
خطة مغربية مبكرة لمواجهة حرائق الصيف وحماية الغابات
وكشفت اللجنة المديرية للوقاية ومكافحة حرائق الغابات التابعة للوكالة الوطنية للمياه والغابات عن إجراءات مالية ولوجستية وتقنية وتخصيص نحو 16 مليون دولار لتعزيز جهود مكافحة حرائق الغابات خلال صيف 2025.
كما أعلنت الوكالة الوطنية للمياه والغابات من جهتها توفير وسائل للحد من اندلاع الحرائق، من خلال تعزيز دوريات المراقبة للرصد والإنذار المبكر، فضلا عن إستراتيجية التدخل المبكر، وحملات التوعية، وإصدار النشرات والبيانات التحذيرية بشأن أخطار حرائق الغابات.
وحسب بيان للوكالة، فإن وسائل الحد من اندلاع الحرائق تشمل فتح وصيانة مسالك ومصدات النار بالغابات، وتهيئة نقاط توفر المياه وصيانة أبراج المراقبة، إضافة إلى شراء سيارات جديدة للتدخل الأولي.
وتغطي الغابات نحو 12% من مساحة الأراضي المغربية، وتتعرض سنويا لحرائق تتفاوت في شدتها حسب الظروف المناخية والسلوك البشري.
وأشارت الوكالة إلى أن مناطق الغابات المعرضة للخطر تميزت خلال الصيف الماضي بظروف مناخية أقل ملاءمة لاندلاع وانتشار الحرائق.
كما أفادت بأن السياسة الوقائية التي تبناها الشركاء المعنيون، ومن بينهم وزارة الداخلية والوقاية المدنية والقوات المسلحة الملكية (الجيش)، أسهمت في السيطرة على 95% من الحرائق قبل أن تصل المساحة المتضررة إلى 5 هكتارات.
وقال المدير العام للوكالة عبد الرحيم هومي إن عدد حرائق الغابات المسجلة في المغرب خلال عام 2024 بلغ 382 حريقا، مسجلا تراجعا بنسبة 82% مقارنة بعام 2023.
وحسب الهومي، التهمت الحرائق نحو 874 هكتارا، وتشكل الأعشاب الثانوية والنباتات الموسمية نحو 45% من المساحات المتضررة، في حين كانت الغالبية العظمى من حرائق الغابات تُعزى إلى ممارسات بشرية غير مسؤولة.
من جهته، دعا شكيل عالم -الخبير المغربي في البيئة- إلى تقوية جانب التوعية والوقاية، من أجل ضمان نجاح الخطة، مشيرا إلى أنه رغم الإمكانات المالية والتقنية المرصودة للخطة، فإن المناخ أحد أبرز العوامل المتحكمة في الحرائق.
وأشار إلى أن الجفاف أحد العوامل المساهمة في الحرائق، وأن دولا متقدمة مثل الولايات المتحد وكندا وجدت صعوبة في التحكم في الحرائق بسبب صعوبة المناخ واندلاع رياح قوية، إذ إن عملية مكافحة الحرائق تتعقد إذا كانت الظروف المناخية غير ملائمة، مما يصعب عملية التدخل.
ودعا إلى غرس أشجار جديدة، خاصة في المناطق الشرقية، للمحافظة على التنوع البيئي، والاعتماد على أشجار ليس لها قابلية كبيرة للاشتعال وتمتاز بقدرة كبيرة على تحمل تقلبات المناخ، وإطلاق حملات توعية، خاصة خلال هذه الفترة التي تشهد إقبالا للمواطنين على زيارة الغابات.
وتعمل الوكالة الوطنية للمياه والغابات أيضا على نشر منتظم لنشرات وبيانات تحذيرية بشأن مخاطر حرائق الغابات، وتعميمها عبر مختلف وسائل الإعلام الوطنية، خاصة خلال الفترات الحرجة من فصل الصيف.
وللرصد المبكر للحرائق، بات المغرب يعتمد على طائرات مسيّرة، وأجهزة استشعار أرضية، وكاميرات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، تُنصب في المناطق المعرضة للخطر لرصد الدخان أو ارتفاع درجات الحرارة، مما ساهم في تقليل عددها والحد من تداعياتها.
وقال الخبير المغربي في مجال البيئة مصطفى بنرامل إن عملية الرصد عبر آليات التكنولوجيا الحديثة، مثل الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة والذكاء الاصطناعي، تلعب دورا متزايد الأهمية والفعالية في الحد من الحرائق في مختلف المراحل، سواء عبر الكشف المبكر أو في أثناء اندلاعها أو بعد إخمادها.
واعتبر أن هذه التكنولوجيا تساعد في الكشف المبكر عن الظروف التي قد تؤدي إلى نشوب حرائق، أو حتى اكتشاف الحرائق في مراحلها الأولية قبل انتشارها بشكل كبير.
وتعد مناطق الغابات في المغرب، مثل نظيراتها في منطقة البحر الأبيض المتوسط، من بين المناطق الأكثر عرضة لاحتمالات الحرائق، نظرا لارتفاع قابلية الاشتعال خلال فصل الصيف، بفعل عوامل مناخية أبرزها ارتفاع درجات الحرارة، وانخفاض نسبة رطوبة الهواء، وشدة الرياح الجافة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 5 أيام
- الجزيرة
التغير المناخي يُفاقم "أخطر أنواع البرق"
من المعروف أن البرق هو السبب الرئيسي لحرائق الغابات والحرائق الموسمية، لكن ربما لا يعرف كثيرون أن هناك نوعا محددا من البرق، يمثل الخطر الأكبر بالنسبة لتلك النوعية من الحرائق، وهو "البرق طويل التيّار". هذا النوع من البرق يتميز بأن تياره الكهربائي يستمر مدة طويلة نسبيا؛ عادة أكثر من 40 ملي ثانية. أما البرق العادي، فيستمر وقتا قصيرا جدًا، من 1 إلى 10 ملي ثانية، ومن ثم فإن البرق طويل التيار أكثر قدرة على إشعال الحرائق من البرق القصير المعتاد. وفي السنوات القليلة الماضية، بدأ العلماء في الاهتمام بهذه النوعية من البرق، ورصدت الدراسات أن البرق طويل التيار قد يكون السبب في نحو 90% من حرائق الغابات الناجمة عن البرق في الولايات المتحدة الأميركية خلال الفترة من 1992 إلى 2018. يأتي ذلك على الرغم من أن هذا النوع من البرق، يشكل أقل من 10% من إجمالي البرق المعتاد. مشكلة في نهاية القرن في هذا السياق، اهتم فرانثيسكو خ. بيريث-إنفرنون، ورفاقه من معهد الفيزياء الفلكية في محافظة أندلوسيا الإسبانية، بالبحث خلف معدلات هذا النوع من البرق، ومن ثم فإن ذلك قد يعطينا إشارة عن تطور معدلات الحرائق الطبيعية في العالم. وبحسب دراسة نشرها الفريق قبل عدة سنوات، جمعوا خلالها بيانات من الأقمار الصناعيّة لرصد البرق من نوع طويل التيار وربطه ببيانات الحرائق وكيفية اندلاعها، ظهرت علاقة واضحة بين البرق طويل التيار وتفاقم التغير المناخي. استخدم الباحثون نماذج مناخية لتحليل الوضع خلال فترتين، الأولى في الماضي (2009-2011)، والثانية مستقبلية (2090-2095) مبنية على سيناريوهات عدة للاحترار العالمي. العالم العربي في أمان نسبي وبحسب الدراسة، كانت هناك زيادة متوقعة بنسبة نحو 41% في معدل برق طويل التيار عالميًا بحلول نهاية القرن. وكانت أكبر زيادة متوقعة في مناطق مثل أميركا الجنوبية، والساحل الغربي لأميركا الشمالية، وأميركا الوسطى، وأستراليا، وجنوب وشرقي آسيا، وأوروبا. أما المدن القطبية الشمالية، فقد أظهرت تغييرات أقل، ويجري الأمر كذلك على المنطقة التي تشمل عالمنا العربي، ولكن على الرغم من أن البرق طويل التيار قد لا يتغيّر بشكل كبير في منطقتنا، إلا أن زيادة شدة العواصف قد ترفع احتمالات حرائق ناتجة عن البرق. احترار الكوكب لكن، كيف يمكن للتغير المناخي أن يكون سببا في زيادة معدلات هذا النوع من البرق؟ الإجابة تتعلق بالأثر غير المباشر للاحترار العالمي، فمع ارتفاع درجات الحرارة، يرتفع الهواء الساخن الرطب في تزايد إلى طبقات الجو العليا، وهناك يبرد ويتكثف ويكون سحابا ضخما، فيه شحنات كهربائية متعاكسة (موجبة وسالبة). وجود رطوبة شديدة وتيارات صاعدة قوية، يتسبب في مزيد من الطاقة الزائدة داخل السحب، إذ تجعل البرق أكثر قوة واستمرارية، مما يرفع من عدد ضربات البرق طويل التيار المرتبط بحرائق الغابات. وإلى جانب ذلك، فإن تغير المناخ يؤدي إلى نشوء مزيد من العواصف الرعدية في بعض المناطق، وخاصة في الصيف، ومع وجود برق أكثر، تزيد فرص حدوث البرق طويل التيار، وعليه يزداد عدد الحرائق. دراسة معمقة لهذه الأسباب، يهتم العلماء بفحص هذا النوع من البرق بتمعن أكبر مع تفاقم أزمة المناخ، وبحسب دراسة نشرها أخيرا الاتحاد الأوروبي لعلوم الأرض، فإننا بحاجة إلى طريقة جديدة لدراسة البرق طويل التيار في أنظمة محاكاة متقدمة. يأتي ذلك في سياق أن البرق عادة يطلق كميات محددة من أكاسيد النيتروجين، ولأن التيار يدوم أطول في حالة البرق طويل التيار، فهو يساهم في إنتاج أكبر لكمية أكاسيد الكربون في الجو، مما يؤثر على نوعية الهواء، ويمكن رصده لبناء حسابات كمية أدق. وتتفق أكثر من 90% من الأعمال البحثية في نطاق التغير المناخي على أن النشاط الإنساني يلعب دورا في الاحتباس الحراري الذي تعاني منه الأرض حاليا. ومع استخدام الوقود الأحفوري في السيارات والطائرات ومصانع الطاقة، ينفث البشر كمّا هائلا من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، مما رفع تركيزه بشكل لم يحدث منذ مئات الآلاف من السنين، وهو الغاز الذي يتمكن من حبس حرارة الشمس داخل الغلاف الجوي. وبات واضحا للعلماء يوما بعد يوم، أن معدلات تطرف الظواهر المناخية، من أمطار غزيرة وعواصف قاسية وموجات حارة وضربات جفاف تستمر سنوات عدة، صارت تتزايد بما يكسر الأرقام القياسية عاما بعد عام، الأمر الذي يتطلب اتفاقا عالميا عاجلا، على الأقل لمنع المشكلات من التفاقم.


الجزيرة
٢٤-٠٧-٢٠٢٥
- الجزيرة
حكومة ترامب تضع مزيدا من القيود على تصدير شرائح الذكاء الاصطناعي
أوصت حكومة ترامب الأيام الماضية بوضع مزيد من القيود على تصدير شرائح الذكاء الاصطناعي عبر التحقق من موقع الشرائح المباعة، وهي الخطوة التي لاقت ترحيبا واسعا من الحزبين في الكونغرس، وفق ما جاء في تقرير رويترز. وتأتي هذه التوصية ضمن مخطط لنشر تقنيات الذكاء الاصطناعي الأميركية حول العالم ومشاركتها مع حلفاء أميركا بعد خفض القيود البيئية الصارمة لتسريع بناء مراكز الذكاء الاصطناعي، حسب تقرير رويترز. كما تحاول الحكومة الأميركية تقويض وصول الشرائح إلى منافسيها وأعدائها في أثناء خطة توسيع رقعة الذكاء الاصطناعي الأميركي، وذلك عبر استخدام مزايا تحديد المواقع الموجودة في شرائح "إنفيديا" و"إيه إم دي"، حسبما أشار التقرير. وحاز هذا الاقتراح موافقة واسعة من الحزبين داخل مجلس الشيوخ الأميركي، لأنه يقوض وصول الشرائح المتطورة إلى الصين والدول التي تضع عليها حكومة ترامب العقوبات. ولا تزال آلية تطبيق هذه التوصية مجهولة حتى الآن، إذ يقع تنفيذها على عاتق الشركات التقنية، في محاولة منهم لإيجاد آلية متلائمة مع القانون، وذلك وفق ما جاء في تقرير رويترز. وفي حديثه مع رويترز، أوضح النائب بيل فوستر -وهو ديمقراطي من ولاية إلينوي ساعد في تقديم مشروع قانون تحديد موقع الشريحة سابقا في مايو/أيار- أن خطوة تأكيد موقع الشرائح تمهد لخطوة أهم وهي إمكانية التحقق من موقع المستخدم النهائي لكافة الشرائح الأميركية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الخطوة تأتي عقب زيارة الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا" إلى الصين وإعلانه استكمال شحنات البطاقات المخصصة للذكاء الاصطناعي للشركات الصينية بعد موافقة الحكومة الأميركية، وفق ما جاء في تقرير منفصل من رويترز.


الجزيرة
٢٣-٠٧-٢٠٢٥
- الجزيرة
"ما بعد الحقيقة".. تشريح معمق لأزمات المعرفة والتضليل في عصر الإعلام الرقمي
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة كتاب مهم في تشخيص أزمات العصر بعنوان "ما بعد الحقيقة: العقل في مواجهة الجهل والتفاهة والتضليل" للباحث المغربي محمد بهضوض. وهذا الكتاب الذي يقع في 423 صفحة هو تشريح عميق لتحوّل جذريّ يهزّ أسس إنتاج المعرفة وتلقيها، وينطلق المؤلف من سؤال مركزيّ مقلق: كيف انقلبت أدوات التحرر المعرفي إلى آليات استعباد جديد، حيث تتراجع سلطة الحقيقة أمام طوفان من "الأوهام المصنّعة"، وتهندس المشاعر لتحلّ محلّ الوقائع في تشكيل الوعي الجمعي؟ الوفرة المعلوماتية وسراب الفهم يجسّد الكتاب مفارقة بالغة التعقيد تختزل أزمة الإنسان الرقمي، ففي حين وعدت الثورة التكنولوجية بانعتاق المعرفة وتدفقها الحر، وجدنا أنفسنا غارقين في طوفان من "الوقائع المفبركة" و"الأخبار الزائفة"، حيث تملى علينا "الحقائق" من خلال خوارزميات تقدّم ما يريح أصدقاءنا في "غرف الصدى" (Echo Chambers)، لا ما يقارب الواقع. ويبرز بهضوض أنّ الانفجار غير المسبوق في أدوات الاتصال وتدفق المعلومات صاحبه -على عكس ما يظن- تراجع ملموس في فرص الفهم الحقيقي، وتعمّق للهوّة بين امتلاك المعرفة وإدراك الحقيقة. يرفض بهضوض التصوّر الساذج القائل بأن "ما بعد الحقيقة" ظاهرة طارئة ولدت مع وسائل التواصل الاجتماعي. ويبين أن جذورها ضاربة في تاريخ الصراع الفكري الأزلي منذ المواجهة بين الفلاسفة والسفسطائيين في اليونان القديمة الذين برعوا في "فنّ الجدل" لتحقيق النصر بغضّ النظر عن الحقيقة، وفي معارك عصر التنوير ضد سلطات الكنيسة والتقاليد الجامدة التي قاومت أنوار العقل والعلم. غير أنّ الجوهر الجديد والمقلق في هذه الظاهرة اليوم يكمن في تحولها إلى جزء من نسق فكري في ظلّ نظام الرأسمالية المعولمة، وهذا النظام لم يعد يكتفي بإنتاج السلع المادية، بل حوّل الوهم إلى سلعة رابحة، واستثمر في صناعة الخطاب الشعبوي العاطفي لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، محوّلا التضليل إلى آلة ضخمة قائمة بذاتها. في هذا المشهد المرعب، تعجز الدولة الحديثة عن بناء أنظمة موثوقة قادرة على حماية المواطنين من التضليل المنظّم أو إنتاج خطاب جامع للحقيقة، بل إنّ الإعلام التقليدي نفسه، في كثير من الأحيان، يتحوّل إلى أداة طيعة في خدمة آلة التضليل هذه، كما تجلّى بوضوح فاضح في التغطيات الإعلامية المتناقضة والمضلّلة في أثناء جائحة "كوفيد-19" حول فاعلية اللقاحات وطرق الوقاية، مما زاد من حدة الالتباس والارتباك الجماعي. وتتفاقم هذه الأزمة مع القابلية النفسية والاجتماعية للجماهير لتصديق الأكاذيب، خاصة عندما تقدّم مغلّفة بخطاب عاطفي جذّاب أو تصدر عن شخصيات ذات حضور ووجاهة أو وسائل إعلامية ضخمة تتمتع بهالة مصداقية زائفة. تشريح آليات التضليل ينتقل بهضوض من حقل التنظير الفلسفي إلى ساحة التطبيق العملي، ليفتش عن تجلّيات "ما بعد الحقيقة" في حقول اجتماعية وسياسية واقتصادية متنوعة، مظهرا كيف تخترق الظاهرة نسيج حياتنا اليومي. أما في المجال السياسي، فيوثّق الكتاب كيف تحوّل التضليل من ممارسة عابرة إلى "فنّ للحكم" إذ لم يعد الكذب مجرد خطأ أخلاقي، بل أضحى سلاحا إستراتيجيا في الانتخابات وتشكيل الرأي العام. ويحلّل بهضوض بعمق حالات صارخة، مثل صعود دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية 2016 ، حين استخدمت "الأخبار الزائفة" بشكل ممنهج لتشويه الخصوم السياسيين، وتضخيم المخاوف العرقية أو الدينية، وترويج وعود وهمية. وأما في حقل الاقتصاد، فيكشف بهضوض عن نشوء "اقتصاد الأكاذيب"، حيث تتحول وسائل الإعلام والفضاء الرقمي إلى أدوات لصناعة صور وهمية عن الشركات والمنتجات والمؤشرات المالية. تقدّم تقارير مالية مضلّلة، وإعلانات خادعة تخلق احتياجات استهلاكية غير حقيقية. هذه الممارسات، كما يوضح الكتاب، لا تفقد السوق شفافيته وآليات مساءلته فحسب، بل تحوّل الاستثمار إلى مغامرة قائمة على التضليل، وتضعف الثقة بالنظام الاقتصادي كله. وأما على صعيد العلاقات الدولية، فيبرز الكتاب دور التضليل الإعلامي المنظّم في ما تسمّى "الحروب المعنوية" أو "حروب الجيل الرابع"، حيث توظف الدول الكبرى والصغرى الروايات الزائفة والمعلومات المغلوطة بوصفها أدوات غير تقليدية لخدمة مصالحها الجيوسياسية، متجاوزة كلّ حدود للأخلاق أو الحقائق الموضوعية. ويقدم بهضوض أمثلة دالة على ذلك، مثل الحملات الممنهجة لنشر الشائعات والشكوك حول الصراعات الدولية، أو إثارة النعرات الطائفية والإثنية في مناطق التوتر، مستخدما أدوات التحليل السياسي لفك شيفرات هذه الحروب الخفية. ويواجه العلم بوصفه أحد أركان التقدم البشري الأساسية تحديا وجوديا في عصر "ما بعد الحقيقة". وهنا يسلط الكتاب الضوء على موجة الشك غير المسبوقة التي تواجه الإجماع العلمي، مدفوعة بنظريات المؤامرة والمعلومات المضلّلة، من مثل حركات "مناهضة التلقيح" التي ترفض الأدلة القاطعة لفاعلية اللقاحات، ومحاولات "إنكار التغير المناخي" رغم الأدلة العلمية الساحقة، أو الترويج لعلاجات وهمية لأمراض مستعصية، وكلها تصلح أمثلة على هذا الهجوم الممنهج، وهذا الهجوم لا يستهدف المؤسسات العلمية فحسب، بل يهدم الثقة بالمنهج العلمي نفسه. وفي المجال الثقافي، يحذّر بهضوض من توظيف مفاهيم إنسانية كـ"النسبية الثقافية" و"التعددية" بشكل شعبويّ مشوّه، فبدلا من أن تكون هذه المفاهيم جسورا للتفاهم، تستغل لتأجيج صراعات الهوية والانتماء، وتستخدم سرديات تاريخية محرّفة أو مزوّرة لتحويل الاختلاف الثقافي والديني إلى خطاب كراهية وإقصاء، وتعزيز الانقسامات المجتمعية. ويتحول التنوع، في هذا السياق المشوه، من مصدر إثراء وتنوع إلى قنبلة موقوتة تهدد النسيج الاجتماعي. غير أن الفضاء الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي يظل -بحسب الكاتب- المحرّك الأقوى والأخطر لتفاقم ظاهرة "ما بعد الحقيقة". وتتحمل خوارزميات هذه المنصات مسؤولية كبيرة، فهي مصممة أساسا لتعظيم التفاعل والربح، فتقدم للمستخدمين المحتوى المثير للانفعال (كالغضب، أو الخوف، أو الاستقطاب) بغض النظر عن صحته أو مصداقيته. تظهر الدراسات -كما يذكر بهضوض- أن الأكاذيب تنتشر أسرع 6 مرات من الحقائق على هذه المنصات. كما تعمل "غرف الصدى" (Echo Chambers) على عزل الأفراد في فقاعات فكرية مغلقة، حيث لا يتعرضون إلا للأفكار التي تؤكد معتقداتهم المسبقة، مما يعزز الانغلاق الفكري ويصعّب الحوار. ولا شك أن سهولة إنشاء حسابات وهمية ونشر محتوى تضليلي دون رقابة تضاعف من حجم الكارثة، فهذا المحيط الرقمي ليس مجرد ناقل للأفكار، بل هو بيئة مولّدة ومضخّمة بشكل غير مسبوق لوباء "ما بعد الحقيقة"، وموزّع رئيسي لسمومه إلى جميع المجالات الأخرى. تشخيص عربيّ لجرح عالمي لا ينغلق كتاب بهضوض على نفسه، بل يضعه في حوار نقدي خلّاق مع أبرز المراجع العالمية التي تناولت الظاهرة. فهو يتقاطع مع تحليل الفيلسوف الأميركي لي ماكينتاير لظاهرة "صوامع المعلومات"، حيث يعيش الأفراد معزولين في فقاعات تكرّس انحيازاتهم وتقطعهم عن الحقائق المخالفة، ويرى معه في إنكار العلم تجليا خطيرا لـ"ما بعد الحقيقة". كما يشارك الكاتبة ميشكو كاكوناتي قلقها العميق على تآكل الثقة في المؤسسات التقليدية الحامية للحقيقة كالإعلام المحترف، والجامعات، والمؤسسات العلمية، والقضاء. غير أن إسهام بهضوض النوعي يتجلى في دفع هذا التحليل نحو آفاق أرحب وأكثر خصوصية. فهو يستحضر مقولة المؤرخ الفرنسي إرنست رينان الشهيرة بأن الأفكار هي التي تقود العالم ليؤكد أن المعركة ضد "ما بعد الحقيقة" هي في جوهرها معركة فكرية وأيديولوجية. ويستند بقوة إلى جدلية كارل ماركس لفهم تجذر الظاهرة في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المنتجة للوهم والمستفيدة منه. والأهم أنه لا يقف عند حدود النقل عن الغرب، بل يدفع بالتحليل نحو خصوصية البيئة العربية المعقدة، حيث تتفاعل "ما بعد الحقيقة" بشكل متفجر مع إرث الاستبداد السياسي، وهشاشة المؤسسات الديمقراطية والعلمية، وصراعات الهوية (القومية، والطائفية، والإثنية) الموروثة والمستجدة، وتردي الواقع الاجتماعي والاقتصادي. هذا التفاعل المركب، كما يرى بهضوض، يعطي الظاهرة في السياق العربي أبعادا أكثر تأثيرا على النسيج الاجتماعي واستقرار المجتمعات، مما يستدعي تشخيصا دقيقا ومواجهة خاصة. خارطة استعادة العقل لا يقف كتاب بهضوض عند حد تشريح الداء، بل يقدّم رؤية متكاملة لمواجهة وباء "ما بعد الحقيقة"، مقترحا خارطة طريق متعددة المستويات تستهدف بناء مناعة فكرية وجماعية: إصلاح التعليم: حيث يرى بهضوض أن المعركة الحقيقية تبدأ من المدرسة والجامعة بجعل التفكير النقدي نسيجا متداخلا في جميع المناهج الدراسية، من المراحل التعليمية المبكرة حتى الجامعية. ويؤكد ضرورة أن يتعلم الطلاب فنّ السؤال، وتحليل الخطاب، وتمييز الحجة من الوهم. كما ينبه على ضرورة أن تستعيد الفلسفة مكانتها المركزية منهجا لتنقية الفكر وترميم المفاهيم مع التنبيه على ضرورة محو الأمية الإعلامية والرقمية، لا سيما مفاهيم مثل كيفية تحليل الرسائل الإعلامية، وآليات التحقق من صحة المعلومات ومصادرها، وفهم عمل خوارزميات المنصات الرقمية وآثارها على تلقّي المعلومة وتشكيل الرأي. تنظيم الفضاء الرقمي: يقرّ بهضوض بحساسية هذا الملف، لكنه يؤكد بضعة نقاط، منها ضرورة تطوير أطر قانونية وأخلاقية وطنية ودولية واضحة ومتوازنة، تستهدف محاسبة ناشري الأخبار الزائفة الممنهجة بهدف الإضرار بالمجتمع أو زعزعة استقراره، مع ضمانات صارمة لحماية حرية التعبير المشروعة والنقد البناء. التوعية المجتمعية: حيث يدعو الكتاب إلى إطلاق حملات توعية واسعة النطاق ومستدامة، تستهدف جميع شرائح المجتمع، لتعليم مهارات التفكير النقدي والتحقق من المعلومات قبل تصديقها أو مشاركتها منبّها أن تركز هذه الحملات على كشف آليات التلاعب النفسي والعاطفي المستخدمة في التضليل، وفك شيفرات بناء نظريات المؤامرة ونشرها، وتعزيز الثقافة العلمية الأساسية وفهم قواعد المنهج العلمي في الوصول إلى المعرفة الموثوقة. إعادة التقدير للإعلام المهني: في خضم الفوضى الإعلامية، يبرز دور وسائل الإعلام المحترفة بوصفها خندق دفاع أساسيا، لذلك يؤكد الكاتب دعم وسائل الإعلام المستقلة والمهنية التي تلتزم بمعايير الدقة، والتحقق، والموضوعية، والشفافية، والمساءلة مصدرا موثوقا للمعلومات. هذا الدعم يمكن أن يكون ماليا، وتشريعيا يحمي استقلاليتها، ومجتمعيا يعزز ثقة الجمهور بها. يكتسب كتاب "ما بعد الحقيقة" لمحمد بهضوض أهمية استثنائية ومضاعفة في السياق العربي الذي يعاني تحديات مركبة تجعل من الظاهرة خطرا وجوديا: بيئة إعلامية هشة: تسودها هيمنة إعلام حكومي موال أو إعلام معارض متطرف، مع ضعف فادح في آليات التحقق المهني، وانتشار واسع وسريع للأخبار الزائفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي دون رادع فعال. تصاعد خطير للخطاب الشعبوي: الذي يستغل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والانقسامات الطائفية أو القبلية أو الإثنية العميقة، ليغذي خطاب كراهية وإقصاء وتضليل. أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة: تشكّل تربة خصبة لانتشار نظريات المؤامرة والبحث عن "أعداء" خارجيين أو داخليين وهميين لتعقيدات الواقع، وللاستسلام للخطابات التبسيطية الزائفة. نقص حاد في الدراسات النقدية العميقة: التي تربط بين التحليل الفلسفي والنظري للظاهرة العالمية وبين تفاصيل وخصوصيات السياق الاجتماعي والسياسي العربي بكل تعقيداته. يبدو كتاب "ما بعد الحقيقة: العقل في مواجهة الجهل والتفاهة والتضليل" خريطة نجاة فكرية، ومشروع مقاومة ثقافي في زمن يحاول فيه التضليل المنظّم أن يغرقنا في سبات من الأوهام. وفي عالم تتلاعب فيه قوى الظلام بعقولنا بسحر الشاشات وفتنة السرديات الزائفة، يذكّرنا محمد بهضوض بأن استعادة الحقيقة ليست ترفا فكريا، بل هي شرط أساسيّ لبقائنا مجتمعات وأفرادا أحرارا. إنها تبدأ باستعادة الثقة بقدرة العقل على السؤال والتمحيص والنقد، وبإعادة بناء المؤسسات التي تحمي الفضاء العام. هذه المعركة المصيرية ليست من أجل صون الروح فحسب، بل من أجل بناء مستقبل المجتمعات العربية التي تبحث عن خلاصها في ركام الأوهام.