
الضحك زمن الكوارث
مواقع التواصل الاجتماعي
وعالم الميمز الإلكتروني. فيديوهات وتركيبات لمقاطع هزلية تعبر عن استخفاف إنسان العصر الحديث بالمآسي والحروب. الإنسان الذي كان، في ما مضى، يستقبل الحروب والنزاعات بالرهبة والخوف والهلع، صار اليوم يستقبلها بالفكاهة والسخرية والتجاهل الفج للضحايا.
مستخدمو الإنترنت من الشرق الأوسط وأفريقيا، ومن آسيا إلى الأميركيتين وأوروبا، يسخرون من الأحداث التي تهز العالم وتقلب استديوهات الأخبار إلى غرف طوارئ ومنصات تحليلية على مدار الساعة. فما أن انتشر خبر الحرب التي أشعلها نتنياهو من جديد في الشرق الأوسط، حتى انهالت الصور والفيديوهات والتعليقات الساخرة على هاتفي، تتندر على "الحرب العالمية الثالثة" التي "باتت على الأبواب".
البعض يقول ساخراً إن العالم كان في سلام قبل عام 2020، وإن لعنة ألمت بالبشرية منذ ذلك التاريخ، العام الذي بدأت فيه جائحة كورونا وتبعتها سلسلة من الأحداث التي يرى فيها بعض رواد الإنترنت بداية لانهيار نفسي واقتصادي عالمي. آخرون يتشاركون صوراً مفبركة لخامنئي وترامب وقادة آخرين وهم يرقصون، أو يتعاركون، أو يغنون، ما زاد من متعة الاستهزاء انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي، التي جعلت من السهل إنتاج مواد ترفيهية لا تحتاج إلى جهد كبير أو حسّ فني.
الإنسان الذي كان، في ما مضى، يستقبل الحروب والنزاعات بالرهبة والخوف والهلع، صار اليوم يستقبلها بالفكاهة والسخرية والتجاهل الفج للضحايا
ثمّة من يسخر حتى من موقعه الجغرافي، خاصة قربه من بؤر الحروب، مستذكرين الجملة الشهيرة التي لقنتنا إياها كتب المدرسة: "وطني يتميز بموقعه الاستراتيجي"، وهي مزحة تداولها بكثافة مستخدمو الإنترنت في الشرق الأوسط تحديداً. لا أنكر أن بعض تلك النكات مضحكة للغاية، لكنها دون شك تدفعنا إلى التساؤل عن سريالية ما يجري في العالم الافتراضي، وعن حجم التناقض بين الكارثة والسخرية منها.
قد يدل كل هذا على أن الإنسان في عصرنا قد فقد، إلى حد ما، إحساسه بالخطر. وكأن غريزة البقاء التي كانت تحرك أسلافنا في الماضي، وتدفعهم إلى استشعار التهديد والتصرّف حيالَه، قد اختفت أو خمدت. ثقافة الترحال والهجرة، التي قامت على هذا الإحساس، لم تعد تعني الكثير اليوم.
الحروب التي كانت قديماً روتيناً مألوفاً في أنحاء شتى من العالم، أصبحت الآن جزءاً من الماضي، كأنها تنتمي إلى أفلام تاريخية أو قصص مغامرات بعيدة عن الواقع. أصبح الإنسان يستخف بكل ما كان يخيفه سابقاً، ولم يعد يستقبل أخبار الحرب إلا كما يستقبل إعلاناً ترويجياً لفيلم أكشن. أما شاشات الأخبار التي تنقل له صور الدمار، فهي في نظره مجرد لقطات بعيدة، لا تعنيه.
قد لا يصدّق كثيرون اليوم أن التاريخ قادر فعلاً على إعادة نفسه، وعلى الانبعاث من جديد
قد لا يصدّق كثيرون اليوم أن التاريخ قادر فعلاً على إعادة نفسه، وعلى الانبعاث من جديد. مومياء التاريخ القديم للإنسانية لا تزال تتنفس خفيةً خلف غطاء تابوتها، تراقب بصمت، وتنتظر الكلمات السحرية التي توقظها من سباتها الطويل. بينما الإنسان الحديث يظنّ أن الأمان هو القاعدة، وأن ما عداه ليس إلا مزحة سخيفة تُلقى على مواقع التواصل طلباً لبعض التفاعل و"اللايكات".
من جانب آخر، يمكن القول إن الإنسانية، بعدما قطعت شوطاً طويلاً بين الحروب والسلام، قد غيّرت طريقة تعاطيها مع الخطر. ربما تطور الدماغ البشري ليتجاوز خوفه الغريزي، ويحوّل الكارثة إلى مادة فكاهية، يضحك منها لا نكراناً لوجودها، بل هروباً منها أو محاولة لترويضها.
أتعجب أحياناً من بعض مستخدمي الإنترنت في دولٍ قريبة جداً من ساحات حرب محتملة، قد تؤدي إلى كوارث إنسانية وبيئية واسعة، لكنهم يواصلون نشر النكات والضحك عن نهاية العالم وكأنهم في حفلة. وربما يستذكر الجميع كيف سخر الناس، بالطريقة ذاتها، من جائحة كوفيد التي أودت بحياة ملايين، وغيرت حياة العالم إلى الأبد، لكنها تحولت لاحقاً إلى سلسلة نكات تُعاد وتُكرر بلا نهاية.
فهل هو فقط عالم الإنترنت، ذلك الكوكب الافتراضي الذي يخفف عنا ثقل الواقع، ويحول فظاعة الأحداث إلى مادة للضحك؟ أم أنه شكل من أشكال التبلد الجماعي؟ هل نحن متعبون إلى الحد الذي يجعلنا نحول كل شيء في هذا العالم القاسي إلى نكتة؟ نضحك للحظة، قبل أن يعيدنا الواقع إلى قسوته وجديته التي لا تضحك أبداً؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 8 ساعات
- العربي الجديد
مكافحة الإرهاب أم دعمه ورعايته؟
بينما ظهرت موجة تفاؤل سبقت اللقاء الثالث بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب في البيت الأبيض على خلفية تصريحات للأخير، شدّد فيها على وجوب إنهاء الحرب في غزّة، وعلى الاستعداد للضغط على نتنياهو، فإن هذا التفاؤل لم يلبث أن تراجع، إذ لم تطابق النتائج المقدّمات والتوقّعات، وما حدث أن نتنياهو قلّل من مماطلته وتهرّبه، وعاد بعض الزخم إلى التفاوض غير المباشر بين حركة حماس وحكومته برعاية الوسطاء الثلاثة. لنلاحظ في هذه الفترة (يوليو/ تموز الجاري)، أن الأنباء من غزّة تزايدت عن مُجوَّعين سقطوا، إمّا من الجوع الشديد المصحوب بإعياء تام (المسغبة)، أو برصاص الجنود الإسرائيليين، أو برصاص مرتزقة ما سُمّيت "مؤسّسة غزّة الإنسانية"، وهم مجموعة من القتلة الأميركيين ومتعدّدي الجنسيات، يعملون بإشراف حكومة نتنياهو. وقد اشتدّت ظاهرة التجويع منذ مطلع العام الحالي (2025)، وتزامنت مع استبشار أركان حكومة نتنياهو بعودة ترامب إلى البيت الأبيض. وبينما يطلق المبعوث ستيف ويتكوف، منذ ما لا يقل عن عشرين أسبوعاً، تصريحات متكرّرة عن جهود مستمرّة لإنجاح المفاوضات، فإن الحرب في الأثناء تستمرّ بوتيرة خاصّة، فهي تركّز في المدنيين العزّل المنكوبين في الخيام أو مراكز الإيواء، مرفوقةً بتضييق الحصار، ومنع المساعدات الخارجية عبر بوابة رفح. لا يلاحظ الرئيس ترامب، ولا مبعوثه ويتكوف، أن حرب نتنياهو تركّز في الأطفال والنساء، ويبدي أركان هذه الإدارة حرصاً تاماً (وحرفياً) على عدم إبداء أيّ تعاطف مع الضحايا وذويهم، ممّن يسقطون بالعشرات يومياً، وقد حدث أن وصف ترامب الحرب بأنها وحشية، من دون أن يحدّد من هم الوحوش ومن هم الضحايا. ومن دون أن تبدُر عن إدارته أيّ دعوة علنية لنتنياهو وجنرالاته إلى الكفّ عن قتل المدنيين، فما شأن قتل الأطفال والنساء والعائلات بالجملة وبوحشية مفرطة في الحرب "بين إسرائيل وحماس"؟ واقع الحال أن لا علاقة لهذه الجرائم المقزّزة بالحرب، فهي وقائع قائمة بذاتها، وذات أهداف مستقلّة ترمي (في القرن الحادي والعشرين) إلى محو الكتلة البشرية في غزّة، ومن السخف الشديد، واللؤم الأشدّ، تصويرها ضغطاً عسكرياً، فاستهداف المدنيين ليس نشاطاً عسكرياً، بل هو نشاط إرهابي بغيض، يستحقّ مرتكبوه سوقهم إلى العدالة، كما حدث من قبل مع مرتكبي الجرائم في البوسنة والهرسك، وفي كوسوفو في البلقان في أواخر القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة. اقترفت إدارة ترامب خطيئةً علنيةً بسماحها لما تسمّى "مؤسّسة غزّة الإنسانية" باحتكار توزيع المساعدات وقد اقترفت إدارة ترامب خطيئةً علنيةً بسماحها لما تسمّى "مؤسّسة غزّة الإنسانية" باحتكار توزيع المساعدات، إذ يترافق هذا التوزيع مع اقتراف مرتزقة هذه المؤسّسة جرائم قتل يومية، بالتعاون والتنسيق مع جيش الاحتلال. وزادت إدارة ترامب الموقف سوءاً حين وجّهت عقوبات غاشمة إلى المحامية الإيطالية، المبعوثة الخاصّة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيز، لأنها واظبت على كشف جرائم الاحتلال وتوثيقها، وكأنّ واشنطن مصمّمة على نيل "شرف" المشاركة في حرب الإبادة، وبهذا تنتقل من سياسة مكافحة الإرهاب إلى دعمه ورعايته. قد تتعثر المفاوضات ويتأخّر التوصل إلى وقف إطلاق النار، لكن لماذا المواظبة على قتل الأطفال والنساء والعائلات بصورة يومية وروتينية؟ ولماذا لا تتّخذ أميركا والصين وروسيا ما يلزم من إجراءاتٍ لوقف هذه الفظائع؟... يوم الأربعاء الماضي، أصدر الوسيط غير الرسمي بين "حماس" والإدارة الأميركية، وهو الأميركي الفلسطيني بشارة بحبح، بياناً أخذ فيه على "حماس" تأخّرها في الردّ على مقترحات جديدة، واعتبر ذلك غير مبرّر، وأنه يكلّف الشعب الفلسطيني عشرات الضحايا كلّ يوم. ويجد المرء نفسه متفقاً مع بحبح بأن "حماس" تتباطأ أحياناً في الردّ على الوسطاء، وهو بطء غير مبرّر ومرفوض، وأنه يتعيّن الضغط على الطرفين، حركة حماس وحكومة نتنياهو، للمسارعة إلى وقف الحرب، ولكن ما علاقة ذلك كلّه بأن يتمتّع نتنياهو ووزراؤه وجنرالاته بارتكاب مجازر يومية، ومنع الكميّات الكُبرى من الطعام والماء والدواء من الوصول إلى سكّان غزّة؟ وقد شاءت ربّما المصادفات أن تلقّت "حماس" ملاحظات بحبح، فسارعت في اليوم نفسه (قبل ثلاثة أيام) بتسليم ردّها إلى الوسطاء. وقد تنجح جهود ويتكوف وبحبح وجهود الوسطاء هذه المرّة، وقد تخيب كما تفيد خبرة الفترة الدامية الطويلة الماضية. ولكن، ما العلاقة بين مواصلة محتملة للمواجهة المسلّحة بين إسرائيل و"حماس" وبين إبادة البشر التي ينشط بها الاحتلال؟ وصف ترامب الحرب في غزّة بأنها وحشية، من دون أن يحدّد الوحوش والضحايا لقد دمج نتنياهو بين حربه على غزّة و"حماس" وحربه القذرة على الأطفال والمسنيّن والمرضى والنساء والعائلات، فكيف يمكن للضمير الإنساني والسياسي وكيف يمكن لبشر أسوياء طبيعيين أن يرتضوا هذا الدمج الصفيق، وأن يتعاموا عنه، وتؤدّي واشنطن الدور الرئيس في التعمية والتعتيم على هذا الإرهاب، وصرف الأنظار عنه، ثمّ الحفاوة في واشنطن بمجرمي حرب مطلوبين للعدالة الدولية، فيما تُرهب ناشطة محترمة في مجال حقوق الإنسان لأنها كشفت (بالوقائع والحقائق والأرقام) طبيعة الحرب الدائرة، التي تمثّل بحقّ وصمة عار على جبين صانعي السياسة الدولية. من مصلحة أميركا التطهّر من هذا العار ووقف هذه الحرب الغاشمة، والتكفير عن الدعم السخي الذي يتلقّاه عتاة السفّاحين من واشنطن، كما من مصلحة بقية دول مجلس الأمن وضع حدّ لهذه الوحشية المقزّزة التي طال أمدها واتّسع نطاقها وتضاعف عدد ضحاياها، وإلا فليكفَّ الجميع عن ادّعاءاتهم بالتمدّن والانتماء إلى عالم واحد وعائلة بشرية واحدة، وليعلنوا أنهم لم يقطعوا روابطهم مع إرث حروب الإبادة ضدّ السكّان الأصليين، وقد ذهب ضحيتها عشرات الملايين من الأبرياء، ومع إرث حروب المستعمرات وحروب الرقيق والتطهير السياسي والأيديولوجي، وهذا السجلّ الأسود كلّه ممّا يندى له الجبين.


العربي الجديد
منذ 8 ساعات
- العربي الجديد
لعنة غزّة تطاردهم
بينما تزايدت الآمال الحذرة في الأيام القليلة الماضية بقرب التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزّة، بعد أن حسم الرئيس دونالد ترامب أمره، ومارس ضغوطاً على ضيفه بنيامين نتنياهو، جعلت هذا الأخير يغيّر نبرته، ويعلن استعداد حكومته لتوقيع اتفاقٍ قريباً، فإن هذه الآمال المشروعة لم تحجب أصواتاً لشخصيات دولية ناقدة لسلوك كلٍّ من نتنياهو وترامب، الذي أدّى إلى إطالة الحرب، وفق نهج التطهير العرقي، وإزهاق آلاف الأرواح البريئة، مع محاولات محمومة لا تتوقّف من واشنطن وتل أبيب، لمصادرة الاعتراضات وشيطنتها، وإظهار أن من الطبيعي في زماننا وعصرنا أن تنفجر حرب إبادة، بينما من الشذوذ والنشاز أن يندلع السخط على هذه الوحشية. كان نتنياهو قد استغلّ زيارته واشنطن، فأهدى مضيفه الرئيس ترامب رسالة ترشيح إسرائيلية لسيّد البيت الأبيض لنيل جائزة نوبل للسلام، فالترشيح صادر من جهة والغة في سفك الدماء، وغير مؤهّلة لمثل هذه التزكية، غير أن مسؤولاً دولياً غادر منصبه الرفيع قبل أشهر، ممثّلاً أعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وهو جوزيب بوريل، غرّد في المناسبة: "مجرم حرب مطلوب للعدالة الدولية (نتنياهو) يقترح منح جائزة نوبل للسلام لأكبر مورّد أسلحة (ترامب)، والذي يتسبّب من خلالها في أكبر تطهير عرقي في المنطقة". لم يبدر للحقّ أيّ تعليق أو ردّة فعل من ترامب على سخاء نتنياهو، الذي يؤدّي إلى نتيجة معاكسة للادّعاءات بتقليل فرص ترامب (الضئيلة أصلاً) للحصول على هذه الجائزة الرفيعة، علماً أن صحيفة هآرتس كانت كشفت في اليوم نفسه (الثلاثاء الماضي) وثائقَ أميركيةً تفيد بأن واشنطن تُنفق مئات ملايين الدولارات مساعداتٍ عسكريةً لإسرائيل، ما يجعل الرئيسَين، جو بايدن ودونالد ترامب، شريكَين في هذه الحرب الوحشية. ومن المفارقات أن ترامب أخذ، في الآونة الماضية، ينعت الحرب على غزّة بأنها وحشية، من دون أن يمنعه ذلك عن استقبال من يقود هذه الحرب بحرارة. أما السياسي الإسباني جوزيب بوريل، فدأب (حتى قبل أن يغادر منصبه) على توجيه إدانات حازمة إلى نتنياهو وحكومته، ما أحرج القادة الأوروبيين، وجعلهم يتخبّطون في مواقفهم وردّات فعلهم. وقد شهد الأسبوع الماضي، إلى جانب المباحثات الشاقّة في البيت الأبيض، صدور قرار من الخارجية الأميركية بفرض عقوبات ضدّ مقرّرة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، الأكاديمية الإيطالية فرانشيسكا ألبانيز، نتيجة أدائها مهامّها بنزاهة وأمانة، وبخاصّة توثيقها المنتظم لوقائع حرب الإبادة، وفي تقريرها الصادر في يوليو/ تموز الجاري، اتهمت المقرّرة الأممية أكثر من 60 شركة عالمية، بينها شركات أسلحة وتكنولوجيا معروفة، بدعم الأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزّة، والمستوطنات في الضفة الغربية. وورد في تقريرها أن الشركات المعنية، وبينها لوكهيد مارتن وليوناردو وكاتربيلر وإتش دي هيونداي، إلى جانب عمالقة التكنولوجيا، مثل "غوغل" (ألفابت) و"أمازون" و"مايكروسوفت"، ضالعة في تزويد إسرائيل بالأسلحة والمعدّات أو تسهيل أدوات المراقبة، ما يسهم في دمار غزّة وفي انتهاكات حقوق الإنسان فيها. لم يجد وزير الخارجية ماركو روبيو ما يردّ به على التقرير سوى نعت جهودها بأنها "غير شرعية ومخزية"، وأنها تهدف إلى شنّ حرب اقتصادية على الولايات المتحدة وإسرائيل. وهذا من دون أن ينكر الوزير ما ورد في التقرير أو يسعى إلى تفنيده، ومن دون أن يلوّح بالقضاء أو بتحقيق ما، وفحوى ردّه أن ما تفعله شركات بلاده ومديروها غير قابل للنقاش أو الاعتراض عليه من أيّ أحد في العالم، بما في ذلك الأمم المتحدة وكبار مفوَّضيها. أخذ ترامب، في الآونة الماضية، ينعت الحرب على غزّة بأنها وحشية، من دون أن يمنعه ذلك عن استقبال من يقود هذه الحرب بحرارة أمّا الصوت الناقد الثالث، وسط أجواء الآمال الحذرة، فقد صدر مجدّداً من الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، الذي كتب مقالاً في "الغارديان"، وردّ فيه أن العالم ظلّ ينظر خلال 600 يوم إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يقود حملة تدمير في غزّة، ويصعّد الصراع الإقليمي، ويقوّض القانون الدولي، من دون اتخاذ أي إجراء. بهذا لخّص قائد كولومبيا المعضلة، فقد صدرت مواقف ناقدة هنا وهناك ضدّ نتنياهو وحكومته وحربه، ولكنّها لم تقترن بأيّ إجراء، الأمر الذي استغلّه مجرم الحرب لإطالة حربه وتوسيعها. وكانت كولومبيا قد قطعت علاقاتها مع تل أبيب في مستهل مايو/ أيار من العام الماضي في إجراء بليغ، ضدّ من يستسهلون شنّ تطهير عرقي، فيما بادرت بوليفيا قبل ذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بقطع علاقاتها مع دولة الاحتلال. وقد ذكّر الرئيس بترو (في مقاله) دول العالم بأنها سبق أن حذّرت من خلال الجمعية العامة باتخاذ إجراءات ضدّ القوة الغاشمة، ولكن هذه الدول لم تفعل شيئاً، ولم تترجم تحذيراتها قراراتٍ، وبطبيعة الحال (وهذا ما لم يرد في مقال الرئيس) فإن بينها العديد من الدول العربية والإسلامية. الحرب الوحشية لم تنته بعد، وتداعياتها مستمرّة، وتفاعلاتها متواصلة تحت السطح وفوقه في الأثناء، وخلال الأيام الماضية من أسبوع الآمال والآلام (سقط مئات الضحايا الإضافيين في غزّة)، سقط خمسة جنود من القوات الغازية في القطاع، فأدّى هذا الحادث وردّات الفعل عليه إلى توقيف صحافي إسرائيلي (الأربعاء الماضي)، كتب في حسابه في وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يتابعه أكثر من مائة ألف شخص، في اليوم السابق (الثلاثاء)، أن "العالم أصبح أفضل هذا الصباح من دون خمسة شبّان شاركوا في واحدة من أبشع الجرائم ضدّ الإنسانية". ومع أن الشرطة الإسرائيلية لم تكشف هويَّة صاحب المنشور، فقد ذكرت القناة 12 العبرية أنه يسرائيل فري، المعروف بمواقفه المناهضة للحرب على غزّة، ورفضه الخدمة العسكرية، ويعمل لحساب وسيلة إعلام أجنبية. كان فري، وهو متديّن إسرائيلي، قد أضاف في منشوره: "للأسف! بالنسبة للطفل في غزّة الذي يخضع الآن لعملية جراحية من دون تخدير، أو الفتاة التي تموت جوعاً، وللعائلة المتجمّعة في خيمة تحت القنابل، هذا كلّه لا يكفي"، موجّهاً نداءً للأمهات الإسرائيليات بعدم إرسال أبنائهن إلى الحرب. وهكذا، فإن الحرب الوحشية لم تنته بعد، وتداعياتها مستمرّة، وتفاعلاتها متواصلة تحت السطح وفوقه، وفي شوارع الغرب وميادينه وجامعاته ومنتدياته، وفي الفضاءات الشاسعة للمنصّات البصرية والمسموعة، وهذا هو التغيير الذي لم يتوقّعه نتنياهو وبقية مجرمي الحرب في تل أبيب، ومن يشدّ أزرهم في واشنطن وبرلين.


العربي الجديد
منذ 8 ساعات
- العربي الجديد
السوريون وصراعُ "الظَالِمَيْن" النوويَّين...
في عالم تسوده جيوش التجسّس والتكنولوجيا والمسيّرات وحملات التضليل، يبدو أنّ حرباً سيبرانية لا مركزية تجتاح القارّات، وكأنّ "السلام المديد" الذي تبنّاه المؤرّخ جون لويس جاديس يصفُ عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية قد انتهت دورة حياته، والسؤال الملحّ: إلى أيّ مدى نقترب بالفعل من حربٍ عالميةٍ جديدة، بينما كلّ قوة عظمى لم تتوقف يوماً عن الاعتقاد بأنّ الآخر يمثّل خطراً استراتيجياً عليها؟ والأمر كذلك، فإنّ مقولة ونستون تشرشل "الحروبُ تعمل على تنقية الأجواء مثل عاصفة الصيف" لم تعد صالحة للاستهلاك السياسي، فالإشارات هي إلى ما يعكّر صفو العالم ويزيد سادته عجرفة وعبثاً. ومهما يكن من أمر الحرب بين أوكرانيا وروسيا، بقيادها قيصرها المتعطش لاستعادة أمجاد الإمبراطورية البائدة، فالخطر الأكبر يتمحور حول الصراع الإيراني - الإسرائيلي الذي تندلع شرارته في كلّ مرة ربطاً بتطوراتٍ غير معلنة، واليوم يتسيّد صدارة الصراعات العالمية الأكثر قابلية للتمدّد، وقد وصل إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، تزيده خطورة أنّ تبعاته ستصل إلى منطقة الشرق الأوسط، وتغذّي بؤر التوتر في البلدان التي تقع تحت سطوة جنون التنافس بينهما. ليس هذا الافتراض إشكالياً ألبتة، فالتحوّلات السياسية في بلدانٍ تآكلت فيها الأذرع الفارسية ولّدت مزاجاً عدائياً محموماً تجاه إيران، يُضاعف من احتماليّة نشوب حربٍ ملتهبة، رغبةً من الأخيرة بالانتقام من الإذلال الذي تجرّعته، في سورية تحديداً. بالتالي، يجب النظر في حقيقة أنّ الدول الحليفة لطهران يتمتع زعماؤها باستدامةٍ سياسية لن تنتهي صلاحيتها قريباً، (روسيا، الصين، كوريا الشمالية)، لذا سنرى تحالفاً مديداً بين هذه الدول يضع العالم دائماً على حافّة الخطر، ومع وجود فارق كبير في السياقات التاريخية تبقى النتائج مرهونة بالفجوة الإجمالية في القوة بين هذا التحالف المتعنّت والمعسكر الغربي التي تقوده أميركا، ومن خلفها إسرائيل. بالتساوق مع ما تقدّم، صرّح هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركية السابق، في حوار له: "الحرب العالمية الثالثة باتت على الأبواب، وإيران ستكون ضربة البداية، وسيكون على إسرائيل قتلَ أكبر عدد ممكن من العرب واحتلال نصف الشرق الأوسط"، وعليه فصراع الظلّ بين المشروعين، الصهيوني والفارسي، في المنطقة العربية، يهوي في سقوط حر، خاصة أنّ كوابح الحرب تبدو أضعف مما تبدو عليه عادة، بعدما شنّ الجيش الأميركي ضربات بالغة القوة على ثلاث منشآت نووية دمّرتها تماماً، وفقاً للرئيس الأميركي، ترامب، الذي سبق أن قال إنّ "إسرائيل تُبلي بلاءً حسناً، وأميركا تقدّم لها الدعم الكثير"، ولربما تكون البداية فقط، بعدما أكّد وزير خارجية إيران، عباس عراقجي، أنّ بلاده لن تُوقف تخصيب اليورانيوم وأنّ ما فعله الأميركيون خيانة للدبلوماسية، في وقتٍ لا يملك فيه أنصار سياسات ضبط النفس ترفَ لجم المسير المحتمل نحو حرب طاحنة ستعقّد الوضع الإقليمي، حيث آلاف الرؤوس النووية على أهبة الاستعداد، وسيجعل هذا كله الكوارث التي خلّفتها حروب سورية وغزّة وأفغانستان والعراق تبدو ناعمة بالمقارنة. فقد السوريون دورهم في أيّ صراع إقليمي، وشبح الحرب الأهلية ما زال منتعشاً بعد سقوط الأسد خيارات المواجهة بالتأكيد مفتوحة على كل أنواع السيناريوهات. وعلى أية حال، لافتٌ أنّ المكسبَ الثابت للنظام الإيراني القمعي ردّه الذي جاء بتأييدٍ شعبي واسع، ليكشف التصعيدُ الإسرائيلي وجودَ حالةٍ من النضج بين صفوف المعارضة الأكثر خصومة للنظام الحاكم، وهذا لم يحصل في سورية مطلقاً. لا الضربات الإسرائيلية، ولا سقوط بشّار الأسد، ولا حتى المجازر الدموية، كلّ ذلك لم يستطع أن يوحد السوريين الذين يتابعون بشماتةٍ مآلات التصعيد بين عدوّتين لم تجلبا لبلادهم سوى الويلات، وبالجُملة. في المقلب الآخر، فإنّ سقوط النظام في طهران ومن دون ترتيبات ملء الفراغ، وإن بدا حلماً وردياً للسوريين، سيحمل في طيّاته احتمال فوضى شاملة ستمتد إلى بلادهم، وتزيد طين حياتهم بلّة. ومن المهم في هذا السياق التوقف عند دلالات هزيمة إيران واحتساب عواقب ذلك، منها استغناء الغرب عن حكومة الشرع ذات الخلفية المتشدّدة، ما سيؤثر حكماً على الاستقرار السوري، فالسقوط الإيراني لم يكن لحظة تحرّر تاريخي فحسب، بل كشف عن أمراض "مزرعة الأسد" المزمنة، وغياب أيّ رادع وطني أمام تغوّل قوى إقليمية أخرى لا تقلّ عداءً وخطراً، بينما لا يُدرك السوريون أنّ زعماء العالم يؤججون الحروب دائماً ليرفعوا أنخاب نهايتها في قصورهم الفارهة، وأنهم ضحايا اتفاقيات واحتلالات وانقلابات وأنظمة استبدادية، يتمّ توزيعهم خلالها كغنائم حرب لقاء حماية العروش والحدود. يقول الفيلسوف الصيني سون تزو في كتابه فنّ الحرب: (كلّ الحروب خداع، وكلّ خداع حرب)، وكالعادة، السوريون المنقسمون حول كلّ شيء أغرتهم مجدداً لعبة الانجرار إلى ساحة الاصطفاف العقائدي، وتناول الحدث الدسم الذي لن ينالهم منه سوى جوع مُحتّم، ففتحوا ساحات الاحتراب على وسائل التواصل الاجتماعي، وانشغلوا بالجدال العقيم بينما يصل التوغل الإسرائيلي إلى قرية "بيت جن" في ريف دمشق، ليقتل ويعتقل مدنيين. ومن المضحك المبكي مطالعة التحليلات التي تعكس الخدعة الكبرى التي يعيشها السوريون، وهم يتابعون بفرحٍ غامر الصواريخ الإيرانية والإسرائيلية تضيء سماءهم كما تضيء قلوبهم. شريحةٌ منهم تدعو الله أن يضرب الظالمين بالظالمين من منطلق أنّ "قتلة الشعب الفلسطيني يتصارعون مع قتلة الشعب السوري". هناك فئة تُعرب عن حقّ إيران في الدفاع عن حقوقها النووية السلمية، وتدعم مواقفها المعادية لإسرائيل في ظلّ التخاذل العربي، بينما أخرى، وإنْ تعتبر إسرائيل ليست جمعية خيرية، تتحدث عن انتفاء الحاجة لوجود حكم "سنّي" متشدد في سورية يقارع إيران "الشيعية" إذا ما قُدّر للأخيرة الهزيمة، تماماً كما يروّج آخرون فكرة أنّ إيران تبقى عدو الأمة العربية الأول، وأنّ إسرائيل تمثّل نموذجاً ديمقراطياً فريداً في هذا الشرق التعيس، وينسون أنّ كلتيهما تنظران إلى المنطقة من منظور مصالحهما التاريخية المتضاربة، لا من زاوية التضامن أو حتّى العداء. إسرائيل تسرح في الجنوب السوري، وعينُها على دمشق، والخطر الإيراني لن يُخلع من جذوره، ولن يقابله أيّ مشروع سوري حقيقي ومن واقع رصدٍ وتحليلٍ منطقي، في ضوء غياب النموذج الوطني الذي سيُبنى عليه، فأكثر ما يؤلم أنّ السوريين فقدوا دورهم في أيّ صراع إقليمي، أما شبح الحرب الأهلية الذي ما زال منتعشاً بعد سقوط الأسد لم يرغمهم على إعادة التفكير في فكرة النصر نفسها. هل انتصر السوريون فعلاً بينما الطائفية تقتلهم ولغة الشماتة ومنطق الانتقام يعميان بصيرتهم؟ وهل ستفيدهم هزيمة إيران أو حتى إسرائيل، بعدما تحوّلت سورية مسرحاً لصراع جيوسياسي مفتوح بين المشاريع الغربية العابرة للحدود على حساب استنزاف الأمل السوري في بناء دولة المواطنة والكرامة؟ نافل القول: إسرائيل تسرح في الجنوب السوري، وعينُها على دمشق، والخطر الإيراني لن يُخلع من جذوره، ولن يقابله أيّ مشروع سوري حقيقي، أقلّه على المدى المنظور، يكفّ يد طهران التي غالباً ما تنصب فِخاخها بهدوء وحنكة عالية. إذاً لا بدّ من تجاوز لذّة الشماتة ونشوة النصر، وإن ضَربَ "الظالِمَان النوويَّان" بعضيهما بعضاً فثمّة حلول جاهزة عند الطلب، محفوظة في الأدراج السرية لقادة العالم، ومن المفيد اليوم التساؤل بتروٍّ شديد: من سيملأ الفراغ السوري بينما الشرق الأوسط تُرسم خرائطه من جديد؟ وهل سيشهد السوريون تكرار انقلابٍ مفاجئ أو استباحةٍ سافرة، تحت رايةٍ وذريعةٍ أخريين؟