
اصدار النقد في اليمن بين تفكك السلطة ووحدة السوق
هذا القرار السريع فَرض واقعًا قاسيًا على الجنوب لم يعد بإمكانه تحويل مخزونه من العملة القديمة إلى ذهب أو دولار، انهارت مراكز البنوك الجنوبية، وضاعت مدخرات المواطنين، وسقط الجنوب في أول معاركه النقدية كدولة مستقلة.
هكذا تبدأ الكارثة عندما يُسيّس إصدار النقد خارج سلطة الدولة والتفاهمات المؤسسية فالاقتصاد، بخلاف السياسة، لا يقبل القفز فوق الواقع، هو نظام مرن، لكنه لا يغفر التهور، وصارم في منطقه، يقوم على الأرقام، والأرقام لا تكذب.
بعد سنوات، وفي عام 2017، تم نقل البنك المركزي اليمني إلى عدن، وبقيت سلطة إصدار النقد رسميًا بيد الحكومة الشرعية، حتى فاجأ الحوثيون الجميع بإصدار نقدي مستقل.
هذا الشكل من التفكك النقدي يُشبه إلى حد كبير ما حدث في السودان، - غير أن المفارقة هنا مذهلة - عملة الحكومة الشرعية تتدهور باستمرار (ثمن لالتزام الحكومة بوحدة السوق اليمني)، بينما تُظهر العملة الحوثية نوعًا من الثبات النسبي ( قمع السوق)، على الأقل في أسعار الصرف.
يحاول هذا المقال تفكيك المشهد النقدي اليمني بعيدًا عن الأحكام السياسية، والاقتراب من الحقيقة كما تمليها الوقائع، لا كما يرغبها الخطاب السياسي.
أولًا: تضخم نقدي متبادل وتحويل الأزمات عبر المناطق
رغم الانفصال النقدي بين صنعاء وعدن، إلا أن الاقتصاد اليمني لم ينفصل فعليًا.
السيولة المطبوعة في مناطق الحوثيين تُستَخدم بذكاء لخلق ضغط تضخمي في مناطق الحكومة الشرعية، من خلال قنوات التجارة والخدمات والاتصالات التي ما تزال فعالة بين الطرفين، شركات الاتصالات مثل يمن موبايل، والتجار الذين ينقلون سلعهم من الشمال إلى الجنوب والعكس، جميعهم يساهمون في ضخ سيولة غير مغطاة في أسواق الحكومة الشرعية عبر آليات تبديل وتحويل العملة.
كما تُساهم تحويلات العاملين من عدن إلى صنعاء بدور خفي في دعم النقد المتداول في مناطق الحوثيين، بما يحوّل عدن إلى مموّل نقدي غير مباشر لتلك المناطق، دون أن تمتلك أي أدوات رقابية على آلية الاستخدام أو التوزيع.
الأسوأ أن المعاملات التجارية بين الطرفين أصبحت تُدار وكأنها عمليات استيراد كاملة، بما في ذلك المنتجات الزراعية والقات، والتي تُطلب بالعملة الصعبة، ما يُحوّل هذه العلاقة إلى شكلٍ من أشكال الاستنزاف المستمر لاحتياطيات عدن من النقد الأجنبي.
هذا التدفق الخفي يُترجَم إلى طلب مضاعف على العملات الأجنبية في عدن، ما يضغط على سعر الصرف ويؤدي إلى تسارع التضخم، ليس فقط بفعل الطباعة في صنعاء، ولكن بفعل بنية السوق المترابطة.
ثانيًا: المضاربة المنظمة واحتكار سوق الصرف
أحد أخطر ملامح الأزمة يتمثل في تسييس المضاربة عبر شبكات صرافة خاضعة للحوثيين، تُستَخدم كميات من العملة القديمة والجديدة لإغراق سوق عدن بشكل متعمد، وخلق موجات طلب مصطنعة على الدولار، يُعاد شراء العملة الأجنبية بأسعار منخفضة في فترات ضخ السيولة، ثم تُعاد بيعها بأسعار مرتفعة لاحقًا، مما يحقق أرباحًا خيالية تُستخدم في تمويل أنشطة غير اقتصادية (مثل تمويل الصراع العسكري والإعلامي).
تُظهر البيانات – ومنها تقرير رويترز ومركز صنعاء – أن حوالي 85 ٪ من الاعتمادات المستندية الصادرة من البنك المركزي من حصة الودائع في عدن تصب في صالح موردين وتُجار في مناطق الحوثيين، مما يجعل البنك المركزي في وضع تغذية مباشرة لاقتصاد الخصم، بينما تُستخدم تلك الاعتمادات للحصول على الدولار وشراء البضائع من الخارج، التي تُباع لاحقًا في مناطق الحوثيين بأسعار تفوق السوق، مما يُضاعف الأرباح المحلية لديهم.
المفارقة أن هذه المضاربة تجري تحت أنظار السلطات، بل أحيانًا بتواطؤ عناصر منها، في ظل غياب نظام مركزي موحد لمراقبة تداول العملات بين المناطق.
رابعا: هشاشة البنية المصرفية في مناطق الحكومة
بدأت البنوك التقليدية (التي كانت متمركزة في صنعاء) بنقل عملياتها إلى عدن، لكنّها تصل مثقلة بالخسائر والتزامات متراكمة، هذه البنوك، بدلًا من أن تعزز الاستقرار المالي، أصبحت عبئًا على بيئة مصرفية غير مؤهلة، وتعمل في ظل رقابة ضعيفة، وهياكل تشغيلية هشة.
في هذا السياق، لا تضع الحكومة الشرعية أي تمييز مالي أو نقدي في تعاملها مع المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، التزامًا منها بالمواثيق الدولية والمعايير الوطنية، ما يجعلها تتعامل اقتصاديًا مع اليمن بحدوده الجغرافية الكاملة، ورغم نُبل هذا التوجه سياسيًا، إلا أنه يُعد أحد أبرز نقاط ضعفها الاقتصادية، إذ يتيح للطرف الآخر الاستفادة الكاملة من النظام المالي دون التزامات متبادلة.
خامسا: صراع العملات وانعدام الغطاء المستقر
العملة في صنعاء مدعومة ضمنيًا بمصادر محلية مثل رسوم الجمارك، الضرائب، تحويلات العاملين والتبادل التجاري مع مناطق الشرعية، وبعض الأرصدة الخارجية (يُقال أنها مدعومة بذهب إيراني غير معلن)، بينما العملة في عدن تعتمد على دعم سعودي مؤقت وغير منتظم، هذا التباين يجعل الصراع النقدي حربًا غير معلنة بالوكالة، حيث يستخدم الحوثيون كل أدواتهم لإرباك الطرف الآخر.
وبعكس الحكومة الشرعية، التي ما تزال ملتزمة بوحدة السوق، مارس الحوثيون انفصالًا اقتصاديًا شبه مكتمل، مستفيدين من كامل الأدوات النقدية لفرض واقع مستقل، دون الالتفات لأي التزامات وطنية.
في الواقع، قد يكون إعادة توحيد اليمن نقديًا الآن أصعب بكثير من إعادة توحيده سياسيًا كما حصل في 1990م، نظرًا لعمق التفكك النقدي، وسيطرة الحوثيين على مفاصل أساسية من السوق غير الرسمية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى الالكترونية
منذ ساعة واحدة
- صدى الالكترونية
عقوبات أمريكية على شبكة تمويل نفطية تدعم الحوثيين
فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بوزارة الخزانة الأميركية عقوبات على شخصين وخمسة كيانات متورطة في شبكة تهريب نفط وغسل أموال تستخدم لتمويل أنشطة ميليشيا الحوثي. وأوضحت الوزارة، أن الشبكة تورطت في استيراد منتجات نفطية إلى مناطق خاضعة لسيطرة الحوثيين، بما يدر مئات الملايين من الدولارات سنويًا تستخدم في تمويل عمليات تزعزع استقرار المنطقة، مشيرة إلى أن إحدى الشحنات التي نسقتها الشبكة بلغت قيمتها نحو 12 مليون دولار من النفط الإيراني. وجاء القرار ضمن إطار الأمر التنفيذي رقم 13224، حيث تم تجميد أصول الأطراف المعنية داخل نطاق الولاية القضائية الأميركية، ومنع أي تعامل معهم من قبل المواطنين الأميركيين، كما نبهت الوزارة المؤسسات المالية الأجنبية من إمكانية فرض عقوبات ثانوية في حال تقديمها أي دعم لهذه الكيانات.


الوئام
منذ ساعة واحدة
- الوئام
الأسهم الأمريكية تتأرجح على مستوياتها القياسية
سيطرت حالة من الهدوء على تعاملات بورصة وول ستريت في ظهيرة اليوم الثلاثاء مع تأرجح المؤشرات الرئيسية حول مستوياتها القياسية، بعد صدور بيانات أرباح متباينة لعدد من الشركات، حيث عدلت شركة جنرال موتورز أكبر منتج سيارات في الولايات المتحدة وعدد من الشركات الكبرى توقعاتها في ضوء تأثيرات الرسوم الجمركية التي قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرضها على الواردات الأمريكية. وتراجع مؤشر ستاندرد أند بورز 500 الأوسع نطاقا بنسبة 1ر0% عن أعلى مستوى له على الإطلاق، وارتفع مؤشر داو جونز الصناعي بمقدار 44 نقطة أي بنسبة 1ر0% بحلول الساعة الثانية عشرة و10 دقائق ظهر بتوقيت الساحل الشرقي للولايات المتحدة. وتراجع مؤشر ناسداك المجمع بنسبة 4ر0% بعد وصوله إلى مستوى قياسي جديد أمس وانخفض أسهم جنرال موتورز بنسبة 8ر5% على الرغم من إعلانها عن تحقيق أرباح خلال الربع الثاني من العام الحالي تفوق توقعات المحللين. وقالت شركة صناعة السيارات إنها لا تزال تتوقع تضرر نتائجها المالية بما يتراوح بين 4 و5 مليارات دولار خلال عام 2025 بسبب الرسوم الجمركية، وتأمل في تخفيف هذه الآثار بنسبة 30%. كما ذكرت جنرال موتورز أنها ستتكبد خسارة أكبر بسبب الرسوم الجمركية في الربع الحالي مقارنةً بالربع الثاني. وبدد تراجع سهم جنرال موتورز تأثير المكاسب الكبيرة التي حققتها أسهم بعض شركات بناء المنازل بعد إعلانها عن أرباح ربع سنوية فاقت توقعات وول ستريت. وارتفع سهم دي.آر هورتون بنسبة 5ر14% وارتفع سهم بولت جروب بنسبة 2ر9%. جاء ذلك رغم إعلان الشركتين أن مشتريي المنازل ما زالوا يواجهون ظروفًا صعبة، بما في ذلك ارتفاع أسعار فائدة التمويل العقاري وحالة عدم اليقين الاقتصادي. وحتى الآن، يبدو أن الاقتصاد الأمريكي يتغلب على حالة عدم اليقين التي أحدثتها رسوم ترامب الجمركية المتقطعة. فالعديد من الرسوم الجمركية التي أعلنها ترامب معلقة حاليا. والموعد النهائي التالي لتطبيق هذه الرسوم هو الأول من أغسطس/آب. تجري محادثات بشأن اتفاقيات تجارية محتملة مع دول أخرى قد تخفض الرسوم الجمركية المقترحة قبل تطبيقها. وبدأت الشركات تشعر بآثار الرسوم الجمركية بالفعل. وخفّضت شركة تجارة قطع الغيار الأمريكية جينوين بارتس الموجود مقرها في مدينة أتلانتا، توقعات أرباحها للعام بأكمله لتشمل 'جميع الرسوم الجمركية الأمريكية السارية حاليًا'، إلى جانب توقعاتها المعدلة لظروف السوق في النصف الثاني من العام. ارتفع سهمها بنسبة 5ر5% بعد إعلانها تحقيق أرباح أفضل من التوقعات خلال الربع الثاني من العام. في الوقت نفسه تراجع سهم آر.تي.إكس بنسبة 3ر2% بعد خفض توقعاتها للأرباح في عام 2025، في حين رفعت توقعاتها للإيرادات.


الموقع بوست
منذ ساعة واحدة
- الموقع بوست
محكمة في تعز تبطل حكما بتعويض شركة مقاولات بأكثر من 16 مليون دولار
وأصدرت هيئة تحكيمة يرأسها محافظ تعز السابق أمين محمود في 11 يوليو 2024 حكماً بالتعويض لمصلحة شركة الرحاب للمقاولات المملوكة للوزير الأسبق أحمد صوفان بما يزيد عن 16 مليون دولار عن إنشاءات كلية الطب المتعثر بجامعة تعز منذ 2014. ووجهت اتهامات لهيئة التحكيم بارتكاب مخالفات قانونية جسيمة والإنحياز لمصلحة الشركة، فضلاً عن بطلان إجراءات التحكيم التي تورطت بها رئاسة جامعة تعز ومحافظ تعز الحالي نبيل شمسان. وأقرت الشعبة التجارية بمحكمة الإستئناف، خلال الجلسة المنعقدة صباح اليوم برئاسة القاضي نشوان المجاهد، إقفال باب المرافعة النهائية في الاستئناف المقدم من وزارة الشؤون القانونية وحجز القضية للحكم في نفس الجلسة. وقضى الحكم بقبول دعوى بطلان الحكم المقدمة ضد شركة الرحاب للهندسة والتوكيلات والمقاولات شكلاً وموضوعاً، وأصدرت المحكمة قرارها ببطلان حكم التحكيم الصادر بتاريخ 11/7/2024 من الدكتور أمين محمود والدكتور عبدالباري الخرساني والمحامي هاني البوعاني.