
مبادئ عاشوراء: الحرية في مقارعة الاستعباد
(الذلة التي يأباها الله تعالى للإنسان هي ذلة الاستعباد، وحقارة الرضوخ له)
الإمام الشيرازي
في المواجهات الحاسمة بين الإرادات والعقول، يبرز اتجاهان، أحدهما يميل نحو الخير، والثاني يذهب باتجاه الشر، وحين نذكر عاشوراء يتبادر إلى أذهاننا على الفور ذلك الاصطفاف العظيم لمبادئ الخير متمثلا بالحرية ضد الشر متمثلا بالاستعباد، فشتان بين الحرية والاستعباد، والفرق بينهما كبير وواسع كالفرق الحاسم بين الخير والشر.
ومن يمثل الخير هم أولئك الثائرون ضد المحاولات المستميتة لاستعباد الناس، والهدف في ممارسة الاستعباد وإخضاع الناس واضح ومعروف، فجميع الطغاة والحكام الفاسدين يهدفون بكل ما يمتلكون من أدوات وخداع ووسائل ترغيب وترهيب وتضليل، لإخضاع الناس وسلبهم حريتهم وحقوقهم وتكبيل العقول بالجهالة والتجهيل المستمر، حتى يتمكنوا من تدجين البشر كي يخضعوا لهم وينفذوا ما يبتغونه منهم.
لذلك ثار الحسين عليه السلام ورفع لواء الحق، وأعلن منذ لحظة خروجه بأنه يريد استعادة الإسلام ممن خطفوه وأدخلوه في مسارات الانحراف، وهكذا كان المبدأ العظيم الذي سار في ضوئه الحسين عليه السلام هو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، والانتصار للحرية وإلحاق الهزيمة بـمن سعوا لاستعباد الناس وهم حكام بني أمية الذين ساروا بهذا المسار المخالف للشريعة وللفطرة الإنسانية، ولمشيئة الله تعالى ولدين محمد صلى الله عليه وآله.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في (رسالة عاشوراء الجزء رقم 1):
(لقد استعبد بنو أمية الناس، وعاملوهم معاملة الأسياد عبيدهم، وحرموهم حقوقهم الإنسانية، وسلبوهم حرياتهم الفردية والاجتماعية، وصاروا يأخذون البيعة من الناس على أنهم رقيق لهم، وأن أموالهم وأنفسهم، ودينهم وأعراضهم، كلها مبذولة لهم وعرضة لتصرفاتهم العشوائية).
ومن المشكلات المعقدة التي واجهت الإسلام والمسلمين، ذلك التعامل المخادع ليزيد، عندما سعي لدفع الإسلام في اتجاه منحرف، وفي نفس الوقت حاول أن يبيّن للناس بأن هذا هو الإسلام الصحيح، وهذا بالضبط ما يريده الإسلام، لكن عندما نأتي إلى تمحيص تلك التصرفات والسلوكيات نجد أنها منحرفة جملة وتفصيلا، والمشكلة الأكبر أن المسلمين يرون المنكر بأعينهم ولا يمكنهم الأمر بالمعروف والسعي لتغيير و وقف مصادرة الإسلام.
لأن معارضة يزيد كانت تعني القتل المباشر أو التشريد أو الزج في السجون، وهذا ما جعل الناس تخشى مواجهة هذا الانحراف كونه يصدر من أعلى سلطة تدّعي (الخلافة) أي خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله، وهم براء من كل هذه الأعمال الغادرة.
يقول الإمام الشيرازي:
(لقد عمل بنو أمية كلّ ذلك باسم الإسلام، وباسم أنهم خلفاء الرسول الشرعيون، ولم يجرؤ أحد على أن ينكر عليهم منكرهم هذا، ولا أن يأمرهم بالمعروف الذي أمر الله به، لأنه كان يعلم بأن في ذلك حتفه).
وعندما خشيَ المسلمون مواجهة الانحراف، بادر الإمام الحسين عليه السلام، سبط الرسول صلى الله عليه وآله، وتصدى ليزيد، وأعلن خروجه على من سمّى نفسه (خليفة المسلمين) وهو يفتك بهم، ويستغل حقوقهم ويحرمهم من حرياتهم التي أوصت بها الشريعة والدين والنبي والائمة المعصومين، وهكذا بدأ المواجهة الكبرى بين الإسلام الحقيقي الذي مثله الإمام الحسين، وبين الإسلام المزيَّف الذي مثله يزيد.
فكان لابد من وقف حالة التدهور التي تعرضت لها دولة المسلمين على يد يزيد، ولابد من إيقاف عجلة الانحراف التي أخذت تدور بسرعة جارفةً معها حريات الناس وحقوقهم، وأخذت تكبر عجلة الخطيئة الأموية، وكل هذا يحدث باسم الإسلام، ولكن ليس إسلام النبي محمد صلى الله عليه وآله، بل هو إسلام محرَّف لا يمثل المسلمين المؤمنين مطلقا، مما جعله هدفا للإمام الحسين عليه السلام الذي كان مستعدا لتقديم نفسه ورحا لإنقاذ الإسلام والمسلمين.
وهذا ما أكده الإمام الشيرازي حين قال:
(أما الإمام الحسين (عليه السلام) فإنه وطّن نفسه على الشهادة، ونهض يأمر بني أمية بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فلم يتحمّلوه، لأنهم رأوا مصالحهم الشخصية في خطر، وعمدوا إلى قتله وقتل من معه من أهل بيته عليهم السلام).
وهكذا صارت الحرية الهدف الأسمى والأعلى للإمام الحسين في قضية خروجه من الحجاز، وأعلن من دون تردد بأن استرداد الإسلام من قبضة يزيد بات أمرا لا تراجع عنه حتى لو بلغت التضحيات أقصى المديات، وهل هنا أكبر وأكثر من التضحية بالنفس وبالأهل وبأقرب الناس للحسن، كل هذا كان الهدف الكبير يستحقه، وكان الحسين وذريته وصحبه الأطهار الكرام على استعداد تام لتقديمه في سبيل الله وإحياء الإسلام والحريات المسلوبة.
عاشوراء وإحياء الحريات
وكانت الحرية الإسلامية أهم الأهداف التي يجب استردادها، بعد أن منعها وشوَّهها يزيد واستمرأ البدع، وشوّه الأحكام الدينية بحسب مصالح السلطة وتثبيت العرش، كل هذا لكي يذل المسلمين، ولكن أنّى له ذلك والثوار له في المرصاد.
الإمام الشيرازي يبيّن هذه النقطة بالقول:
(الإمام الحسين (عليه السلام) استشهد في سبيل الله من اجل إحياء الإسلام وإحياء حرياته الفردية والاجتماعية، التي قض الله تعالى وإحياء الى عليها بنو أمية، وقد أكّد الإمام الحسين (عليه السلام) على الحرية الإسلامية، وحبّذ الشهادة من أجلها حين قال (عليه السلام): (ألا وأن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت).
تلك الأهداف التي عرفها الإمام الحسين ودرسها جيدا كونه يعرف من هم بني أمية وما هي مآربهم، لذا في نفس الوقت علَّم مؤيّديه الذين رافقوه طريق الرفض حتى نهايته وبلغوا أرض كربلاء وخاضوا معه عليه السلام معركة الطف ببسالة وشجاعة يندر وصفها.
وكان الحرية التي وفَّر الإسلام للمسلمين واستباحها الأمويون، هدفا سعى لاسترداده الثوار، بينما كان يزيد وأدواته يسعون بكل السبل لكي يمارسوا الإذلال ضد الثوار، ولم يتحقق لهم هذ مطلقا، فالثائر الذي لا يتردد قيد أنملة في تقديم الغالي والنفيس لاسترداد الحرية الإسلامية، لن يتمكن الطغاة منه، ولا يمكنهم مجاراته في قوة الإيمان والثبات على المبدأ.
يقول الإمام الشيرازي:
(وقد أطلع الإمام الحسين (عليه السلام) أصحابه على مآرب الطغاة الظالمين، وقال للحر بن يزيد الرياحي عند ما جاء (عليه السلام) إليه وأخذ رأسه في حجره وهو على أعتاب الشهادة مخاطباً إياه: ما اخطأت أمك إذ سمّتك حراً، فأنت حر في الدنيا، وسعيد في الآخرة).
وخلاصة ما تقدّم أن الحرية والدين صنوان متلازمان، ولا يمكن أن يتناقض أحدهما مع الآخر، لأن الدين هو مصدر الحرية وهو الذي كفل حمايتها، وقدمها للمسلمين على طبق من إيمان، لذلك فإن الدين ينافي ويجافي المحرمات بكل أنواعها، ويدعم الحريات التي تبني شخصية الإنسان وتمنحه مصادر القوة والاستقرار والاعتدال والثبات على القضية.
وهكذا يتضح لنا ولغيرنا من هم أعداء الحرية، ومنهم الذين يستغلون الشعوب، ويقمعون الحريات ويصادرون الآراء، وينشرون الظلم في كل مكان يصلون إليه، ويمارسون الاستبداد بأقصى درجاته، ويكبتون الحريات بلا تردد.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي الذي يقول:
(لذلك لا يصحّ أن يتوهم أحد بأن الحرية تنافي الدين وتناقضه، بل الحرية من صميم الدين ومن واقعه، وإنما ينافي الدين ارتكاب المحرمات، والدكتاتورية في الحكم، واستغلال الشعوب، ونهب الخيرات، وسلب الثروات، والظلم والاستبداد، ومصادرة حقوق الناس، وكبت الحريات).
وأخيرا لقد اتضحت لنا مبادئ الإمام الحسين عليه السلام، من لحظة خروجه من الحجاز حتى لحظة استشهاده في أرض كربلاء، وهذه المبادئ هي نفسها مبادئ عاشوراء، التي تضع حرية الإنسان في المقدمة، وتمنع عنه الإذلال، وتحصّنه بالقيم الصالحة، وجميه من ظلم الحكام الطغاة، وتعلم الجميع كيف يثورون ويرفضون ويسترخصون النفس والدم من أجل الحرية والسلام.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


LBCI
منذ 2 ساعات
- LBCI
'أمل' و'حزب الله' سيشاركان في جلسة الثلاثاء: استحالة تسليم السلاح قبل التزام إسرائيل بالانسحاب
أكّدت مصادر الثنائيّ 'أمل' و'حزب الله' لصحيفة ' الأخبار '، أنّ الحزبين سيشاركان في جلسة الثلاثاء الحكومية ولم يوضع على الطاولة خيار مقاطعتهما. وأوضحت وجود قناعة بضرورة التشاور، داخل مجلس الوزراء وانتظار النتائج، ليُبنى على الشيء مقتضاه. ولفتت المصادر للصحيفة ذاتها، إلى تشدّد حزبيّ على استحالة تسليم السلاح، قبل التزام إسرائيل بالانسحاب من التلال الخمس ووقف الاعتداءات وإطلاق الأسرى وبدء الإعمار.


شبكة النبأ
منذ 2 ساعات
- شبكة النبأ
في ذكراه الأليمة: الإمام الحسن وإرهاصات كربلاء
لم يكن الامام الحسن، عليه السلام، يبغي مطلقاً أن يتحول أطفال عهد معاوية (الهدنة) عام أربعين للهجرة، الى رجال التخاذل والخيانة والجُبن في ظل حكم ابنه يزيد، والانجرار نحو حرب الامام الحسين عام واحد وستين للهجرة... الحقُ أبلجُ ما يحيلُ سبيلهُ والحقُ يعرفه ذَوو الألبابِ الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام أحكم الباحثون الربط بين صلح الإمام الحسن، وقتال الامام الحسين، عليهما السلام، لما لمسوه من وحدة المنهج الرسالي، والمهمة الإصلاحية في الأمة، وكونهما الامتداد الطبيعي لجدّهما المصطفى، صلى الله عليه وآله، فقالوا: "لو لم ينتصر الإمام الحسن المجتبى في هدنته، على معاوية والنظام الأموي، لما تمكّن أخاه؛ الامام الحسين من تحقيق النصر المؤزر والمدوي عبر التاريخ على النظام نفسه، ودفعه سريعاً نحو الهاوية". ولكن! من ناحية الطبيعة الانسانية للمجتمع الاسلامي آنذاك، وتحديداً مجتمع الكوفة المبتلى بشكل مرير وشديد، بالإيمان وبالاخلاق وبالوعي الديني منذ احتضانه حكومة أمير المؤمنين، عليه السلام، فان الأمر يختلف في رؤية الامام الحسن المجتبى الذي تمر علينا هذه الأيام ذكرى استشهاده الأليمة في السابع من شهر صفر، صحيح أنه، عليه السلام، اضطلع بدور أساس في نجاح النهضة الحسينية، من خلال تمهيد الأرضية السياسية، وإماطة اللثام عن حقيقة معاوية والأمويين، بيد أنه كان يريد في نفس الوقت نجاح العملية الإصلاحية في أمة جدّه بشكل عام، وفي المجتمع الكوفي بشكل خاص، والعمل على معالجة المشاكل النفسية والروحية المسببة لكل ما تجرعه من قبل، أمير المؤمنين من خذلان وخيانة وتمرّد وجهل بأحكام الدين وبالسيرة النبوية، فهو، عليه السلام، لم يكن يبغي مطلقاً أن يتحول أطفال عهد معاوية (الهدنة) عام أربعين من الهجرة، الى رجال التخاذل والخيانة والجُبن في ظل حكم ابنه يزيد، والانجرار نحو حرب الامام الحسين عام واحد وستين للهجرة، أي بعد واحد وعشرين سنة. ولكن! هذا هو شأن الاختبار في الحياة. حبّ المال وكراهية الموت إنها نزعة مغروزة في نفس كل انسان، وليس فقط هي مشكلة الانسان الكوفي آنذاك، إنما ظهور هذه النزعة والمشكلة على سطح الاحداث جاءت نتيجة لوجود أول تجربة إسلامية متكاملة ونموذجية على يد أمير المؤمنين في هذه البقعة الجغرافية المترامية الاطراف (الكوفة)، فقد حصل التقاطع بين العدل والمساواة والقيم الدينية والاخلاقية، وثقافة الحرب والعنف والعصبية للقبيلة، والولاء للأقوى المترسخة في نفوس سكان منطقة كانت تعد حامية عكسرية تضم أكثر من مليون نسمة، جلّهم من محترفي القتال تحت الطلب في الدولة الاسلامية. وهذا ما ورثه الامام الحسن المجتبى منذ أول يوم لتوليه الخلافة بعد استشهاد أبيه امير المؤمنين، فقد بايعته الجموع الغفيرة في مسجد الكوفة، وتحت صرخات عبد الله بن عباس بأن "معاشر الناس! هذا ابن نبيكم و وصي إمامكم، فبايعوه"، فكان الرجل القوي الوحيد في الساحة، وربما لو كان ثمة من ينافسه، وإن كان أموياً، لمالوا اليه، يُذكر أن الامام الحسن، عليه السلام، كان يوم بويع للخلافة في عزّ شبابه، فقد كان في سن السابعة والثلاثين من عمره الشريف، وفي هذا العمر الغضّ لم تدم له الخلافة سوى اربعة أشهر فقط! وبعد التوقيع على الهدنة قال معاوية للإمام الحسن: "أنا خيرٌ منك يا حسن! فقال، عليه السلام: وكيف ذاك يا بن هند؟ قال: لأن الناس أجمعوا عليّ ولم يجمعوا عليك، فقال له، هيهات هيهات، لشرّ ما علوت، يا بن آكلة الاكباد، المجتعون عليك رجلان: بين مُطيع و مُكره، فالطائع لك عاصٍ لله، والمكره معذور بكتاب الله، وحاش لله أن أقول: أنا خيرٌ منك، فلا خير فيك، ولكن الله برأني من الرذائل كما برأك من الفضائل". هذه الثغرة النفسية الخطيرة كان مدركها معاوية منذ حربه الضروس مع أمير المؤمنين، بيد أنه لم ينجح حينها بتغرير القادة والأعيان كما فعل في عهد ولده الحسن، إنما اعتمد التضليل وتحريك حب الحياة والبقاء وإن كان على الذل والباطل، ولذا بدأ يعلن عن أسعار مغرية للذمم لكبار القادة العسكريين، وحتى رواة الحديث النبوي، أمثال سمرة بن جندب الذي اشتراه، واشترى أحاديثه الكاذبة على رسول الله بنصف مليون درهم. وجاءت وعوده علانية للكوفيين بأن من يقتل الحسن له الاموال والمناصب العليا في الدولة، كما حصل مع عمرو بن حريث، والاشعث الكندي، وشبث بن ربعي، عندما وعد كلٌ منهم بـ 100الف درهم إن تمكن من قتل الامام الحسن، وجاء في التاريخ أن الامام تنبه الى هذه الدسائس فلبس الدرع للاحتراز، وذات يوم تعرض لسهم اثناء الصلاة فلم تثبت فيه، وبلغ الوقاحة بالبعض ان تحدث جهاراً بأن "اذا سلمنا الحسن الى معاوية لنا العراق"! فهمّ المقربون من الإمام بقتل القائل، ولكن الامام عفى عنه، وقال لهم: "ويلكم والله ان معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، و اني أظن أني إن وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين بدين جدي، وان أقدر أن أعبد الله –عزوجل- وحدي، ولكني كأني انظر الى ابنائكم واقفين على ابواب ابنائهم يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله الله لهم فلا يُسقَون ولا يُطعمون"! وفي شدّة الازمة في معسكر الإمام الحسن، حيث تساقط القادة العسكريين، وخذلان الجند وعامة المجتمع، صعد الإمام المنبر ليلقي آخر حجة عليهم بين القتال والهدنة مع معاوية فقال: "أما والله ما ثنانا عن قتال اهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعدواة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم امام دنايكم ، وقد اصبحتم الان ودنياكم امام دينكم، فكنا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثم اصبحتم تعدّون قتيلين: قتيلا بصفين تبكون عليه، وقتيلا بالنهروان تطلبون بثأره! فأما الباكي فخاذل، واما الطالب فثائر (معارض)، وان معاوية قد دعا الى أمر ليس فيه عزّ ولا نَصِفة، فان اردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، و ان أردتم الموت بذلناه في ذات الله وحاكمنا الى الله، فنادى القوم بأجمعهم: بل البقية والحياة"! أبرز صور الجهل بأهل بيت رسول الله تجلت هذه الصورة المحفورة بالدم في ذاكرة التاريخ، عندما أراد الامام الحسن اختبار الناس، تماماً كما فعل طالوت الملك في حربه ضد جالوت في عهد نبي الله داوود عندما أمر الناس بعدم الشرب من ماء النهر إلا بغرفة يد فقط، في القصة التي يرويها القرآن الكريم، فقال لهم الإمام الحسن: "أما بعد فإني والله لأرجو ان أكون قد اصبحت بحمد الله ومنّه و انا أنصح خلق الله لخلقه، وما اصبحت محتملا على مسلم ضغينة، ولا مُريدا له بسوء، ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا واني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري ولا تردوا عليّ رأيي، غفر الله لي ولكم و أرشدوني و أياكم لما فيه المحبة والرضا". كلامٌ مفعم بالحبّ والنصح والإرشاد بضياء الإيمان، بيد أن الجهل والسطحية في الفهم والعقيدة جعل البعض يقول لصاحبه: "ما ترونه يريد بما قال؟! قالوا نظنه والله يريد ان يصالح معاوية ويسلّم الامر اليه! فقالوا كفر والله الرجل"! ثم شدوا عليه على فسطاطه (خيمته) و انتهبوه، حتى أخذوا مصلّاه من تحته بدعوى أنه غير مسلم! ليس هذا فقط، بل هاجمه شخص من التكفيريين الخوارج فيما كان على بغلته مع حلول الظلام، وكان بيده "مغول" وصاح: الله اكبر! اشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل! ثم طعنه في فخذه فشقه حتى بلغ العظم، ثم اعتنقه الحسن وخرا جميعا الى الارض فوثب اليه رجل من شيعة الامام فانتزع المغول من يده وضرب به بطنه حتى مات. كان الامام الحسن، عليه السلام، يحذر الناس (سكان الكوفة) من مغبة عواقب التخاذل والتنصّل عن مسؤولية القتال ضد الفئة الباغية، وكان يصارحهم مباشرة بمرضهم النفسي وضرورة المعالجة قبل فوات الآوان، ولكنهم كانوا يكابرون وينفون بشدّة، ويكررون وعود الولاء والطاعة، والإمام يرد عليهم قولهم المعسول الذي لم يخرج من القلب قط، فقال لهم: "إن كنتم صادقين فموعد ما بيني وبينكم معسكر المدائن فوافوني هناك، فركب ومعه من أراد الخروج، وتخلف عنه خلقٌ كثير ولم يفوا بما قالوا". لقد اشترى معاوية ذمة قائد من كنده وقائد آخر من مراد، كلٌ دفع له نصف مليون درهم، وكذا فعل مع عبيد الله بن العباس، وهو ابن عمه المقرّب، وقد وثق به، عليه السلام، وأعطاه قيادة اثني عشر فارس "من فرسان العرب وقراء المصر"، على أن يعسكروا بالانبار، وكان ردّهم للجميل والثقة العالية، بالغدر والخيانة. وفي المصادر التاريخية أن القائد من قبيلة مُراد حلف أمام الإمام الحسن بالإيمان الغليظة على الوفاء له، بعد أن توقع خيانته أمام جموع المسلمين، مع ذلك؛ فان قرقعة الدراهم كانت أقوى من أي حلف وإيمان تخرج من أفواه المنافقين. ربح الإمام الحسن المجتبى الهدنة مع معاوية بتحقيق ما كان يصبو اليه بحفظ دماء وحرمات المسلمين، وخسر المتخاذلون والمنافقون الحرب، رغم ادعاءاتهم الفارغة بالشجاعة والفروسية والاقدام على المكاره، فلم تعد الكوفة مكاناً في مستوى الإمام الحسن المجتبى، فجمع عياله وأهل بيته قاصداً العودة الى مدينة جدّه؛ المدينة، فاستقبله أحد الموالين راجياً منه البقاء ليكون لشيعته علماً ومناراً، فكان جوابه البليغ والمشحون ألماً وكمداً: و لاعن قِلىً فارقتُ دار معاشري


صوت لبنان
منذ 5 ساعات
- صوت لبنان
الراعي في ذكرى تطويب البطريرك الدويهي: وحدها الثقة تبني وطنًا متماسكًا
أحيت الأبرشية البطريركية المارونية نيابة إهدن – زغرتا اليوم الثاني من الاحتفالات بعيد مولد الطوباوي البطريرك الدويهي، والذكرى السنوية الأولى لتطويبه، واستقبلت البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، أمام كنيسة مار ماما، حيث سار بصحبة حشد المؤمنين إلى كنيسة مار جرجس في إهدن التي تحتضن ضريح الطوباوي. وترأس الراعي القداس الذي خدمته جوقة قاديشا المعروفة عاونه المطران جوزيف نفاع – النائب البطريركي العام على نيابة إهدن – زغرتا، المطران حنا علوان- النائب البطريركيّ للشؤون القانونيّة والقضائيّة والمشرف العامّ على توزيع العدالة في الكنيسة المارونيّة، المطران الياس نصّار- النائب البطريركي في الدائرة البطريركية المارونية في بكركي، المطران يوسف سويف- رئيس أساقفة أبرشية طرابلس المارونية، المونسينيور إسطفان فرنجية، بمشاركة رئيس دير مار سركيس وباخوس في إهدن الأب زكا القزي، ورئيس دير مار أنطونيوس- الجديده الأب سابا سابا، وكهنة نيابة إهدن-زغرتا ولفيف من كهنة ورهبان المنطقة والشمامسة والإكليريكيين. وشارك في الاحتفال رئيس 'تيارة المردة' سليمان فرنجية، رئيس 'حركة الاستقلال' النائب ميشال معوض ممثلًا بالعميد رينيه معوض، النائب طوني فرنجية وعقيلته، النائب ميشال الدويهي، الوزير السابق زياد المكاري، النواب السابقون جواد بولس وعقيلته، إسطفان الدويهي وعقيلته، يوسف بهاء الدويهي، وممثلون عن الأحزاب السياسية، عبدالله بو عبدالله منسق 'التيار الوطني الحرّ' في زغرتا، ونعيم الدويهي عن حزب 'القوات اللبنانية'، النقيب جوزيف الرعيدي نائب رئيس 'مؤسسة البطريرك الدويهي، رئيس 'حركة الأرض اللبنانية' طلال الدويهي، رئيس إتحاد بلديات زغرتا بسام هيكل وعقيلته، رئيس بلدية زغرتا- إهدن بيارو الدويهي وعقيلته وراهبات وممثلين عن الأخويات والجمعيات والحركات الرسولية. وبعد الإنجيل استشهد البطريرك الراعي في عظته، بقول الربّ يسوع: 'من أراد أن يتبعني، فليزهد بنفسه، ويحمل صليبه ويتبعني: (متى 16: 24)، وقال: 'إنّها دعوة للحياة المسيحية الحقيقية، وقد وقعت هذه الدعوة في قلب الطوباويّ اسطفان الدويهي، الذي نحيي ذكرى مولده هذا المساء. فالزهد، كما أوضح سيادته، لا يعني مجرّد التقشّف، بل هو تحرّر من عبودية الأنا، وارتفاع في الحبّ نحو الله. والدويهي كان مثالًا لهذا الزهد، إذ حمل صليبه بمحبة وتبع سيده بثبات طوال حياته. يسرّني أن أحيّيكم جميعًا، أنتم الذين جئتم من أماكن مختلفة للمشاركة في هذه الليتورجيا الإلهية، في ذكرى مولد ابن إهدن البار، الطوباوي البطريرك اسطفان الدويهي. هذه المدينة التي أنجبت بطاركة وأساقفة وكهنة ومؤمنين، وشهدت على رجال دولة وثقافة وشأن عام'. وأضاف في وصف سيرة الطوباوي: 'كان البطريرك الدويهي لاهوتيًا عميقًا، مؤرخًا دقيقًا، كاتبًا غزير الإنتاج، ورجلًا وازن بين الإيمان والعقل، والتقليد والتجدّد. هو مربّي أجيال، ومدافع صلب عن الهوية المارونية. عاش قديسًا، وتقلّد المسؤولية بتقوى وثقافة وشجاعة. وقد أعلنته الكنيسة طوباويًا، ونصلّي اليوم ليُعلَن قديسًا في القريب'. ثم استعرض نشأته وتأثيره التاريخي قائلاً: 'وُلد الطوباوي في زمن الانقسامات، وتربّى على التقوى والصمود. درس في روما، لكنه بقي أمينًا لتراث كنيسته. عاد إلى لبنان ليخدمه في أحلك الظروف، حارسًا لتاريخه ولاهوته وليتورجيته. فالكنيسة حين تذكر قديسيها، لا تفعل ذلك فقط لتكرّمهم، بل لتستدعي حضورهم وشفاعتهم اليوم'. وتناول في جانب من عظته الدور الوطني للبطريرك فقال: 'لا يمكننا أن نذكر الدويهي، دون أن نستلهم رسالته الوطنية. لقد كان رجل دولة، يكتب إلى قناصل العالم، ويرعى شعبه في زمن الفقر والاحتلال. رأى في البطريركية المارونية رسالة وطنية، صوتًا للكرامة، وجسرًا للوحدة. ومن هذا الوادي الذي أنجبه، نرفع الصلاة ليقيم الربّ رجالاً يشبهونه في الخدمة والتجرد والمسؤولية.' وسأل: 'ألا يحتاج لبنان اليوم إلى قادة يزهدون بأنانياتهم ويتبعون صوت الله؟ إلى رجال دولة لا رجال صفقات، إلى قادة يحكمون بالضمير لا بالمصلحة؟ لبنان يحتاج إلى عودة روحية ووطنية، إلى بناء دولة تُصان فيها الكرامة ويعلو فيها الدستور، ويكون فيها المسؤول راعيًا لا متسلّطًا.' وأكّد الراعي في نهاية عظته على هوية ورسالة الدويهي، وقال:'لقد حدّد لنا الطوباوي هويتنا ورسالتنا. الهوية هي الوحدة في التنوّع، والرسالة هي بناء الدولة المدنية العادلة. لا ثقة بلا عدالة، ولا مواطنة بلا مصالحة وتنقية للذاكرة. وحدها الثقة تبني وطنًا متماسكًا، وتحرّر المواطن من ارتهانه للطائفة.' وختم: 'فلنصلِّ معًا ليشرق فجر جديد على وطننا، وعلى كنيستنا، وعلى عائلاتنا. نصلّي من أجل شرقنا الجريح، من فلسطين وسوريا إلى العراق ولبنان. ومن أجل السلام في الأرض التي أحبّها الدويهي وكرّس حياته لأجلها. ونرفع نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، إلى الأبد، آمين.' وبعد انتهاء القداس، توجّه الجميع إلى ساحة تمثال الطوباوي حيث شارك أهالي الحيّ في تحضير الهريسة التقليدية، والتي باركها الراعي قبل توزيعها على الحضور، في لفتة تجسّد المحبة وكرم الإهدنيين لتعبّر عن الفرح الحقيقي الذي يولد من المشاركة والبذل.