
هلال عيد الأضحى.. هل توافق الرؤية الحسابات الفلكية؟
من المعلوم أن هلال ذي الحجة يرتبط وثيقا بفريضة الحج وشعيرة الوقوف على عرفات في اليوم التاسع منه. غير أن تحديد يوم التاسع يعود إلى تحديد بداية الشهر نفسه.
وفي العام الحالي 1446 هـ الموافق للعام الميلادي 2025، بدأ الفلكيون والشرعيون على السواء بتتبع الهلال ومراقبة حركته ابتداء من الأيام الأخيرة من شهر ذي القعدة (الشهر السابق لذي الحجة، وكلاهما من الأشهر الحرم) إذ حركة الهلال الصباحية تنبئ عن ظهوره المسائي في أول ليالي الشهر التالي.
ولأن الفلكيين هم أصحاب الخبرة في رصد الهلال، فإنهم يقومون عادة بمراقبة وتصوير الهلال صباح الأيام الأخيرة من شهر ذي القعدة (وهذا ينطبق على شهر رمضان)، حتى يلاحقوه في 'عرجونه القديم'، وهو آخر هلال يظهر صباحا.
وقد ذكر أجدادنا الفلكيون العرب في كتب الأنواء أن آخر هلال صباحي يظهر في السماء ثم يستتر إما ليلة أو اثنتين، بحسب طول الشهر، فإن هو ظهر يوم الثامن والعشرين فإن ذلك يعني أن الشهر مكتمل 30 يوما، وإن لم يظهر في صبيحة ذلك اليوم (الثامن والعشرين) فهو شهر ناقص، أي 29 يوما. وهذا معنى كيف يستتر ليلة أو ليلتين قبل ظهوره بعيد غروب الشمس لإعلان الشهر الجديد.
هلال ذي الحجة 1446هـ.. هل يُرى الثلاثاء؟
يولد هلال ذي الحجة 1446 هـ صباح يوم الثلاثاء 27 مايو/أيار 2025 في تمام الساعة 6:02 بتوقيت مكة المكرمة. ومع غروب شمس ذلك اليوم في تمام الساعة (18:58) في سماء مكة المكرمة، سيكون قد انقضى من عمر الهلال 12 ساعة و56 دقيقة.
يترتب على ذلك أن القمر سيغيب بعد غروب الشمس في تلك البقعة المباركة من الأرض بعد 38 دقيقة فقط، وهي فترة ليست كافية لرؤية الهلال بشكل يقيني، وإن كانت ثمة تسجيلات تدعم إمكانية هذه الرؤية لكن من مناطق أخرى في الوطن العربي.
فبعيدا عن الظروف الجوية التي تلف منطقة الخليج صيفا -على وجه الخصوص- بسبب العوالق الترابية وأبخرة الماء- والتي تصعّب رؤية الهلال فيها، فإن في الوطن العربي والعالم الإسلامي أماكن شديدة نقاء السماء، بعيدة عن التلوث، مرتفعة الجبال، صحوة الطقس تسمح لمثل هذا الهلال بأن يرى لا فقط بالتلسكوبات وأجهزة الرصد الفلكية الحديثة، بل ربما بالعين المجردة أيضا.
فخريطة احتمالية رؤية الهلال، تفصح لنا عن تلك الأماكن التي يسهل عليها رؤية الهلال والأخرى التي يصعب فيها ذلك. ووفقا للحسابات الفلكية فإن جميع دول الخليج واليمن والسودان والصومال وباكستان سترى الهلال بصعوبة بواسطة التلسكوبات والأجهزة الرصدية، في حين أن إمكانية رؤيته تصبح أكثر احتمالية وأيسر في بلاد الشام والعراق وتركيا عبورا إلى مصر وبلاد المغرب العربي جميعا. وسيكون أوفرها حظا المغرب وموريتانيا، إذ سيمكث القمر في نواكشوط بعد غروب الشمس 47 دقيقة، وهو ما سيزيد من احتمالية رؤيته.
عرفات وعيد الأضحى
بثبوت رؤية الهلال يوم الثلاثاء -وهو الأكثر احتمالية وقبولا فلكيا- فإن الأربعاء 28 مايو/أيار 2025 سيكون غرة شهر ذي الحجة 1446هـ، وعليه فإن الوقوف على عرفات يوم التاسع من ذي الحجة سيوافق يوم الخميس 5 يونيو/حزيران، وسيكون يوم النحر الأكبر ويوم عيد الأضحى المبارك يوم الجمعة 6 يونيو/حزيران 2025.
ولأن رؤية الهلال ممتنعة -في أغلب الظن- عند بعض البلدان الإسلامية أمثال باكستان وإيران وبنغلاديشن، ولأنهم يتبعون المذهب الحنفي الذي يشترط رؤية الهلال بالعين، فإن ذا الحجة سيبدأ عندهم يوم الخميس 29 مايو/أيار، وعليه يوافق يوم عرفة عندهم يوم الجمعة 6 يونيو/ حزيران 2025. فهل ستصوم تلك البلاد مع الناس الواقفة على عرفة؟ أم أنهم سينتظرون حتى يحين يوم التاسع كما رأوه في بلادهم؟
تعدّ فتوى الشيخ ابن عثيمين -أحد كبار علماء السعودية وأكبر منظري المذهب السلفي في القرن العشرين- الأشهر والأكثر قبولا بين الفتاوى، إذ يفتي باتباع رؤية البلد بصرف النظر عن الرؤية في مكة المكرمة.
'فقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عما إذا اختلف يوم عرفة نتيجة لاختلاف المناطق المختلفة في مطالع الهلال فهل نصوم تبع رؤية البلد التي نحن فيها أم نصوم تبع رؤية الحرمين؟
فأجاب فضيلته بقوله:
هذا يبنى على اختلاف أهل العلم: هل الهلال واحد في الدنيا كلها أم هو يختلف باختلاف المطالع؟ والصواب أنه يختلف باختلاف المطالع ، فمثلا إذا كان الهلال قد رئي بمكة ، وكان هذا اليوم هو اليوم التاسع، ورئي في بلد آخر قبل مكة بيوم وكان يوم عرفة عندهم اليوم العاشر فإنه لا يجوز لهم أن يصوموا هذا اليوم لأنه يوم عيد، وكذلك لو قدر أنه تأخرت الرؤية عن مكة وكان اليوم التاسع في مكة هو الثامن عندهم، فإنهم يصومون يوم التاسع عندهم الموافق ليوم العاشر في مكة، وهذا هو القول الراجح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا) وهؤلاء الذين لم ير في جهتهم لم يكونوا يرونه، وكما أن الناس بالإجماع يعتبرون طلوع الفجر وغروب الشمس في كل منطقة بحسبها ، فكذلك التوقيت الشهري يكون كالتوقيت اليومي. [مجموع الفتاوى 20]'.
متابعة الهلال في السماء.. مخطط الصبار- الضليع
في سبيل التسهيل على الراصدين للعثور على ذلك الهلال النحيل وقليل الإضاءة، قام الفلكيان: العراقي حسن الصبار والأردني هاني الضليع بتطوير وسيلة بصرية سهلة الاستعمال تحدد موضع الهلال بعد غروب الشمس كل خمس أو عشر دقائق.
فلأن السماء بعد الغروب لا يكون فيها أية معالم على الإطلاق -إلا من كوكب لامع أحيانا- فإن الاستدلال على موقع الهلال في السماء يضيع بمجرد غروب الشمس، وحتى نقطة غروب الشمس فإنها تضيع أحيانا، ولذلك فإن القاعدة الأولى في عملية الرصد هي تحديد النقطة التي غربت الشمس فيها فوق الأفق، لأنها ستكون المرجع الذي يعتمده مخطط الصبار- الضليع للعثور على الهلال كل مرة يتم فيها رفع المخطط -فوق الأفق مع مد كلا اليدين- الذي يفضل أن يطبع على ورقة شفافة.
ففي اللحظة التي تغيب فيها الشمس يكون الهلال في أعلى موضع له في المخطط، ثم ينزل القمر في السماء -بسبب دوران الأرض حول نفسها- رويدا رويدا متبعا مساره المائل يمينا، وبحسب الوقت المشار إلى موضعه كل 10 دقائق.
في الأثناء، يمكن استعمال المنظار مزدوج العينية (الدربيل) للبحث عن الهلال في ذلك الموضع. وهي طريقة لطالما أثبتت نجاعتها، ويكون صاحبها الأول في العثور على الهلال في مثل أحوال هلال ذي الحجة الحالي الممكن الرؤية بالأدوات المساعدة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
١١-٠٦-٢٠٢٥
- الجزيرة
هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل مهنة الطب؟
منذ انتشار الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة والعالم يموج بالتوقعات الخيالية والنبوءات اللامعقولة؛ فمع رواج المنافع والمكاسب والتسهيلات التي تنشأ عن استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في شتى الميادين، دبت الحماسة في قلوب كثيرين من مادحي الذكاء الاصطناعي. وهكذا صارت تصدر ذات اليمين وذات الشمال خطابات ومقالات تتنبأ باستبدال الذكاء الاصطناعي بمهن ونشاطات تقليدية راسخة، وتتوقع حلول الذكاء الاصطناعي محل كثيرين من أصحاب الخبرات والكفاءات عالية القيمة وصعبة المنال. وفي المقابل، راح فريق يتخوف من هذا الغزو التقاني غير المسبوق، ويتحسر على ما يتوقع أن يفقده من مكان ومكانة. وآخرون وقفوا في ذلك بين السماطين، لا يميلون إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، منتهجين المنهج الوسطي، وسائرين وفق المذهب الذي يقول إن الذكاء الاصطناعي مهما بلغ من شأو وشأن، فليس له أن يحل محل الإنسان صاحب الخبرة المتينة والكفاءة العالية، والراسخ في العلم رسوخًا لا ريب فيه ولا تثريب عليه. من كان يتخيل أن مهنة الطب سيطولها تهديد الذكاء الاصطناعي وأن حماها سيصبح عرضة للاستباحة من قبل تطبيقات حاسوبية ورقمية تقدم نفسها كبدائل عن واحدة من أنبل المهن في تاريخ البشرية ومن أكثرها حصولًا على الإجلال والتقدير والتبجيل؟ إعلان من كان يتخيل أن يقرأ المقالات التي تتنبأ بأن مهنة الطب ستزول وأن الأطباء سيُستغنى عنهم كليًّا لصالح تطبيقات الذكاء الاصطناعي، التي من المفترض والمزعوم أنها ستتولى تشخيص الأمراض ومداواتها، وتقديم الرعاية الطبية للمحتاجين إليها من بني البشر. وقد ذهب بعض المؤثرين وأصحاب الرأي في أيامنا هذه إلى تحذير النشء والشباب من مغبة الإقدام على دراسة الطب؛ فهؤلاء المؤثرون وأصحاب الرأي، من الذين يحظون بجمهور عريض من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، يؤكدون أن مهنة الطب زائلة لا محالة، وأن الذكاء الاصطناعي سيحل محلها بشكل شبه كلي. وعليه، فليوفر اليافعون والشباب جهودهم وليكفوا عن الاغترار، وليمتنعوا عن الإقبال على دخول كليات الطب، وليجهضوا أحلامهم بأن يكونوا أطباء المستقبل. نظرة تاريخية في العصور التاريخية الموغلة في القدم، مرت مهنة الطب بمراحل كانت فيها تحت تأثير الأساطير والطلاسم والتعاويذ، وكانت الخرافة هي الناظمة للممارسات الطبية التي يتولى أمرها العرافون والعرافات والكهنة والكاهنات. وبعد نشوء الحضارات القديمة الكبرى وحصول قفزة في العمران والتمدن البشري، بدأت مهنة الطب تخضع للمبادئ العلمية التجريبية وراحت تطرح عنها النظرة الأسطورية الخرافية وتأثير الميثولوجيا، وراحت تقترب أكثر فأكثر من الأسس العلمية السليمة القائمة على دراسة العلوم وعلى الملاحظات التجريبية. وقد كانت كل من الحضارة المصرية القديمة، وحضارة بلاد ما بين النهرين، والحضارة الإغريقية، مهدًا للتطورات الأولى في ممارسة مهنة الطب بشكل علمي محض، يبتعد عن الخرافات والأساطير وتأثير الكهنة والسحرة، ويقترب من الأسس والأصول العلمية. وصار الأطباء علماء بامتياز، يتطلب موقعهم التحصل على علوم واسعة، والتبحر فيها والتمكن منها، بغية ممارسة مهنتهم بشكل ماهر وفعال. وفي القرون الوسطى برز دور الأطباء المسلمين الموسوعيين، من أمثال ابن سينا والرازي وابن النفيس وأبي القاسم الزهراوي، وغيرهم كثيرون ممن أسهموا في تطوير العلوم الطبية وتبحروا فيها، حتى صاروا المراجع والنماذج والأمثلة المحتذى بها، لا بل الأساتذة للعالم بأسره في الطب. كان دور الحضارة الإسلامية أساسيًّا ومحوريًّا في تثبيت الدعائم العلمية للطب، وفي إرساء الأسس التجريبية والتطبيقية السليمة التي يقوم عليها بنيان الطب برمته. وظلت أوروبا عالة على المؤلفات الطبية الإسلامية التي سُطِّرت باللسان العربي إلى عصور متقدمة في الأزمنة الحديثة. وجاءت النهضة الأوروبية الحديثة، ومعها الثورات العلمية والصناعية والاجتماعية والسياسية؛ وتغير وجه الكرة الأرضية إلى الأبد مع الاستكشافات الجغرافية العظيمة، والاكتشافات العلمية المذهلة، والاختراعات المدهشة في شتى المجالات. وشمل هذا كله ميادين الطب والجراحة، حتى وصلنا في أيامنا هذه إلى درجات رائعة من التطور في التشخيصات والعلاجات، وفي الرعاية الطبية المقدمة لبني البشر. فوُضعت التقانة تحت تصرف الطب، وصار الأطباء والمرضى يتمتعون بترسانة هائلة من الأدوات والوسائل التشخيصية والعلاجية والرعائية، وتشعبت اختصاصات الطب وميادينه، واطّردت فروعه في الازدياد، حتى وصلنا إلى درجة هائلة من التقدم ما كانت لتخطر على بال. الأمر ليس مجرد عملية جافة لا روح فيها، ولا بروتوكولات طبية علمية يتم اتباعها والعمل بها.. الأمر أعمق من ذلك بكثير وأشمل، إنه احتواء واحتضان وتفهم وإيثار وإنشاء علاقة روحانية، ليس بالمعنى الديني والتعبدي، وإنما بالمعنى الإنساني البحت علاقة الطبيب بالمريض وإذا سمحنا لأنفسنا بأن نجتهد لنحاول أن نجد السمة الرئيسة لمهنة الطب عبر العصور كافة، وفي الحضارات المختلفة في كل بقاع الأرض، لوصلنا إلى نتيجة مفادها أن علاقة الطبيب بالمريض هي الركن الأساسي لمهنة الطب، وحجر الزاوية الذي عليه يرتكز كل بنيان مهنة الطب؛ فالثقة بين الطبيب والمريض الذي يطلب الرعاية الطبية هي السمة الغالبة على مهنة الطب على تنوع الأزمنة والأمكنة، واختلاف الأدوات والوسائل، وتخلف العلوم الطبية أو تقدمها. فهذه العلاقة المحورية يتجاوز دورها التشخيص والعلاج المستند إلى مرتكزات حسية مستقاة من العلوم الطبية، إلى خلق حالة نفسية تكاد تكون روحانية في حالاتها المثلى، بحيث يسلّم المريض شؤون صحته وأسراره الحميمة إلى طبيب يوليه الثقة والإجلال. وهذا له دور كبير جدًّا في توفير المناخ الشفائي اللازم لنجاح التدخلات السريرية والجراحية، التي يقوم بها الطبيب على مريضه. فالأمر ليس مجرد عملية جافة لا روح فيها، ولا مجرد مجموعة بروتوكولات طبية علمية يتم اتباعها والعمل بها.. الأمر أعمق من ذلك بكثير وأشمل، إنه احتواء واحتضان وتفهم وإيثار وإنشاء علاقة روحانية، ليس بالمعنى الديني والتعبدي، وإنما بالمعنى الإنساني البحت، الذي يساهم أيما إسهام في نجاح التشخيصات والعلاجات، وفي توفير البيئة المثلى للمريض في لحظات ضعفه الناتجة عن أمراض وأوجاع ألمت به. ولا يمكن لمهنة الطب أن تصل إلى مبتغاها بغير هذا الركن الأساسي الذي هو علاقة الطبيب بالمريض، التي لا يُستغنى عنها مهما تطورت العلوم والممارسات الطبية. ولا بد للمريض أن يثق بطبيبه ثقة لا يرقى إليها الشك، ولا تشوبها أي ريبة، وهذا أمر لا مناص منه لكي يصل الطرفان إلى النتائج المرجوة. فإذا فُقدت الثقة بين المريض وطبيبه، يصير الوصول إلى نتائج مرضية أمرًا عسيرًا صعبًا؛ فشخص الطبيب وحضوره واحتضانه لمرضاه.. كلها أمور غير مرئية وغير حسية، لها بالغ الأثر في التزام المريض بالتعليمات الطبية، وفي الوصول إلى وضع نفسي ومعنوي ممتاز، يعزز من فرص التعافي والإبلال من الأسقام والأدواء. وتكتسب علاقة الطبيب بالمريض بُعدًا إضافيًّا وأهمية مضاعفة في بعض الاختصاصات الطبية، مثل الطب النفسي وطب الشيخوخة وطب الأطفال.. في هذه الاختصاصات، يجب أن يحوز الطبيب مهارات نفسية تجعله يكسب ثقة مرضاه وثقة أوليائهم. إعلان وإذا ما قارنّا هذه الاختصاصات باختصاصات أخرى كالجراحة والطوارئ، التي يتكون قوامها من جراحات وعمليات، نجد أن المهارات التواصلية والخطابية والكلامية للطبيب النفساني -مثلًا- هي حجر الزاوية التي يستند إليه في مهنته. لا الذكاء الاصطناعي ولا غيره من الوسائل والاختراعات، مهما بلغت من التطور المذهل، تستطيع أن تحل محل علاقة الطبيب بالمريض؛ وبالتالي فإن مستقبل الطب بخير، ولا مبرر لما يخشاه الأطباء الذكاء الاصطناعي طبيبًا؟ لقد اقتحم الذكاء الاصطناعي بعض الميادين والاختصاصات الطبية، وصار له دور في مساعدة الأطباء، لكن الحاجة إلى الأطباء لا تزال ضرورية ولا غنى عنها. إلا أن التنبؤات والتوقعات لا تزال تتوالى بشأن حلول الذكاء الاصطناعي كبديل للأطباء؛ فهل لنا أن نصدّق أن هذا ممكن؟ وهل لنا أن نعتبر أن هذا الأمر سيصبح واقعًا لا مناص منه؟ وهل لنا أن ننصح اليافعين والشباب بألا يُقبلوا على دراسة الطب لأنه أضحى مهنة لا مستقبل لها؟ نحن لا ننكر الدور الكبير والمتعاظم للذكاء الاصطناعي في الطب، سواء في التشخيص أو في العلاجات، أو في تحليل البيانات وتخزين المعلومات والربط بينها، وهذا لا ريب أنه يوفر الجهد الكبير على الطبيب في حالات غير قليلة. لكننا نطرح سؤالًا مشروعًا وبديهيًّا: هل سيستطيع الذكاء الاصطناعي أن يلعب دور علاقة الطبيب بالمريض بشكل فعال وبكفاءة عالية؟ ومحاولتنا لاستنباط جواب عن هذا السؤال توصل إلى قناعة تقول إن هذا الأمر صعب جدًّا، لا بل مستحيل. فلا الذكاء الاصطناعي ولا غيره من الوسائل والاختراعات، مهما بلغت من التطور المذهل، تستطيع أن تحل محل علاقة الطبيب بالمريض؛ وبالتالي فإن مستقبل الطب بخير، ولا مبرر لما يخشاه الأطباء من فقدان لوظائهم وانتفاء الحاجة إليهم في المستقبل. فمهنة الطب هي مهنة إنسانية بامتياز، تتطلب مهارات نفسية وكلامية وتواصلية لا يستطيع أن يحوزها أي تطبيق متطور مذهل في قدراته. هي مهنة الإنسان للإنسان، فلا مكان للذكاء الاصطناعي في هذا الميدان الإنساني البحت، وكل أولئك المبشرين بغزو الذكاء الاصطناعي لهذا الميدان غزوًا يسقط فرسانه ويعطلهم إلى الأبد، كلهم ينطلقون من عدم معرفة بأساسيات مهنة الطب، ويدلون بدلوهم في ميدان لا ناقة لهم فيه ولا جمل. وهنا لا ننكر أن الذكاء الاصطناعي -شأنه في ذلك شأن الملايين من الاختراعات والاكتشافات المذهلة في تاريخ البشرية- قد جاء ليبقى؛ وفي ميدان الطب بالذات لن يكون هناك أي مجال للاستغناء عنه بعد اليوم. ونعترف بأن الذكاء الاصطناعي يقدم خدمات جليلة وتسهيلات جمة للأطباء والمرضى على حد سواء؛ لكن أن يذهب المرء بعيدًا في التحليل والتأويل والتنبؤ، فيدّعي أن الذكاء الاصطناعي سيكون نطاسي المستقبل القريب، وأن على الأطباء أن يبحثوا لهم عن وظيفة أخرى، فإن هذا من الهراء الذي لا قيمة له. لا يوجد من يخضع للمساءلة القانونية والأخلاقية في الطب إلا الأطباء أنفسهم، ولن يستطيع أي برنامج أو تطبيق ذكاء اصطناعي -مهما بلغ من كمال- أن يحل محل الأطباء في هذا الميدان. لذلك، سيظل وجود الأطباء ضرورة أخلاقية وقانونية المسؤولية الأخلاقية والقانونية يذكر التاريخ أن شريعة حمورابي، التي ظهرت في عراق ما قبل الميلاد، قد أتت على ذكر الأطباء ولم تغفلهم من تشريعاتها، وقد حمّلتهم مسؤولية ما يقومون به من أنشطة وأعمال حيال مرضاهم، وسنّت عقوبات للأطباء المهملين والمقصرين والجاهلين، الذين يجلبون الضرر لمرضاهم ويتسببون بالأعطاب لهم. ولا تغفل دساتير وتشريعات معظم دول العالم في أيامنا هذه عن هذا الأمر؛ فقد نشأ اختصاص في الحقوق يتناول مهنة الطب، ويشرّع كافة المناحي والمجالات والعلاقات المتعلقة بها، ويحمّل المسؤولية للمنوط بهم حملها، ويؤكد عدم التنصل منها. وأضحت بعض الدول في العالم اليوم -مثل الولايات المتحدة الأميركية- مرتعًا خصبًا للدعاوى القضائية المقدمة ضد الأطباء، بتوجيه التهم المختلفة إليهم ابتغاء محاسبتهم، والمطالبة بتعويضات مادية ومعنوية بسبب أخطاء طبية مزعومة. وهنا نسأل، أنّى للذكاء الاصطناعي أن يتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية في حال وجد أي خطأ أو تقصير أدى إلى ضرر للمريض؟ ومن سيتحمل هذه المسؤولية في حال حل الذكاء الاصطناعي محل الأطباء؟ في الواقع، هذا الأمر يضيف سببًا آخر لاطمئناننا بشأن المستقبل المضمون للأطباء، وبشأن احتفاظ مهنة الطب بمكانها ومكانتها مستقبلًا. فلا يوجد من يخضع للمساءلة القانونية والأخلاقية في الطب إلا الأطباء أنفسهم، ولن يستطيع أي برنامج أو تطبيق ذكاء اصطناعي -مهما بلغ من كمال- أن يحل محل الأطباء في هذا الميدان. لذلك، سيظل وجود الأطباء ضرورة أخلاقية وقانونية، لا يمكن القفز فوقها أو التحايل حيالها. كما في الطيران والملاحة الجوية، كذلك في الطب والاستشفاء: لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينوب عن الإنسان في تحمل المسؤولية والاضطلاع بأعبائها. فمهما تطورت برامج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته اللامتناهية في ميادين الطب واختصاصاته، فإن الطبيب -والطبيب وحده- هو المخول والمؤهل لتحمل مسؤولية الرعاية الطبية طائرة بلا طيار من المعلوم أن الملاحة الجوية قد صارت ممكنة بغير حاجة إلى طيارين يتولون قيادة الطائرات، سواء في ذلك المدنية منها أم الحربية. وتستطيع التطبيقات الحاسوبية ذات المستوى العالي، والبرامج المؤتمتة تلقائية التشغيل، أن تضطلع بأدوار الطيارين ومساعديهم في أعلى كفاءة وأتم قدرة. لكن هل أدى كل هذا إلى الاستغناء عن الطيارين، بالأخص في ملايين الرحلات الجوية السنوية التي تتم حول العالم؟ الجواب البديهي هو: لا، فالطيارون لا يزالون يباشرون مهامهم في العالم أجمع على قدم وساق، ولم تستطع كل البرامج الحاسوبية الطيرانية جمعاء أن تحفر ثلمًا ولو ضئيلًا في حقل عمل الطيارين الشاسع في أربع رياح الأرض. لم تخاطر شركات الطيران بالاستغناء عن الطيارين، ولم تسمح الهيئات الناظمة للطيران حول العالم بهرطقة من هذا النوع. وهذا ليس لعدم وجود تكنولوجيا آمنة وكفُؤة، بل لأن إفراغ موقع المسؤولية من الوحيدين الذين لهم أن يشغلوه هو تهور وصبيانية ومغامرة لا تحمد عقباها؛ فليس للبرامج الحاسوبية والتطبيقات الذكية أن تتحمل مسؤولية ما لا يمكن إلا لإنسان أن يتحمله. وكما في الطيران والملاحة الجوية، كذلك في الطب والاستشفاء: لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينوب عن الإنسان في تحمل المسؤولية والاضطلاع بأعبائها. فمهما تطورت برامج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته اللامتناهية في ميادين الطب واختصاصاته، فإن الطبيب -والطبيب وحده- هو المخول والمؤهل لتحمل مسؤولية الرعاية الطبية بكافة تفرعاتها واختصاصاتها وصلاحياتها. وإنه لمن العجب العجاب أن يهرف كل مدَّعٍ بما لا يعرف ويلقي بالكلام على عواهنه. لقد تطور الذكاء الاصطناعي كثيرًا، وأخشى ما أخشاه أن يأتي هذا التطور على حساب الذكاء البشري والفطنة الإنسانية والحكمة.


الجزيرة
١٠-٠٦-٢٠٢٥
- الجزيرة
الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم.. فرص تربوية وبعض المخاطر!
في زمن تتسارع فيه وتيرة التحولات التكنولوجية، وتُعاد فيه صياغة مفاهيم العمل، والمعرفة، والعلاقات الإنسانية، يبرز الذكاء الاصطناعي التوليدي كأحد أكثر الابتكارات إثارة للجدل والإعجاب في آنٍ واحد. من إنشاء نصوص مقنعة إلى توليد صور واقعية وصوتيات محاكية، بات هذا النوع من الذكاء الاصطناعي يتسلل إلى مفاصل الحياة اليومية.. والتعليم ليس استثناءً. لكن، بينما تحتفل بعض النظم التعليمية بإمكاناته، تحذّر أخرى من تداعياته! فهل نحن أمام ثورة معرفية قادرة على جعل التعليم أكثر عدلاً ومرونة؟ أم إننا نغامر بالاعتماد على خوارزميات غير واعية قد تقوّض الأسس التربوية؟ إن تسهيل الوصول إلى الإجابات الفورية قد يؤدي إلى تآكل بعض المهارات الأساسية، مثل التحليل النقدي، والكتابة اليدوية، أو حتى الفهم العميق ما هو الذكاء الاصطناعي التوليدي؟ الذكاء الاصطناعي التوليدي هو فرع متطور من الذكاء الاصطناعي، يستخدم الشبكات العصبية العميقة لتوليد محتوى أصلي (نصوص، صور، فيديوهات، شيفرات) بالاعتماد على بيانات التدريب السابقة. وبخلاف الخوارزميات التقليدية التي تسترجع المعلومات أو تصنفها، فإن هذه النماذج "تُبدع"، بمعنى أنها تُنتج محتوى جديدًا، فوريًّا، وسياقيًّا. ما يميز هذا النوع من الذكاء الاصطناعي هو قدرته على التفاعل اللغوي المتطور، وإنتاج نصوص شبيهة بالكتابة البشرية، وتوليد مواد تعليمية ديناميكية ومتعددة الوسائط. لقد أصبح المعلم قادرًا على توليد عشرات النسخ من نفس الدرس لمستويات طلابية مختلفة، وأصبح الطالب قادرًا على توليد ملخصات، وخرائط ذهنية، أو شروحات فورية بلغة بسيطة. فرص تربوية غير مسبوقة يوفر الذكاء الاصطناعي التوليدي أدوات قوية لتخصيص التعلم وتكييفه، وهو ما كان يمثل تحديًا مزمنًا في الأنظمة التعليمية التقليدية؛ فقد أصبح بالإمكان تصميم مسارات تعلم فردية بناءً على مستوى الطالب، وتقديم دعم لحظي في فهم المفاهيم، أو حتى تحويل المناهج الجامدة إلى محتوى تفاعلي نابض بالحياة. من أبرز المكاسب التربوية: توليد محتوى ذكي: تحويل المفاهيم المعقدة إلى شروحات مبسطة، أو توليد اختبارات وتدريبات. الدعم متعدد اللغات: تسهيل تعلم اللغات، والترجمة الفورية للمصطلحات والمفاهيم. إعادة تصور الفصول الدراسية: من خلال المحاكاة والواقع المعزز المدعوم بالذكاء الاصطناعي. في فنلندا، يتم استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين مهارات الكتابة لدى الطلاب، من خلال مراجعة كتاباتهم بشكل لحظي واقتراح تعديلات ذكية تحديات أخلاقية وتربوية ورغم هذه الفرص، لا يخلو هذا التقدم من تحديات عميقة تثير القلق لدى المربين، وصانعي السياسات، والفلاسفة التربويين: التحيز وإعادة إنتاج اللاعدالة: تعتمد النماذج التوليدية على بيانات بشرية تعكس تحيزات المجتمع، وقد تُعيد إنتاجها بطريقة غير نقدية. في السياق التعليمي، قد يُهمّش المحتوى المحلي واللغات غير المهيمنة، ما يُرسّخ هيمنة معرفية متمركزة حول ثقافة واحدة أو لغة واحدة (الإنجليزية غالبًا). الكسل المعرفي وفقدان المهارات: إن تسهيل الوصول إلى الإجابات الفورية قد يؤدي إلى تآكل بعض المهارات الأساسية، مثل التحليل النقدي، والكتابة اليدوية، أو حتى الفهم العميق. وقد يصبح الطلاب مع الوقت معتمدين على "الآلة المفكرة"، بدلًا من تطوير قدراتهم الذاتية. تغييب دور المعلم البشري: رغم أن الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة، فإن الاعتماد المفرط عليه قد يؤدي إلى تقليص دور المعلم، الذي لا يُعتبر مجرد ناقل معرفة، بل هو موجه أخلاقي، ومُيسِّر للتفاعل الإنساني، ومصدر للتحفيز والعلاقة التربوية الحقيقية. الفجوة الرقمية: ليس بإمكان كل الطلاب أو المعلمين الوصول إلى الإنترنت عالي السرعة، أو الأجهزة اللازمة لاستخدام هذه التقنيات، خصوصًا في المناطق الريفية أو الدول ذات البنية التحتية المحدودة. وهذا يطرح تحديًا إضافيًّا للعدالة التعليمية. كيف نتعامل تربويًّا مع الذكاء الاصطناعي التوليدي؟ لم يعد خيار "المنع" مجديًا. بل الأجدى هو بناء "مواطنة رقمية نقدية واعية" تشمل: تكوين المعلمين: يجب أن يتلقى المعلمون تدريبًا على: استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي بفعالية. تقييم مخرجاته وتحسينها. تعليم الطلاب كيفية التفاعل النقدي معه. إدماج الذكاء الاصطناعي كمادة بحد ذاتها: ولا بد أن يتعلم الطلاب: كيف يعمل الذكاء الاصطناعي؟ ما هي قيوده وأخطاره؟ كيف يتحققون من صحة مخرجاته؟ صياغة مواثيق تربوية رقمية: على المؤسسات التعليمية أن تطوّر سياسات واضحة حول: الاستخدام المقبول للذكاء الاصطناعي. حماية الخصوصية. تعزيز النزاهة الأكاديمية. الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس مجرد وسيلة تقنية، بل فرصة تاريخية لإعادة تعريف دور المدرسة، والمعلم، والطالب، والمحتوى. غير أن ذلك لا يتحقق تلقائيًّا أمثلة من الواقعين العالمي والعربي في فنلندا، يتم استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين مهارات الكتابة لدى الطلاب، من خلال مراجعة كتاباتهم بشكل لحظي واقتراح تعديلات ذكية. وفي كوريا الجنوبية، تعتمد المدارس على نظم توليد دروس تكييفية حسب أداء الطالب. أما في العالم العربي، فالتجارب لا تزال محدودة ومشتتة؛ فمعظم المبادرات تُركز على الترجمة أو التلخيص، دون إطار تربوي متكامل أو محتوى عربي أصيل عالي الجودة. وهناك حاجة ماسة إلى بنى تحتية رقمية، واستثمار في تدريب المعلمين على الاستخدام النقدي والتربوي لهذه الأدوات. من أداة إلى مشروع حضاري إن الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس مجرد وسيلة تقنية، بل فرصة تاريخية لإعادة تعريف دور المدرسة، والمعلم، والطالب، والمحتوى. غير أن ذلك لا يتحقق تلقائيًّا.. إذا لم تصمَّم السياسات التعليمية وفق رؤية قيمية واضحة، قد نعيد إنتاج تعليم "ذكي" تقنيًّا، لكنه فارغ قيميًّا وإنسانيًّا. لا يُفترض بالذكاء الاصطناعي أن يُقصي الإنسان، بل أن يمكّنه.. التعليم الناجح في عصر الذكاء الاصطناعي ليس ذاك الذي يبرمج كل شيء، بل الذي يترك هامشًا للدهشة، وللخطأ، وللتجريب البشري نحن بحاجة إلى إدماج هذه الأدوات ضمن فلسفة تربوية تعزز: التفكير النقدي بدل الحفظ. التعاون بدل المنافسة. تعدد الرؤى بدل النمطية. الإنسان بدل الخوارزمية. الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن الإنسان في نهاية المطاف، لا يُفترض بالذكاء الاصطناعي أن يُقصي الإنسان، بل أن يمكّنه.. التعليم الناجح في عصر الذكاء الاصطناعي ليس ذاك الذي يبرمج كل شيء، بل الذي يترك هامشًا للدهشة، وللخطأ، وللتجريب البشري. الذكاء الاصطناعي قد يساعدنا في أن نعلّم أكثر، وأسرع، ولكن علينا أن نضمن أن ما نُعلّمه يبقى إنسانيًّا، ونقديًّا، ومتجذرًا في ثقافتنا ومجتمعاتنا.


الجزيرة
٠٩-٠٦-٢٠٢٥
- الجزيرة
هل يجوز للذكاء الاصطناعي كتابة الأبحاث العلمية؟ العلماء منقسمون
مع ثورة الذكاء الاصطناعي الكبيرة وإسهاماته في مجال العلوم، تختلف آراء العلماء في استخدام هذه الأدوات لكتابة الأوراق البحثية، ويأتي ذلك في سياق تزايد الأوراق البحثية التي تُظهر استخدام الذكاء الاصطناعي، ليثير تساؤلات عن الانتحال العلمي ومخاوف أخلاقية أخرى. وقد أجرت مجلة نيتشر استطلاع رأي شمل 5 آلاف أكاديمي كانت لهم آراء متناقضة حول قبول إشراك الذكاء الاصطناعي في الأبحاث، وما يجب على الباحثين الكشف عنه لدى استخدامهم للذكاء الاصطناعي. وطرحت مجلة نيتشر مجموعة متنوعة من السيناريوهات على الباحثين لمعرفة استخدامات الذكاء الاصطناعي التي تعتبر مقبولة أخلاقيا. وكانت استطلاعات الرأي السابقة قد كشفت أن الباحثين يستخدمون أيضًا أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي لمساعدتهم في البرمجة وتبادل الأفكار البحثية وفي العديد من المهام الأخرى. ويتفق معظم أعضاء المجتمع الأكاديمي بالفعل على أن هذه التطبيقات مناسبة في بعض الحالات، وغير مناسبة في حالات أخرى مثل توليد صور الذكاء الاصطناعي. ولكن أحدث استطلاع رأي أجرته مجلة نيتشر ركز على كتابة المخطوطات ومراجعتها، وهي مجالات لا تتسم قواعدها الأخلاقية بالوضوح الكافي. أكاديمي خيالي يستخدم الذكاء الاصطناعي عرض استطلاع مجلة نيتشر مجموعة سيناريوهات استخدم فيها أكاديمي خيالي يُدعى الدكتور بلوغز الذكاء الاصطناعي من دون الإفصاح عن استخدامه. وقام بأشياء مثل إنشاء المسودة الأولى لورقة بحثية وتحرير مسودته الخاصة وصياغة أقسام محددة من الورقة وترجمة الورقة. وتضمنت سيناريوهات أخرى استخدام الذكاء الاصطناعي لكتابة مراجعة أقران أو لتقديم اقتراحات حول مخطوطة كان الدكتور بلوغز يراجعها. وسُئل المشاركون في الاستطلاع عمّا يرونه مقبولًا، وإذا كانوا قد استخدموا الذكاء الاصطناعي في مثل هذه الحالات، أو يرغبون في استخدامه. وكان الاستطلاع مجهول الهوية، وتم عبر رسائل بريد إلكتروني أُرسلت إلى باحثين من جميع أنحاء العالم، كان 21% منهم من الولايات المتحدة و10% من الهند و8% من ألمانيا وكانوا يمثلون مراحل ومجالات مهنية متنوعة. ويشير الاستطلاع إلى تباين الآراء الحالية حول استخدام الذكاء الاصطناعي بين الأكاديميين، إذ يرى أكثر من 90% من المشاركين أنه من المقبول استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لتحرير الأبحاث أو ترجمتها، لكنهم يختلفون حول ضرورة الإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي، وبأي صيغة يكون الإفصاح، فعلى سبيل المثال يمكن ذكر إفصاح بسيط عن استخدام الذكاء الاصطناعي، أو يمكن تقديم تفاصيل حول التوجيهات الموجهة لأداة الذكاء الاصطناعي. وبخصوص إنشاء نصوص باستخدام الذكاء الاصطناعي، مثل كتابة بحث كامل أو جزء منه، يرى 65% من الباحثين أن ذلك مقبول أخلاقيا، بينما يعارضه حوالي الثلث. وعند سؤالهم عن استخدام الذكاء الاصطناعي لصياغة أقسام محددة من ورقة بحثية، شعر معظم الباحثين بأن من المقبول القيام بذلك بالنسبة لملخص الورقة البحثية، لكن المزيد منهم عارضوا القيام بذلك بالنسبة لأقسام أخرى. وعلى الرغم من أن الناشرين يتفقون عمومًا على ضرورة الإعلان عن الاستخدام الجوهري للذكاء الاصطناعي في الكتابة الأكاديمية، فإن استطلاع نيتشر يشير إلى أن رأي الباحثين ليس واحدًا. كان استخدام الذكاء الاصطناعي لإعداد تقرير أولي لمراجعة الأقران موضع استنكار أكثر من 60% من المشاركين إذ رأو أنه غير مناسب وأشار حوالي ربعهم إلى مخاوف تتعلق بالخصوصية. ولكن الأغلبية (57%) رأت أن من المقبول استخدام الذكاء الاصطناعي للمساعدة في مراجعة الأقران من خلال الإجابة عن أسئلة حول المخطوطة. قلة تستخدم الذكاء الاصطناعي عدد قليل من الأكاديميين هم الذين أفادو بأنهم استخدموا الذكاء الاصطناعي فعليا في السيناريوهات التي طرحتها مجلة نيتشر، فقد أفاد حوالي 28% فقط بأنهم استخدموا الذكاء الاصطناعي لتحرير أوراقهم البحثية، و43% أفادوا بأنهم مستعدون لذلك. وانخفضت هذه الأرقام إلى حوالي 8% في كتابة المسودة الأولى وإعداد ملخصات لمقالات أخرى لاستخدامها في أوراقهم البحثية وترجمة أوراق بحثية ودعم مراجعة الأقران. وقال 4% فقط من المشاركين إنهم استخدموا الذكاء الاصطناعي لإجراء مراجعة أولية بين الأقران. وإجمالا، أفاد حوالي 65% من المشاركين بأنهم لم يستخدموا الذكاء الاصطناعي قط في أي من السيناريوهات المذكورة. وكانت هناك استطلاعات سابقة حول استخدام الذكاء الاصطناعي في المجتمع الأكاديمي، ففي يناير/كانون الثاني نشر باحث صحي وزملاؤه في معهد أبحاث مستشفى أوتاوا في كندا استطلاعًا لأكثر من ألفي باحث طبي قال 45% منهم إنهم استخدموا روبوتات الدردشة بالذكاء الاصطناعي سابقًا. ومن بين هؤلاء، قال أكثر من ثلثيهم إنهم استخدموها لكتابة المخطوطات أو تحريرها، وذلك يعني بشكل عام أن حوالي 31% من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع استخدموا الذكاء الاصطناعي لهذا الغرض، وهي نسبة مرتفعة قليلا عن استطلاع نيتشر. وفي فبراير/شباط نشرت شركة وايلي دراسة استقصائية تتناول استخدام الذكاء الاصطناعي في الأوساط الأكاديمية شارك فيها ما يقرب من 5 آلاف باحث من أنحاء العالم. وكشف هذا الاستطلاع أن الباحثين يرون أن معظم استخدامات الذكاء الاصطناعي مثل كتابة الوثائق وزيادة سرعة وسهولة مراجعة الأقران ستحظى بقبول واسع النطاق في السنوات القليلة المقبلة. لكن أقل من نصف المشاركين أفادوا بأنهم استخدموا الذكاء الاصطناعي فعليا في العمل، فقد أفاد 40% منهم بأنهم استخدموه للترجمة، و38% لمراجعة الأوراق البحثية أو تحريرها. هل يجب الإفصاح عند استخدام الذكاء الاصطناعي؟ لدى معظم ناشري الأبحاث إرشادات بشأن الذكاء الاصطناعي تحظر استخدامه لإنشاء البيانات أو النتائج مثل الصور أو تعديلها أو التلاعب بها. وتنصّ هذه الإرشادات عادة على أنه لا يمكن إدراج أداة الذكاء الاصطناعي كمؤلف، لأنها لا تتحمل مسؤولية العمل. ولكن السياسات تختلف اختلافًا كبيرًا، لا سيما في ما يتعلق بالإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي. إعلان وعندما أُتيحت للباحثين المشاركين في استطلاع نيتشر فرصة التعليق تباينت آراؤهم بشكل كبير. فمن جهة، رأى بعضهم أن الانتشار الواسع لأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي جعل الإفصاح غير ضروري. ويرى بعضهم أن الذكاء الاصطناعي سيصبح -إن لم يكن كذلك بالفعل- أمرًا طبيعيا تمامًا مثل استخدام الآلة الحاسبة. ولن يكون الإفصاح مسألة مهمة. ومن ناحية أخرى، قال البعض إن استخدام الذكاء الاصطناعي سيكون دائمًا غير مقبول، وإن استخدامه لكتابة الأبحاث أو مراجعتها عبارة عن غش واحتيال شائن. ويرى آخرون أن المشكلة في الاعتماد المفرط عليه؛ فذلك قد يُشعر المرء بالغش، إذ يحرم الباحث نفسه من فرص التعلم من خلال الانخراط في عمليات قد تكون مُرهقة أحيانًا. وقال البعض إن تجربتهم الشخصية كشفت أن الذكاء الاصطناعي غالبًا ما يُنتج نتائج دون المستوى المطلوب واستشهادات خاطئة، وبيانات غير دقيقة، وكما وصفها أحد المشاركين بأنها "هراء مُحكم الصياغة". وكانت هناك أيضًا بعض الإيجابيات إذ أشار العديد من المشاركين إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في تحقيق المساواة بين الأكاديميين الذين لا تعد اللغة الإنجليزية لغتهم الأولى.