
هولندا: سبينوزا وسوق الأسهم... بداية العصر الليبرالي
لم يكن سبينوزا المثقف الوحيد الذي لجأ إلى العاصمة الهولندية للتعبير عن أفكاره بحرية. الفيلسوف الفرنسي الشهير ديكارت أيضاً عاش في أمستردام معظم حياته، ونشر مؤلفاته هناك. في عاصمة بلاده، باريس، لم يكن قادراً على إنتاج أفكاره القائمة على الشك. أفكاره التي غيرت العالم ترعرعت جذورها الأولى في التربة الهولندية. البروتستانت المطرودون من المدن والقرى الأوروبية وجدوا أيضاً في أمستردام الملاذ الآمن. ورغم وصولهم إليها مضطهدين مفلسين، فإنه لم يمضِ وقت طويل حتى بدأوا تجارتهم وكوَّنوا منها ثروات.
الحرية الفكرية والدينية أكسبت أمستردام سمعة عاصمة التسامح. ومع أجواء الحرية الفكرية ازدهرت التجارة، ورأى فيها الأثرياء مكاناً مثالياً للعيش. في المدن الأوروبية المتسخة والمتخلفة عمرانياً، كانت الطبقة الدينية نخبتها الفكرية، وعزلت نفسها عن بقية المجتمع، وكانت العواصم واجهات للأباطرة. نسبة التمدن في تلك العواصم لم تتجاوز الـ9 في المائة. أما في أمستردام، فقد وصلت إلى 56 في المائة. وفي وقت كانت فيه تلك العواصم خاملة اقتصادياً، ضمَّت هولندا مراكز تجارية تتنافس مع بعضها.
التجار، والمحامون، والمصرفيون، والمهندسون، والفنانون، وأصحاب المدن، كلهم اجتمعوا في تلك المدن المزدهرة. في المدن الهولندية اجتمعت الحرية الشخصية والفكرية، التجارة المفتوحة، والشوارع النظيفة والباحات الأنيقة. البحث عن الكسب الشخصي لم يكن، للمرة الأولى في أوروبا، فعلاً آثماً أو غير أخلاقي، بل كان مرغوباً. وللمرة الأولى ظهر من نعرفهم برواد الأعمال، وبزغ رجال أعمال من نوع جديد: من تجار مصانع الأجبان إلى تجار البهارات والتوابل الهندية والإندونيسية. «سوق الأسهم» اختراع هولندي، والشركة «الهولندية الهندية الشرقية» هي الشركة المساهمة الأولى في العصر الحديث في «بورصة أمستردام».
بهذه الصورة الزاهية يرسم الكاتب فريد زكريا صورة هولندا، ويجعلها الاستثناء عن أوروبا في القرن السادس عشر. وهي من أولى الثورات في كتابه: «عصر الثورات». وهي ثورة فكرية ودينية وتجارية، وليست ثورة سياسية. نظام حكمها لم يعرف حكم الإمبراطور المركزي السائد في أوروبا، بل تمتعت الأقاليم السبعة التي تشكلها بكثير من السلطة، وكانت قادرة على استخدام «الفيتو» ضد التشريعات القومية التي لا تعجبها. الطريقة الوحيدة لكي تعمل هذه الأقاليم السبعة هي عبر آليات التعاون والتسويات.
أمستردام القرن السابع عشر هي نيويورك القرن العشرين. كسرت، كما يقول أحد المؤرخين في ذلك الوقت، القواعد بين الرجال والنساء، والسادة والعبيد، والجنود والمدنيين، والنبلاء والعاديين. النمو الاقتصادي قبل هولندا شيء، وبعدها شيء آخر. في خريطة التاريخ البشري، يمثل النمو الاقتصادي خطاً مسطحاً في الأسفل لأن التجارة كانت عبارة عن الاستيلاء ونهب الثروات. مع التجارة الحرة والانفتاح الاقتصادي واختراع السفن التي تنقل البضائع، تغير هذا الخط، وبدأ في الصعود من ذلك الحين.
التحول الكبير، مهما كان ناجحاً، كان له معارضون. المحافظون دينياً عارضوا المتسامحين. القوميون عارضوا الليبراليين. المحتكرون عارضوا دعاة التجارة الحرة. سكان مدن الداخل الراكدة عارضوا سكان مدن الساحل المزدهرة. النوستالجيون عارضوا المستقبليين. نشب صراع حول الفكرة الليبرالية. هناك من رآها دعوة لعالم أفضل، وآخرون عدوها بذرة تدمير لكل ما عرفوه. تشكل هذا الصراع سياسياً بين حزب الولايات (The States Party) الليبرالي، وحزب أورانج (The Orangist Party) القومي.
النجاح يجذب الحاسدين والأعداء. وهذا ما حدث لهولندا التي كانت تعيش عصرها الذهبي رغم الخلافات السياسية داخلها. أكثر مَن كرهها هو لويس الرابع عشر، ملك فرنسا. رأى الهولنديين متعجرفين. وجودهم يهدد حُكمه، وتحولت أمستردام إلى ملجأ للهاربين من بلاده. 150 ألفاً هربوا من أرض الاضطهاد الديني إلى أرض التسامح، من أرض الإقطاع إلى أرض التجارة. لم يحتمل لويس الرابع عشر هذا المشهد، وقرر غزوها في عام 1672.
سقطت المدن تلو الأخرى، وقرر الهولنديون المقاومة عبر تحطيم السدود وإغراق الأراضي وبناء الخنادق. مقاومة أشبه بإطلاق النار على أقدامهم. دمروا أسباب نجاحهم. تُعَد هذه الحرب نهاية العصر الذهبي الهولندي، ولكن لويس الرابع عشر ارتكب غلطة كبيرة، وهي أنه لم يدرك أن ويليام الثالث، أمير أورانج، الذي عاد إلى الواجهة بضغط شعبي وتم تنصيبه كقائد عسكري، سيتحول لاحقاً إلى ملك بريطانيا، وينقل بذور الليبرالية ليزرعها في البلد الذي تحول إلى قوة عظمى. التجربة الهولندية المحدودة أصبحت أكبر وأوسع مع القوة الإنجليزية الصاعدة، وهذا ما سأتحدث عنه في المقال المقبل.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أرقام
منذ 4 ساعات
- أرقام
وزير الخارجية الصيني يلتقي وفداً من قادة الشركات الأمريكية
قال وزير الخارجية الصيني "وانج يي" إن بلاده منفتحة على تعزيز الحوار مع الولايات المتحدة من أجل تجنّب سوء الفهم وإدارة الخلافات، بما يُسهم في بناء علاقات "مستقرة وصحية ومستدامة" بين البلدين. وخلال لقائه وفداً رفيع المستوى من مجلس الأعمال الأمريكي-الصيني في بكين يوم الأربعاء، شدد "وانج" على أهمية توسيع قنوات الاتصال والتشاور بين الجانبين، داعياً إلى تبنّي رؤية "موضوعية وبراجماتية" في التعامل المتبادل. وأكد الوزير الصيني أن سياسة بكين تجاه واشنطن "ثابتة ومستقرة" بغضّ النظر عن تغيّرات الأوضاع الدولية، وذلك خلال الاجتماع الذي حضره عدد من كبار التنفيذيين الأمريكيين، من بينهم رئيس "فيديكس"، "راجيش سوبرامانيام"، الذي يترأس وفد المجلس. ويأتي الاجتماع غداة اختتام الجولة الثالثة من المحادثات التجارية بين الصين والولايات المتحدة خلال أقل من ثلاثة أشهر، والتي عُقدت في العاصمة السويدية ستوكهولم. ومن المنتظر أن يتخذ الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" قراراً نهائياً بشأن تمديد الهدنة الجمركية مع الصين خلال الأسبوعين المقبلين. وضمّ الوفد الأمريكي كل من: "جون والدورن" مدير العمليات في "جولدمان ساكس"، و"سبيه خان" مدير العمليات في "آبل"، و"بريندان نيلسون" نائب رئيس "بوينج"، و"جودي ماركس" رئيسة مجلس إدارة "أوتيس"، و"مارك كاسبر" رئيس "ثيرمو فيشر"، و"روبرتا ليبسون" مؤسسة "يونايتد فاميلي هيلث كير". وخلال اللقاء، أشار "وانغ" إلى أن الاقتصاد الصيني حافظ على نمو مستقر خلال النصف الأول من عام 2025، رغم التحديات، معرباً عن أمله في أن تواصل الشركات الأمريكية ضخّ الاستثمارات في السوق الصينية.


عكاظ
منذ 4 ساعات
- عكاظ
بوتيرة مفاجئة.. 3% نمو لاقتصاد أمريكا
سجل الاقتصاد الأمريكي نمواً بوتيرة سنوية مفاجئة بلغت 3% خلال الربع الثاني من عام 2025 (من أبريل إلى يونيو الماضيين)، محققاً انتعاشاً، ولو مؤقتاً، بعد تراجعه في الربع الأول من هذا العام نتيجة الاضطرابات الناجمة عن الحروب التجارية. وقالت وزارة التجارة الأمريكية، اليوم: «إن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة -وهو مقياس لإجمالي السلع والخدمات التي تنتجها البلاد- تعافى بعد أن كان قد انكمش بنسبة 0.5% خلال الربع الأول من عام 2025». وقد نتج التراجع في الربع الأول من العام بشكل رئيسي عن الارتفاع الكبير في الواردات -التي تُخصم من الناتج المحلي الإجمالي- وذلك في ظل مسارعة الشركات لاستيراد السلع الأجنبية قبل بدء تطبيق رسوم ترمب الجمركية. وارتفع الدولار لأعلى مستوى في شهر بعد صدور هذه البيانات. يأتي ذلك فيما دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مجدداً، مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) إلى خفض أسعار الفائدة القياسية على الفور بعد أن أظهرت بيانات انتعاش النمو الاقتصادي الأمريكي بأكثر من المتوقع في الربع الثاني. وكتب ترمب على منصة تروث سوشيال: «بينما يستعد البنك المركزي لإصدار قراره بشأن السياسة النقدية الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني صدر للتو، 3%، وهو أفضل بكثير من المتوقع، وبعد فوات الأوان يجب الآن خفض سعر الفائدة، لا تضخم دعوا الناس يشترون منازلهم ويسددون ثمنها». وجاءت مطالبة ترمب قبل ساعات من إعلان «الفيدرالي» قراره بشأن الفائدة، بينما تترقب الأسواق اليوم، القرار وسط إجماع من المحللين بإبقاء معدلات الفائدة دون تغيير ضمن النطاق الحالي البالغ 4.25% إلى 4.5%، في ظل استمرار التوجه نحو تجنّب خفض الفائدة في الوقت الراهن. ورغم هذا التوجه، تبرز احتمالات معارضة داخلية نادرة، إذ من المتوقع أن يعارض عضوا الفيدرالي كريستوفر والر وميشيل بومان قرار التثبيت، وفي حال تمسّكا بموقفهما الداعم لخفض الفائدة، فستكون هذه أول معارضة مزدوجة داخل لجنة السياسة النقدية منذ عام 1993. ويُعد اجتماع اليوم، الأول من نوعه منذ زيارة ترمب إلى موقع بناء المقر الجديد للفيدرالي، وهي الزيارة التي أثارت جدلاً بشأن التجاوزات في التكاليف، إلى جانب تصاعد الضغط على جيروم باول لاتخاذ خطوات نحو خفض الفائدة. ورغم تمسك باول بموقفه، بدأ بعض أعضاء الفيدرالي في الميل نحو موقف ترمب. فقد لمّح محافظ الفيدرالي كريستوفر والر إلى إمكانية معارضته العلنية لقرار التثبيت، معتبراً أن تأثير الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب على التضخم سيكون مؤقتاً، وأن سوق العمل قد تتدهور قريباً. أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 7 ساعات
- الشرق الأوسط
الاتحاد الأوروبي يُطلق نظاماً آلياً لمراقبة الحدود بعد شهرين
أعلن الاتحاد الأوروبي، اليوم (الأربعاء)، إطلاق العمل بنظام آلي لمراقبة الحدود في 12 أكتوبر (تشرين الأول)، يتم عبره الاستغناء عن ختم جواز السفر للمسافرين من خارج التكتل. وسيسجل النظام الجديد تفاصيل المسافرين من خارج الاتحاد الأوروبي وبياناتهم البيومترية، إلى جانب تاريخ الدخول والخروج؛ بحيث يمكن تتبع تجاوزات مدد الإقامة والدخول المرفوض. وأوضح المفوّض الأوروبي للهجرة، ماغنوس برونر، أن «هذا سيساعدنا في معرفة من يدخل الاتحاد الأوروبي ويغادره». غير أن تطبيق هذا النظام الذي كان موضع نقاش لنحو عشر سنوات، سيتم تدريجياً. وأضاف برونر: «سيُتاح للدول الأعضاء والمسافرين والشركات الوقت اللازم للتكيف مع النظام الجديد». وأثار نظام «الدخول والخروج» تحفظ بعض شركات النقل التي تخشى أن يؤدي إلى أوقات انتظار أطول للمسافرين إلى أوروبا بالقطارات والعبارات والطائرات. وأعلن رئيس بلدية لندن صادق خان، العام الماضي، أن هذا الإجراء سيُسبّب «فوضى» في محطة سانت بانكراس، مركز قطارات «يوروستار» في العاصمة البريطانية. وحذّرت السلطات البريطانية مواطنيها من أن «بضع دقائق» إضافية من الانتظار ستُطلب من «كل مسافر» عند عبور الحدود. وأكدت المفوضية الأوروبية أن الحملات الإعلامية ستُسهّل إطلاق هذا النظام، مشيرة إلى أنه «سيجنّب الهجرة غير الشرعية، ويحمي أمن المواطنين الأوروبيين». تُشارك تسع وعشرون دولة في هذا النظام، أي جميع دول الاتحاد الأوروبي باستثناء قبرص وآيرلندا، بالإضافة إلى آيسلندا وليختنشتاين والنروج وسويسرا.