هوشنك أوسي لـ"المدن": الأكراد لم يرفعوا السلاح بوجه الدولة
سوريته وكرديته متوازيتان ومتشابكتان في حراكه الثقافي والأدبي والسياسي، بشكل بهي، ويعتبرُ أن سلاح قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ليس ضد سوريا كدولة وطنية ديمقراطية عادلة متوازنة.
إنه الروائي والشاعر السوري هوشنك أوسي الذي تحدث لـ"المدن"، مؤكداً "أن الكُرد لم يرفعوا سلاحاً في تاريخهم في وجه الدولة السورية". وأضاف أنّه لا يمكننا بناء سوريا الجديدة على هوى تركي، أو إسرائيلي، أو أميركي.
حاول أوسي شرح لامركزية للدولة (بدون شيطنتها)، والذي يبقيها، واحدةً موحدة، مطالباً الرئيس الشرع بأن يكون رئيساً لكل لسوريين، ورفض تخوين الدروز والكرد والعلويين، مؤكداً أن الدولة الدينية، هي بالضدّ من الدولة الوطنية، لافتاً الانتباه إلى أن الرّواية الكرديّة في سوريا مفخرة للأدب السوري.
فيما يلي نص المقابلة:
لماذ رفضت دمشق مقررات المؤتمر الكردي الأخير؟ وماذا عن تراجع "قسد" عن تفاهماتها مع دمشق؟
حتّى قبل فترة قريبة، كنا نظن أن المواقف العنصرية تجاه الكرد في سوريا، بعثيّة المنشأ، بدءاً من حقبة الانفصال سنة (1961-1963)، وصولاً لحقبة حكم البعث (1963-2024)، لكن بمراجعة بعض الوثائق الفرنسية، يتضح أن الحكومة السورية سنة 1930 والنخب الحاكمة وقتذاك، وتحت قبة البرلمان السوري، كانت تشجب مطالب أبناء الجزيرة كرداً وعرباً وسرياناً بالحكم الذاتي!
استهدف نظام البعث الكُرد ليس فقط بالإنكار والقمع والصّهر وحسب، بل فرض عليهم مشاريع عنصرية الهدف منها إجراء تغيير ديمغرافي في مناطقهم. المشاريع البعثية التي استهدفتهم في هويّتهم ووجودهم، تؤكد وتوثق أغلبيتهم في تلك المناطق. وإلا، ما الذي سيدفع البعث إلى فعل ذلك؟! زد على هذا وذاك، السلطنة العثمانية لم تجلب الكرد إلى مناطق الجزيرة العليا، بل جلبت قبائل البدو العربية.
مقصدي، مع كل ما فعلت الدولة السورية وحكوماتها العربية بحق الكرد، لم يحمل هؤلاء السّلاح ضد سوريا. في حين حمل العرب السنة السلاح ضد الدولة في الستينات ونهاية السبعينات ومطلع الثمانينات وحتى لحظة سقوط نظام بشار الأسد، لأسباب طائفيّة محضة (حكم النصيريّة / العلويين) وتدثّرت بخطاب الثورة والحرية والكرامة. لكن الكرد، لم يرفعوا السلاح ضد دولة حافظ الأسد وخليفته، ولم يرفعوا السلاح في وجه دولة أحمد الشرع أيضاً. الكثير من الحقائق التاريخية والسياسية الدامغة يصار إلى حجبها عن المواطن العربي بشكل متعمّد، بالتوازي مع ضخٍّ مهول ومرعب من الكراهية والشيطنة ضد الكرد: خونة، ملاحدة، خنازير، بوياجيّة، صهاينة، عملاء إسرائيل... إلى آخر هذه الطقم من الاتهامات الباطلة والتافهة في آن.
في تقديري، "قسد" لم تتراجع عن التفاهم الذي أبرمته مع دمشق. ومع وجود هذه الحشود من التكفيريين و(العناصر المنفلتة وغير المنضبطة) التي تجوب سوريا من دون حسيب أو رقيب، هل تريد من "قسد" أن تسلّم سلاحها لدولة من دون دستور مستفتى عليه، ومن دون برلمان منتخب، وحكومة منتخبة، ورئيس منتخب...! أعتقد أن سلاح "قسد" ليس ضد سوريا كدولة وطنيّة ديمقراطيّة عادلة متوازنة، بل هو للدفاع عن النفس ضد تغوّل وتوحّش الدولة الدينية التي تنظر إلى الكرد نظرة "داعش" و"النصرة" و"القاعدة" و"البعث"... إليهم.
ماذا يعني أن يعقد في القامشلي مؤتمراً جمع تنظيمين كرديين متنافسين ومتخاصمين، هما المجلس الوطني الكردي في سوريا وحزب الاتحاد الديمقراطي؟
سوريون كرد كانوا مختلفين، وتقدموا عدة خطوات في اتجاه تجسير الهوّة بينهم. ما المزعج في ذلك؟! طرف مرتبط مع دمشق باتفاق، وأعني "قسد" و"الاتحاد الديمقراطي"، وطرف آخر منفتح على الحوار مع دمشق، ونجح في الحوار مع "قسد". ما المشكل في ذلك؟ لماذا ينظر بعين الحنان والوطنية إلى الاتفاق بين الأعداء السابقين (أبو محمد الجولاني وأبو عمشة) وبينهما بحر من الدماء، وأمثالهم كُثُر، ويُنظر بعين الشك والريبة إلى اتفاق القامشلي بين طرفين كرديين؟!
بعد مؤتمر القامشلي هل بات المسار التوافقي بين حكومة دمشق و"قسد" في خطر؟ وهل بات التصعيد وارداً؟ وهل هناك إمكانية لتدخل أجنبي وتحديداً من جانب تركيا؟
الخطاب التصعيدي كان من جانب دمشق، وليس "قسد". وبيان رئاسة الجمهورية السورية كان واضحاً في لهجته التي ترعد وتزبد وتحذر وتهدد وكأنه كُتِبَ بحبرٍ تركي، واليد التي كتبته يد تركية، من دون امتلاك البيان تلك القوّة والعزم على تنفيذ تلك التهديدات! شيء يشبه "عنتريات باب الحارة".
لا أحد يرتعب من التقارب الكردي- الكردي في سوريا سوى تركيا وحجارتها السياسية والعسكرية والإعلامية من "السوركيين"، كما يُقال عنهم. تركيا جزء من المشكل، ولا يمكنها أن تكون جزءاً من الحل بين دمشق و"قسد". والنظر إلى الكرد ومطالبهم بعين تركية، هو أسّ المشكل. لا يمكن إعادة بناء سوريا بما ينسجم والمزاج التركي، وطبقاً لمصالح تركيا. على أنقرة احترام وحدة وسيادة سوريا، والخروج من الأراضي السورية التي تحتلها، ولا تتدخل في شؤون البلد الداخلية، مثلما لا يتدخل السوريون في شؤون تركيا. على امتداد قرن، هل رأيت سوريا تحتل شبراً من الأراضي التركية؟ لا.
مسعود بارزاني وصف المؤتمر الأخير، بأنه نقطة تحول تاريخية للشعب الكردي، هل يمكن أن يشكل هذا الموقف دوراً حاسماً وعاملاً مفصلياً
في رسم مستقبل سوريا؟
أعتقد أن بارزاني يقصد أهمية طيّ صفحات الخلاف بين كرد سوريا، والكرد وهم موحّدون سيخدمون وحدة سوريا. لكن، أي سوريا؟ سوريا البعثية؟ سوريا التركية؟ سوريا الأموية؟ سوريا الحاضنة للتكفير والمنتجة للدولة الطائفيّة... قطعاً لا، بل سوريا الوطنية اللامركزية التي تحترم وتخدم مكوّنات الشعب السوري، والتي تقدّم نموذجاً يتجاوز نماذج الدول الأوروبيّة الوطنية اللامركزية التي تحترم مكوّنات مجتمعاتها.
مظلوم عبدي أكد في المؤتمر أن الأكراد لا ينوون تقسيم سوريا، ما تحليلكم أن عبدي حرص على تجنب أي خطوات تصعيدية مع الإدارة الجديدة رغم أن دمشق رفضت بشكل صارم مقررات مؤتمر القامشلي؟
هل لاحظت أن مظلوم عبدي و"قسد" لم يردا على بيان رئاسة الجمهورية ببيان مكاسرة أكثر حدة في اللهجة! لماذا لم يفعل ذلك؟ هل ضعفاً أم خوفاً؟ لا اعتقد ذلك. الموقف العسكري والسياسي (بعد اتفاق القامشلي)، والاقتصادي، الدعم والغطاء الأميركي– الأوروبي يخوّل مظلوم عبدي أن تكون لغته حازمة مع الشرع وحكومته وبيانه. لكنه لم يفعل. إذاً، هناك نية وإرادة للحوار مع دمشق، فقط لو أن حكومة الشرع تكون سورية مئة في المئة، وطنية مئة في المئة، وديمقراطيّة 70 في المئة... وقتها ستكون أعقد المشاكل السورية محلولة.
ما الفرق بين اللامركزية والفيدرالية؟ وهل هما نوع من التقسيم في آخر المطاف؟
بلغة مبسطة بعيدة عن التعقيد الاصطلاحي: الفيدرالية تعني الاتحادية لفظاً، ومنح الأطراف – الأقاليم حق إدارة شؤونها بنفسها والتخفف من ضغوطات المركز، مع الإبقاء على الوزارات السيادية في العاصمة الاتحادية الواحدة لكل الأقاليم، بما يضمن التوزيع العادل للسلطة والثروة في البلاد. كل نظام فيدرالي هو نظام لامركزي، لكن ليس كل نظام لامركزي هو نظام فيدرالي. بمعنى، النظام اللامركزي يبدأ بمنح المحافظات– الأقاليم– المقاطعات... (سمِّها ما شئت)، صلاحيات إدارية وبلدية أوسع بحيث تضمن لها خصوصيتها الجغرافية أو القومية أو الدينية أو المذهبية أو الاقتصادية... وينتهي هذا النظام بالفيدرالية بحيث يكون لكل إقليم برلمان وحكومة وعلم ودستور، لكن ضمن الدولة الاتحادية، كدولة الإمارات، أميركا، سويسرا، بلجيكا، الهند...الخ. النظام اللامركزي يساهم ويضمن حيادية الدولة وعدم تحيزها لأي قومية أو دين أو مذهب. لكن هناك تسمُّم كبير في الوعي السياسي السوري لجهة أبلسة وشيطنة النظام اللامركزي والنظام الفيدرالي على أنهما يفضيان إلى التقسيم والانفصال! بالعكس من ذلك، اللامركزية تعني المرونة التي لا تمانع الكسر، بينما النظام المركزي الصّلب هو الأكثر عرضة للكسر. لكن مع الضخّ الإعلامي السلبي، شاع وساد الموقف المشيطن للنظام اللامركزي بشكل ببغائي ومضحك، ومن دون دراية أو علم أو سند من تجارب العالم، وأصبح يُشاع أن الشعب السوري يرفض النظام اللامركزي والنظام الفيدرالي، كيف ذلك؟ ومتى؟ لا أحد يعرف! هكذا خبط عشواء وكيفما اتفق، من دون إحصائيات ناتجة عن استفتاء حقيقي موضوعي ومحايد، يقال: الشعب يرفض! الأنكى من ذلك والأكثر إثارة للضحك، وزيادة في الشيطنة؛ كل مَن يُطلب بنظام لامركزي أو فيدرالي، يُصار إلى ربطه بإسرائيل، بشكل عشوائي وأوتوماتيكي هزلي وغبي.
المنطقة تمتلك مقومات دولة، ولكن "قسد" والمجلس الوطني الكردي في سوريا، لا يريدان الانفصال عن سوريا. عد إلى وثائق الحراك السّياسي الكردي في سوريا منذ 1930 أو 1936 أو 1957 ولغاية اللحظة، إذا وجدت وثيقة واحدة تطالب بالانفصال، وقتذاك سيكون اتهام الحركة الكرديّة بأنها انفصاليّة صحيحاً. كل الذي يشاع وتسمعه أو تقرأه من اتهامات تطاول الكرد من سعي انفصالي أو مشروع انفصالي، لا دليل قطعي الثبوت والدلالة عليه. بمعنى آخر؛ الانفصال عن سوريا هو حق يضمنه الميثاق العالمي لحقوق الإنسان لأكراد سوريا، وقد تنازلوا عنه من أجل سوريا وطنيّة موحّدة. والأرشيف الفرنسي يؤكد ذلك. ففي سنوات 1930 -32-34.. تقدّم أكراد سوريا ومعهم أبناء الجزيرة من عرب وسريان، مسلمين ومسيحيين إلى سلطة الانتداب الفرنسي بطلب الحكم الذاتي للمنطقة، في حين أن حلب، دمشق، الساحل، جبل العرب... كانت دويلات تحت الانتداب الفرنسي. أبناء الجزيرة أكراداً وعرباً وسرياناً وقتذاك طالبوا بالحكم الذاتي، وأعلام تلك الدويلات (السورية) كانت ترفرف مع العلم الفرنسي، والقوميون العرب كانوا يرفضون مطالب أهل الجزيرة وقتذاك، ويعيشون في دويلاتهم السالفة الذكر! إن رافضي اللامركزيّة، يجهلونها، ولا سند معتبراً لديهم باستثناء كلامهم المكرر والممجوج والسطحي: الفيدراليّة أو اللامركزية تعني الانفصال.
أحدهم قال: سوريا مساحتها صغيرة، لا تنفع لنظام لامركزي أو فيدرالي، ويجهل أن مساحة بلجيكا أقل من ربع مساحة سوريا وهي دولة فيدرالية منذ 1832. هناك جهل وتجهيل، وتعويل على الخطاب الشّعبوي في هذا الخصوص.
كيف سيوازن الرئيس الشرع والجنرال مظلوم عبدي، بين مصالح دمشق و"قسد" من جهة، وبين مصالح تركيا وفرنسا والولايات المتحدة من جهة أخرى؟
واشنطن وباريس مع الحوار بين الطرفين؛ الشرع وعبدي. لكن مع خلق توازن. يعني، اللامركزية التي يطالب بها الكرد، صار يطالب بها الموحدون الدروز، والعلويون، وبكل تأكيد معهم الغالبية العظمى من السريان والأرمن والمسيحيين. اللامركزية ليست فقط للأكراد، بل لأبناء شرق الفرات، ولسوريا عموماً. وأعتقد فشلت مساعي تكريد مطلب اللامركزية بعد أن تشجّعت أطراف أخرى على المطالبة بها، واتساع دائرة المطالبين. ولا أعرف؛ طالما العرب هم الأغلبيّة هناك، والكرد 1 في المئة، حسب تقديرات بعض البسطاء، فممّا يخافون؟!
ماذا قدّمت حكومة الشرع الانتقالية، لسوريا والسوريين خلال الأشهر الماضية؟ مجازر في السّاحل، هجمات على الدروز، كمٌّ مهول من خطاب الكراهية الديني والطائفي...ضد الأقليات القومية والدينية والطائفية. لجان تحقيق وهمية، منح المتطرفين والإرهابيين الأجانب الجنسيّة السورية، وتوليتهم مناصب حساسة، الجيش الذي يؤسسه الشرع بعقيدة جهادية دينية متطرفة، كيف سينتمي له المسيحي والعلوي والدرزي والكردي؟! ويريدون من مظلوم عبدي أن يستسلم لهذه الدولة الدينية المدجّجة بالتكفير والطائفية والرعب، ويمنحها النفط والقمع والقطن وسلاح "قسد" لكي تصبح أكثر تطرفاً! من دون حتى أن يضمن اللامركزية لعموم سوريا؟ أيُّ عقل وطني معتدل وديمقراطي يمكن أن يقبل بذلك؟!
أعتقد أن اتفاقات الشّرع مع الدروز والعلويين والكرد هشة، لن تصمد، لأن الشرع الآن بأمس الحاجة لجيش قوي عقائدي ومسلح، وفوق هذا وذاك، بحاجة إلى الشرعية الدولية والعربية. وهذه الشرعية لا تأتي هكذا بزيارات للدول العربية والغربية، والتقاط بعض الصور، وأهازيج حشود وميليشيات السوشيال ميديا التابعة للحكومة، بل بعودة سوريا إلى السوريين كاملة غير منقوصة، ولعب دمشق دورها ووزنها الطبيعي في العالم. وهذا يتطلب وجود دولة طبيعية، متجاوزة للموروث البعثي والطائفي وغير منقادة للمصلحة التركية. على أحمد الشرع أنّ ينظر إلى نفسه كرئيس دولة وليس كـ"موظف" عند إبراهيم كالن؛ رئيس الاستخبارات التركية. وعلى مظلوم عبدي النظر إلى نفسه بوصفه قائد قوات سوريا الديمقراطية، وليس مقاتل عند جميل باييك، يتحكم به كيفما يشاء.
هل باتَ انسحاب القوات الأمبركية، من شمال شرق سوريا قاب قوسين أو أدنى؟ وماذا عن الدور الملتبس للأتراك؟
لأميركيون لم ينسحبوا من العراق، وهم موجودون في السعودية منذ حرب الخليج الثانية، وموجودون في قطر، وتركيا وكوريا وألمانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتريد منهم أن ينسحبوا من سوريا. مستحيل. أضعف الأيمان، سيجمعون قواعدهم في قاعدة أو اثنتين، وسيكون دورهم في حماية مناطق نفوذهم كبيراً.
بينما موقف الأتراك واضح لا لبس فيه. مناهضة، ممانعة، تدخُّل في شؤون سوريا، ليس فقط ما يخصّ عرقلة المطالب والحقوق الكردية، بل يتعدّى تدخلهم إلى أمور أخرى. فعلوا ذلك قبل إقرار الفيدرالية في العراق ومنعوا تحوّل كردستان إلى إقليم فيدرالي، وفشلوا. الآن، حجم التبادل التجاري بين أنقرة وأربيل يزيد عن حجم التبادل التجاري بين أنقرة وبغداد. والفيدراليّة في العراق وكردستان، لم تؤد إلى تقسيم تركيا، كما كان يشاع ويهوَّل وقتذاك. رضخت أنقرة واعترفت بإقليم كردستان الفيدرالي، وهناك قنصلية تركية في هولير/أربيل، وتستقبل أنقرة قيادات الإقليم الكردي استقبال الملوك والرؤساء.
ربما نجد قنصلية تركية في القامشلي أيضاً. مقصدي، على السوريين الممانعين للامركزية، عدم التعويل كثيراً على الممانعة التركية التي لن تصمد إلى ما لانهاية. علينا ألا ننسى مقولات أردوغان: "حماة خط أحمر"، "حمص خط أحمر"، "حلب خط أحمر"... لو عدت إلى حجم الاتفاقيات العسكرية والأمنية والاقتصادية التي تربط تركيا بإسرائيل، ستعي حقيقة كلامي.
لماذا كل حفلة الجنون التي يقيمها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، هل هو بالفعل مهتم بحمايته للدروز؟
إسرائيل لم تخَف من سوريا لا في عهد الأسد الأب ولا الابن، ولن تخاف من سوريا في عهد أحمد الشرع. كل الكلام الذي يقال عن رغبة إسرائيل في تفكيك سوريا، مبالغ فيه. لنفترض أنها فككت سوريا، وأقامت دويلة في السويداء، أو ضمّت هذه الدويلة لإسرائيل. هل هناك سيناريو أبعد من ذلك؟ هل ستضمن إسرائيل الأمن والأمان لنفسها بسوريا مفككة؟! آن أوان التخلّي عن تلك السردية البعثية التي تربط مشاكل سوريا بإسرائيل ومخططاتها ومؤامراتها الكونية والتاريخية على وحدة سوريا!
إسرائيل دولة قومية ودينية مارست وتمارس إرهاب دولة، ارتكبت وترتكب جرائم حرب، هل تعتقد أن القيادات الروحية السورية الدرزية بتلك السذاجة التي تصدق فيها نتنياهو أو غيره؟ علينا التخلي عن شيطنة الدروز وتخوينهم لأن من شأن ذلك دفعهم نحو أي ملجأ أو ملاذاً يضمن لهم الحماية في مواجهة الإبادة. وهذا حقهم. مقصدي، من يدفع بالدروز نحو فكرة أو احتمال اللجوء إلى الحماية الدولية أو إسرائيل، أليست حكومة الشرع التي لا تضبط مقاتليها الموتورين الطائفيين (المنفلتين)!
وضعت واشنطن حزمة مطالب أمام حكومة الشرع، الأخيرة استجابت لـ90% منها، ووعدت بضبط ولجم المقاتلين الأجانب. حتى الآن، النتائج تقول: الحكومة فاشلة في ضب مجاميعها المنفلتة.
واستمع الشرع، خلف أبواب الإليزيه المغلقة وأمام الكاميرات، لنصائح وتوصيات و(مطالب) الفرنسيين، وأبرزها؛ التعاون مع "قسد" لمكافحة الإرهاب. "ماكرون يطالب الشرع بالتعاون مع قسد"، هل تعي وتدرك خطورة هذا المطلب؟ وكأن الشرع زعيم مجموعة مسلّحة، ومظلوم عبدي رئيس سوريا! ناهيك عن ملف حقوق مكوّنات الشعب السوري. الغرب يريد من الشرع أفعالاً. هم ليسوا بسطاء وعاطفيين كالسوريين، حتى يصدقوا كلامه المعسول والمطمئن التي تدحضها أفعاله.
ما علاقة كل هذا بالرغبة الدفينة لنتنياهو بتقسيم سوريا، مع "قسد" والسويداء، واتهامات مزعومة للأخيرتين بتنسيق خفي مع تل أبيب؟
إسرائيل دمرت غزة وفرضت شروطها على "حماس"، واغتالت زعيمها في طهران، وأطاحت بحكومة "حزب الله"، واغتالت قادة الحزب، وقصفت طهران واليمن...، وترعب إيران، وضربت القواعد التركية التي كانت قيد الإنشاء في سوريا، إذا كانت تريد تقسيم سوريا، ما الذي أو من الذي يربط يديها ويمنعها؟ هل تظن أن أبو عمشة يمنع إسرائيل؟ أم الجامعة العربية؟ أم محور المقاومة الإيرانية أم أميركا وأوروبا...؟!
لو كان هناك تنسيق خفي بين تل أبيب و"قسد" والحراك الدرزي المعارض في السويداء، فهل ستخاف إسرائيل مني ومنك أو من الشرع أو من أنقرة أو من الجامعة العربية...، كي تعلن عن ذلك التنسيق؟! كل من يريد سوريا لامركزية، فوراً يصار إلى ربطه بإسرائيل! هذا الوعي الكارثي المتهافت، هو الذي أوصلنا إلى هذا الدرك من التخبط والعجز وانعدام الثقة والمسؤولية الوطنية.
قبل قرن ونيّف؛ ماذا كانت تريد النخب السياسية العربية وقتذاك من السلطنة العثمانية؛ غير شوية حقوق وحرية وكرامة واحترام ولامركزية. عدد على أصابعك أسماء بعض التيارات العربيّة حينها:
1 - الجمعية السورية الفتاة التي تأسست في فرنسا سنة 1911.
2 - حزب اللامركزيّة الإدارية العثماني الذي تأسس سنة 1913. تصوّر؛ حزب اسمه اللامركزية!
3 – حزب العهد الذي تأسس في اسطنبول سنة 1913.
وجمعيات وأحزاب أخرى، كان قاسمها المشترك: المطالبة بالإصلاحات والحكم الذاتي واللامركزية للعرب في ظل الحكم العثماني. ومعروف رد العثمانيين على تلك المطالب: التخوين والإعدامات على أعواد المشانق، بالخوازيق. الآن، من يرفض اللامركزيّة في سوريا، يود تكرار سيناريو جمال باشا السفاح، وفي صورة أكثر فظاعة وبشاعة. المشكلة يا عزيزي؛ مثلما تحول اليهود الضحايا إلى نسخة من جلاديهم النازيين، تحوّل بعض العرب الضحايا إلى نسخة من جلاديهم العثمانيين.
كروائي، هل ترى ان الأدب الكردي ساهم بشكل إيجابي، في تثبيت أقدام الأكراد بسوريتهم، أم أن الحقيقة أكثر مرارة؟
الأكراد راسخون في الأدب السوري، والدراما والسينما السورية. أغلب رموز السينما والدراما السورية ينحدرون من أصول كردية. وإذا أجريت مسحاً نقدياً لمجمل المنجز الروائي الكردي في سوريا، سواء المكتوب باللغة العربية أم الكردية، لن تجد عنواناً واحداً كارهاً لسوريا والسوريين، لن تجد عنواناً واحداً كارهاً للعرب. دائماً كان هناك حرص على الفصل بين البعث وسوريا، وبين البعث والعرب، بالرغم من أن البعث قمع الأدب الكردي، باسم سوريا والعروبة ومناهضة الانفصال.
الرواية الكردية في سوريا، رافد شديد الأهمية والخصوبة للرواية السورية، لأنها تحلق بجناحين لغويين؛ العربية والكردية. الرواية الكردية في سوريا مفخرة للأدب السوري.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

القناة الثالثة والعشرون
منذ ساعة واحدة
- القناة الثالثة والعشرون
توتر حول سد تشرين.. فصائل تركيا تدفع دمشق للصدام مع "قسد"
قالت مصادر سورية ميدانية إن التوتر الذي يشهده محيط سدّ تشرين في ريف حلب الشمالي الشرقي، خلال الأيام الأخيرة، بين فصائل "الجيش الوطني" المنضوية تحت الجيش السوري، وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، يلقي الضوء على الاتفاق الهش بين الطرفين، مشيرًا بالمقابل إلى دور تركي لدفع دمشق إلى مهاجمة "قسد" عبر فصائل تأتمر بأمر أنقرة. وأشار مصدر عسكري في تصريح لـ "إرم نيوز" إلى أن ما حصل لا يتعدّى مناوشات محدودة جرت نتيجة حالة من غياب التنسيق العسكري بين الطرفين في المنطقة، إلا أنه يفتح الباب على تفجير محتمل للأوضاع بين الطرفين، إن لم تستمر المفاوضات وصولًا إلى اتفاق نهائي بين الطرفين. وقالت سلطات دمشق إنها استعادت مساء الأحد، نقاطًا تسللت إليها "قوات سوريا الديمقراطية" في محيط سد تشرين بريف حلب، بعد اشتباكات بين الطرفين، حيث اتهمت قوات تابعة لقسد، بمهاجمة قوات تابعة لها على محور السد قرب تلة "سيرياتيل" خلال محاولتها التسلل إلى الموقع. ضغوط على "قسد" المصدر قال لـ "إرم نيوز" إن ما حدث قد يمثل حالة ضغط من سلطات دمشق على "قسد" لاستئناف المفاوضات، بعد رفع الأخيرة سقف مطالبها، وهو ما حصل بالفعل في حادثة سد تشرين. واستبعد بالمقابل إمكانية "اندلاع أي مواجهات عسكرية قريبة بين الطرفين، بسبب وجود تنسيق أمريكي - فرنسي مستمر لمنع المواجهة المسلحة"، لافتًا إلى أن "هناك إجماعًا على تجنب العمل العسكري، واللجوء إلى الحوار والدبلوماسية لحل كل الخلافات". لكن المصدر يلفت إلى الدور التركي في تأجيج الصراع بين "قسد" ودمشق، مرجحًا أن "تحاول تركيا جرّ الطرفين إلى مواجهة عسكرية، بما يخدم مصالحها السياسية والعسكرية في المنطقة"، منبهًا في هذا الصدد إلى تصريحات وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، عن أن "قسد" لم تلتزم بالاتفاق مع دمشق"، وتلويحه باستخدام الخيار العسكري من جديد، من خلال قوله إن "حزب العمال سيخرج من الحسابات في سوريا، سواء بإرادته وعبر الطرق السلمية، أم بخلاف ذلك". وعزّز هذا الكلامَ، توجهُ أرتال من الجيش السوري من عدة مناطق ومحافظات في اتجاه محيط سد تشرين، في إشارة إلى إمكانية انطلاق عملية عسكرية ضد "قسد" أو التلويح بها، بهدف تسليط ضغوط على الأخيرة للعودة إلى طاولة الحوار مع دمشق. رفض أمريكي فرنسي يؤكد المصدر أن هذه الرغبة التركية ستصطدم بالتأكيد برفض أمريكي - فرنسي لأي حلول عسكرية، ويوضح أن "دمشق تدرك أن واشنطن وباريس لا تريدان الحلول العسكرية، وهي حريصة على استمرار حالة الانفتاح من البلدين تجاهها، وهو ما سيمنعها من أي تصعيد عسكري خلال الفترة القادمة على الأقل". ويختم المصدر بالإشارة إلى الدور "المفجر" الذي تلعبه الفصائل التابعة لتركيا، وكذلك الإعلام المحسوب على تركيا، حيث قام بتضخيم الحادثة، وفي المقابل، لم تأت وسائل الإعلام التابعة لـ"قسد" و"الإدارة الذاتية" على ذكر حادثة الاشتباك، مؤكّدة استمرار الهدوء على الجبهة، بعد انسحاب "قسد" بالكامل من السد، وتسليمه للإدارة المدنية. انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News

القناة الثالثة والعشرون
منذ 12 ساعات
- القناة الثالثة والعشرون
التجنيس في لبنان: السلاح الصامت لتفكيك الدولة
لم يكن التجنيس في لبنان يوماً مجرّد إجراء قانوني عادي. في بلد تُرسم فيه التوازنات على أساس الطوائف، تحوّلت الجنسية إلى أداة سياسية لا بل وأخطر من ذلك إلى وسيلة اختراق داخلي ناعم، يُعيد تشكيل الخارطة السكانية طوعاً لخدمة مشروع سلطوي أو إقليمي. البداية من مرسوم 1994، الصادر عن الرئيس الياس الهراوي، والذي منح الجنسية لما يفوق 202,000 شخص. كان العدد صادماً، لكن الأخطر من العدد هو توزيع الطوائف: السنة وحدهم نالوا 118,295، والشيعة 28,425، والعلويون 7,954، والدروز 4,337، بينما الموارنة لم يحصلوا سوى على 2,725، وسائر الطوائف المسيحية مجتمعة على نحو 40,000 فقط. النتيجة: نحو 159,000 مسلم مقابل 43,000 مسيحي. الأرقام تتكلم بوضوح: تجنيس سياسي بامتياز، هندسة ديموغرافية موجهة، وإعادة إنتاج لتوازنات ما بعد الطائف، لا علاقة لها بمعايير العدالة أو الوطنية. ولأن السجال حول هذا المرسوم لم يتوقف، تقدّمت الرابطة المارونية بطعن إلى مجلس شورى الدولة، لكنه بقي عالقاً كما هي عادة الطعون التي تمس مصالح النظام السياسي القائم، حينها السوري - الإيراني. البطريرك نصرالله صفير، في مذكراته التي غطت مرحلة 1992 – 1998، وثّق هذا الخطر مبكراً. فقد نبّه بوضوح إلى أن بعض القوى السياسية مستعدة للتفريط بالمصلحة الوطنية مقابل مكاسب آنية، سواء سياسية أو مالية، وحذّر من أن منح الجنسية خارج الأطر الدستورية والمصلحة العليا من شأنه تغيير التركيبة السكانية وضرب قاعدة التوازن الوطني. رؤية صفير لم تكن نظرية أو عاطفية، بل تعبيراً عن إدراك دقيق لما تعنيه الجنسية من ثقل سيادي وانتماء وطني. مرسوم 1994 لم يكن الاستثناء، بل النموذج. ففي عام 2018، أصدر الرئيس عون مرسوماً جديداً وقع عليه سعد الحريري ونهاد المشنوق، وتضمن أسماءً أثيرت حولها علامات استفهام أمنية ومالية، بعضها يرتبط مباشرة بأنظمة إقليمية، وبعضها مشمول بعقوبات دولية. وكما حصل في 1994، لم يُعرض المرسوم على النقاش العام، ولم يمرّ عبر آليات رقابية، بل تم تمريره بهدوء ومن خلف الكواليس. ففي نهاية عهد الرئيس ميشال عون، كشف مصدر في القصر الجمهوري أن الرئيس ترك لائحة بـ 5000 اسم كان يُفترض أن تُمنح الجنسية ضمن مرسوم جديد. اللائحة لم تصدر لأن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الداخلية بسام مولوي رفضا التوقيع، بعد تقرير صحافي فرنسي خطير نُشر في "ليبراسيون"، كشف عن صفقة محتملة لبيع 4000 جواز سفر لبناني مقابل ما بين 50 و100 ألف يورو. رغم النفي الرسمي، فإن المعطيات السياسية والإدارية أثبتت أن مرسوماً كان يُحضَّر، وأن المستفيدين الحقيقيين من مكتومي القيد والمقيمين الشرعيين حُذفوا مجدداً من المشهد لصالح مشروع سياسي أو مالي غامض. المشكلة لا تقتصر على الطابع السياسي أو الطائفي لهذه السياسات، بل تتجاوزها إلى التأثير المباشر على صناديق الاقتراع. في الانتخابات البلدية في منطقة الجديدة – البوشرية – السد، رُصدت حالات استقدام مجنسين حديثاً لا يعرفون شيئاً عن طبيعة المعركة ولا عن المرشحين، جاؤوا فقط لتنفيذ عملية تصويت موجهة. هذا ليس فقط تلاعباً، بل تزويراً ناعماً لإرادة الناخبين، ويؤكد أن التجنيس يُستخدم لتعديل موازين القوى حتى في المعارك المحلية. كل ذلك يعزز قناعة راسخة: ما يُمارَس في لبنان في ملف التجنيس ليس تعبيراً عن سيادة، بل عن خضوع. وليس استيعاباً قانونياً لمن يستحق الانتماء، بل تسويقاً للهُوية الوطنية في المزادات السياسية. إنه شكل من أشكال الاحتلال الناعم الذي لا يدخل بدبابات، بل بورقة هوية، يغيّر التوازنات، ويحوّل الكيان إلى مساحة رخوة قابلة للاختراق من الداخل. لهذا، لا يمكن السكوت على هذا المسار. المطلوب اليوم ليس فقط وقف كل مراسيم التجنيس، بل مراجعتها واحدة تلو الأخرى، من عام 1994 حتى اليوم. على الدولة أن تُشكّل لجنة قضائية وطنية مستقلة تُدقّق بكل اسم، وتلغي كل تجنيس ثبت أنه سياسي أو مالي أو غير مستند إلى معايير قانونية واضحة. ويجب إقرار قانون عصري موحد للجنسية، يمنع التلاعب، ويضع حداً نهائياً لهذه السوق السوداء التي تُباع فيها الهويات. ليست الجنسية اللبنانية ورقة، بل مسؤولية سيادية. وليست "مكرمة رئاسية" بل هي تعاقد وطني. وما لم تُقفل هذه الثغرة، لا معنى لأي حديث عن الدولة أو السيادة أو الإصلاح. ايلي الياس - "نداء الوطن" انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News


MTV
منذ يوم واحد
- MTV
التجنيس في لبنان: السلاح الصامت لتفكيك الدولة
لم يكن التجنيس في لبنان يوماً مجرّد إجراء قانوني عادي. في بلد تُرسم فيه التوازنات على أساس الطوائف، تحوّلت الجنسية إلى أداة سياسية لا بل وأخطر من ذلك إلى وسيلة اختراق داخلي ناعم، يُعيد تشكيل الخارطة السكانية طوعاً لخدمة مشروع سلطوي أو إقليمي. البداية من مرسوم 1994، الصادر عن الرئيس الياس الهراوي، والذي منح الجنسية لما يفوق 202,000 شخص. كان العدد صادماً، لكن الأخطر من العدد هو توزيع الطوائف: السنة وحدهم نالوا 118,295، والشيعة 28,425، والعلويون 7,954، والدروز 4,337، بينما الموارنة لم يحصلوا سوى على 2,725، وسائر الطوائف المسيحية مجتمعة على نحو 40,000 فقط. النتيجة: نحو 159,000 مسلم مقابل 43,000 مسيحي. الأرقام تتكلم بوضوح: تجنيس سياسي بامتياز، هندسة ديموغرافية موجهة، وإعادة إنتاج لتوازنات ما بعد الطائف، لا علاقة لها بمعايير العدالة أو الوطنية. ولأن السجال حول هذا المرسوم لم يتوقف، تقدّمت الرابطة المارونية بطعن إلى مجلس شورى الدولة، لكنه بقي عالقاً كما هي عادة الطعون التي تمس مصالح النظام السياسي القائم، حينها السوري - الإيراني. البطريرك نصرالله صفير، في مذكراته التي غطت مرحلة 1992 – 1998، وثّق هذا الخطر مبكراً. فقد نبّه بوضوح إلى أن بعض القوى السياسية مستعدة للتفريط بالمصلحة الوطنية مقابل مكاسب آنية، سواء سياسية أو مالية، وحذّر من أن منح الجنسية خارج الأطر الدستورية والمصلحة العليا من شأنه تغيير التركيبة السكانية وضرب قاعدة التوازن الوطني. رؤية صفير لم تكن نظرية أو عاطفية، بل تعبيراً عن إدراك دقيق لما تعنيه الجنسية من ثقل سيادي وانتماء وطني. مرسوم 1994 لم يكن الاستثناء، بل النموذج. ففي عام 2018، أصدر الرئيس عون مرسوماً جديداً وقع عليه سعد الحريري ونهاد المشنوق، وتضمن أسماءً أثيرت حولها علامات استفهام أمنية ومالية، بعضها يرتبط مباشرة بأنظمة إقليمية، وبعضها مشمول بعقوبات دولية. وكما حصل في 1994، لم يُعرض المرسوم على النقاش العام، ولم يمرّ عبر آليات رقابية، بل تم تمريره بهدوء ومن خلف الكواليس. ففي نهاية عهد الرئيس ميشال عون، كشف مصدر في القصر الجمهوري أن الرئيس ترك لائحة بـ 5000 اسم كان يُفترض أن تُمنح الجنسية ضمن مرسوم جديد. اللائحة لم تصدر لأن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الداخلية بسام مولوي رفضا التوقيع، بعد تقرير صحافي فرنسي خطير نُشر في "ليبراسيون"، كشف عن صفقة محتملة لبيع 4000 جواز سفر لبناني مقابل ما بين 50 و100 ألف يورو. رغم النفي الرسمي، فإن المعطيات السياسية والإدارية أثبتت أن مرسوماً كان يُحضَّر، وأن المستفيدين الحقيقيين من مكتومي القيد والمقيمين الشرعيين حُذفوا مجدداً من المشهد لصالح مشروع سياسي أو مالي غامض. المشكلة لا تقتصر على الطابع السياسي أو الطائفي لهذه السياسات، بل تتجاوزها إلى التأثير المباشر على صناديق الاقتراع. في الانتخابات البلدية في منطقة الجديدة – البوشرية – السد، رُصدت حالات استقدام مجنسين حديثاً لا يعرفون شيئاً عن طبيعة المعركة ولا عن المرشحين، جاؤوا فقط لتنفيذ عملية تصويت موجهة. هذا ليس فقط تلاعباً، بل تزويراً ناعماً لإرادة الناخبين، ويؤكد أن التجنيس يُستخدم لتعديل موازين القوى حتى في المعارك المحلية. كل ذلك يعزز قناعة راسخة: ما يُمارَس في لبنان في ملف التجنيس ليس تعبيراً عن سيادة، بل عن خضوع. وليس استيعاباً قانونياً لمن يستحق الانتماء، بل تسويقاً للهُوية الوطنية في المزادات السياسية. إنه شكل من أشكال الاحتلال الناعم الذي لا يدخل بدبابات، بل بورقة هوية، يغيّر التوازنات، ويحوّل الكيان إلى مساحة رخوة قابلة للاختراق من الداخل. لهذا، لا يمكن السكوت على هذا المسار. المطلوب اليوم ليس فقط وقف كل مراسيم التجنيس، بل مراجعتها واحدة تلو الأخرى، من عام 1994 حتى اليوم. على الدولة أن تُشكّل لجنة قضائية وطنية مستقلة تُدقّق بكل اسم، وتلغي كل تجنيس ثبت أنه سياسي أو مالي أو غير مستند إلى معايير قانونية واضحة. ويجب إقرار قانون عصري موحد للجنسية، يمنع التلاعب، ويضع حداً نهائياً لهذه السوق السوداء التي تُباع فيها الهويات. ليست الجنسية اللبنانية ورقة، بل مسؤولية سيادية. وليست "مكرمة رئاسية" بل هي تعاقد وطني. وما لم تُقفل هذه الثغرة، لا معنى لأي حديث عن الدولة أو السيادة أو الإصلاح.