليها تحالف "معًا" الحاكم، ثم التجمُّع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان.
وقد برز من الجبهة الشعبية السياسي جان لوك ميلانشون بمواقفه الجادة في دعم غزة، واستخدامه كلمة "الإبادة" صراحة لوصف الحرب الإسرائيلية. أما اليمين الفرنسي، صاحب المواقف التاريخية المُعادية لليهود، فلا يزال يتلمَّس طريقه من أجل استمالة بعض اليهود عبر دعم إسرائيل، وهو موقف يثير الانقسامات داخل اليمين.
لذلك، وبدون مُبرر شعبي حقيقي لتبني موقف منحاز لإسرائيل، وبدون رغبة لدى الحكومة في الصدام مع اليسار في الشارع، خاصة بعد أن تجاهل ماكرون نتائج الانتخابات وشكَّل حكومة أقلية بدون اليسار؛ بدت فرنسا على عكس واشنطن وبرلين ولندن، أكثر تردُّدًا في فتح أذرعها لنتنياهو.
ومع مرور الوقت، تبنَّت مواقف أكثر نقدا للسياسة الإسرائيلية، أبرزها دعوة ماكرون بنفسه لوقف تسليح الجيش الإسرائيلي وتطبيق حظر السلاح عليه حتى يُجبَر على وقف إطلاق النار، وهي سياسة حازت دعم 51% من الفرنسيين وقفًا لاستطلاع رأي أجري في فرنسا بعد ستة أشهر فقط من طوفان الأقصى.
في أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، قرَّرت الحكومة الفرنسية التصعيد مع تل أبيب بمنع الشركات الإسرائيلية من المشاركة في معرض يورونوفال، المعرض الأهم عالميًّا في مجال الدفاع والأمن البحري، الذي يُعقَد في فرنسا كل عاميْن.
وقد احتج وزير الخارجية الإسرائيلي كاتس -الذي أصبح مؤخرا وزيرا للدفاع- على الحظر الفرنسي، وقرَّر مقاضاة الحكومة أمام المحاكم الفرنسية، التي قرَّرت أن قرار ماكرون يُعَد تمييزًا تجاريًّا، ومن ثمَّ سمحت في الأخير للشركات الإسرائيلية بالمشاركة.
وقد زاد الأزمة في باريس عودة ترامب إلى السلطة قبل أربعة أشهر، حيث دخل الرجل هذه المرة بفريق رئاسي يحمل خطة كاملة، أبرزها تقليص الأعباء العسكرية والمالية التي تتكبَّدها واشنطن من أجل الشراكة الأطلسية.
لم يكُن ماكرون على استعداد لأي من تلك التحوُّلات الداخلية والخارجية، التي يبدو أنها حفَّزت محاولات إعادة إنتاج دبلوماسية ديغولية على عجالة، دون أن يكون الوضع في الداخل مواتيًا، أو يكون الرصيد الحقيقي والشعبي لفرنسا كافيًا.
بشعبية محدودة في الداخل، وصورة نالها ما نالها في العالم العربي تحديدًا، قرَّر ماكرون فجأة أن يحاول استعادة روح شيراك، وأن يترجم التوتُّر المكتوم بينه وبين تل أبيب إلى "حالة" سياسية جديدة، وهو تحرُّك وجد صدى بالطبع لدى الدول العربية التي تعاني من ضغوط الإدارة الأميركية وحلفائها من تل أبيب، ومن تجاوز كل الحقوق والالتزامات التاريخية للشعب الفلسطيني، وأبرزها مصر والأردن.
في هذا السياق، يمكن فهم الصعود المفاجئ من ماكرون إلى مسرح السياسة الإقليمية، ومحاولة السير على نهج شيراك في اجتذاب القادة الذين يقفون موقفًا مغايرًا لواشنطن وتل أبيب، رغم أن موقف فرنسا وحلفائها في العالم العربي الآن لا يصُبّ بالضرورة في صالح خيار المقاومة المُسلَّحة. في القاهرة وعمَّان استُقبِل ماكرون بحفاوة بالنظر إلى الحاجة الماسة إلى قوة دولية توازن الانحياز الأميركي الصارخ لخطة التهجير.
أما في باريس فإن اللهفة للعودة إلى دبلوماسية شيراك أتت بحثًا عن رصيد جديد لفرنسا تواجه به الضغوط الأميركية على أوروبا، ويفتح مجالا لفرنسا كي تكون رأس حربة الدبلوماسية الأوروبية في التعبير عن مواقف أكثر استقلالية وذاتية، كما وصفها ماكرون بنفسه.
يعالج ماكرون مشاكله الداخلية والخارجية معًا بالهروب إلى الأمام، والبحث عن دور في صراع يحتل الاهتمام الأبرز الآن إلى جانب أوكرانيا. وكل ذلك والقارة الأوروبية في خضم نقاش حول ضرورة تأسيس قيادة عسكرية خاصة بها والإنفاق عليها كيلا تكون تحت رحمة الولايات المتحدة ومواءمات ترامب مع بوتين، وهي قيادة يحاول عبرها الاتحاد الأوروبي اجتذاب بريطانيا وتركيا غير الأعضاء.
في خضم تلك الأحداث، كانت فرنسا ستكون الأكثر استعدادًا لو أنها استثمرت بالفعل في سياسة مستقلة بدلًا من السياسة الأطلسية التي تبنَّتها منذ عقديْن تقريبًا، ولو أنها أيضًا حاولت ترجمة اهتمام شيراك بالعالم العربي إلى تواصل حقيقي مع المنطقة وشعبها، بدلًا من الانبهار بثقافتها من بعيد، والاكتفاء باحتضان زعمائها.
من رام الله 1996 إلى العريش 2025
كان شيراك يحب العالم العربي حقيقة، وإن شابت مشاعره تلك سِمات استشراقية واضحة، وتخلَّلتها أيضًا مصالح فرنسية براغماتية أرادت أن توجِد مجالًا حيويًّا لفرنسا في جنوبها، علاوة على تجاهلها تطلعات الشعوب العربية الحقيقية من أجل الحرية، وكان الدفاع عن حافظ الأسد وصدام حسين لمناورة الأميركيين، الذي رآه شيراك سياسة "مؤيدة للعرب" لمجرد أنها خالفت واشنطن، تجاهلًا فعليًّا لحقوق العراقيين والسوريين الذين سُلِبوا أبسط حقوقهم آنذاك.
بذل شيراك الغالي والنفيس بالفعل لبناء شراكات مع النظم العربية، وغامر بتوتُّر مع تل أبيب، وشبه قطيعة مع واشنطن، من أجل سياسة مستقلة في العالم العربي، وسياسة خارجية أكثر استقلالا لباريس، وإن لم يملك الثمن في النهاية لتحقيق كل ذلك، تاركًا محض ذكريات عنه بوصفه "صديقًا للعرب".
مرَّ عقدان تقريبًا من الانقلاب على الديغولية في باريس لصالح بديل أثبت مع الوقت أنه أسوأ لا أكثر، وكان التدخُّل العسكري في منطقة الساحل الأكثر كارثية إلى جانب انحياز فرنسا لجهود تقويض الثورات العربية، مما كلَّفها موجة غضب شعبية كبيرة، مع تراجع النظرة الإيجابية لدورها في المنطقة حتى في لبنان. ثم جاء ماكرون ولم يُبد أي محاولة لمراجعة الخطوط العامة لساركوزي وهولاند ، بل اكتفى بتحرُّكات دبلوماسية لم تُحرِّك ساكنًا، على عكس الحفاوة التي لطالما قوبل بها شيراك.
في يوم وليلة، وبعد أن عاد ترامب بأجندة أسوأ من تلك التي حملها أثناء فترته الرئاسية الأولى، وانفتح باب الحرب الإقليمية الكاملة في المنطقة مع عملية طوفان الأقصى والتصعيد الإيراني الإسرائيلي وعملية ردع العدوان وسقوط نظام الأسد في سوريا، وتقلُّب الوضع اللبناني بسبب الضربات التي تعرَّض لها حزب الله ؛ تجد فرنسا وأوروبا كلها نفسها أمام مسألة البحث عن إستراتيجية مستقلة في مواجهة كل التحديات، وهي فرصة مواتية لفرنسا لو أنها كانت قد استثمرت على مدار الأعوام العشرين الماضية في ديغولية ذات معنى.
بيد أن حكومة الأقلية التي تجاهلت فوز اليسار الانتخابي، وصورة ماكرون التي أصبحت عنوانًا لتدهور الدولة والاقتصاد في فرنسا، وسنوات طويلة من غياب أي هوية في السياسة الخارجية مع فقدان الشعبية في العالم العربي، كل ذلك لا يؤهل ماكرون لأداء الدور الذي يريد، وكأنه يريد أن يصبح فجأة جاك شيراك.
في صورة لجاك شيراك برفقة ياسر عرفات التُقطِت أثناء زيارته لفلسطين عام 1996، أخذ الزعيم الفلسطيني الراحل يستعرض خريطة غزة والميناء المُزمَعة إقامته للقطاع بعد إعلان الدولة الفلسطينية.
على ضوء ما يجري اليوم من إبادة ونسف لأي مقوِّمات حياة عادية في قطاع غزة فضلًا عن عدم وجود ميناء من الأساس؛ تقول الصورة الكثير عن وهم أوسلو، وكذلك عن قصور الديغولية عن فهم المنطقة والقوة التي تملكها فرنسا لترجيح كفة طرف على آخر، وهي قوة غير موجودة في الواقع.
لقد تبخَّر صدام بضربة أميركية قسَّمت العراق، وتكسَّرت سوريا على وقع التدخُّل الإيراني الروسي، مع محاولات إسرائيلية اليوم لفرض واقع جديد في سوريا بعد سقوط الأسد، وتردَّى لبنان إلى حدود لم يعرفها من قبل، ووقفت فرنسا لا تملك إلا "الأكروبات الدبلوماسي"، ولم تترك إلا ذكريات هشَّة وصور قديمة.
كل ما تغيَّر على مدار عقديْن هو فقدان المصداقية والشعبية اللتين لم تملك فرنسا شيراك سواهما أصلًا، كما تثبت الوقائع، ومجريات الأحداث التي لم تفلح باريس في تغييرها قيد أنملة. فلا هي أنقذت مشروع الدولة الفلسطينية ولا حَمَت لبنان ولا ساهمت في إعادة تشكيل الوضع السوري ولا ظفرت بمكاسب حقيقية في ليبيا أو منطقة الساحل الأفريقي.
الآن، تحاول فرنسا أن تعود إلى الديغولية فجأة تحت ضغوط إدارة ترامب الثانية، والمساحات التي فُتِحَت من جديد للوقوف إلى جانب الموقف العربي التقليدي الذي تتزعَّمه مصر والأردن. لكن باريس تحاول اقتناص تلك الفرص وهي في أضعف حالاتها داخليًّا وخارجيًّا، حتى إن فرنسا شيراك تبدو من بعيد وكأنها كانت قوة إقليمية حقيقية، رغم أن الأيام أثبتت عكس ذلك الافتراض.
على الأرجح أن الأمر يحتاج إلى سنوات طويلة حتى تستطيع فرنسا إحياء دبلوماسيتها المستقلة من سُباتها، واستدراك أخطاء الديغولية ذاتها، التي لم يُعد بالإمكان أن تبني عليها فرنسا وكأنها في ستينيات أو تسعينيات القرن الماضي.
أما زيارة القاهرة والعريش، على ما تمثله من أهمية لفرنسا، مثلها في ذلك مثل زيارة فلسطين 1996، فإنها مُرشَّحة للانضمام إلى أرشيف الدبلوماسية الفرنسية النشطة، دون أي أثر فعلي على مجريات الأحداث، كما هي عادة الدور الفرنسي على الدوام.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

خبير عسكري: 3 عوامل دفعت إسرائيل تاريخيا لإيقاف حروبها
خبير عسكري: 3 عوامل دفعت إسرائيل تاريخيا لإيقاف حروبها

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

خبير عسكري: 3 عوامل دفعت إسرائيل تاريخيا لإيقاف حروبها

قال الخبير العسكري والإستراتيجي العميد إلياس حنا إن التاريخ الإسرائيلي يظهر أن 3 عوامل كانت تؤدي دوما إلى وقف الحروب الإسرائيلية، مؤكدا أن مساعي الاحتلال للسيطرة على غزة يتطلب المزيد من الجنود، وهو ما يخدم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والتي تعتمد على حرب العصابات. وتتعلق العوامل الثلاثة بالواقع الداخلي الإسرائيلي، وبالضغوط الدولية، وبالمقاومة التي تحتل أرضها، مشيرا إلى أن المرحلة الحالية تشهد وجود ضغوط داخل إسرائيل على حكومة بنيامين نتنياهو ، من أجل إنهاء الحرب، وفي العالم هناك بداية تحول أوروبي وانزعاج الرئيس الأميركي دونالد ترامب من سلوك نتنياهو، حسب ما نقل موقع أكسيوس عن مسؤولين بالبيت الأبيض. أما على مستوى المقاومة، فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي يواصل تكبد الخسائر في صفوفه، وقد أعلن صباح اليوم مقتل الجندي دانيلو موكانو (20 عاما)، برتبة رقيب أول، خلال اشتباكات جنوب قطاع غزة. وبحسب صحيفة يديعوت أحرونوت، قُتل الجندي نتيجة انفجار عبوة ناسفة أدت إلى انهيار مبنى كان داخله. ويُعد هذا ثاني جندي يعلن عن مقتله في غضون 24 ساعة، حيث قُتل جندي آخر أمس الثلاثاء في اشتباكات شمال القطاع. وحول العملية العسكرية التي يشنها الاحتلال على غزة، يقول العميد حنا، إن جيش الاحتلال في هذه الفترة يعتمد على التقدم البطيء داخل غزة وعلى القضم المتدرج، مستخدما المدفعية والطيران، وأضاف أن التعليمات الجديدة التي قدمت له هي الدخول والبقاء وتأمين المركز والعمل على ضرب البنى التحتية للمقاومة. وقال -في تحليل للمشهد العسكري في غزة- إن نتنياهو يلعب على مسألة السيطرة على المساحة، ما يعني المزيد من الجنود في غزة، وهذا يخدم المقاومة الفلسطينية التي قال إنها لن تقاتل في المساحات المفتوحة، بل في الأماكن التي تراها مناسبة وعن طريق حرب العصابات. وأشار العميد حنا إلى تصريح رئيس الأركان الإسرائيلي، إيال زامير بأنهم بحاجة إلى سنة تقريبا، 3 أشهر للدخول و9 أشهر لتنظيف المنطقة، حسب زعمهم. وقلل العميد حنا من إمكانية نجاح الاحتلال في عمليته العسكرية، وتساءل: هل هو قادر على حكم قطاع غزة بشكل عسكري وكامل؟ وما الكلفة البشرية التي سيدفعها؟ وأعلن الجيش الإسرائيلي في وقت سابق بدء عملية برية في مناطق عدة داخل قطاع غزة في إطار بدء عملية "عربات جدعون"، في تصعيد خطير ضمن حرب الإبادة المتواصلة على القطاع. غير أن استمرار نتنياهو وجيشه في العدوان على غزة يثير انتقادات شديدة، خاصة من طرف قيادات سياسية وعسكرية إسرائيلية، وآخرها تلك الصادرة عن وزير الدفاع السابق موشيه يعالون، إذ قال إن "القتل الذي يرتكبه الجيش الإسرائيلي في غزة سياسة حكومة تجر إسرائيل للهلاك وهدفها البقاء بالسلطة"، كما صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت لـ"بي بي سي" أن "ما تفعله إسرائيل الآن في غزة يقارب جريمة حرب". وكانت إسرائيل استأنفت حربها على غزة في 18 مارس/آذار الماضي بعد أن رفضت الانتقال للمرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار.

هل تحمل عربات جدعون نتنياهو للانتخابات المقبلة؟
هل تحمل عربات جدعون نتنياهو للانتخابات المقبلة؟

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

هل تحمل عربات جدعون نتنياهو للانتخابات المقبلة؟

رغم إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية- السماح بدخول كمية قليلة جدا من المساعدات إلى قطاع غزة مبررا ذلك "بأنه من أجل استكمال النصر وهزيمة حماس وإطلاق سراح الرهائن"، فإن وزراء في حكومته عبروا عن رفضهم القاطع لهذه الخطوة. في المقابل، أفادت صحيفة "يسرائيل هيوم" بأن هذا السماح جاء ضمن اتفاق بين حركة حماس والإدارة الأميركية يرتبط بصفقة الإفراج عن الأسير عيدان ألكسندر ، ولا يعد مبادرة إسرائيلية خالصة. وترافقت هذه التطورات مع تصاعد الضغوط الأميركية والأوروبية، إلى جانب قلق إسرائيلي من جهود دبلوماسية يقودها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحث دول أخرى على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ورأت بعض الدوائر السياسية الإسرائيلية أن إدخال المساعدات يهدف إلى احتواء الزخم الدولي المتنامي بهذا الشأن، بحسب الصحيفة. ورقة نتنياهو لتأجيل الانتخابات وفي افتتاحيتها، تقول صحيفة "هآرتس" إن عملية " عربات جدعون" التي بدأها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة لا تهدف إلى إطلاق سراح الأسرى أو توفير الأمن لمواطني إسرائيل، بل إن الهدف في أفضل الأحوال هو الحفاظ على ائتلاف نتنياهو "المتطرف" من خلال تأجيل نهاية الحرب. ووفقا للصحيفة، فإن مخطط ستيف ويتكوف مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط الذي من المفترض أن يُنفذ على مدار نحو شهرين، قد يتيح لنتنياهو عبور دورة الصيف في الكنيست بسلام، والتي تنتهي في 27 يوليو/تموز. وتتابع الصحيفة أنه في مثل هذا السيناريو، سيبقى الائتلاف قائما على الأقل حتى بداية الدورة الشتوية في نهاية أكتوبر/تشرين الأول، مما يعني أن الانتخابات المقبلة لن تعقد قبل ربيع 2026، وهذه هي الأولوية القصوى لنتنياهو في الوقت الراهن، بينما تبدو باقي الاعتبارات ثانوية بالنسبة له. وتكرر الصحيفة في مقالات عدة أن نتنياهو يستخدم الظروف الأمنية كدرع سياسية ويصور نفسه كحاجز لا يمكن لإسرائيل الاستغناء عنه، ويعطل أي محاولة لتغييره بزعم الخطر الأمني، لتعطيل أي جهود للمعارضة أو الدعوة لانتخابات مبكرة. ويرى المحلل السياسي الإسرائيلي يوني بن مناحيم أن "تحقيق نتنياهو لإنجازات في قطاع غزة هو الأساس الوحيد الذي يمنحه فرصة الفوز في الانتخابات القادمة، المقررة نهاية العام المقبل". وأضاف في مقابلة مع وكالة الأناضول أن ما بقي من عمر حكومة نتنياهو رسميا "سنة واحدة، وإذا لم تتمكن خلال هذه الفترة من إسقاط حماس بالكامل في قطاع غزة، فإنها ستسقط في الانتخابات". وفي معرض الحديث عن الخلافات في الداخل الإسرائيلي بشأن السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، قال بن مناحيم "هناك معارضة لإدخالها، ويعتبرون أن هذا جزء من الضغط على حماس للقبول بالشروط الإسرائيلية للتبادل ووقف إطلاق النار". ومن جانبه، يرى المختص في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور أن "نتنياهو يستخدم عملية عربات جدعون كسيف مسلط على رقاب أهالي غزة، وأن هذا العدوان لن يتوقف إلا إذا خضعت حماس -وفق تعبير نتنياهو- لصفقة جزئية دون التزامات واضحة لإنهاء الحرب، إذ يدرك رئيس وزراء الاحتلال أن التعهد المباشر بوقف الحرب قد يعني تهديد حكومته وزعزعة ائتلافه". مفاوضات تحت النار ويتزامن هذا الجدل السياسي مع إعلان الجيش الإسرائيلي انطلاق "عربات جدعون" كعملية عسكرية شاملة تهدف لتحقيق أهداف الحرب في غزة، أبرزها القضاء على حماس وتحرير الرهائن". ووفق ما صرح به وزير الدفاع يسرائيل كاتس ، فإن الضغط العسكري بسبب عربات جدعون ونزوح مئات الآلاف تحت نار القصف والتجويع، هي السبب لقبول حماس بالانخراط في المفاوضات التي تجري في الدوحة. ورغم أن نتنياهو أعلن بقوة بدء عملية عربات جدعون بهدف القضاء على حماس وتحرير الأسرى والسيطرة على كامل قطاع غزة، فإنه ما زال يصر على شروطه التعجيزية السابقة برفض الحديث عن وقف الحرب، وهو شرط حماس الرئيسي. على الطرف المقابل، حمّل رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني تل أبيب مسؤولية تقويض فرص السلام، مشيرا إلى أن قصف القطاع عقب الإفراج عن الجندي الأميركي الإسرائيلي عيدان ألكسندر أجهض محاولات جرت في هذا السياق. وقال في كلمته خلال افتتاح منتدى قطر الاقتصادي إن المفاوضات التي استضافتها الدوحة خلال الأسابيع الماضية لم تفضِ إلى أي تقدم، مرجعا ذلك إلى "خلافات جوهرية بين الأطراف"، حيث تتمسك إسرائيل باتفاق مرحلي، في حين تطالب حركة حماس باتفاق شامل ينهي الحرب ويشمل إطلاق الأسرى. انتقادات واعتراضات وفي سياق الحديث عن المساعدات الشحيحة التي ستسمح إسرائيل بدخولها لقطاع غزة، تؤكد وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن نتنياهو نفسه يعتبر أن قرار المساعدات مؤقت لمدة أسبوع تقريبا حتى الانتهاء من إنشاء مراكز توزيع تخضع لإشراف الجيش الإسرائيلي وتديرها شركات مدنية أميركية، لحرمان حماس من قدراتها الحكومية ومنعها من الوصول إلى توزيع المساعدات. غير أن لهجة الانتقادات كانت كبيرة من قبل وزراء بارزين داخل حكومته، وفي مقدمتهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير الذي قال إن "أي مساعدة إنسانية تدخل القطاع ستغذي حماس وتزودها بالأكسجين، بينما يقبع رهائننا في الأنفاق" واعتبر أن نتنياهو "يرتكب خطأ فادحا" إذ لا يحظى بدعم الأغلبية الحاسمة بين شركاء الائتلاف. أما وزير المالية بتسلئيل سموترتيش ، فقد هاجم القرار واصفا الحديث عن إدخال المساعدات إلى غزة بـ"الجنون المطلق"، مضيفا أنه "لا ينبغي السماح بدخول حتى المياه، لحين الإفراج عن آخر أسير إسرائيلي". ورأى أن استمرار الحكومة في هذا المسار قد يدفع المجتمع الدولي لفرض وقف الحرب على إسرائيل. من جانبه، حذر الوزير عميحاي إلياهو من أن إدخال المساعدات في هذا التوقيت يعد ضربة مباشرة للجهد الحربي، ويشكل عقبة إضافية أمام تحرير الأسرى. أما عضو الكنيست عن حزب الليكود ، تالي غوتليب، فاتهمت وزير الخارجية جدعون ساعر بأنه وراء القرار بالضغط على رئيس الحكومة، استجابة للمخاوف الأوروبية من اتخاذ عقوبات ضد إسرائيل. جدل الصفقة ورغم ما تتداوله وسائل الإعلام الإسرائيلية من مقترحات تقتصر على إطلاق سراح 10 أسرى أحياء وبعض جثث القتلى مقابل تهدئة مؤقتة لمدة 40 يوماً، يبقى إنهاء الحرب خارج نطاق النقاش، إذ يرفض نتنياهو بشكل قاطع التعهد بذلك، معتبراً الأمر خطا أحمر. ووفقاً لما نشره إيتمار إيخنر في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن وزراء في الحكومة يرون أن نتنياهو يواجه قرارا مصيريا بين المضي في المرحلة الأولى من خطة ويتكوف، التي تنص على إطلاق سراح 10 رهائن، أو القبول بصفقة شاملة، في ظل رفض بن غفير وسموتريتش لفكرة الإفراج عن جزء من المختطفين فقط، وتشديدهم على ضرورة ردع حماس الكامل حتى في حال إبرام صفقة شاملة. من ناحية أخرى، أضاف إيخنر أن هناك في الحكومة من يعتقد أن أي صفقة يجب أن تتم بسرعة، حتى لو كانت تتعلق فقط بنصف الرهائن، وبعد ذلك "إذا ظهرت إمكانية التوصل إلى صفقة شاملة، فيجب مناقشة استسلام حماس ووقف الحرب". ويرى عصمت منصور أن نتنياهو لا يمكن أن يوافق على صفقة شاملة كالتي طرحتها إدارة ترامب، وأنه نجح باللعب على عامل الوقت، فقد أرسل وفدا لا يملك أي تفويض وبتمثيل يعتبر متوسط لكسب الوقت والتحرر من ضغط زيارة ترامب للمنطقة الذي حاول عبر تصريحاته والتسريبات إيصال رسالة بأنه مهتم بإنهاء ملف غزة". وأضاف منصور أن استمرار الحرب يمثل مفتاح استقرار ائتلاف نتنياهو، في ظل ضغوط قوية من سموتريتش وبن غفير لدفع عملية عربات جدعون قُدماً، وتجسدت هذه الضغوط بتصريحات حول حصار الفلسطينيين جنوب محور موراغ تمهيدا لتهجيرهم والسيطرة على غزة لعقود. من جهة أخرى، يرجح الخبير في الشؤون الإسرائيلية عماد أبو عواد أن نتنياهو قد يقبل بصفقة جزئية من دون أي التزام بإنهاء الحرب، مستغلاً سياسة التجويع للضغط على الغزيين وإخضاعهم، بينما تستمر آلة الحرب في غزة سعياً لتحقيق "نصر مطلق" يسعى إليه نتنياهو. سقف التوقعات وتبقى التوقعات بإنهاء حرب الإبادة ضد غزة تراوح مكانها مع حالة من التشكيك بقدرة إدارة ترامب على الضغط على نتنياهو بشكل جدي لإنهائها. فقد اعتمد نتنياهو سياسة مزدوجة، يظهر مرونة معلنة أمام واشنطن بينما يعمل خلف الكواليس لإعاقة أي تقدم نحو إنهاء الحرب، في الوقت ذاته، يسعى لتسويق صورة "الانتصار" للرأي العام الإسرائيلي لتمرير صفقة مؤقتة والحفاظ على تماسك ائتلافه اليميني مع بن غفير وسموتريتش، بحسب صحيفة هآرتس. ويرى عماد أبو عواد أن إسرائيل ستوسع عملياتها العسكرية في غزة، اعتمادا على أن العالم بات معتادا على ما يحدث وباتت شلالات الدماء تسيل من دون أي ردود فعل، وصولا لإنجاز ميداني يمكن لنتنياهو وتسويقه لشركائه من اليمين المتطرف في صورة انتصار من بينها، سعيا لتحقيق إنجاز ميداني يمنحه ورقة قوة أمام شركائه. أما منصور، فيرى أن أي حل لغزة يجب أن يرتبط بتسوية إقليمية أوسع، لأن عربة التعاون والاتفاقيات التي وقعت لا يمكن أن تنجح مادامت الحرب قائمة. ويتوقع أن تصعيد عمليات عربات جدعون قد يمنح نتنياهو موقعا ميدانيا أفضل يسمح له بفرض إملاءات جديدة على شركائه إذا ما تبلورت تحركات لإنهاء الحرب. الإبادة مستمرة رغم المفاوضات التي تجري بالدوحة، صعدت آلة الإبادة الإسرائيلية وتيرة مجازرها في قطاع غزة، مما أدى إلى تهجير واسع في شمال القطاع، خصوصا بيت لاهيا وتل الزعتر، ومحاصرة المستشفى الإندونيسي، إضافة إلى استهداف منطقة الرمال الجنوبي ومستشفى الشفاء، ومعظم محافظة خان يونس. وأكد المكتب الإعلامي الحكومي بغزة سقوط نحو ألفي فلسطيني بين شهيد وجريح خلال التصعيد الإسرائيلي الأخير، بينما أفاد الدفاع المدني بأن عشرات الضحايا ما زالوا تحت الأنقاض، إذ تعيق غارات الاحتلال وصول فرق الإنقاذ والإسعاف إلى المناطق المنكوبة نتيجة الاستهداف المباشر. وتعليقا على الجرائم في غزة، اعتبرت صحيفة "هآرتس" أن سكان القطاع لم يكونوا بحاجة لإعلان رسمي عن بدء عملية عربات جدعون كي يدركوا حجم المأساة، مشيرة إلى أنه لم يعد بالإمكان التغاضي عما يفعله الجيش في قطاع غزة. واستشهدت الصحيفة بتصريح لعضو الكنيست تسفي سوكوت الذي قال "الجميع اعتاد أن يقتل 100غزي في ليلة واحدة أثناء الحرب، ولم يعد أحد يكترث"، موضحة أن هذا التصريح يُمثّل حالة تبلد أخلاقي خطيرة وليست دعوة للاستفاقة أو التحذير.

هكذا يبدو ترامب في عين إسرائيل الآن
هكذا يبدو ترامب في عين إسرائيل الآن

الجزيرة

timeمنذ 4 ساعات

  • الجزيرة

هكذا يبدو ترامب في عين إسرائيل الآن

في الرابع من فبراير/ شباط الماضي زار نتنياهو البيت الأبيض، والتقى بالرئيس ترامب. تجوّل الرجلان في أرجاء المكان الأكثر أهمية وخطورة في العالم، وصعدا معًا إلى الطابق الثاني. واصلا المشي، وتبادلا المجاملات إلى أن بلغا غرفة نوم لينكولن، وهو المكان الذي اتّخذه الأخير مكتبًا له، وهناك وقّع على قرار تحرير العبيد في العام 1863. أمام المكتب التقط ترامب ونتنياهو صورة تذكارية وقّع عليها الأول بجملة: إلى بيبي، القائد العظيم. قبل ذلك كان نتنياهو قد قال إن إسرائيل لم تحظَ بصديق في البيت الأبيض مثل دونالد ترامب. في مرتفعات الجولان المحتلّة قرية تحمل اسم ترامب، ويرى القادة الإسرائيليون أن الرجل الذي يقول الشيء ونقيضه خلال اليوم الواحد، هو الجواد الأفضل لحسم المسألة الفلسطينية إلى الأبد. قبل أن يصعدا إلى الطابق الثاني في البيت الأبيض، كان نتنياهو قد أهدى ترامب تذكارًا مثيرًا: بيجرًا مطليًّا بالذهب. رفع ترامب ذلك الشيء اللامع إلى أمام عينيه وطالعه بإعجاب وهو يردّد: "كانت عملية عظيمة". كما نقلت يسرائيل هيوم في تقرير غني بالتفاصيل في الثاني من مايو/ أيار. بحسب شيريت كوهين، مراسل الصحيفة للشؤون الدبلوماسية، فإن زيارة الخمس ساعات تلك، كانت كافية لتغيير الشرق الأوسط. انتهت الزيارة إلى مؤتمر صحفي عرض فيه ترامب رؤيته الخاصة للمسألة الفلسطينية: ترحيل الفلسطينيين، وبناء منتجعات للسياحة على أنقاض منازلهم. ذهب ترامب بعيدًا في سخائه، حتى إن بن غفير – الذي قلّما أسعده شيء، لا الموت ولا السلام- بقي يردد على الدوام أن على إسرائيل أن تبادر إلى تنفيذ خطّة الرئيس ترامب. ثم ذهب ترامب إلى الشرق الأوسط في زيارة تجاوزت مدّتها الخمس ساعات بكثير. طوّر علاقات وتعاقدات مع دول المنطقة، لا يعلم عنها "بيبي العظيم" الشيء الكثير، ولا تخدم رؤيته لتغيير الشرق الأوسط. مواقف ترامب الجديدة في الشرق الأوسط عرفها نتنياهو من خلال الصحف، وفقًا لـ"بن كسبيت" في معاريف. كانت ميريام أديلسون، الصهيونية الثرية والراديكالية، قد اقترحت إدراج فصل جديد في الكتاب اليهودي المقدس وليكن اسمه "كتاب ترامب". محاولة التطويع تلك لأقوى رجل في العالم تتجاهل حقيقة أن إسرائيل، كدولة، لا تملك الكنوز التي يريدها ترامب، وليس بمقدورها أن تملأ راحتيه بما يحتاجه في تدويناته اليومية. إسرائيل مسألة تتعلق بالإيمان، وترامب يعتقد أن الناس ستختار الإلحاد حين تتجاوز الضرائب حدًّا معيّنًا، كما جاء على لسانه مؤخرًا. الصهيونية واحدة من الأصول الأخلاقية للسياسة الخارجية الأميركية، وكذلك المصالح الأميركية. شيّعه توماس فريدمان في مقالة على نيويورك تايمز، قائلًا: إن عليه أن يتذكر أن حكومة نتنياهو ليست حليفًا، وأن هنالك مصالح لأميركا في الشرق الأوسط يسعى نتنياهو للإضرار بها. ثمّة نماذج تاريخية عديدة لحالات صادمت فيها المصلحة الإسرائيلية مصالح أميركا في العالم، منها الحرب على مصر في العام 1956. آنذاك كانت أميركا تجوب العالم بغية تشكيل جدار ناري ضد اجتياح الاتحاد السوفياتي دولًا مستقلة، وتعيّن عليها أن تدين صراحة غزو السوفيات لهنغاريا في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1956، أي بعد خمسة أيام فقط من انطلاق العدوان الثلاثي على مصر، والذي شاركت فيه إسرائيل. استدعت المصلحة الأميركية الحيوية آنذاك أن تبدي أميركا حزمًا حقيقيًا، وصل حد التهديد بالعقوبات ضد الدول الثلاث. ثمّة توجّس في إسرائيل، وهناك من يعتقد على نحو كبير أن زيارة ترامب إلى الجزيرة العربية تمثّل تهديدًا مباشرًا لأمن إسرائيل، بل لوجودها. صار ترامب كما يتردد في نصوص كتاب الرأي الإسرائيليين إلى المهرج والمحتال الذي وضع أمن إسرائيل في سلّة المهملات، وألقى بالدولة العبرية إلى الكلاب. يتشارك أقصى اليسار مع أقصى اليمين التوجس العميق حيال زيارة ترامب إلى الخليج، فقد يجري التلاعب -وفق تعبيرهم- برجل الصفقات ودفعه في اتجاه لا يخدم إسرائيل. هذه المرّة سيلقنونه أشياء ضد إسرائيل، وسيعرضون عليه شبكة مصالح غالية الثمن قائلين إن بمقدوره زيادة الغلّة إذا ما تخلّى عن نتنياهو الذي لا يشبع من الحروب. في الحادي عشر من الشهر الحالي، ألقى زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد خطابًا غاضبًا في الكنيست، قال فيه: "كل الأحداث المهمة فعلًا تجري بدوننا. ستعقد قمة مهمة في السعودية ونحن لسنا هناك. الصفقة التي تبرمها أميركا الآن مع السعوديين تشكل خطرًا على أمن إسرائيل، ترامب سئم من مماطلات نتنياهو، ويمضي بمفرده. نتنياهو أفقدنا أميركا". هنالك هلع حقيقي في إسرائيل، وإسرائيل تجيد المبالغات، وترى كل ما لا يروقها تهديدًا وجوديًا. ترامب في السعودية، إنها كارثة على وجود إسرائيل، كما يقول بن كسبيت في معاريف. الأمر يشبه الزلزال، هكذا تبدو النظرة في إسرائيل. خطوات كثيرة أقدم عليها ترامب مؤخرًا دون الرجوع إلى نتنياهو، خصوصًا بعد أن استبعد والتز، مستشاره للأمن القومي والقريب من نتنياهو. خسر نتنياهو أهم الكابلات التي تربطه بالبيت الأبيض، وتسمح له بالتلاعب بالنقاشات الدائرة فيه. الخطاب الذي ألقاه ترامب في السعودية أفسح مكانًا كبيرًا لإيران، كما لو أنه أراد أن يقول للإسرائيليين إنه يأخذ أمن بلادهم في الحسبان، ولكنه يفعل ذلك وهو يقف في الرياض ويرى مصالح بلاده. الهجوم على إيران لم يهدِّئ من روع الدولة المذعورة على الدوام. فقد بدا واضحًا – كما لاحظ أكثر من كاتب إسرائيلي – أن ترامب هبط بمستوى تهديداته من "سأفتح عليهم باب الجحيم" إلى: سأمارس عليهم أقصى درجات الضغط الاقتصادي. يضاف إلى ذلك التوصل إلى اتفاق "سلام" مفاجئ مع الحوثيين دون التنسيق مع إسرائيل، كل ذلك خلق فزعًا داخل دوائر السلطة في تل أبيب. كيف ستعتمد إسرائيل على رئيس "يستفيق صباحًا على A، وفي الليل يقرر B وC وD، ويثير البلبلة في العالم بأسره" كما جاء على لسان ديفيد أمسالم، وزير التعاون الإقليمي والقريب من نتنياهو. أمسالم هو أيضًا مكلف بالتنسيق بين الحكومة والكنيست، وفي الأيام الماضية ألقى كلمة في برلمان الدولة العبرية، وقال في معرض نقاش زيارة ترامب لدول الخليج العربي: "يجب أن نأخذ مصيرنا بأيدينا". سرعان ما تصبح الأمور في إسرائيل متعلقة بالمصير، بالوجود. حتى فكرة دويلة فلسطينية صغيرة بلا ملامح تمثل تهديدًا لوجود إسرائيل، وإعادة تموضع عملياتي لبعض التشكيلات العسكرية المصرية في سيناء، تمثّل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل. يدور النقاش الغربي، منذ ما يداني العشرين شهرًا، حول حق إسرائيل في الوجود، بينما تتعلق الحقيقة بشعب آخر يُنسف وجوده من الأساس. يقول ناحوم برنياع المحلل السياسي في يديعوت أحرنوت "ترامب المولع بإسرائيل لا يلتزم بالقواعد على الدوام، ويقبل الإغواء. نجح المال الخليجي في شراء مسيح بني إسرائيل". بات ترامب المشكلة التي سترافق إسرائيل لثلاث سنوات ونصف السنة، وربما لما بعدها، كما يتخوف برنياع الذي تذكر شيئًا مهمًّا وهو أن السفارة الأميركية لا تزال تعمل من تل أبيب، وأن الحديث عن نقلها إلى القدس ليس سوى مزحة، فلم تنقل أميركا سوى لافتة. يرى برنياع، مثل غيره، في زيارة ترامب إلى الخليج تحديًّا وجوديًّا لأمن إسرائيل من زاوية مثيرة. فالصفقات التي قد تصل في مدى عشر سنوات إلى نحو 2 تريليون دولار ستمنح القادة الخليجيين نفوذًا سياسيًا في أميركا لم يعطَ لأي دولة أجنبية حتى اليوم. لا بد من النظر إلى هذا التقدير باهتمام، فالكاتب ناحوم برنياع، المولود سنة 1944، هو الصوت الأثقل في التحليل السياسي، وسبق له أن حصل على جائزة إسرائيل في الإعلام، أرفع جائزة تمنحها الدولة، ويقدم تحليلاته من خلال يديعوت أحرنوت، الصحيفة الأكبر حجمًا في إسرائيل. ركض ترامب في المائة يوم الأولى خلف هاجس الوجود اليهودي حتى إنه صادم على نحو مدمّر المؤسسة الأكاديمية الأميركية، وأنزل عقابًا مزلزلًا ببنية التعليم الجامعي. فعل كل ذلك تحت تأثير اللوبي الصهيوني الذي ملأ رأسه بأفكار تقول إن التظاهرات الطلابية هي دعوة لإبادة شعب بني إسرائيل. صارت الصهيونية، واليهودية، والإسرائيلية شأنًا واحدًا. ثمة حقيقة عن إسرائيل يندر أن يشار إليها، وهي أن نسبة مواطنيها اليهود الذين تعود أصولهم إلى غرب أوروبا تقل عن 5%، وأن الدولة في مجملها تجمّع فوضوي ليهود السفارديم – يهود الشرق الأوسط- ويهود شرق أوروبا. الخداع الألماني القائل إن إسرائيل دولة نشأت بفعل الهولوكوست لا قيمة له بالقياس التاريخي، فقد غادر يهود ألمانيا إلى أميركا وليس إلى فلسطين. أما المثقف اليهودي فيرى الأمور على نحو آخر، فـ "إسرائيل لم توجد بسبب الهولوكوست، الهولوكوست حدث لأن إسرائيل لم تكن موجودة"، وهي مقولة تُنسب إلى الفيلسوف اليهودي الفرنسي إيمانويل ليفيناس، وتستعار في مناسبات عديدة، بما في ذلك حين يجري الحديث عن زيارة لرئيس أميركي إلى دولة عربية!

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store