logo
ملاذات العمل عن بُعد

ملاذات العمل عن بُعد

أرقاممنذ 5 ساعات

شهدت طبيعة العمل تحوّلاً جذرياً في السنوات الأخيرة، حيث لم يعد العمل عن بُعد مجرّد استجابة مؤقتة لأزمة صحية عالمية، بل أصبح جزءاً أساسياً في اقتصاد العصر الحديث، ففي حين لم تتجاوز نسبة الوظائف القابلة للتنفيذ عن بُعد 4 في المائة على مستوى العالم قبل عام 2019، ارتفعت هذه النسبة لتتجاوز 30 في المائة في ذروة الجائحة، واستقرّت لاحقاً عند مستويات تتراوح بين 20 و25 في المائة في الاقتصادات المتقدمة، وفي الولايات المتحدة وحدها، أفاد مكتب الإحصاء الوطني عام 2024 بأن أكثر من 39 مليون شخص - أي نحو واحد من كل أربعة عاملين - يمارسون أعمالهم من المنزل بشكل جزئي أو كامل، ويعكس هذا التحوّل واقعاً جديداً في أساليب العمل لا يبدو مؤقتاً، بل يمثل إعادة صياغة طويلة الأمد لمفاهيم المكان، والإنتاجية، وتوزيع الفرص، فما أثر هذا التحول؟ وما المفاهيم والتغيرات الجديدة التي انبثقت منه؟ وكيف انعكس ذلك على السياسات الحكومية؟
امتد تأثير التحوّل للعمل عن بعد ليطول البنية السكانية للدول، حيث أدّى فك الارتباط المكاني بين الوظيفة وموقع الموظف إلى تغيير عميق في أنماط السكن والهجرة الداخلية، فلم يعد المهنيون ذوو المهارات العالية ملتزمين بالإقامة في المدن الكبرى أو بالقرب من مراكز المال والأعمال، بل باتوا يفضّلون الانتقال إلى وجهات توفر جودة حياة أعلى، وتكلفة معيشة أقل، وبنية تحتية رقمية موثوقة، ونتيجة لذلك، بدأت مدن من الدرجة الثانية، ومناطق ريفية، وحواضر متوسطة الحجم تشهد موجة متجددة من النمو السكاني والاقتصادي، مدفوعة بتدفق الكفاءات والرواتب المرتفعة من مراكز العمل التقليدية.
ومن رحم هذا التحوّل السكاني والاقتصادي، برز مفهوم جديد كليّاً وهو «ملاذات العمل عن بُعد»، هذه الملاذات هي مدن ومناطق تجمع بين عناصر الجاذبية السكنية، وتوافر الإنترنت عالي السرعة، وانخفاض التكلفة، ومرونة أنماط الحياة، مما يجعلها وجهات مفضلة للمهنيين المتنقلين حول العالم، وقد نشأت هذه الملاذات أحياناً بصورة طبيعية نتيجة تفوقها التنافسي، وفي أحيان أخرى كانت ثمرة استراتيجيات حكومية متعمدة أعادت صياغة أولويات التنمية لتعكس هذا النمط الجديد من الاقتصاد المعرفي العابر للمكان، فهذه المدن لم تعد مجرد خيارات بديلة للإقامة، بل منصات إنتاجية ومجتمعية جديدة.
وقد سارعت الحكومات في مختلف أنحاء العالم إلى استيعاب هذا التحوّل من خلال تبنّي سياسات جديدة تهدف إلى اجتذاب العاملين عن بُعد وتسهيل إقامتهم، فمنذ عام 2021، أطلقت أكثر من خمسين دولة برامج إقامة رقمية أو تأشيرات خاصة للعاملين المستقلين، تشمل دولاً مثل إستونيا، والبرتغال، وكولومبيا، وماليزيا، وتشير الأرقام إلى ازدياد لافت في الإقبال على هذه البرامج، إذ سجّلت إستونيا زيادة بنسبة 62 في المائة في طلبات الحصول على الإقامة الإلكترونية، بينما أصدرت البرتغال أكثر من 15 ألف تأشيرة عمل عن بُعد خلال عام 2024 وحده، وهو رقم قياسي في تاريخها، أما الولايات الأميركية مثل أوكلاهوما وفيرمونت، فقد قدّمت حوافز مالية تصل إلى عشرة آلاف دولار للعاملين عن بُعد الذين يختارون الانتقال إليها، في حين كثّفت حكومات محلية عديدة استثماراتها في البنية الرقمية، وخدمات المدن الذكية، ومساحات العمل المشتركة.
وقد أثمرت هذه السياسات والظروف الاقتصادية المتغيرة بروز عدد من المدن كأمثلة رائدة على «ملاذات العمل عن بُعد»، فجزيرة غران كناريا في إسبانيا تحوّلت إلى مركز مزدهر للمهنيين الأوروبيين الباحثين عن بيئة إنتاجية مريحة، مستفيدة من مناخها المعتدل، وتكاليفها المقبولة، وبرامج التأشيرة التي تسهّل الإقامة القانونية للعاملين عن بُعد، وفي البرتغال، رسّخت العاصمة لشبونة مكانتها كوجهة دولية مرموقة لهذا النمط من العمل، مستندة إلى مزيج من الغنى الثقافي، والبنية الرقمية المتطورة، والسياسات الحكومية الداعمة، وفي أميركا اللاتينية، برزت مدينة ميديين الكولومبية كنموذج على قدرة المدن الصاعدة على جذب واستيعاب العاملين المتنقلين، بفضل تحسّن بنيتها التحتية، وتكلفة المعيشة المنخفضة، وبرنامج تأشيرة العمل الرقمية الذي يمتد لعامين، أما في آسيا، فلا تزال مدينة تشيانغ ماي التايلاندية تحافظ على مكانتها المفضلة، بفضل مجتمعها العالمي، وتكاليفها المعقولة، واستقرار خدماتها، وفي الولايات المتحدة، برزت مدينة أوستن بولاية تكساس كمغناطيس داخلي للمهنيين الأميركيين العاملين عن بُعد، بما توفره من بيئة ضريبية ملائمة، ونشاط اقتصادي متسارع، ومشهد ثقافي نابض بالحياة.
حتى المقاهي شهدت تحولاً هي الأخرى، فعلى الرغم من أن المقاهي أصبحت أماكن للعمل بمفهوم «المكان الثالث» منذ فترة ليست بالقصيرة، فإن الإقبال تزايد عليها بشكل لافت من قِبل العاملين عن بُعد، الذين وجدوا فيها بديلاً متوازناً عن العمل من المنزل، يجمع بين الراحة والتحفيز والمرونة، ووفقاً لدراسات حديثة في أوروبا وأميركا الشمالية، فإن ما يقرب من 30 في المائة من زوار المقاهي في أسبوع العمل يستخدمونها لأغراض تتعلق بالعمل، مقارنةً بنسبة لم تتجاوز 11 في المائة قبل عام 2020. واستجابة لهذا التغير، ظهرت فئة جديدة من المقاهي الهجينة التي تمزج بين المقهى التقليدي ومساحة العمل المشتركة، فتوفّر إنترنت فائق السرعة، ومقاعد مصمّمة للجلوس الطويل، وغرف اجتماعات صغيرة، وحتى اشتراكات شهرية للزوار المنتظمين، كما قامت المقاهي التقليدية بإعادة تصميم بيئاتها، وتعديل قوائمها، وتوسيع ساعات عملها لتلبية احتياجات شريحة متزايدة من المهنيين المتنقلين.
إن إعادة تشكيل الجغرافيا الاقتصادية للعمل تفتح آفاقاً واعدة وتحديات متشابكة في آن واحد، فالمناطق التي تواكب هذا التحوّل برؤية استباقية قادرة على اجتذاب ليس فقط الدخل والاستثمار، بل أيضاً الحيوية السكانية والديناميكية المجتمعية، أما المدن التي تتخلف عن مواكبة هذا المسار فقد تجد نفسها خارج الدورة الجديدة للاقتصاد العالمي.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ترمب يخطط لإلغاء جميع العقوبات على سورية
ترمب يخطط لإلغاء جميع العقوبات على سورية

عكاظ

timeمنذ 2 ساعات

  • عكاظ

ترمب يخطط لإلغاء جميع العقوبات على سورية

يخطط الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لإصدار أمر تنفيذي خلال الأيام القليلة القادمة لإلغاء كامل لهيكل العقوبات المفروضة على سورية. ونقل موقع «المونيتور» عن مسؤولين أمريكيين، تأكيدهم أن قرار ترمب المرتقب يأتي تماشياً مع تعهده برفع جميع العقوبات في الوقت الذي تسعى فيه البلاد للتعافي من حرب أهلية دامت أكثر من عقد من الزمان. ورجح المسؤولون أن يوقع ترمب على هذا الإجراء في الأيام القادمة، الذي وصفه أحد المسؤولين بأنه «الإلغاء الكامل لهيكل العقوبات المفروضة على سورية». وكانت إدارة ترمب، أعلنت الموجة الأولى من تخفيف العقوبات في 23 مايو الماضي، التي تضمنت إصدار ترخيص عام يسمح للأمريكيين بالدخول في معاملات مالية مع كيانات حكومية سورية، مثل البنك المركزي، وشركة النفط المملوكة للدولة، وشركة الطيران الوطنية السورية. وأعلنت وزارة الخارجية تعليق «قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين» لمدة ستة أشهر، وهو قانون أقره الحزبان الجمهوري والديمقراطي؛ بهدف عزل نظام بشار الأسد السابق وداعميه. وكانت الولايات المتحدة فرضت العقوبات على سورية ابتداء من عام 2011، بسبب موقف نظام الأسد من الاحتجاجات ضد حكمه وتم توسيع العقوبات في عام 2020 بموجب «قانون قيصر». ومن المرجح أن يلغي إجراء ترمب سلسلة من الأوامر التنفيذية المتعلقة بسورية، التي يعود تاريخها إلى عقود مضت، بما في ذلك الإجراءات التي فُرضت بعد اندلاع الحرب الأهلية التي منعت الأمريكيين من تصدير الخدمات إلى سورية. أخبار ذات صلة وأعلن ترمب رفع العقوبات الشهر الماضي في الرياض مع الرئيس السوري أحمد الشرع، وشكل هذا اللقاء أول اجتماع بين زعيمي البلدين منذ نحو ربع قرن. ووصف وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو انخراط الولايات المتحدة وتخفيفها للعقوبات بأنه أمر ضروري لتجنب انهيار الحكومة السورية والعودة إلى الحرب الأهلية. سورية تعود لنظام سويفت للتحويلات خلال أسابيع من جهته، أعلن محافظ مصرف سورية المركزي عبدالقادر حصرية، أن بلاده ستعود إلى الربط الكامل بنظام «سويفت» للمدفوعات الدولية «في غضون أسابيع»، ما يُعيد ربط البلاد بالاقتصاد العالمي بعد 14 عاماً من الحرب والعقوبات التي جعلتها دولة منبوذة. وعودة سويفت أول إنجاز رئيسي في الإصلاحات التي تُجريها الحكومة السورية الجديدة للاقتصاد، وتعد مؤشراً على أن السلطات الجديدة تتحرك بسرعة لجذب التجارة والاستثمار الدوليين بعد رفع الولايات المتحدة العقوبات الشهر الماضي.

تراجع توقعات التضخم في أميركا خلال مايو
تراجع توقعات التضخم في أميركا خلال مايو

العربية

timeمنذ 2 ساعات

  • العربية

تراجع توقعات التضخم في أميركا خلال مايو

أظهر تقرير نشره بنك الاحتياطي الاتحادي في نيويورك ، اليوم الاثنين، أن قلق الأميركيين بشأن مسار التضخم في المستقبل تراجع في شهر مايو الماضي وأصبحوا أكثر تفاؤلًا إزاء أوضاعهم المالية. وكشف استطلاع أجراه البنك لتوقعات المستهلكين أن تقديراتهم للتضخم على كل الآفاق التي يقيسها تراجعت خلال الشهر الماضي. وتوقع المشاركون في الاستطلاع أن يصل التضخم بعد عام من الآن إلى 3.2% مقابل 3.6% في أبريل، وإلى 3% مقابل 3.2% بعد ثلاث سنوات من الآن، وإلى 2.6% مقابل 2.7% بعد خمس سنوات، وفق وكالة "رويترز". وجاء في التقرير أيضًا أن توقعات الأسر لدخلها وإيراداتها وآفاق التوظيف وأوضاعها المالية تحسنت، كما أظهر الاستطلاع أن نظرة الأسر لوضعها المالي الحالي تحسنت "قليلًا" في مايو الماضي. وقال المشاركون في الاستطلاع إن الوصول إلى الائتمان تحسن مقارنة بالعام الماضي، وتراجعت توقعات عدم سداد الديون. ومن شبه المؤكد أن مجلس الاحتياطي الاتحادي "البنك المركزي الأميركي" سيثبت أسعار الفائدة في نطاق ما بين 4.25% و4.5% في اجتماعه بشأن السياسة النقدية يومي 17 و18 يونيو الحالي. ولا يزال التضخم فوق مستوى 2% الذي يستهدفه المجلس، ومن غير المتوقع أن يصل إلى المستويات المعتدلة المرغوبة قريبًا.

خفض تصنيف سهم تسلا يهدد بخسارة 27 % من قيمته في ظل خلاف ترمب وماسك
خفض تصنيف سهم تسلا يهدد بخسارة 27 % من قيمته في ظل خلاف ترمب وماسك

الاقتصادية

timeمنذ 2 ساعات

  • الاقتصادية

خفض تصنيف سهم تسلا يهدد بخسارة 27 % من قيمته في ظل خلاف ترمب وماسك

خفضت شركتان للوساطة والاستشارات المالية تصنيف سهم شركة صناعة السيارات الكهربائية الأمريكية تسلا اليوم الاثنين، ما يؤكد المخاوف المتزايدة في سوق المال الأمريكية بشأن مستقبل شركة صناعة السيارات الكهربائية، عقب الخلاف الذي نشب الأسبوع الماضي بين الرئيس التنفيذي ومالك حصة الأغلبية فيها إيلون ماسك والرئيس الأمريكي دونالد ترمب. شركتا أرجوس ريسيرش وبيرد خفضتا تصنيف سهم الشركة من تصنيف "يوصي بشرائه" إلى درجة "حيازته"، ما عزز التقديرات بأنه أقل أسهم الشركات الكبرى شعبية بين المحللين. ويمثل خفض تصنيف السهم أحدث عقبة تواجهها شركة تسلا، المنتظر خسارة سهمها نحو 27% من قيمته خلال العام الحالي، ليصبح الأسوأ أداء بين ما تسمى بأسهم الشركات السبع الرائعة. كان سهم تسلا قد ارتفع في أعقاب إعادة انتخاب ترمب في نوفمبر الماضي، حيث كان ماسك أكبر داعمي حملة ترمب الانتخابية. وبعد ذلك انخفض السهم بنسبة 40% عن أعلى مستوى له على الأطلاق الذي سجله في ديسمبر الماضي. رياح معاكسة كبيرة تلقي بظلالها على السهم جاء معظم الانخفاض الأخير في سعر السهم بعد الخلاف البارز بين ماسك وترمب الأسبوع الماضي. وبينما أشار ماسك لاحقا إلى أنه منفتح على إصلاح الأمور، تعتبر التوترات بمثابة رياح معاكسة كبيرة تلقي بظلالها على السهم. وكتب محللون في شركة أرجوس للأبحاث، الذين خفضوا توصيتهم للسهم من الشراء إلى الحيازة: "بالنظر إلى المستقبل، نشعر بالقلق من أن الحرب الكلامية بين الرئيس ترمب وإيلون ماسك، إلى جانب انتهاء حوافز شراء السيارات الكهربائية، قد تضعف الطلب على سيارات تسلا الجديدة". وأضافوا أن هذا الخلاف يشير إلى أن تداول السهم "يبدو أنه يخضع حاليا لتأثيرات أحداث غير أساسية". وقد أيدت شركة بيرد هذا الرأي، حيث خفضت تصنيفها للسهم من "متفوق الأداء" إلى "محايد". وكتب المحلل بن كالو: "تجسد المواجهة الأخيرة بين ماسك والرئيس ترمب مخاطر شخصية رئيسية مرتبطة بأنشطة ماسك السياسية"، مضيفا "في حين لا نملك أي مؤشر على كيفية تغير العلاقة أو ما سيفعله أي منهما، نرى أن الوضع يضيف غموضا إلى توقعات تسلا. إضافة إلى ذلك، نعتقد أن هذا قد يفاقم التساؤلات حول الضرر الذي لحق بالعلامة التجارية، والذي نتوقع أن يستمر حتى تظهر أدلة مستدامة على نمو حجم المبيعات".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store