logo
هل كان لبنان جزءاً من سوريا الكبرى؟

هل كان لبنان جزءاً من سوريا الكبرى؟

خبرني٢٣-٠٧-٢٠٢٥
خبرني - عاد مصطلح "بلاد الشام" ليثير الكثير من الجدل بعد التصريح الذي أدلى به مؤخراً المبعوث الأمريكي إلى سوريا ولبنان، توماس باراك، الذي حذر من "عودة لبنان إلى بلاد الشام" في حال لم يسارع إلى حل مشكلة سلاح حزب الله، مشيرا إلى حقيقة تغير النظام الحاكم في سوريا.
ورغم أن باراك سرعان ما شدد لاحقا على أنه يعتقد أن قادة سوريا الجدد "لا يريدون سوى التعايش والازدهار المتبادل مع لبنان"، إلا أن هذا لم يحل دون عاصفة النقاش حول تصريحات المبعوث الأمريكي ومصطلح بلاد الشام.
فما الذي يعنيه مصطلح بلاد الشام؟ وما تاريخ التقسيم السياسي لتلك المنطقة؟
ساحة صراع
بلاد الشام هو مصطلح جغرافي وتاريخي كان يُستخدم لوصف مناطق واسعة تشمل اليوم سوريا ولبنان والأردن وفلسطين التاريخية، وأحياناً كان يشمل أجزاء من جنوب تركيا وشمال السعودية وشبه جزيرة سيناء في مصر.
خضعت هذه المنطقة، الواقعة في غرب آسيا، لسيطرة العديد من الإمبراطوريات الكبرى عبر التاريخ، مثل المصرية القديمة، والآشورية، والبابلية، والفارسية، والإغريقية، والرومانية.
ونظراً لموقعها الجغرافي الاستراتيجي، كانت هذه الرقعة الشاسعة من الأرض مسرحاً لصراعات كبرى بين قوى وإمبراطوريات متنافسة، مثل المواجهات بين المصريين القدماء في عهد تحتمس الثالث وشعوب كنعانية في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أو الحرب بين الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية) والإمبراطورية الساسانية (الفارسية) في القرن السابع الميلادي، وهي الحرب التي ورد ذكرها في القرآن في سورة الروم.
وفي القرن السابع الميلادي، ومع انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية، انطلقت حملات الفتح الإسلامي التي بسطت سيطرتها على مساحات واسعة من آسيا وأفريقيا، وامتدت لاحقاً إلى أجزاء من أوروبا.
ومع انتشار الإسلام واللغة العربية، بدأ يترسخ مصطلح "بلاد الشام" في الأدبيات العربية.
وهناك عدة تفسيرات لإطلاق اسم الشام على تلك المنطقة من الأرض، فمنها ما يربط بين التسمية واشتقاقات قديمة قد تكون مرتبطة بالسماء في بعض اللغات السامية ، كذلك هناك ما يربط بينها وشخصية سام بن نوح المذكورة في التوراة، كما يرجع البعض التسمية إلى كون تلك المنطقة تقع على يسار(شِمال) مكة من جهة شروق الشمس بينما يقع اليمن على اليمين.
أما في المصادر الغربية، فكانت تُعرف بعدة مصطلحات من بينها "ليفانت" (Levant) و"سوريا"، وهو الاسم الذي ورد في كتابات قديمة، مثل كتاب التاريخ للمؤرخ اليوناني هيرودوت الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد.
ازدادت أهمية المنطقة بعد أن اتخذ الأمويون من دمشق عاصمةً لدولتهم التي استمرت نحو تسعين عاماً.
وبعد سقوط الدولة الأموية وصعود العباسيين إلى الحكم، نُقلت عاصمة الخلافة الإسلامية إلى بغداد، فتراجعت المكانة السياسية لدمشق لصالح العاصمة الجديدة. ومع ذلك، شهد العصر العباسي، الذي امتد قروناً، صعود مدينة حلب كمركز سياسي وثقافي بارز، نافس دمشق على النفوذ في بلاد الشام.
وتشير كتب التاريخ الإسلامي إلى أن بلاد الشام في العهد العباسي لم تكن تُدار كوحدة سياسية موحدة تحت سلطة والٍ واحد، بل قُسمت إلى كيانات إدارية متعددة، مثل ولايتي دمشق وحمص، وكان لكل منهما والٍ مستقل.
ومع تراجع نفوذ الخلافة العباسية، برزت في بلاد الشام إمارات وممالك محلية، بعضها تمتع باستقلال شبه تام، وبعضها الآخر خضع للخلافة اسمياً فقط، بينما خضعت أجزاء من الشام لسيطرة الفاطميين، الذين نافسوا العباسيين في الشرعية الدينية والسياسية.
كذلك شهدت فترة الخلافة العباسية خسارة المسلمين للسيطرة على مناطق مختلفة في بلاد الشام كما حدث أثناء الحروب الصليبية، التي امتدت نحو مئتي عام.
وبعد رحيل الصليبيين عن الشرق عام 1291، آلت السيطرة على بلاد الشام إلى دولة المماليك في مصر، التي واصلت تقسيم المنطقة إلى عدة وحدات إدارية، كانت في الغالب ستّ وحدات، عُرفت بـ'نيابات' أو 'ممالك'، من بينها دمشق وحلب وحماة وطرابلس وصفد والكرك.
وكانت صيدا وبيروت تتبعان نيابة دمشق.
جاء القرن السادس عشر الميلادي حاملاً معه صعود قوة جديدة. فالأتراك العثمانيون هزموا المماليك ليؤسسوا إمبراطورية ستهيمن لقرون على أغلب بلدان العالم الإسلامي، ومن بينها منطقة بلاد الشام.
وبحسب المؤرخ اللبناني شارل الحايك، في مقابلة مع بي بي سي عربي، فإن المنطقة الجغرافية التي تعرف باسم بلاد الشام كانت مقسمة في زمن العثمانيين إلى عدة وحدات سياسية تغير شكلها وترتيبها كثيراً، لكن لأطول وقت كان هناك أربع وحدات إدارية كبرى (إيالات) - وهي إيالة حلب، وإيالة دمشق، وإيالة طرابلس، وإيالة صيدا.
وكانت كل إيالة تتشكل من وحدات إدارية أصغر يُطلق عليها "سنجق".
فبيروت مثلا ظلت لفترة طويلة زمن العثمانيين سنجق تابعا لولاية صيدا.
وبمرور الزمن بدأ نفوذ الدولة العثمانية في التراجع، ليفسح المجال أمام تنامي النزعات الاستقلالية، كما حدث في عهد والي مصر محمد علي (1805–1848)، حين سيطرت قواته على بلاد الشام فيما عُرف بالحكم المصري ( 1831- 1841).
ثم جاءت الأحداث الكبرى التي شهدها القرن التاسع عشر لتلقي بظلالها على التقسيم الإداري لتلك المنطقة.
فبداية من عام 1850 وقعت أعمال عنف طائفية دموية في حلب، ثم في جبل لبنان ودمشق بعد 10 سنوات، راحت ضحيتها أعداد كبيرة من المسيحيين، ما أثار موجة غضب في أوروبا.
وعقب تلك الأحداث الدموية، وتحت ضغوط أوروبية، قررت السلطة العثمانية إحداث تغييرات في النظام الإداري للوحدات التي كانت تتشكل منها منطقة المشرق، فبدأت بإنشاء وحدة إدارية هي متصرفية جبل لبنان، التي كانت تتمتع بنوع من الحكم الذاتي يحكمها زعيم مسيحي ليس من أبناء منطقة الجبل.
ثم في عام 1864، تم تأسيس ولاية سوريا التي ضمت الكيانات الإدارية لدمشق وطرابلس وصيدا.
ويقول شارل الحايك إن إطلاق اسم سوريا على الولاية الجديدة يعكس وعياً تاريخياً لدى النخب المحلية التي اقترحت هذا الاسم.
وبحسب كتاب المؤرخ البريطاني يوجين روغان "أحداث دمشق: مذبحة عام 1860 وتشكيل الشرق الأوسط الجديد"، فإن دمشق وبيروت تنافستا على نيل شرف أن تكون إحداهما عاصمة ولاية سوريا بشكلها الجديد، قبل أن يستقر العثمانيون على دمشق.
ثم عاد العثمانيون وعدلوا من شكل التقسيم الإداري لمنطقة الشرق العثماني، فأعلنوا تأسيس متصرفية القدس، ثم لاحقاً أسسوا وحدة إدارية جديدة هي ولاية بيروت، التي ضمت الأراضي التي كانت ضمن ولايتي صيدا وطرابلس.
الحرب العالمية الأولى وتأسيس لبنان وسوريا
مثلما كان للقرن التاسع عشر تأثير كبير على منطقة المشرق العثماني، فإن القرن العشرين بدوره حمل الكثير من رياح التغيير.
فالدولة العثمانية انخرطت في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) بجانب ألمانيا وإمبراطورية هابسبورغ (التي كانت تضم أساساً النمسا والمجر) ضد معسكر بريطانيا وفرنسا وروسيا، ولاحقاً الولايات المتحدة، لتشهد منطقة الشرق الأوسط معارك عنيفة.
ومن بين الأحداث الكبرى، الانتفاضة التي قادها حاكم مكة، الشريف حسين، ضد العثمانيين، مدعوماً من قبل بريطانيا.
ومع انتهاء الحرب وسيطرة بريطانيا وفرنسا على الأراضي التي كانت تابعة للعثمانيين، بدت منطقة الشرق الأوسط على أبواب تغيير كبير، خاصة في ظل الوعود المتضاربة التي قطعتها الدول المنتصرة، خاصة بريطانيا، خلال الحرب.
فبريطانيا تعهدت للشريف حسين بدعمه في تأسيس دولة عربية مستقلة، كما أبرمت اتفاقاً سرياً مع فرنسا وروسيا القيصرية (اتفاق سايكس-بيكو) على تقسيم مناطق النفوذ في الشرق العثماني، بجانب وعد بلفور الخاص بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
وفي خضم هذه الأحداث المتلاحقة، ظهرت تيارات سياسية في منطقة المشرق تباينت مواقفها حيال مستقبل المنطقة.
فأنصار الاستقلال كانت تحذوهم الكثير من الآمال والتطلعات لمبدأ حق تقرير المصير الذي تبناه الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون. ومما يدل على قوة هذه الآمال أن أحد أبرز رموز السلفية المعاصرة، الشيخ محمد رشيد رضا، المولود في القلمون بطرابلس، كتب مقالاً يمتدح فيه بشدة ويلسون، بحسب ما جاء في كتاب "كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب" للمؤرخة إليزابيث تومسون.
في المقابل، ظهرت في جبل لبنان أصوات، خصوصا في الأوساط المارونية، تدعو إلى قيام كيان مستقل عن باقي ولايات الشام، بدعم من فرنسا.
وفي عام 1920 أعلن عن إنشاء مملكة سوريا على أجزاء من ولايتي دمشق وحلب تحت حكم الأمير فيصل (الملك فيصل لاحقا).
لكن تجربة المملكة السورية الوليدة لم تدم سوى لأشهر، إذ تعارضت مع تفاهمات دولية تم الاتفاق عليها في مؤتمر سان ريمو، وتم تطبيقها لاحقاً بالقوة العسكرية، لتخضع الأراضي الواقعة حالياً في سوريا ولبنان لسلطة الانتداب الفرنسي، بينما خضعت فلسطين لسلطة الانتداب البريطاني.
وفي عام 1920، أعلنت فرنسا إنشاء لبنان الكبير، الذي ضم، بجانب جبل لبنان، مناطق متعددة من بينها بيروت وطرابلس وصيدا، وهو لبنان الذي نعرفه بشكله الحالي.
أما في سوريا، فقد تم تقسيم المنطقة إلى عدة دويلات: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة الساحل، ودولة جبل العرب.
وفي عشرينيات القرن العشرين، اندلعت ثورة في المناطق السورية ضد الانتداب الفرنسي، قبل أن يتم إعلان دولة سورية موحدة عام 1930.
وبعد استقلال لبنان وسوريا عن فرنسا في أربعينيات القرن العشرين، شهدت العلاقات بين البلدين العديد من التطورات الهامة التي أسفرت عن تداخل كبير في مصائرهما، فخلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية وما أعقبها، كان لسوريا نفوذ سياسي وعسكري كبير في لبنان.
وفي عام 2005 انسحب الجيش السوري من لبنان بعد تنامي الضغوط الدولية على دمشق، خاصة بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.
كذلك، فإن حزب الله اللبناني شارك بجانب قوات الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في الصراع ضد المعارضة المسلحة، وهو الصراع الذي انتهى في عام 2024 بسقوط حكم الأسد.
لكن هل يمكن لهذا التاريخ الثري والمتداخل لتلك المنطقة أن يبرر الحديث عن عودة سياسية لبلاد الشام؟
يقول المؤرخ اللبناني شارل الحايك إن أصحاب هذا الطرح يعتمدون على "قراءات خيالية ليس لها علاقة بالتاريخ. فالمغالطة هنا تكمن في اعتبار بلاد الشام مصطلحاً يدل على كيان سياسي، وهو أمر غير صحيح. فلبنان وسوريا لم ينشآ كدولتين بالمعنى الحديث إلا بعد الحرب العالمية الأولى".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

حَقِيقَةُ النَّاسِ في الثَّقَافَةِ العَرَبيَّة: أَسْئِلَةٌ مَنْفِيَّة وخِطَابٌ مَهْزُوم
حَقِيقَةُ النَّاسِ في الثَّقَافَةِ العَرَبيَّة: أَسْئِلَةٌ مَنْفِيَّة وخِطَابٌ مَهْزُوم

الدستور

timeمنذ 6 ساعات

  • الدستور

حَقِيقَةُ النَّاسِ في الثَّقَافَةِ العَرَبيَّة: أَسْئِلَةٌ مَنْفِيَّة وخِطَابٌ مَهْزُوم

مُحمَّد عبد الفتَّاح حليقاويفي البَدْء كانَ الإنسان، وفي النِّهَاية يكون الإنسان، وفيما بينهما يَنْعَقِدُ الاتِّفَاق على أنَّ التحدِّي الحَقيقيَّ الذي يُوَاجِهُ العَرَبيَّ، قَدِيمَاً وحَديثاً، هو تأسيسُ سُلْطَته الفِكْريَّة مُبَاشَرَة مِنْ ثَقَافتهِ وخُصُوصيَّته وتُرَاثه، دُونَ وَسَاطَةٍ، أو وِصَايةٍ، أو شَريكٍ استراتيجيّ، ولا سيَّما إذا كانَ هذا الإنسانُ يَحْمِلُ لِوَاء العِلْمِ والنَّهْضَة، ودَاعِيَاً إلى التَّحديثِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ، إذْ لَيْسَ وَرَاءه سَنَدٌ مِنْ تُرَاثٍ يَشدُّ مِنْ أزره سوى ثقافتهِ وحضارته، ولَيْسَ أمَامَه سِوَى نِضَال طويل لتجديدِ العَقْل، وبِنَاءِ المُجْتَمَع، لأنَّ نُخْبَة المُجْتَمَع العَرَبيّ المُعَاصِرِ تَعلَّقوا بِكُلِّ شَيءٍ مَا عَدَا الشَّيء الذي يَضْمَنُ تحقيق المَنْهَجِيَّة العِلْمِيَّة في التفكير والتَّخطيط والتنفيذ، وكانَ عليهم أنْ يجعلوا هَذِهِ المَنْهَجِيَّة على رَأْسِ أولويَّاتهم، ليْسَ فقط لأنَّها المَدْخَل الأمْثَل الذي دَعَتْ إليْهِ الحَقيقة، بل لأنَّها الشَّرْط الأوَّل لِجَعْلِ التنويرِ والعِلْم والاجتهاد أبجديَّات في حَياة الإنسانِ العَرَبيِّ، إلى جَانِبِ الخُروجِ مِنْ عَوَالِم التِّيهِ، والأوهام، والنَّظريَّات الوَاهِيَة، إلى مَيْدَان الفِعْل، والإنجاز، والنَّقْد العِلْميِّ، والخُرًوج مِنْ دَهَاليز فِكْرِ وثَقَافَة الاستِلَاب والهزيمة.واسْتِظْهَار مَفْهُوم النَّاس مِنَ الخطوات الأساسيَّة التي تُحدِّد المَجَالَ السياسيَّ العربيَّ والإسلاميّ، ويُشكِّلُ أبرز المُكوِّنَات التي تُلَازِمُ، ظَاهِرَاً وبَاطِنَاً، كُلَّ بَاحِثٍ في الفِكْرِ السياسيِّ، لأنَّ المَرْءَ يَقِفُ مَذْهُولاً أمَام نُدْرَة الكتب والأفكار التي دَرَسَتْ الموضوع، مِمَّا يَجْعَلُ أيَّ دِرَاسَةٍ اجتماعيَّةٍ للعَرَب تبدو عسيرةً جدَّاً، بيدَ أنَّ المُفَارَقَة تَكْمُنُ في أنَّ النَّاسَ حَصَلوا على قِسْطٍ وَافِرٍ مِنَ المادَّة المكتوبة عنهم ولكنْ مِنْ زاويةٍ وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا، أو بكلمةٍ أدقّ، تَكْمُنُ الإجابة في طَبيعةِ الخِطَابِ السياسيّ في ثنايا كُتُب الآدَاب السُّلْطَانيَّة، إذ الخِطَابُ لَيْسَ مُوجَّهاً إلى النَّاس، بل لا يُؤبَهُ لهم، وإنَّما هو، كما يَبْدُو جَلِيَّاً في مُقدِّمَات كُتُب الآدَاب السُّلْطَانيَّة ومُحْتَويَات نُصُوصِها، وضَمَائِر المُخَاطَبَة فيها، مُوجَّهٌ إلى الرَّاعي في مَوْضُوع رعيَّتهِ، وأكثر مِنْ ذلك، لا يَتَعَامَل هذا الخِطَابُ السياسيّ مع النَّاسِ بوصفهم كِيَانَاً قَائِمَاً بِذَاتِه، ولا يعتبرهم ذَاتَاً مُستَقلَّةً تَسْتحقُّ خِطَابَاً لائِقَاً بِقَدْرِ ما هُمْ « مَوْضُوعٌ « و» ذَاتٌ « تَخصُّ السُّلْطَان وَحْده، وهم كذلك جُزْءٌ مِنْ مُقْتَنَيَاتِهِ الشخصيَّة، أو إقْطَاعٌ أبَدِيٌّ تتوارثه أجيال السُّلْطَة السياسيَّة بصورةٍ مَكْرُورَةٍ وعَجيبة.ومِمَّا زَادَ في الفِتْنَة المَفْهُوميَّة المُرْتَبِطَة بالنَّاس، وتَعدُّد مَدَاخِل القَوْل في دَلالاتهم، عَدَم انتظام أهميَّة وخُصُوصيَّة هؤلاء الذين لا فَائِدَة منهم إلَّا عندما يكون جُهْدُهُم، وإنْتَاجُهُم، وطَاعَتُهُم، وطُمُوحَاتُهُم، ضِمْنَ السِّيَاق المَرْسُوم لَهُم في تَصوُّرَات السُّلْطَة ونُخْبَتِهَا، مع أنَّ القرآن الكريم رسَّخ تكريم الإنسان، وأعَادَ إلى النَّاس، كُلّ النَّاس، مَكَانتهم، وحُقُوقهم، فقد وَرَدَ لَفْظ النَّاس في القرآن الكريم أزْيَد مِنْ 230 مرَّة، والنَّاسُ اسْمُ جَمْعٍ لا مُفْرَد لهُ مِنْ لَفْظِهِ ومُفْرَدهُ إنسان، ونِدَاء النَّاس في القرآن الكريم ظَهَرَ في 21 مَوضِعَاً ضِمْنَ تِسْعِ سُوَرٍ، ومِنْ هُنَا، لَيْسَ يخفى بهاء جَوْهر قول مُحمَّد الطَّاهِر بن عَاشُور بأنَّ لَفْظَ «النَّاس» عُرِّفَ بأل في القرآن الكريم كَيْمَا يَشْمَل كلَّ أفراد مُسمَّاه، لأنَّ الجموع المُعرَّفة باللام للعموم، وهي في العمومِ أنصُّ مِنْ عمومِ المُفْرَد المُحلَّى بأل، وإنْ: «نَظَرْتَ إلى صُورةِ الخِطَابِ فهو إنَّما وَاجَه بهِ نَاسَاً سَامعينَ فعمَّموه لِمَنْ لَمْ يَحْضُر وقتَ سَماعِ هذه الآية، ولِمَنْ سيوجد مِنْ بَعْد، يَكونُ بِقَرينةِ عُمُوم التكليف، وعَدَم قَصْدِ تَخْصيص الحَاضِرين، وذلك أمرٌ تَوَاتَرَ نَقْلَاً ومَعْنَى فلا جَرَمَ أنْ يَعُمَّ الجميع مِنْ غيرِ حاجةٍ إلى القِيَاس، وإنْ نَظَرْتَ إلى أنَّ هذا مِنْ أَضْرُبِ الخِطَابِ الذي لا يكون لِمُعيَّن، فيُتْرَكُ فيه التعيين لِيَعُمَّ كلَّ مَنْ يَصْلُحُ للمخاطبةِ بذلك»، مِمَّا يدلُّ على سمو مَقَاصِد الشَّريعة والثَّقافة العربيَّة، وعمومهما، ومضامينهما الرَّاقية، وشُمُولهما للجميع في كُلِّ زمانٍ ومَكان.وعلى المستوى الفِقْهيّ يرى الإمام الشَّاطِبيّ أنَّ العامَّة هُم غير المتخصِّصين في العلومِ الفِقْهيَّة، والذين ليْسَ لهم إلْمَامٌ بأحكامهِ، وتُمثِّل العامَّة مجموعة مِنَ النَّاسِ البُسَطاء الذين يتلقُّون الأحكام الشرعيَّة، أمَّا الجَّاحظ فهو يرى أنَّ العامَّة لهم لُغَة خاصَّة بهم تمتاز بضعفها، وذلك يعود إلى تكوينهم الشخصيِّ والاجتماعيِّ الضعيف أصْلاً، وهذه الفوضى اللغوية تليقُ بهم، وُصُولاً إلى تعريف العامَّة بأنهم سَواد النَّاس الذين لَمْ يكونوا يتمتَّعون بأيِّ سُلْطَة، والذين كانوا يعملون في شتَّى حقول الكَسْب، وكانت لهم عوالمهم الخاصَّة بهم فكريَّاً ودينيَّاً، والتي مِنَ المؤكَّد أنَّها أدنى مِنْ عوالم الطبقة الخاصَّة، ولمَّا كَانَ الفَقْر رَفيق هَذهِ الفِئَة المَسْحُوقَة مِنَ النَّاس أُطلقَ عليهم في العَصْر العباسيِّ مصطلح « الشُّطَّار والعيَّارين «، وعليه، فإنَّ مصطلح العامَّة يتبلور على مَلْحَظيْن: مَلْحَظ يتعلَّق بإجماعِ السُّلْطَة وأتباعها على تهميشِ وإقصاءِ النَّاس عموماً عن كلِّ شيءٍ يتعلَّق بحياتهم وحاضرهم ومستقبلهم، ومَلْحَظ مُؤْلم يتمثَّل في أنَّ المساواة تتحقَّق بصورةٍ مُذْهلةٍ مِنْ خلال النَّظر إليهم بمنظورِ السُّلْطَة وأتباعها مِنَ العُلَمَاءِ والفُقَهَاءِ والأدباءِ والسياسيين حيث أنَّ العَرَبيَّ والفارسيَّ والتركيَّ والسُنِّيَّ والشيعيَّ كلُّهم في صَعيدٍ واحدٍ ما داموا مِنَ العامَّة، مع أنَّ الفُرْقَة، والانْقِسَام، والاسْتِقْطَاب، مَطَالبٌ أساسيَّة مع هؤلاء إذا اقتربوا مِنْ عَالَم الخاصَّة، وخاصَّة الخاصَّة، في التَّاريخ والحَاضِر والمُسْتَقْبَل.ومِنْ قَرَائِنِ الإنْصَافِ أنْ نُشير إلى أنَّ التُّرَاثَ السياسيّ العَرَبيّ قد تحدَّث عن الدَّوْلَة التي عَاشَ في ظِلَالها، أو حتَّى كانَ يطمح إلى ذلك، وهذا التُّرَاثُ هو الشَّاهِد، وربَّما الوحيد، على ما يُسمَّى «الدولة العربيَّة»، وهو المُعبِّر أيضاً عن مُفارَقَة تاريخيَّة كُبْرَى تتمثَّل في الحضورِ الفِعْليّ والماديّ لهذهِ الدَّوْلَة، في ذَاتِ الوقت الذي تَغيبُ فيه جوهريَّاً في الجانب الأخلاقيِّ، أو بعبارةٍ أُخْرَى، صُعُوبة تحقُّق مثالها كما هو الحال في التَّاريخِ البشريِّ، ما دَامَ هذا التَّاريخُ مَجَال صِرَاعٍ وقِتَال، وما دَامَ الإنْسَانُ العَرَبيُّ كذلك لَمْ يتحوَّل إلى مَلَاك، مِنْ أجل هذا كلِّه، فإنَّنا عندما نتحدَّث عَنْ الدولة السُّلْطَانيَّة أو قادتها بمختلف مُسمَّياتهم مِنَ الخُلَفَاء والأُمَرَاء والسَّلاطين، فالمَقْصُود هو «الواقع» ولَيْسَ «المِثَال»، والنِّظَام السُّلْطَانيُّ هو الشَّكلُ الوحيدُ للدَّوْلَة الذي عَرَفتهُ الأرض العَرَبيَّة، في مشرقها ومغربها، مُنْذُ أنْ تحوَّلتْ الخِلَافة إلى مُلْك، وهي كما صَوَّرها التُّرَاث السياسيّ العَرَبيّ، وعرَّفها ابن خَلْدُون، دَوْلًةُ قَهْرٍ وشَوْكَةٍ واستبدادٍ وعَصَبيَّة، وهذا على النَّقيضِ تماماً ممَّا يدَّعيه البعض حول « مثال « الدَّوْلَة الإسلاميَّة، حيث يبدو الخَلْطُ بيَّناً بَيْنَ إسلامٍ مِعْيَاريٍّ، وإسلامٍ واقعيّ، بصورةٍ قَاطِعَة وأبديَّة. ومِنَ التكرير، ولكنَّه مِنَ التذكير أيضاً، الإشَارَة إلى ما قرَّره مُحمَّد عَابِد الجَابريّ لدى مقارنتهِ بَيْنَ الفِكْرِ الشَّرْقيّ القديم والفِكْرِ العَرَبيّ بأنَّ ما يَجْمَعه الرَّاعي الشَّرْقيّ هُمُ الأفراد المُتَناثرون الذين يَخْضَعُون لِنِدَاءِه إذا دَعَاهم بِصَوْتهِ أو «صَفِيره»، وبِمُجرَّد انشغالهِ أو غِيَابهِ يَطْغَى الشَّتاتُ على وُجُودِ الرَّعِيَّة، ولمَّا تَصِلُ المُقَارَنَةُ إلى المُجْتَمَع العَرَبيِّ يقول: «إنَّنا نَنْسَى، بسبب كَثْرَةِ الاستعمال، أنَّ الرَّعِيَّة تَعْني في اللُّغَة العَرَبيَّة نفسها «المَاشِيَة»، القَطِيعُ مِنَ الأكباشِ والنِّعَاج، وقليلاً ما نَنْتَبِهُ إلى أنَّ «الرَّاعي» عندنا، الوَاحِدُ الأَحَد، كثيراً ما يَعْتَبِر تعدُّد الرُّعَاة على رَعيَّةٍ وَاحِدةٍ، حتَّى لو كانوا قليلي العَدَد، بِمَثَابَة تَعدُّد الآلهة»، وهذا هو السَّطْو التَّاريخيّ على النَّاسِ الذي مَارَسَتْهُ السَّلْطَة السياسيَّة وسوَّغهُ كتَّاب الآدَاب السلطانيَّة طيلة تاريخنا.وقد تفطَّنَ عزّ الدِّين العَلَّام إلى أنَّ الرَّعِيَّة في الأدبيَّات السُّلْطَانيَّة تَنْتَظِمُ في تصنيفيْنِ اثنيْنِ: الأوَّل تصنيفٌ أخلاقيٌّ ثُلَاثيّ الأطراف، والثاني تصنيفٌ إلى فئتيْنِ هما الخاصَّة والعامَّة وهُوَ تصنيفٌ لا يَعْتَرِف أو يهتمّ سِوَى بالخاصَّة، والتصنيفُ الأخلاقيُّ الثلاثيُّ يبدأُ مع أبي بَكْرٍ المُرَاديّ في أبرز كتبهِ:» الإشَارَة في تدبير الإمَارَة «، وابن رضوان المَالِقيّ في كتابهِ:» الشُّهُب اللامِعَة في السياسة النَّافِعَة «، حيث يرى هؤلاء النَّاس على ثَلاثَةِ أصْنَافٍ هي: كَريمٌ فَاضِلٌ، ولَئيمٌ سَافِلٌ، ومُتوسِّطٌ بينهما، ولِسَان الدِّين بن الخطيب في كتابه:» مَقَامَة السياسة « يقترب منهم بقوله:» العَليُّون والأوساط والسَّفَلة «، وكتَّاب الآداب السلطانيَّة يطرحون هذه التقسيمات مِنْ أجلِ التأكيد على أنَّ كلَّ فِئَةٍ مِنَ الرَّعِيَّة يحتاج صِنْفَاً مُعيَّناً مِنَ السياسة، ويبقى السُّؤَال مَطْرُوحَاً في سِيَاقِ المِعْيَارِ الأخلاقيِّ: كيف نُحدِّد الفَاضِل مِنَ اللئيمِ أو الخَيِّر مِنَ الشِّرير؟، ومَنْ يملك تلكم المعايير؟، وهل قَامَ الفُقَهَاء والكتَّابِ والأدباءِ باستلهام هذه التقسيمات مِنَ مرجعيَّاتهم الحقيقيَّة، التي جَاءَتْ أساساً مِنْ أجلِ الحُريَّة، والعَدَالة، والمُسَاوَاة، أمْ القضيَّة انطلقتْ مِنْ حقيقةِ الرَّغبةِ بالسيطرةِ المُطْلَقَة على السُّلطةِ إلى الأبَد باسمِ الشَّريعة، أو الثَّقَافَة العَرَبيَّة، أو المَصَالحِ العليا، أو امتلاكِ الحقيقة المُطْلَقة؟.ولا يُدَاخِلنَّكَ شَكٌّ في أنَّ الرَّابِطَ بَيْنَ المُفكِّرِ أو الأديبِ أو الفقيهِ، السُلْطَانيِّ، مِنْ زاوية، والسُّلطةِ السياسيَّةِ ومتطلَّباتها مِنْ زاويةٍ ثانية، قَطَعَ أشواطاً شَاسِعَةً مِنَ التكيُّفِ، إلى التَجَاورِ، إلى التَّعَايُشِ، إلى الترويضِ، وصولاً إلى القناعات الذاتيَّة، والمُبَادَرات الخَلَّاقة، في خِدْمَةِ السُّلْطَة، وتسويغ وجودها في تاريخنا، وعندما ظَهَرَتْ الحَاجَة إلى إرْسَاءِ قواعد التنظيمِ السياسيِّ في الدولة العَرَبيَّة، تَنَاسَى الطَّامِحُون إلى السلطة المَبَادئ والقِيَم « ووضعوا رِمَاحَهُم في خِدْمَة الخليفة لأنَّه بدورهِ أفضل فَرْدٍ في الجَمَاعة، أيْ خَليفَةُ الله في أرضه «، وبهذا تمَّ ترسيخ لحظة ما قبل السياسةِ في الأدَبِ السُّلْطَانيِّ، وذلك مِنْ خلالِ تدعيم خِطَاب الدِّين والأخلاق بميثولوجيا الزُّهدِ الإسلاميَّة، وبالتالي لَمْ تتمكَّن الآدَابُ السُلْطَانيَّة مِنْ تجاوزِ السَّقفِ الذي رُسِمَتْ مَلامحه خلال التَّاريخ العَرَبيّ، واستمرَّت على الدوام تنظر إلى السُّلَطَة باعتبارها شأناً مُقدَّسَاً، والنَّظَر إلى الطَّاعَة باعتبارها أمْرَاً دينيَّاً، وهو ما حوَّل العَقِيدَة في الثَّقَافَة السياسيَّة السُّلْطَانيَّة إلى سَقْفٍ في التبرير السياسيِّ، بل أصبحت الآدَاب السُّلْطَانيَّة تشبه الألغَاز التي لها خَلْطُها واخْتِلَاطُهَا، استمرَارُها وتِكْرَارُهَا، توظيفها لأنماطٍ فِكْريَّةٍ مُتعدِّدة ومُتَنَاقِضَة، تسييسها للمُتَعَالي، ورَفْعِهَا مِنْ شَأنِ السياسيِّ، توتُّرها الأخلاقيُّ بَيْنَ الأخلاق والمعايير، والأخلاق والأقنعة، وما يزال الفِكْرُ العَرَبيُّ أسير هَذهِ المتوالية المُزْمِنَة على الرَّغم مِنْ مُحَاوَلاتِ بعض المُفكِّرين والعُلَمَاء الانْعِتَاق منها وتجاوزها.وإنَّما يَعْنينا ويُعنِّينا ذلك الأمَل المُرْتَبِط بأدوارِ العُلَماءِ والفُقَهَاءِ والمُفَكِّرين تجاه النَّاسِ في مُجْتَمَعِنَا عبر مَرَاحِلهِ التَّاريخيَّة جَمْعَاء، إذْ مُحَاولة فَصْل السياسة عن السُّلْطَة العِلْميَّة، إجمالاً، مُحَاوَلة فَاشِلَة في التصوُّر الدِّينيّ والتَّاريخيِّ والاجتماعيِّ للدول العَرَبيَّة، بل إنَّ محاولات تفكيكِ المؤسَّسات أدى إلى حُدوثِ شُرُوخٍ قاتلةٍ في بِنْية الدَّوْلَة العَرَبيَّة، وتاريخ الاستبداد هو تاريخ إقْصَاء السُّلْطَة العِلْميَّة الحقيقيَّة عن دورها في المجتمع والدولة، وما تزال ثُلَّة تسعى إلى رَسْمِ ملامحِ التغيير، والاجتهادِ، والعَقْلِ، والمنهجيَّةِ، والالتزامِ بقضايا النَّاس وحقوقهم، بيد أنَّ تُرَاث ومَرْجعيَّة ومُنْجَزَات وآفاق هؤلاء يتمُّ تغييبها مقابل طغيان الأدوار والمشاريع والرُّؤَى التي تتماهى مع السُّلْطَة وطموحاتها وأدواتها وأتباعها في المجتمع منذ العَصْر الأُمَويّ.وحَسْبُنَا أنْ نَعْلَم أنَّ التَّاريخ مِفْتَاح العَقْل، والسُّلْطَة هِيَ مِفْتَاح التَّاريخ، ولذا بَرَزَت هذه الحقيقة في تاريخ الدولة العربيَّة منذ القرن الهِجْريّ الأوَّل بصورةٍ خاصَّة، عندما مَارَسَت السُّلطة السياسيَّةُ بشكلٍ مُبَاشر أو غيْر مباشر دوراً جبروتيَّاً طاغياً في تشكيلِ العَقْلِ الجَمْعيِّ العَرَبيّ، وانعكستْ التأثيرات القَهْريَّة للسُّلطة على شتَّى مجالاتِ الفِكْرِ والعِلْمِ والسياسةِ والاقتصاد وغيرها، ولقد فَعَلَت السُّلطة كثيراً في التَّاريخ، وفَعَلَ التَّاريخُ كثيراً في العَقْلِ، وصَارَ الإنسانُ العربيُّ أسيراً للفِعْلَيْنِ معاً، فِعْلُ السُّلطة في التَّاريخ «تاريخ السُّلطة»، وفِعْلُ التَّاريخ في العَقْلِ «سلطة التَّاريخ»، وانبثقَ عن هذا كلِّه العَقْل العربيّ الخَاضِعُ للسُّلْطَة بصورةٍ شِبه مُطْلَقة، كما أورثته سُلْطَة التَّاريخ خضوعاً شبه كليٍّ للماضي ومخرجاته كافَّة، وفي خضمِّ هذه الثنائيات باتَ الإنسانُ العربيُّ تائهاً بَيْنَ تاريخٍ بدأ جميلاً ولَنْ يعود، وحاضرٍ لا يملك منهُ شيئاً، ومستقبلٍ لا يعلم عنه شيئاً أيضاً، والنتيجة هيَ تكريس القبول بالواقع السياسيِّ والاجتماعيِّ والاقتصاديِّ منذ تمَّ تغييب النَّاس بذريعة الحفاظ عليهم، وأصبح، بالتالي، الإقصاء هو المشروع البديل لحياة النَّاس، وشتَّان.

تيار اليمين الديني السياسي: صراع الاعتدال والاعتزال
تيار اليمين الديني السياسي: صراع الاعتدال والاعتزال

عمون

timeمنذ 7 ساعات

  • عمون

تيار اليمين الديني السياسي: صراع الاعتدال والاعتزال

عند الحديث في فقه علوم الأديان ، يبرز الحديث عن الإسلام و مكانه ما بين الديانات السماوية الأخرى ، هوية فكره و اركان نهج مساره و حكم علاقته و الإنسانية ، لنجد ، أنه ليس دينًا لطائفة أو فئة خاصة، بل هو رسالة كونية للإنسانية كلها، تحتضن في جوهرها كل الرسالات السماوية، وتستهدف بناء منظومة هي مصفوفة قيم تنظم حياة الإنسان وعلاقاته مع نظرائه في الخلق و خالقهم على أسس فلسفة الفطرة السليمة و الفكر القويم ، هدفها ادراك ربوبية الواحد الاحد الفرد الصمد. من يتدبر هذا المعنى يدرك أن الإسلام ليس حكرًا على طقوس جامدة، بل مشروع حضاري شامل يعبر عن صلة بين الخالق والمخلوق من خلال الحوار، والإيمان، والعمل. وقد خُلق الإنسان مميزا بملكة التفكير وحرية الاختيار و قدرات التدبير ، ليكون قادرًا على التفاعل مع متغيرات الحياة و تحدياتها، ولكن تبقى الفطرة رهينة بصفاء النفس أو عكر هواها . وهنا يظهر الانقسام: فبينما ترى بعض الفئات في الإسلام مشروعًا حضاريًا مفتوحًا على الثقافات والحضارات، في حين اختزله البعض الآخر في ممارسات مغلقة وطقوس منغلقة، جعلته سجنًا فكريًا لا يسمح بالتفاعل ولا بالحوار، بل يقدس الجمود ويخاصم التجديد ، و هو ذاته عند باقي اتباع الديانات التي ترى فيها نصوص للقراءة لا للفعل و العمل و الهداية. المقدمة لا تعكس هوية مقال عن حوالي الأديان انما هو توطأة ، لظاهرة ما يُعرف بـ"اليمين الديني السياسي" و هي ظاهرة ليست عربية محلية فقط، بل ظاهرة عالمية ، عابرة للقارات ، تمددت و تشعبت ، للتفرع منها قوى سياسية تحت عباءات مذهبية طائفية ، احتكرت الاحكام و القرارات بحكم وصاية و تفويض الخلافة الربانية . منطقتنا العربية شهدت أسوأ تجليات صور هذا التيار ، سواء في نسخته الإسرائيلية ذات الطابع التلمودي التوراتي المتطرف المحرفة الذي يدعي مظلومية المحرقة التي تعرض لها و يحرم إنكارها بينما يقر حاخاماته جوازها لغيرهم ، أو تلك العربية المتمثلة في نسخة التنظيمات ذات الخلفية الإخوانية، التي دخلت المجال السياسي تحت راية الدين ، رافضة التعددية و اي رأي يخالفها . السؤال الجوهري: ماذا قدم هذا التيار؟ اين المنجزات و عوائد المشاريع نفعا للإنسان المنطقة على الأقل ؟ حين نتأمل سجل هذه التيارات بعد وصولها إلى السلطة، نجد أن الحصيلة كانت كارثية ومؤلمة. فبدلًا من تحقيق نهضة حضارية أو إصلاح سياسي، تورطت هذه التيارات في إدارة المؤامرات المؤلمة التي عمقت الأزمات وإثارة الصراعات و اعاقة في كافة الملفات السياسة الخارجية أو الداخلية الاقتصادية أو التعليمية أو الثقافية. ولفهم ذلك، يكفي النظر إلى ما حدث طول قرن : نكبة و نكسة و مجازر بالجملة ، حرب أفغانستان والشيشان وكوسوفو، حيث تم تشكيل جماعات جهادية وُظفت كأدوات في صراعات القوى الكبرى. ليبيا واليمن والعراق ولبنان وسوريا، حيث ساهمت هذه التيارات في تعميق الانهيار والفوضى. غزة، التي تحولت إلى منصة لحصان طروادة لهندسة جيوسياسية جديدة للمنطقة، بدلًا من أن تكون نموذجًا للمقاومة الراشدة. في المحصلة، خسرنا على كل المستويات: انكمش حضورنا الدولي، وتراجعت مكانتنا، وازداد الاحتقان الشعبي، وضعف الاقتصاد . رغم أن العالم العربي يملك كل مقومات النهضة الحضارية والعلمية والاقتصادية، إلا أن التيارات السياسية اليمينية وضعت هذه الإمكانيات في خدمة أجندات غير وطنية، عبر خطاب ديني مشحون بالعاطفة والشعارات، يخاطب العامة دون مساءلة أو مراجعة. لقد تحول الدين إلى وسيلة لخلق رأي عام غير مدرك، تسيره العواطف لا العقول، ويجعل من الخطاب الديني أداة لحشد الجمهور في اتجاهات تخدم قوى خارجية، تستثمر في الفوضى وتعميم الصراع، سواء بين الدول أو داخلها. جميع التنظيمات المتطرفة على اختلاف مذاهبها وأيديولوجياتها لا تملك هوية فرعية تميزها، بل يجمعها فكر واحد: فكر ضال، يقوم على الحقد والتشدد والانتقام. كوادر هذه التنظيمات تمّت تعبئتها نفسيًا وفكريًا بطريقة مغلقة ومشحونة، تفتقر إلى الوعي الحضاري أو الأفق الإنساني، وترى العالم من زاوية حرجة ضيقة. التقت مصالح هذه التنظيمات مع مصالح قوى دولية أو إقليمية، فتم تمويلها وتوظيفها لتفجير المجتمعات من الداخل، تحت شعارات زائفة عن الشريعة أو الثورة، فيما الحقيقة أنها كانت أدوات في مشاريع أكبر منها. اليمين الإسرائيلي المتطرف واليمين العربي الإخواني يلتقيان في رؤية متطرفة للعالم: كلاهما يؤمن أن قيام الساعة مشروط بإبادة الطرف الآخر. و كأنهما يعلمان الغيب! يعملان معًا، سرا و علنا على تغذية الصراع بدلا من إطفائه، و كأنهما يجهلان قول الله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي" (الأعراف: 187). في المقابل، كان العرب الأقحاح أهل مروءة: "الشجاع هو آخر من يطلب الحرب"، أما اليوم، فكثير من الزاعقين أول من يطلبها، ثم ينسحب منها، و يخترع المبررات لإخفاقه. التيار الديني السياسي، رغم لبوسه الديني، لم يكن يومًا مشروعا إصلاحيا حقيقيًا. بل كان غطاءً لفشل سياسي، وأداة لتصفية الحسابات، وتمزيق المجتمعات، وخدمة أجندات خارجية. والخاسر الأكبر هو المواطن، الذي ضيّعته الشعارات، وأتعبه الفقر و ضياع العمر و القهر ، تغرقه صوت ضوضاء المزايدات ، تمزقه المذهبية ، تتقاسمه المشاريع تعيده إلى جاهلية التبعية الرمزية العباد بدلا من الاتجاه إلى رب العباد . ختاما اذا ما سألنا من فينا الرابح؟ هو من وضع مصلحة وطنه وأمته فوق كل اعتبار، وعرف أن الدين رسالة إصلاح لا منصة صراع.

الرئيس اللبنانـي : ملتزمون بحصر السـلاح بـيد الدولة
الرئيس اللبنانـي : ملتزمون بحصر السـلاح بـيد الدولة

الدستور

timeمنذ 8 ساعات

  • الدستور

الرئيس اللبنانـي : ملتزمون بحصر السـلاح بـيد الدولة

بيروت - أكد الرئيس اللبناني، جوزاف عون، التزام الدولة اللبنانية بسحب سلاح جميع القوى المسلّحة في البلاد، ومن ضمنها حزب الله، وتسليمه إلى الجيش اللبناني، في ظل تصاعد الضغوط الأميركية والدولية المطالبة بإعادة حصرية السلاح إلى مؤسسات الدولة.وقال عون، خلال كلمة ألقاها في وزارة الدفاع بمناسبة عيد الجيش، إن «واجب جميع الأطراف السياسية أن تقتنص الفرصة التاريخية اليوم قبل الغد»، مضيفًا: «ندفع من دون تردّد إلى التأكيد على حصرية السلاح بيد الجيش والقوى الأمنية، دون سواها، وعلى كافة الأراضي اللبنانية».واعتبر أن هذه الخطوة ضرورية «لاستعادة ثقة العالم بالدولة اللبنانية، وقدرتها على الدفاع عن نفسها بوجه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة والإرهاب»، مجددًا التأكيد على أن الدولة «تدفع باتجاه استعادة القرار السيادي على كامل أراضيها».وأضاف الرئيس اللبناني أن حكومته تلقّت مؤخرًا «مبادرة مشكورة من الأشقاء السعوديين للمساعدة على تسريع الترتيبات الضرورية لاستقرار الحدود بين لبنان وسورية»، في خطوة وصفها بأنها تصب في مصلحة البلدين وتساعد على إعادة تنظيم العلاقة مع دمشق.وفي ما يتعلق بانتشار الجيش، قال عون إن المؤسسة العسكرية تمكنت من بسط سلطتها في منطقة جنوب الليطاني غير المحتلة، مشيرًا إلى أنها «جمعت السلاح من تلك المناطق ودمّرت ما لا يمكن استخدامه منه»، بشهادة اللجنة العسكرية الخماسية.وأكد أن الجيش سيستكمل انتشاره في الجنوب رغم عدم التزام إسرائيل بتعهداتها ضمن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، مستندًا إلى خطة لضم 4500 جندي جديد، يجري تطويعهم وتدريبهم حاليًا.وأشار الرئيس اللبناني إلى أن الدولة تعمل على تأمين تمويل طويل الأمد لدعم المؤسسة العسكرية، قائلاً إن لبنان «يسعى للحصول على مليار دولار سنويًا لمدة عشر سنوات لدعم الجيش وقوى الأمن».وأضاف أن الجيش قدّم تضحيات جسيمة، مشيرًا إلى أن طائرات الاحتلال الإسرائيلي اغتالت الضابط محمد فرحات في جنوب البلاد، بعدما واجه القوات الإسرائيلية «وجهًا لوجه» في موقف وصفه بـ»البطولي»، مجددًا التأكيد على أن «كل سلاح خارج الدولة يجب أن يُسحب، احترامًا للشهداء وتضحياتهم».وشدد عون على أن «لا فئة يجب أن تستقوي بسلاح أو دعم خارجي أو محور إقليمي»، مشيرًا إلى أن «الشرعية لا تكون إلا بشرعية الجيش»، داعيًا القوى السياسية إلى الاصطفاف خلف المؤسسة العسكرية في ما وصفه بـ»اللحظة التاريخية».وشدد على أن ما يطالب به الجيش اليوم هو تفويض رسمي لحمل السلاح عن جميع اللبنانيين، وحماية الحدود باسم الدولة وحدها، قائلاً: «العيد لا يكتمل إلا باكتمال التحرير، والبدء بالإعمار، وتكريس حصرية السلاح بيد الجيش».وعدد عون جملة من البنود الى جانب سحب السلاح، من بينها «وقف فوري للأعمال العدائية الاسرائيلية» على لبنان «بما في ذلك الاغتيالات» في إشارة إلى الهجمات التي تطال عناصر حزب الله، رغم وقف إطلاق النار الساري منذ تشرين الثاني/ نوفمبر، إضافة الى «انسحاب إسرائيل» من النقاط التي لم تنسحب منها واحتلتها خلال الحرب.وخاطب عون حزب الله ومناصريه بالقول «ندائي إلى الذين واجهوا العدوان، وإلى بيئتهم الوطنية الكريمة، أن يكون رهانكم على الدولة اللبنانية وحدها، وإلا سقطت تضحياتكم هدرا، وسقطت معها الدولة أو ما تبقى منها».وقال «للمرة الألف أؤكد لكم، بأن حرصي على حصرية السلاح، نابع من حرصي على الدفاع عن سيادة لبنان وحدوده، وعلى تحريرِ الأراضي اللبنانية المحتلة، وبناء دولة تتسع لجميع أبنائها»، مضيفا «أنتم ركن أساسي فيها، عزكم من عزها، وحقوقكم من حقوقها، وأمنكم من أمنها».وجاءت تصريحات عون غداة اعتبار الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، أن «كل من يطالب اليوم بتسليم السلاح، داخليا أو خارجيا أو عربيا أو دوليا، هو يخدم المشروع الإسرائيلي».ويطالب حزب الله بأن تنسحب إسرائيل من جنوب لبنان وتوقف ضرباتها وتعيد عددا من الأسرى اللبنانيين لديها، قبل أن يصار إلى نقاش مصير سلاحه ضمن استراتيجية دفاعية.ودعا رئيس الحكومة، نواف سلام، إلى جلسة حكومية تعقد الأسبوع المقبل من أجل «استكمال البحث في تنفيذ البيان الوزاري في شقه المتعلق ببسط سيادة الدولة على جميع أراضيها بقواها الذاتية حصراً»، إضافة الى «البحث في الترتيبات الخاصة بوقف» إطلاق النار. وكالات

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store