أحدث الأخبار مع #ديكارت


الرياض
منذ 3 أيام
- منوعات
- الرياض
حقولمنطلقات من الوعي
من الضرورة بمكان أن نستحضر مقولة الفيلسوف الفرنسي ديكارت (أنا أفكر، إذاً أنا موجود) وحين نستحضر هذه المقولة في حياتنا اليومية فإن ذلك يجعلنا ننتهج سلوكاً حضارياً في التَعَلّم والمعالجة ونتطبع بهذا الأسلوب الذي يفضي بنا إلى المعرفة، ويجعلنا نقلص المسافة الفاصلة بيننا وبين الأشياء والموجودات في مسرح الحياة، ونسير وفق خطة نورانية تضع الأقدام في المسار الصحيح ونخطو على أرض صلبة لا تميد بنا أو تميل إلى العثرة، وهذا السلوك عندما ينتهجه الإنسان فإنه يعيش حالة من الثقة بالنفس وبالتالي الانفتاح المعرفي ومن ثم تتراكم الخبرة والتجربة التي يستحق أن يقال بعدها أنت خبير وحكيم وعارف، لأن التجارب بالضرورة قرينة بالفشل والسير قرين بالعثرة، وكما ورد في الأثر ( لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو عَثْرَةٍ، وَلَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ ) فالمهمة هنا نبيلة ومشرقة ودائرتها سوف تتسع بمدى حضورك والقدرة على التفاعل في درب المعرفة الواسع والطويل، وخصوصاً إذا كنت تؤمن أن المعارف تأتي تِباعاً وليس جملة وتتراكم حسب مدى الحضور الفاعلية، فكلما زاد الطموح والإرادة والرغبة زادت معارفك وكذا سعة خيالك واتسعت مداركك حتى يتراءى لك قول الحق (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً ) الإسراء 85، لتكون هذه الآية حافزاً للمزيد وفي مؤداها الأخير تفجر جذوة الاتقاد لتولد حالة عطاء جديدة وتبعدك عن الأفكار النمطية الجامدة التي تقيد عقلك وتركس وعيك. إن الإنسان هو محور ارتكاز العملية في هذا الاتجاه وعليه أن يستجيب بأقصى طاقته ليحقق وجوده فكما يفكر يكون لأن استثمار حالة وجود وعيه حسب رؤية ديكارت هي الثروة الحقيقية والمبدأ الأول لتحقيق نجاحات متتالية وتقدم متسارع في كل الأصعدة وإلا سوف يضع نفسه في دائرة الاستجابة الحرجة وفي مرحلة فوات الأوان التي تضعه في الحلقة الأضعف والوقت المهدور، لأن المعرفة بالضرورة حكر على من يعمل العقل ويفكر حتى تتضح له معاني الوجود واستتباعاً لذلك فإن الحضور يتحدد بمدى قدرتك على إعمال العقل والمحاولة الجادة في إدخال المعلومة إلى دائرة الاحتكام ( العقل ) وبالتالي يتحقق المعنى السامي لمفهوم مبادئ الاستخلاف في الأرض حتى إن العلاقة نحو المعارف تكون علاقة طردية فكلما زاد حالات التفكر والتأمل زادت المعرفة والوعي وقابلية التطور، والوعي هو مهمة نمارسها وليس أصلاً فينا، ولأن منطلقات الوعي هي في أساس التفكر والتدبر والتأمل كان لابد من أخذ مقولة الفيلسوف الفرنسي بعين الاعتبار، وهكذا يطرأ تقدم الإنسان نحو المعرفة وينتقل من طور إلى آخر.. والى لقاء.


شبكة النبأ
١٧-٠٥-٢٠٢٥
- صحة
- شبكة النبأ
لعبة الفلسفة البنيوية وما بعد الحداثة
الوعي أهمل الاهتمام به فترة طويلة بسبب انه موضوع فلسفي شائك متداخل مع جوانب وقضايا فلسفية عديدة. الاهم من كل هذا الاندفاع يتضح لنا حقيقة أن ليس كل فيلسوف كتب عن الوعي كان مصيبا تماما ولا كان غيره مخطئا بمطلق تفكير فلسفي ميتافيزيقي... الوعي قضية تناولتها الفلسفة عبر تاريخها الطويل مادة اشكالية جديرة بالاهتمام من بين متراكم كمي – نوعي على امتداد عصور طويلة. والوعي أهمل الاهتمام به فترة طويلة بسبب انه موضوع فلسفي شائك متداخل مع جوانب وقضايا فلسفية عديدة. الاهم من كل هذا الاندفاع يتضح لنا حقيقة أن ليس كل فيلسوف كتب عن الوعي كان مصيبا تماما ولا كان غيره مخطئا بمطلق تفكير فلسفي ميتافيزيقي. وكتبت عدة مقالات حول الوعي ضمنتها كتابي تحت الطبع (الوعي في الفلسفة المعاصرة) وتندرج مواضيعه بين تجاذب الصح والخطأ لدى مجموعة من فلاسفة اوربيين واميركان في اجرائي مقارنة متداخلة معاصرة بينهم زادت من اشكالية المبحث فلسفيا وتداخله الفيزيائي في منظومة العقل الادراكية. الوعي استقر فلسفيا في مقولة انه جوهر لا يدركه تعبير اللغة والفكر ولا يهتم العقل به موضوعا خارج منظومة العقل الادراكية بيولوجيا. الوعي مضمون إجرائي لمدركات العقل في حين يكون تعبير اللغة والفكر تجريد وصفي حيادي في علاقته بالمدركات. الوعي الفلسفي، الوعي بالفهم البيولوجي التجريدي المعرفي الملازم للإنسان هو قابلية تعبير العقل عن مدركاته معرفيا لا جدليا. بهذا يكون الوعي مرتكزا في التناول الفلسفي الذي نجده اليوم يشكل أحد اهم القضايا الفلسفية ليس في جنبة تعالقه بانتاجية تفكير العقل له، وجنبة تعبيره غير الحيادي مع مدركات العقل. اللغة والزمن والفكر والنفس والعواطف جميعها تجريدات تعبيرية محايدة في علاقة التأثير بمدركات العقل. ماعدا الوعي الذي تحكمه القصدية وتحكمه المداخلة غير الحيادية مع مواضيع الادراك بالتغيير وتبادل التأثير. لتكن البداية من فلسفة ديكارت فهو عمد في الكوجيتو انا افكر... ربط الوعي بالتفكير التجريدي الانفرادي في اثباته خاصية الوجود الانطولوجي للإنسان الذي لا تحده الابعاد المادية ولا تلجمه التوقف خاصية التفكير العقلي. خاصية الوعي هي خاصية التفكير العقلي الناجز الذي يعبر عنه تجريد اللغة. ترك ديكارت في اهتمامه تثبيت الوجود الواقعي للإنسان بوسيلة الاستشعار الفكري اللغوي انا افكر. ميزتان اخذهما عليه معظم الفلاسفة الوجودية وهما: يتوجب ان يكون للوعي موضوعا محددا يفكر به الانسان سواء اكان الموضوع واقعيا مستمدا من عالمنا الخارجي والطبيعة او خياليا مصدره الذاكرة. واولوية هذا التخطيء الفلسفي وجوب ان يكون للوعي قصدية يهدف تحقيقها. الوعي كما هو اللغة والفكر لا يعبران عن اللامعنى. كان اول من ادان ديكارت في عدم ربطه الوعي بالقصدية او الهدف المنشود هو برينتانو في طرحه مشروطية الوعي بالإدراك القصدي الذي يحدده تفكير العقل بعد استلام الحواس الانطباعات الذهنية عن الاشياء المدركة. بعدها انتقلت موضوعة الوعي القصدي الى هوسرل وسارتر وهيدجر وقائمة فلاسفة الوجودية التي تطول لعل ابرزهم اخيرا كان ميرلوبونتي. الوعي تجريد لغوي تعبيري عن فكر لا يدخل في علاقة جدلية مع الموضوع بل يدخل مع الموضوع بخاصية العقل انه يحاول معرفة الاشياء وليس ادراكها فقط، وثانيا يعطي العقل مقولاته التغييرية لذلك الشيء. فالعقل لا يعقل الاشياء لأثبات كيف يدركها بل في معرفة لماذا يدركها وما اهمية ذلك الادراك لتطوير كلا من الموضوع من جهة وتطوير تفكير العقل ذاته من جهة اخرى. هذه العلاقة الترابطية التجريدية المحايدة للعقل لا تدخل الوعي في علاقة جدلية مع موضوعات الادراك. بل يدخل الوعي معها بعلاقة تكامل معرفي في ضمان استقلالية كل واحد الموضوع والوعي به في اختلاف الماهية والصفات بينهما. اود قبل الدخول في تفاصيل موضوع المقالة التنويه الى مسالة متداخلة لها علاقة في مطاولة المعرفة الفلسفية في وعي الزمن. حيث كان هجوم فلاسفة ما بعد الحداثة وخاصة فلاسفة البنيوية من ليفي شتراوس، الى دي سوسير، ثم لاكان، فوكو، ريكور، دريدا، التوسير وغيرهم عديدون ركزوا على مسائل متنوعة لم يحيدوا عنها وكان سبب الاهتمام بهذه التنويعات الفلسفية انبثاق نظرية التحول اللغوي وفلسفة العقل واللغة ونظرية المعنى التي سادت منذ منتصف القرن العشرين مرتبة الفلسفة الاولى في تاريخ الفلسفة المعاصرة. كانت البنيوية بطروحاتها الفلسفية التجديدية هي الفلسفة التي كان لها اسبقية دفن الفلسفة الوجودية المحتضرة في طروحاتها المستهلكة نهاية الستينيات من القرن العشرين. المحاور الحديثة التي شغلت الفلسفة يتقدمهم أشهر فلاسفة العقل والوعي مثل ريتشارد روروتي وجون سيرل وسيلارز وغيرهم من الاميركان هم حملة راية تفلسف الوعي المعاصر والعقل بما حشر معظم الفلسفات الاوربية في زاويا التيه الذي فتحته الفلسفة البنيوية نقصد به التحول اللغوي وفلسفة اللغة وتخلت عنه البنيوية لاحقا لأنها لم تستطع اضافة تجديد يعتد الاخذ به في فلسفة التحول اللغوي وفلسفة اللغة واللسانيات ونظرية فائض المعنى فيما اطلق عليه تضليل تعبير اللغة السائدة في تاريخ الفلسفة. آفاق التجديد في فائض معنى اللغة وما يتعالق بها من امور استلم رايته الفلاسفة الاميركان باجتهاد تجديدي يناصرهم فيه بعض فلاسفة الوضعية التجريبية المنطقية التحليلية مثل بيرتراند راسل وفينجشتين وجورج مور ووايتهيد وكارناب من الإنكليز والنمساويين. ما جعل فلاسفة اوروبا الذين هاجروا الى اميركا بفتحهم مبحث فلسفة اللغة يعودون الاستقرار في فرنسا والمانيا ودول اوربية عديدة في محاولتهم رد الاعتبار لفسفاتهم التي خبا بريقها ومحاولة اعادة تلميع اسمائهم التي غيبّها الطوفان الفلسفي الامريكي التجديدي بعد عصور طويلة كانت فيها الفلسفة الامريكية تعتاش على الفلسفة العملانية التجريبية الوحيدة في تحقيق المنقعة تلك هي الفلسفة البراجماتية او الذرائعية. وجاء ما اكتسحها لدى فلاسفة معاصرين تجديدين اداروا ظهورهم للفلسفات الاوربية التي بقيت تراوح في تنقيبات اركيولوجيا حل مباحث تاريخ الفلسفة بتصحيح تاريخ اوهام اللغة. لا نجانب الصواب ان مقولات فلسفة البنيوية التي تماهت مع ما بعد الحداثة لا تراجع ولا انفكاك بينهما كانت في المرتكزات الفلسفية المتمردة المشتركة التالية: 1. لا مركزية للإنسان بالحياة والفلسفة ولا عصمة للعقل بالإدراك. 2. تاريخ الفلسفة في غالبيته تاريخ وهمي مصطنع زائف سببه مناقشة قضايا فلسفية لا اهمية لها. تقوم على مماحكات تنظيرية لا رصيد واقعي له اهميته. 3. اللغة وسيلة العقل الادراكية القاصرة التعبير عن مدركاته الحقيقية. هنا نتجاوز عبور غير مسوّغ لحقيقتين في اتهام الفلسفة بالقصور اولا تجاوز لا عصمة للعقل فيه أن يخطأ. ثانيا مصنع الحيوية الفكرية هي تضليل مكمّل تضليل الحواس للعقل في تمكينه دوام تداوله الوعي الخطأ. 4. اللغة والوعي جوهران يخطئان لكنهما ليسا جوهرين ادراكيين سببيين في تضليل العقل فتفكير قصور العقل يتقدمهما سابقا عليهما جوهري الفكر واللغة. 5. العقل يخطأ كما تخطأ الحواس وليس من هناك قيمة عقلية تطابق الاحساسات الواصلة للعقل من العالم الخارجي في تعبير اللغة مطابقة حقيقة المعنى في مدركات وموجودات الواقع.. الادراك المعرفي لا يطابق حقيقة الاشياء في استقلاليتها الموجودية. الادراك الاولي يماثل كينونة الشيء في تأكيد وجوده وليس معرفته. الحواس تدرك والعقل يعرف. 6. جميع السرديات الكبرى التي حكمت تاريخ الانسان في القرن العشرين مثل سرديات الايديولوجيا السياسية وغيرها كانت عقيمة راح ضحيتها الاف من القتلى في الحربين العالميتين والحروب العبثية الاخرى. وبمقدار ما كانت منجزات العلم عامل تقدم ورخاء نسبي للإنسان كانت تلك المنجزات نفسها من اهم وسائل تدمير الحياة السعيدة لشعوب الارض بلا تفريق وعدم مساواة وعدالة في نيل حقوق الانسان ومضامين حريته المسؤولة ضميريا وقانونيا واخلاقيا الى يومنا هذا. ............................................................................................ * الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.


شبكة النبأ
١٥-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- شبكة النبأ
راهنية الفلسفة في زمن ما بعد الحداثة
أليس هجوم ما بعد الحداثي على السرديات الشاملة أو المنتصرة للحداثة يُقدّم هو نفسه مجموعة من السرديات المنتصرة؟ إذا كانت الإجابة بنعم وهو كذلك بالتأكيد لأنه يرى سردياته الخاصة متفوقة على سرديات الآخرين الذين يختلف معهم، وخاصة الحداثيين، فإنه يُقدّم سردية منتصرة، وبالتالي يفشل في التفكير وفقًا لمعاييره الخاصة... مقدمة شاع استخدام مصطلح "ما بعد الحداثة" في العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث استُخدم في البداية على ما يبدو في الفنون البصرية، ثم انتشر إلى مجالات أخرى، بما في ذلك الفلسفة واللاهوت. ليس من السهل تقديم تعريف عام لما بعد الحداثة. ولعلّ نهاية القرن العشرين، بما اتسم به من غموض في مسار التقدم والتراجع، قد خلقت عقلية "نهاية القرن"، حيث رفض الماضي ورغبة عارمة في البدء من جديد. ومن المرجح أن تكون الآمال والمخاوف التي تولدت في مثل هذه الفترة مبالغًا فيها. فماهية قيمة الوعي الانساني في زمن اللايقين والهشاشة والانسيابية والوعي؟ وأي دور للفلسفة في حقبة مابعد الحداثة؟ الانتقال من الحداثة الى مابعدها نعيش حاليًا في فترة تاريخية تُسمى "ما بعد الحداثة". ما نُطلق عليه "ما بعد الحداثة" هو ببساطة ما حدث بعد الفترة التاريخية التي تُسمى "الحداثة". في التطور التاريخي للفلسفة الغربية، يُمكننا أن نشهد تحولات رئيسية مُختلفة. ما يُسمى عادةً بالفلسفة "الحديثة" بدأ مع ديكارت حوالي عام 1630. يُمثل ديكارت انحرافًا عن فلسفة العصور الوسطى القديمة التي هيمنت على الفكر الأوروبي. يتميز الفكر القروسطي بتمسكه بالمرجعيات: الكتاب المقدس وأفلاطون/أرسطو. مع تطور الإصلاح البروتستانتي (القرن السادس عشر)، تم تقويض الاعتماد على المرجعيات الدينية. ومع تطور الكنائس البروتستانتية المُختلفة وتنافسها على السلطة مع الكنيسة الكاثوليكية القديمة، أصبح من غير الواضح أي كنيسة قد يكون لديها فهم صحيح للمسيحية. ومع تقدم العلم أيضًا، انهار نموذج أرسطو القديم للعالم. أدت هذه المُشكلة إلى ابتعاد ديكارت والعديد من المُفكرين الأوروبيين الآخرين عن الاعتماد على المرجعيات الدينية والكلاسيكية. ديكارت "حديث" لأنه يرفض الاعتماد على المراجع القديمة، ويبني حججه على العقل البشري. وهكذا، فإن الحداثة هي إدراكٌ لحدود المراجع القديمة والاعتماد، في المقام الأول، على العقل البشري. ومع تطور هذه النظرة "الحديثة" للعالم، فإنها تشمل العصر التاريخي المسمى "عصر التنوير" بتركيزه على القيم "العالمية" لأوروبا وأمريكا الشمالية الليبرالية والعلمانية والديمقراطية. عادةً ما تضم قائمة كبار المفكرين "الحديثين" رجالًا مثل غاليليو وجون لوك وإيمانويل كانط وإسحاق نيوتن. بلغت طريقة التفكير "الحديثة" ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر بموجة تفاؤل عارمة؛ إذ اعتقد العالم الغربي أن طريقته في التفكير العقلاني العلمي تُحوّل العالم إلى فردوس من الحرية والتفوق التكنولوجي. لقد انهار هذا التفاؤل في النصف الأول من القرن العشرين. عملت الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير والحرب العالمية الثانية مجتمعة كأزمة مستمرة. وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كانت فرنسا قد تعرضت للدمار الاقتصادي، وانهارت الإمبراطوريتان العثمانية والنمساوية المجرية، وكانت ألمانيا في حالة خراب، وانهارت الإمبراطورية الروسية، وتوفي حوالي 15 إلى 20 مليون شخص في أوروبا نتيجة للحرب. ثم جاء الكساد الكبير (1929-1940) الذي كان أسوأ انهيار اقتصادي في التاريخ الحديث. لقد ترك عشرات الملايين من الناس بلا عمل أو دخل. ثم انتهت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) بحوالي 60 أو 70 مليون حالة وفاة. بلغت الأساليب العلمية العقلانية للعالم الغربي ذروتها بالقنابل الذرية القادرة على تدمير مدن بأكملها. كان استعداد العالم "الحديث" للانخراط في جنون "عقلاني" وعالي التقنية للتدمير الذاتي واضحًا بشكل مروع. بحلول عام 1945 كان العالم "الحديث" قد أصبح أطلالاً في مختلف أنحاء أوروبا ومعظم بقية أنحاء العالم. بدأ عالم ما بعد الحداثة بالتطور على أنقاض العصر الحديث. رأى بعض مفكري العصر الحديث المتأخر تصدعات في بنية العصر الحديث. رأى سورين كيركيغارد (1813-1855) أن عالمه أصبح بلا شخصية بشكل متزايد. رأى فريدريك نيتشه (1844-1900) أن العالم الحديث قد حوّل معظم أوروبا إلى مجرد "قطيع" فقد روحه المستقلة. على الرغم من هؤلاء المراقبين الأوائل المتحمسين، لم تبدأ ما بعد الحداثة إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ترك الإيمان "الحديث" بالقيم العالمية للتقدم والعلم والديمقراطية جزءًا كبيرًا من العالم في حالة خراب. أدت أزمة أخرى إلى انهيار العصر الحديث؛ حيث اكتشف علم القرن العشرين حدوده. طُرح مبدأ اللايقين لهايزنبرغ لأول مرة عام 1927. كان فيرنر هايزنبرغ من أوائل مطوري فيزياء الكم. أثبت أنه كلما زادت دقة تحديد موضع جسيم ذري، قلّت دقة معرفة زخمه، والعكس صحيح. لم يكن هذا العجز عن المعرفة نقصًا في القدرة البشرية؛ فلم تكن العلوم الإنسانية بحاجة إلى تحسين بأي شكل من الأشكال. رأى هايزنبرغ العالم كمكان تكون فيه بعض الأشياء، ببساطة، غير قابلة للمعرفة. تُعدّ مشكلة الفوتونات مثالًا آخر على كيف أن العالم نفسه يتجاوز العقل البشري. فالفوتونات هي في الواقع جسيمات ضوئية عند قياسها بطريقة ما، وفي الواقع موجات عند قياسها بطريقة أخرى. لذا، يبدو أن الهوية "الحقيقية" للضوء تعتمد على كيفية مراقبتنا بدلاً من حقيقة أساسية مستقرة. قوّضت سلسلة كاملة من الاكتشافات في الفيزياء خلال القرن العشرين اليقين العلمي للعالم "الحديث". كانت الفيزياء الأكثر تقدمًا في القرن العشرين تثبت أن طبيعة الواقع المطلق كانت في حد ذاتها غير مؤكدة. أثارت هذه المشكلة حفيظة ألبرت أينشتاين (1879-1955) الذي لم يقبل أبدًا تمامًا أن بعض الأشياء ستظل مجهولة إلى الأبد. بهذا المعنى، حاول أينشتاين الحفاظ على قيم العالم الحديث، لكن اتضح في النهاية أن للعقل البشري حدودًا. فماهي علامات مابعد الحداثة؟ وما صلتها بما سبقها من القوى التحديثية وهل ادت الى النكوص والماضوية ام الى السفر نحو المستقبل دون دليل؟ توجد العديد من العلامات الرئيسية لعالمنا "ما بعد الحداثي وهي: 1) رفض السرديات الكبرى، وما تلاه من إعادة هيكلة للعالم باعتباره 2) "تقليدًا" و"محاكاة" وانفصامًا في الشخصية، و3) تقويض علاقات السلطة التقليدية من خلال التفكيك، و4) ولادة الحركة النسوية. رفض السرديات الكبرى كان العالم "الحديث" يُقدّر العقلانية الكونية، إلى حدٍّ كبير، كمفتاحٍ للاكتمال الإنساني، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح المفهوم الغربي لـ"العقل" نفسه موضع تساؤل. غالبًا ما يرتبط التفكير ما بعد الحداثي برفض السرديات الكبرى مثل "التقدم" و"الحداثة" و"العقل". كان الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (1924-1998) من أوائل رواد ما بعد الحداثة. ادّعى ليوتار أن الثقافات تترابط، جزئيًا، لأن الناس داخل ثقافةٍ محددة يؤمنون بسرديةٍ سائدة. بالنسبة لمعظم مسيحيي العصور الوسطى، رُويت هذه السردية في الكتاب المقدس. بالنسبة لشعب اليونان القديمة، رُويت سرديتهم السائدة من خلال هوميروس في الإلياذة والأوديسة. بالنسبة لشعوب أوروبا وأمريكا الشمالية التي عاشت في نهاية القرن التاسع عشر، كان سردهم السائد هو العلم والديمقراطية والفكر العقلاني. حتى مُثُل "الشيوعية" الراديكالية في القرن التاسع عشر تُعدّ جزءًا من تلك الثقافة القديمة (الحديثة). كانت رواية كارل ماركس عن عمال العالم الجماعيين الذين أطاحوا بأسيادهم الرأسماليين وأعادوا بناء العالم كـ"جنة العمال" روايةً سائدةً في الاتحاد السوفيتي والصين الشيوعية؛ أما الشيوعية، فتُعتبر الآن مجرد واحدة من قصص قديمة عديدة أثبتت عدم فعاليتها. يُنظر إلى الروايات الكبرى من قِبَل ما بعد الحداثيين على أنها أساطير جماعية لم تكن ذات واقع؛ فقد كانت جذابةً ومُعتَقَدةً على نطاق واسع، لكنها في أحسن الأحوال كانت أوهامًا جماعية، وفي أسوأها فرضًا للسلطة لم يُلاحظ. بمجرد تحطيم الروايات السائدة، يدخل الناس في فترة من عدم اليقين الشديد، يتلمسون المعاني، وربما يُقدّرون "الأيام الخوالي" عندما كان لديهم رواية شاملة واحدة تُضفي على حياتهم معنى. ومع ذلك، فإن نهاية المعنى التقليدي تُتيح أيضًا للناس فرصةً لخلق معانٍ جديدة لأنفسهم. المحاكاة الساخرة والأفلام مع ما بعد الحداثة، نتخلى عن يقين السرد الواحد المتكامل والمُعطي معنى، وندخل في حقبة انفصلت عن اليقين، غارقة في معانٍ "متعددة، متضاربة، غير متجانسة، مجزأة، متناقضة، ومتذبذبة". إن فقدان السرد المسيطر يترك الناس منفصلين عن بعضهم البعض، معتمدين على قصص هوية أصغر حجمًا، مثل العرق أو المكانة الاجتماعية أو الهوايات، لا تجمع إلا مجموعات صغيرة من الناس. يرى فريدريك جيمسون (مواليد1934) عالمنا ما بعد الحداثي عالمًا تتفكك فيه الثقافات وتتفتت المجتمعات اللغوية؛ كل مهنة تزداد عزلة عن غيرها بسبب مصطلحاتها الخاصة ورموزها الخاصة للمعنى. نعجز عن رسم خريطة عالمنا وهو ينقسم إلى زمر وقبائل صغيرة لا تُحصى. كلمة "المحاكاة" تُستخدم غالبًا لوصف هذا العالم الجديد، وهي عمل إبداعي (مثل رواية أو فيلم) يُحاكي صراحةً أعمالًا سابقة لمبدعين آخرين. تعتمد هذه المحاكاة على مشاركة قرّائها/مشاهديها للمعرفة الثقافية للمؤلف. يتناول الفيلم الشهير "بليد رانر" (1982) فكرة "المحاكاة" ويوضحها. في الفيلم، تُعرف لغة الشوارع باسم "لغة المدينة"، ويقول بطل الفيلم (ديكارد): "تلك العبارات غير المفهومة التي كان يتحدث بها كانت لغة المدينة، كلامًا سطحيًا، مزيجًا من اليابانية والإسبانية والألمانية وما إلى ذلك". بهذه الطريقة، نشهد تفتت اللغة والمجتمعات إلى محاكاة. مثال آخر على هذه المحاكاة يظهر في بداية فيلم "الماتريكس" (1999). تمتلك بطلة الفيلم (نيو) نسخة من كتاب فلسفي مهم من عصر ما بعد الحداثة: "المحاكاة والمحاكاة" لجان بودريار (1981). يُخفي نيو نسخًا من ملفات حاسوبه غير المشروعة داخل هذا الكتاب. يقتبس مورفيوس من الكتاب عندما يتحدث إلى نيو عن "صحراء الواقع". لا يحتاج المرء إلى معرفة هذا الكتاب لتقدير الفيلم، ولكن بالنسبة للمشاهدين اليقظين، يعمل الكتاب ليس فقط كـ "محاكاة ساخرة" (اقتباس من مجال آخر) ولكن أيضًا كدليل على موضوع ما بعد الحداثة المهم الآخر في الفيلم: كيف نستبدل الواقع والمعنى بالرموز والإشارات بحيث يصبح الواقع محاكاة للواقع. في فيلم "الماتريكس"، يبيع نيو ملفات حاسوب غير مشروعة تعمل على منح الناس تجربة؛ تلك التجارب هي مجرد محاكاة لتجارب "حقيقية". ولكن بمجرد أن تصبح هذه المحاكاة حقيقية لدرجة أنه لا يمكن للمرء التمييز بين الواقع والمحاكاة، لم نعد مجرد "محاكاة"، بل أصبح لدينا "محاكاة". في فيلم "بليد رانر"، يُوظَّف البطل (ديكارد) لمطاردة مجموعة من "النسخ المتماثلة" التي خُلقت للقيام بأعمال خطيرة في الأجزاء الخارجية من نظامنا الشمسي. إلا أن مجموعة من النسخ المتماثلة هربت وعادت إلى لوس أنجلوس (مدينة الملائكة) لمواجهة صانعها: تيريل من شركة تيريل. هؤلاء النسخ المتماثلون قريبون جدًا من الواقع لدرجة أنه يكاد يكون من المستحيل تمييزهم عن البشر الحقيقيين. يُظهرون الذكاء والولاء والغضب والرحمة وجميع الصفات البشرية الأخرى، حتى أنهم يتفلسفون حول معنى حياتهم. وهكذا، فإن النسخ المتماثلة هي محاكاة حقيقية تمامًا كالبشر الذين صُممت لمحاكاتهم؛ إنها مجرد "نسخ متماثلة". في نهاية الفيلم، نجد أنفسنا أمام احتمال مُقلق بأن بطلنا (ديكارد) قد وقع في حب نسخة متماثلة، وربما يكون هو نفسه نسخة متماثلة. "Simulacra" هي كلمة لاتينية تعني التشابه أو الشبه. إنها تعني إعادة إنتاج بعض الأشياء الأصلية. ولكن في عالم ما بعد الحداثة، فإنها تكتسب معنى أكثر إزعاجًا. في مرحلة ما، تصبح نسخنا تشبه الأصول كثيرًا لدرجة أنه لم يعد من المنطقي التمييز بين الأصل ونسخته. يمكن أن تحل المحاكاة محل الأصل. غالبًا ما يشير مفكرو ما بعد الحداثة إلى حدائق ديزني الترفيهية كمثال على وظيفة الاستبدال هذه. يقول الكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو عن حدائق ديزني المختلفة "نحن لا نستمتع فقط بتقليد مثالي، بل نستمتع أيضًا بالاقتناع بأن التقليد قد وصل إلى ذروته وبعد ذلك سيكون الواقع دائمًا أدنى منه" (رحلات في الواقع المفرط). وبالتالي، لدينا التعليق في الفقرة السابقة لمورفيوس في الماتريكس (نقلاً عن جان بودريار) - "صحراء الواقع". يصبح الواقع غير مسلي أو جذاب بما فيه الكفاية بالنسبة لنا؛ نبحث عن واقعٍ خارق نقضي فيه أوقاتنا. "الشارع الرئيسي، الولايات المتحدة الأمريكية" من ديزني هو النسخة المثالية التي رسمها السيد والت ديزني لشارع رئيسي في أوائل القرن العشرين في بلدة متوسطة الحجم في الغرب الأوسط. لكن في ديزني لاند الوضع أفضل: لا جريمة، ولا خمور، ولا تشرّد، ولا رجال أعمال غير أمناء أو محتالين. مثال آخر قد يساعدنا على فهم "المحاكاة" هو التفكير في النقود. في الأصل، كانت البنوك تحتفظ بكميات كبيرة من الذهب والفضة لضمان قيمة نقودنا الورقية. وبحلول أواخر القرن العشرين، أصبحت هذه البنوك نفسها تحتفظ في الغالب بسجلات حاسوبية تعمل كبديل للذهب والفضة. عندما يحتاج الشخص إلى شراء شيء ما، كان بإمكانه الذهاب إلى البنك والحصول على نقود ورقية: نقدًا. أما اليوم، فيستخدم الكثيرون بطاقات الائتمان/الخصم (أو هواتفهم الذكية) لدفع ثمن مشترياتهم. غالبًا ما يتم تجاهل النقود الورقية والذهب تمامًا؛ وقد حاولت بعض المتاجر في أوروبا السماح بالمعاملات الإلكترونية فقط. وهكذا، فإن الشيفرة الحاسوبية التي كانت في الأصل "محاكاة" للنقود النقدية (والتي كانت في الأصل "محاكاة" للذهب والفضة) أصبحت اليوم بالنسبة للكثيرين أكثر واقعية من النقود. أصبحت بطاقات الخصم/الائتمان الخاصة بنا الآن نقودًا "حقيقية"؛ وأصبحت بطاقات الائتمان/الخصم الخاصة بنا "محاكاة". في فيلم "هي" (2013)، تعمل الشخصية الرئيسية (ثيودور تومبلي) في كتابة رسائل حب لأشخاص يشعرون بعدم قدرتهم على كتابة مثل هذه الرسائل بأنفسهم. يقع في حب نظام تشغيل حاسوبه (مثل سيري أو أليكسا). وبصفته كاتب رسائل حب يستخدمها أشخاص لا يعرفهم، يُظهر البطل أن غياب العلاقة الشخصية لا يلغي الحاجة إلى الحميمية. حتى رسالة حب يكتبها غريب ويهديها لغريب آخر لها معنى. ثم يتم دفع هذا التباعد في الحميمية إلى أبعد من ذلك في قصة حب بين رجل بشري (ثيودور) ونظام تشغيل حاسوبه. تتمكن مجموعة من أكواد الحاسوب المعقدة من محاكاة علاقة حميمة لدرجة أن علاقة ثيودور بحاسوبه هي علاقته الحميمة؛ بالنسبة لثيودور، فإن محاكاة حاسوبه للحميمية تشبه إلى حد كبير الحميمية الحقيقية لدرجة أنه يقع في حب حاسوبه (المُحاكي). ما بعد الحديث كشخص مصاب بالفصام من الأعراض الرئيسية لوجود ما بعد الحداثة (أولها تشكك فرنسوا ليوتار في السرديات الكبرى) تصور فريدريك جيمسون للطبيعة "الفصامية" للحياة المعاصرة. يستعير جيمسون من جاك لاكان (1901-1981) فكرة أن الفصام نوع من اضطراب اللغة. نعتمد على اللغة لفهم أفكار الماضي والحاضر والمستقبل. عندما يفشل الناس في دمج اللغة بشكل كامل في فهمهم للعالم، يُصابون "بالفصام"، فلا يعودون يعيشون في عالم يتميز فيه الماضي والحاضر والمستقبل. بل، كأشخاص "ما بعد حداثيين"، نعيش في عالم يستحيل فيه مثل هذه التمييزات الزمنية. بصفتنا "فصاميين"، نحن معزولون عن بعضنا البعض ومنقطعون عن المستقبل والماضي؛ لا يوجد سوى الحاضر المستمر. بدون إحساس مُصمم بالزمن، تُضعف هوية الإنسان الشخصية، لأن جزءًا كبيرًا من هذا الإحساس بالذات هو "المشروع" الذي تُشارك فيه الحياة البشرية. بافتقار المرء إلى الإحساس بالمستقبل، يعجز عن تحفيز نفسه نحو مستوى أعلى من الإنجاز. حكاية الشخص البالغ من العمر 32 عامًا، الذي التحق ببعض المقررات الجامعية لكنه لم يُكمل دراسته الجامعية، ويعمل في وظيفة بدوام جزئي بأجر زهيد، ويعيش في قبو والديه، تُشير إلى أن هذا "الفصام" ما بعد الحداثي قد يكون أكثر من مجرد مزحة؛ بل قد يكون أكثر واقعية مما نتمناه. فيلم "ميمنتو" (2000) له خطان زمنيان، أحدهما ملون والآخر بالأبيض والأسود. يتناوب الفيلم بينهما. على الرغم من أن الخط الزمني بالأبيض والأسود هو الأول تاريخيًا، بينما يقع الخط الزمني الملون للأحداث لاحقًا، إلا أن الأحداث الملونة مُرتبة بشكل معكوس. هذا يُحطم مفهوم التسلسل الزمني الواقعي. يتفق معظم نقاد السينما على أن مُشاهد الفيلم يُفترض أن يكون مُرتبًا في حيرة. هذا الارتباك الزمني علامة أخرى على عالم ما بعد الحداثة "المُصاب بالفصام". الرواية ما بعد الحداثية يُصنف الروائي الأمريكي ويليام س. بوروز (1914-1997) عادةً كأحد أكثر كُتّاب ما بعد الحداثة تأثيرًا. ويمكننا أن نرى أعماله "مُصابة بالفصام". ومن بين تقنيات الكتابة التي استخدمها أسلوب "التقطيع"، حيث كان يُقطع نصوص مكتوبة سابقًا على الورق إلى كلمات وعبارات، ثم يُعاد دمجها في جمل مختلفة تمامًا. في أعمال بوروز اللاحقة (1981-1987)، نرى مجموعة من القراصنة الأناركيين في القرن الثامن عشر يحاولون تحرير بنما، بينما يُحقق مُحقق من أواخر القرن العشرين في اختفاء صبي مراهق. يجد القارئ نفسه مُمزقًا بين قصتين مليئتين برعاة بقر مُثليين جنسيًا، وآلهة مصرية، وحشرات عملاقة متعفنة. في بعض الأحيان، تتغير هوية الشخصيات. الزمان والمكان والهويات مائعة؛ تُتجاهل حقائق الماضي المقبولة عمومًا. تُعدّ رواية ما بعد الحداثة نقدًا مُستمرًا لمفاهيم الواقعية ووجهات النظر الموضوعية. يُقوّض فهم الزمن نفسه كتطور خطي من الماضي إلى الحاضر، ثم إلى المستقبل. في رواية ما بعد الحداثة، تحدث الأشياء وتتصرف الشخصيات، لكن لا توجد علاقة سببية بين ما يحدث، ولا يوجد واقع ثابت أو زمني للشخصيات. في بعض الحالات، يُعلّق مؤلف رواية ما بعد الحداثة مُباشرةً على تلك الأحداث، وقد يُحاكي أفعال شخصياته/شخصياتها بسخرية. في رواية "امرأة المُلازم الفرنسي" لجون فاولز (1969)، غالبًا ما يُقحم المؤلف سرده مُتأثرًا بشعوره الخاص بعدم اليقين. يقول فاولز: "هذه القصة التي أرويها كلها خيال. لم تكن هذه الشخصيات موجودة قط خارج عقلي". لاحقًا، يُقحم المؤلف سرده مرة أخرى قائلًا: "ربما أعيش الآن في أحد المنازل التي أدخلتها إلى الرواية؛ ربما يكون تشارلز مُتنكّرًا. ربما تكون مُجرّد لعبة". دريدا والتفكيك يُعد جاك دريدا (1930-2004) أحد أهم مفكري ما بعد الحداثة. وقد وُصف تحليله للغة والسلطة بـ"التفكيك". وتتمثل عملية تحليله في إدراك أن المعاني تميل إلى التركيز على مجموعة من الرموز. تميل الثقافة الغربية إلى رؤية العالم كمجموعة من الأضداد الثنائية، حيث يُحتل مصطلحٌ مُميزٌّ المركز، ويُجبر المصطلح الآخر على لعب دورٍ هامشي. ويمكن إيجاد أمثلة على هذا النوع من التفكير في مجموعات المصطلحات التالية: الذكر/الأنثى، المسيحي/غير المسيحي، الأبيض/الأسود، العقل/العاطفة. وفي الثقافة الغربية "الحديثة"، يكون المصطلح الأول في كلٍّ من هذه المجموعات هو المصطلح المهيمن، بينما يُفرض المصطلح الثاني على دورٍ ثانوي. ويزعم دريدا أن الفكر الغربي، في أعمق تحليلاته، يتصرف بهذه الطريقة تمامًا. إن طريقة تحديد الامتيازات تُعطي الأفضلية لمجموعة من الناس على حساب أخرى، وقد سعى أصحاب الامتيازات تاريخيًا جاهدين للحفاظ على امتيازاتهم: الرجال على النساء، والمسيحيون على غير المسيحيين، والبيض على غير البيض. كما تسعى عملية دريدا التفكيكية إلى وضع هذه المصطلحات الثنائية في تفاعل مضطرب ومستمر. إنه لا يريد عكس بنية الهيمنة؛ فالتفكيكية عملية تكتيكية لنزع المركزية تُذكرنا بحقيقة الهيمنة، وفي الوقت نفسه تعمل على تقويض هرمية المصطلحات. تفكيك دريدا هو رفض جذري لأنواع التفكير التأسيسية. إحدى مزايا أنواع التفكير التأسيسية هي بنية الفكر الثابتة؛ فالناس "الحديثون" يفضلون العمل والعيش في مجتمع تكون فيه القواعد والأعراف ثابتة. إن زعزعة هذا الثبات قد يكون أمرًا مُقلقًا للغاية. ولكن إذا كان المرء عضوًا في مجموعة من الناس ثابتين في وضع تابع، فهناك ميزة في تقويض النظام الثابت الذي يضطهد المرء. كان دريدا نفسه عضوًا في مجموعتين من هذا القبيل؛ يهوديًا في ثقافة مسيحية، وشمال أفريقيًا في ثقافة تهيمن عليها أوروبا. وهكذا، رأى نفسه مهمّشًا بسبب نظام السلطة الثابت في حياته. لذلك يميل تاريخ الفكر الغربي إلى التأسيسية بشكل كبير: فبعض الأفكار تُوضع في مركزية، ويعتمد التفكير اللاحق عليها. إحدى الأفكار المركزية في هذا النظام هي المنطق نفسه. يُطلق دريدا على هذا الهوس الغربي بأنواع التفكير المنطقي "مركزية المنطق". منذ عهد أفلاطون وأرسطو (القرن الرابع قبل الميلاد) افترضت الفلسفة الغربية وجود الجواهر: شكل من أشكال الحقيقة العميقة التي تُشكّل أساسًا للمعتقدات الإنسانية الأخرى. لذا، يُجادل دريدا بأن الفلسفة الغربية كانت عملية تحديد هذه الجواهر العميقة ثم التحدث عنها مباشرةً. كلمات مثل الفكرة، والمادة، والسلطة، وروح العالم، والله، كانت ولا تزال بمثابة جواهر تأسيسية. كما يريد دريدا، أولًا وقبل كل شيء، أن يُثبت أن أيًا من هذه المصطلحات لا يمكن أن يوجد بمحض إرادته، بل إن كل مصطلح لا يُفهم إلا في سياق يتضمن نقيضه. لا يُفهم "المثالي" إلا في مقابل "الواقعي". ولا يُفهم مصطلح "المادة" إلا باعتباره الوجه الآخر لـ"العقل". ثانيًا، يريد دريدا تقويض أولوية المصطلح المهيمن ووضعه في تفاعل مستمر لا يستقر في علاقة جديدة من الهيمنة والخضوع. لما يكتب دريدا عن التعارض بين مصطلحي "الذكر" و"الأنثى" (الذي يُعطي في الفلسفة الغربية التقليدية امتيازًا للذكر على الأنثى)، فإنه لا يريد ببساطة عكس هذا الامتياز. إنه يُدرك أن الفكر الغربي يعمل إلى حد كبير كمجموعة من الفئات الثنائية التي تُعطي كل منها معنىً للأخرى؛ فالمصطلحات المنعزلة لا يمكن أن يكون لها معنى. حتى لو استخدمنا كلمة "ذكر" فقط في جملة ولم نذكر "أنثى"، فإن مصطلح "ذكر" نفسه يُفهم على أنه نقيض "أنثى"، تمامًا كما يُفهم مصطلح "أنثى" على أنه نقيض "ذكر". لا يعتقد دريدا أن هذه العلاقات الثنائية قابلة للإلغاء. ما يمكن إزالته، من خلال عملية تفكيك دريدا، هو سيطرة أحد المصطلحين على الآخر. ما بعد الحداثة ونقد السلطة يُعدّ هذا الاهتمام بالسلطة جزءًا من فلسفة ما بعد الحداثة. ومن بين انتقادات ما بعد الحداثة للفكر "الحديث" أن هذا الفكر خلّف للعالم إرثًا رهيبًا من السلطة من خلال التمييز الجنسي والعنصرية والهيمنة الاستعمارية. ففي ظل العقلية "الحديثة"، كان الرجال متفوقين على النساء، وهم بطبيعة الحال أكثر ملاءمة لأدوار السلطة؛ وكانت الأعراق البيضاء هي الأكثر عقلانية وعلمية، وبالتالي مُنحت سلطة مناسبة على الأعراق غير البيضاء؛ واعتُبرت دول أوروبا والولايات المتحدة، بصفتها المستفيد الرئيسي من النظرة العالمية العقلانية والعلمية، مُبررة في استعمار بقية العالم. يُعد جون لوك (1633-1704) أحد أكثر فلاسفة أوروبا "الحديثة" تأثيرًا. ويُذكر على أفضل وجه لإلهامه الأفكار التي كتبها توماس جيفرسون في إعلان الاستقلال الأمريكي: أن جميع البشر خلقوا متساوين. يقول لوك: "لفهم السلطة السياسية فهمًا صحيحًا... علينا أن نتأمل في الحالة التي يكون فيها جميع البشر بطبيعتهم، وهي حالة من الحرية التامة في تنظيم تصرفاتهم، والتصرف في ممتلكاتهم وأشخاصهم، كما يرون مناسبًا... دون طلب إذن، أو الاعتماد على إرادة أي شخص آخر" (المقالة الثانية، الفصل الثاني، القسم 4). ومع ذلك، كتب لوك أيضًا دستور مستعمرة كارولينا الأمريكية (1669)، الذي يضمن أن "لكل رجل حر في كارولينا سلطة ونفوذ مطلقين على عبيده الزنوج..." (المادة 110). بالإضافة إلى ذلك، امتلك لوك أسهمًا في الشركة الملكية الأفريقية، وبالتالي استفاد منها مباشرةً، وهي الشركة التي كانت تدير تجارة الرقيق في إنجلترا. لم ير لوك أي تعارض بين إصراره على حرية الأوروبيين البيض واستعباد الأفارقة السود. بما أن الأوروبيين البيض (مثله) كانوا، وفقًا لنظرته للعالم، مجتمعًا عقلانيًا وعلميًا للغاية، بينما لم يكن سكان أفريقيا كذلك، فقد رأى لوك أن للأوروبيين الحق في استعباد والسيطرة على من يفتقرون إلى الأدوات العقلانية والعلمية التي كانت جوهر التفوق الأوروبي. أيضًا، عندما يقول لوك "رجالًا"، فإنه يقصد الذكور البيض الأوروبيين مالكي العقارات، وليس الجنس البشري بأكمله، وبالتأكيد ليس النساء. في الواقع، وجد معظم الرجال الأوروبيين أنه من "الطبيعي" أن تكون لهم سلطة على النساء والأفارقة. لوك ليس من أتباع ما بعد الحداثة؛ إنه مفكر "حديث" يساعد الأوروبيين على التخلي عن نماذج السلطة القديمة. إنه يجادل ضد السلطة الأرستقراطية للملوك والدوقات والبارونات. لقد ساعدت حجج لوك السياسية في تحرير فئة من الذكور الأوروبيين مالكي الأراضي من السلطة التعسفية للأرستقراطيين. لكنها أيضًا أضفت الشرعية على سلطة الذكور الأوروبيين البيض بشكل عام. مهما بدت عبارة "جميع البشر خلقوا متساوين" مُرضيةً لأهل القرن الحادي والعشرين، فإن لوك (في القرن السابع عشر) لم يقصد بالتأكيد إشراك النساء أو الأفارقة في مفهومه للحرية. لقد همّشت كلماته النساء وغير الأوروبيين. لا يريد مفكرو ما بعد الحداثة التقليل من شأن أعمال لوك أو توماس جيفرسون؛ فقد عمل هذان الرجلان في الواقع على زيادة عدد الأشخاص الذين يستحقون أن يُؤخذوا على محمل الجد كأحرار وقادرين على تولي السلطة السياسية والاقتصادية. ساهمت كلماته في تحرير رجال الطبقة الوسطى، البيض، الأوروبيين من الهيمنة الأرستقراطية. لكن لا لوك ولا جيفرسون عملا من أجل التحرر الكامل لجميع الشعوب. بل بإصرارهما على شرعية السلطة السياسية للطبقة الوسطى، الذكور، البيض، الأوروبيين، استبعد لوك وجيفرسون النساء وغير الأوروبيين من هذا النوع من السلطة. ومن منظور ما بعد الحداثة، لم تكن الرؤية التحريرية للوك وجيفرسون "خاطئة" بقدر ما كانت غير مكتملة بشكل جذري. ولادة الحركة النسوية في زمن ما بعد الحداثة بما أن النسوية تُعدّ من تلك الانتقادات لتأثير السلطة في عالمنا المعاصر، فمن الطبيعي أن ننظر إلى الحركة النسوية كجزء من التحول الأوسع في النظرة إلى العالم، ألا وهو ما بعد الحداثة. ومن بين السرديات الكبرى التي تقوّضها النسوية التمييز الذي يبدو عالميًا بين الذكر والأنثى، والأدوار الجندرية التقليدية التي تعتمد على هذا التمييز. تجادل جوديث بتلر (مواليد 1956) بأنه لا ينبغي التمييز جذريًا بين "الجنس" و"الجندر". غالبًا ما يُنظر إلى الأول على أنه فئة بيولوجية غير قابلة للاختزال، بينما يُعترف على نطاق واسع بأن الثاني مبني اجتماعيًا. لكن الأشياء المادية (مثل جسد الإنسان) تُفهم من خلال استخدام اللغة، وبالتالي فهي (إلى حد ما على الأقل) خاضعة للبناء الاجتماعي. على الرغم من أن بتلر تعتبر كلمة "ما بعد الحداثة" غامضة جدًا بحيث لا تكون مفيدة، إلا أنها تُجادل بأن تبعية المرأة ليس لها سبب أو حل واحد؛ لا توجد سردية رئيسية لـ"المرأة" تحتاج إلى تجاوز. وكما رأينا، ليس من السهل تعريف مصطلح "ما بعد الحداثة". ومع ذلك، هناك مواضيع أو توجهات معينة تُعتبر عمومًا جزءًا من هذا المصطلح. تشترك النسوية وما بعد الحداثة في نقد مصادر السلطة التقليدية، وخاصة السلطة التي تُخضع جنسًا لآخر. لا تتمتع الذكورة والأنوثة بصفات عالمية؛ فهما مفهومان لا يكتسبان واقعًا إلا عندما يُدرَّسان للشباب الذين يتبنون هذه الأدوار ويبدأون في ممارستها. تُفرض هذه الأدوار في المجتمع؛ ويُعاقَب الناس أو يُكافأون بطرق مختلفة إما لفشلهم أو لنجاحهم في عيش الدور الذي منحهم إياه جنسهم البيولوجي على نحو سليم. تُسمي جوديث بتلر هذه الأدوار الجندرية المُعاشة "الأدائية". نحن كممثلين نُكلَّف بأدوار ذكورية أو أنثوية على أساس نوعهم البيولوجي، ويُتوقع منا أداء هذه الأدوار في حياتنا العامة والخاصة. ولكن كـ"أداءات"، لا توجد حقيقة عميقة لهذه الأدوار التي نؤديها. فكيف ادت هذه الملامح الاساسية الى دخول مابعد الحداثة في صراع مع الحداثة بغية احداث قطيعة معها والتخلص منها؟ هجوم مابعد الحداثة على الحداثة تعرض مفهوم الحداثة لهجوم فكري من قِبل مفكرين ضمن حركة فلسفية تُعرف باسم ما بعد الحداثة، والتي تطورت خلال القرن العشرين، ويمكن ملاحظتها اليوم في العلوم الإنسانية والاجتماعية. هنا يتم تحديد وجهات النظر المختلفة داخل هذه الحركات الفلسفية، وترصد اختلافاتها، وتختتم بانتقادات موجهة إلى فلسفة ما بعد الحداثة. لقد تلقت الحداثة مراجعات جدرية، حيث أصبحت العديد من ادعاءاتها محل شك وريبة. ولكن ما هي الحداثة التي تسعى تيارات ما بعد الحداثة ومفكروها إلى تقويضها؟ من المفيد النظر إلى الفلسفة من خلال ما تنفيه، ورغم أننا تناولناها سابقًا، إلا أنه يكفي الآن النظر إلى الحداثة في ضوء الأفكار الأساسية الخمسة التالية: [1] الإيمان بالحقيقة والمنهج و[2] الإيمان بالحالات النهائية و[3] الإيمان باستراتيجيات الكشف و[4] الإيمان بالتقدم والرفاه و[5] الإيمان بالحرية والاستقلالية. يرفض ما بعد الحداثيين هذه المفاهيم الأساسية الخمسة للحداثة. على سبيل المثال، يُعدّ ما نعرفه علمًا من أهم مكونات "الإيمان بالحقيقة والمنهج"، ولذلك واجه العلم معارضة شديدة من منظري ما بعد الحداثة. يدّعي العديد من هؤلاء المفكرين أن السياقات التاريخية وعلاقات القوة داخل المجتمعات قد أثرت على العلم (والعلماء) لدرجة أنه لم يعد من الممكن اعتباره نهجًا موضوعيًا ومحايدًا للوصول إلى الحقيقة. لقد قوّضت عوامل مثل اللغة والسلطة والمجتمع والسياق التاريخي وغيرها دور العقل والتجربة كحالات نهائية يُعتقد تقليديًا أنها أساس الحقيقة. يجادل ما بعد الحداثيين بأنه بدون أساس متين، لا يمكننا بالتأكيد أن نثق بالعلم ومناهجه ونماذجه التي تحاول تفسير آلية عمل العالم. وهذا يُشكك في أي ثقة قد يمتلكها المرء في عالم موضوعي موجود خارج نطاق العقل البشري "هناك" ينتظر من يكتشفه. بدلاً من ذلك، ما ندركه عن العالم ليس سوى بناء بشري متأثر باللغة والسلطة والمجتمع، إلخ. أما فيما يتعلق بالتقدم والحرية، فهما مُقوّضتان للغاية في ضوء رؤية ما بعد الحداثيين للذات التي لم تعد تُعتبر كيانات مستقرة وموحدة. فالشخص، من هذا المنظور، مُحدد اجتماعيًا بالكامل. ومما يُعزز هذه الشكوك أيضًا اللغة التي يرى ما بعد الحداثيين أنها تُمثل الواقع بشكل مباشر، بل تُمثل إشكالية. على سبيل المثال، جادل جان بودريار بأن إدراكنا للواقع مُقوّض في ظل عمليات المحاكاة اللانهائية التي تُنتجها وسائل الإعلام والتقنيات وصناعة الترفيه المتنامية. مع وضع هذه الانتقادات الأساسية في الاعتبار، نلجأ إلى عالم الاجتماع جيمس بيكفورد الذي يعرض أربع سمات مشتركة في فكر ما بعد الحداثة: [1] رفض اعتبار المعايير الوضعية والعقلانية والأدواتية المعايير الوحيدة أو الحصرية للمعرفة القيّمة. [2] الاستعداد لدمج رموز من قواعد أو أطر معانٍ متباينة، حتى على حساب الانفصال والانتقائية. [3] الاحتفاء بالعفوية والتجزئة والسطحية والسخرية والمرح. [4] الاستعداد للتخلي عن البحث عن أساطير أو سرديات أو أطر معرفية شاملة أو منتصرة. سبق أن أشرنا إلى هجوم ما بعد الحداثة على الحداثة، ولكن من المهم الاعتراف بأن القناعات التي تقوم عليها عقلية التنوير، ولا سيما الإيمان بالعقلانية والعقلانية والتقدم العلمي، تتناقض مع رفض ما بعد الحداثة قبول المعايير العقلانية والأدواتية. ومن الآمن أيضًا القول إن العديد من ما بعد الحداثيين لديهم مواقف سلبية تجاه العقل والمنطق والعلم، والتي يعتقدون أنها مدمرة في جوهرها. يشيرون إلى الفظائع التي ارتُكبت باسم العقل والعلم، مثل تحسين النسل في ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية، والتي تسببت في معاناة وألم وموت لا يُحصى. في تيارات فكر ما بعد الحداثة، لا سيما في مجال الدين حيث تُفضّل المزاجات الشاملة، بدلاً من المواقف الحصرية في مسائل الحقيقة والوحي، ليس من غير المألوف أن يقوم المؤيدون "بدمج رموز من مدونات أو أطر معانٍ متباينة" في أنظمة انتقائية. إن دمج رموز من مختلف وجهات النظر والتقاليد العالمية الشرقية والغربية لإنتاج "روحانيات" مبتكرة هو شكل من أشكال الانتقائية الدينية الخيالية. إن تناقض بعض هذه الرموز ليس بالأمر ذي الأهمية الكبيرة، لأن ما بعد الحداثيين ينظرون إلى المنطق على أنه مجرد بنى بشرية. ينخرط العديد من ما بعد الحداثيين في السعي إلى "التخلي عن البحث عن الأساطير أو السرديات أو أطر المعرفة الشاملة أو المنتصرة". يُعتقد أن السرديات والأطر الشاملة تُنتج وجهات نظر إقصائية تُبعد وتقمع وتُسكت من لا يقبلون هذه السرديات، التي يراها العديد من ما بعد الحداثيين غير متسامحة وبغيضة. يُنتج الوصول الحصري إلى الحقيقة ديناميكيات قوة يمكن للبعض استغلالها على حساب الآخرين. نظرة ما بعد الحداثة للأديان لما بعد الحداثة حضورٌ متجذّر في الدراسات الدينية". ولكن ما هي، وكيف يمكن أن تختلف عن الحداثة؟ إن اسم "ما بعد الحداثة" يوحي بـ"تطور من "الحداثة" إلى ما يليها - "ما بعد"". لقد تناول مُنظّرو الحداثة الكلاسيكيون الأوائل دراسة الدين بموضوعية، ساعيين في كثير من الأحيان إلى التحرر من أي تحيز ديني. اعتبر العديد من هؤلاء المُنظّرين أنفسهم خبراء في الأديان التي يُنظّرون عنها (كما هو الحال مع الطبيب الذي يُعالج المريض). كما كانت المناهج الحداثية خارجية عن دراسة الدين، مما يعني أن الظروف الذاتية للمُنظّر والباحث قد أُهملت من الاستنتاجات التي توصلوا إليها. يرفض علماء ما بعد الحداثة هذه الأفكار، ويُجادلون بأن الموضوعية مستحيلة، أو أنها لا تُمثّل معايير موضوعية للحقيقة والعقلانية والمنطق. كما يُشددون على ضرورة دراسة الدين وتفسيره من خلال ذاتيات المتدينين أنفسهم. وبالتالي، لا يعتبر مُنظّرو ما بعد الحداثة أنفسهم علماء أو مؤرخين، ولا يميلون إلى التمييز بين الانخراط في الدين ودراسته. إنهم يُريدون تجنب الانخراط في فحص علمي، ويعتقدون أن التعمق في وجهات النظر الذاتية للمؤمنين الدينيين سيُحسّن فهمهم للدين نفسه. يجد العديد من الباحثين قيمةً في مجالات انخراط علماء ما بعد الحداثة، وخاصةً في دراسة الدين. وعادةً ما تندرج أعمالهم ضمن ثلاثة مجالات واسعة، وإن كانت مترابطة: العرق، والجندر، وما بعد الاستعمار. ويتحدث المؤرخون بإسهاب عن شعبية ميشيل فوكو (1926-1984) لدى علماء ما بعد الحداثة الذين استلهموا وانجذبوا إلى أطروحته حول السلطة. ويعتقد هؤلاء المفكرون أن السلطة تُشكل خيطًا أساسيًا يربط بين النقاشات حول نظريات الدين، وما بعد الاستعمار، والعرق، والجندر. في دراسة الدين، قد يبدو أن منهج ما بعد الحداثة يُقوّض نظريات وأفكار العديد من المنظرين التاريخيين البارزين. إذا كانت المعرفة الموضوعية مستحيلة، فإنها تُلغي فكرة إميل دوركهايم القائلة بأن الدين واقع اجتماعي موضوعي، وأطروحة ماكس فيبر القائلة بأن البروتستانتية كانت موضوعيًا القوة الدافعة وراء صعود الرأسمالية التي جلبت الثروة إلى الغرب، واعتقاد سيغموند فرويد بأن الدين ينتمي موضوعيًا إلى عالم الوهم والاختلاق الناتج عن رغبة في تحقيق أمنية. وهكذا، فإن ما بعد الحداثة، بإنكارها للمعرفة الموضوعية، تُقوّض أي نظرية تدّعي أنها معرفة موضوعية، وتُلغي جوهريًا أي منهج علمي لدراسة الأديان. وقد وجّه منتقدو هذا النهج ما بعد الحداثي انتقادات هنا، جادلوا فيها بأنه إذا كانت المعرفة الموضوعية غير ممكنة و/أو في غياب معايير موضوعية للحقيقة والعقلانية والمنطق، فإن ذلك يُقوّض ادعاءات ما بعد الحداثة. إذا كان الأمر كذلك، فهذا يُشير إلى أن المنهج ما بعد الحداثي يرتكز على فلسفة تُفنّد ذاتها. على الرغم من هذه الانتقادات، يجد الباحثون قيمةً في منهج ما بعد الحداثة لدراسة الدين، إذ يُشكك في فكرة أن "الخارجين عن المألوف" (الباحثين والمنظرين الذين يُجرون البحث) يعرفون بالضرورة أكثر من "الداخلين" (المؤمنين أنفسهم الذين تُدرس دراساتهم). ولا يخفى على أحد أنه في سياق تطور الدراسات الدينية، وُجد العديد من المنظرين الذين كانت لغتهم وأفكارهم ونظرياتهم وتصنيفاتهم مُسيئةً للغاية، وغالبًا ما يكون ذلك من منظور "الخارجي الأعلم". وتميل مناهج ما بعد الحداثة إلى تحدي هذا التفوق وغرس شعورٍ بالتواضع. لكن لا يرى جميع المنظرين أن الحداثة وما بعد الحداثة متنافيتان تمامًا. فعلى سبيل المثال، يرى ألبريشت ويلمر في كتابه "استمرار الحداثة" (1991) وجود تواصل مستمر بين الحداثة وما بعد الحداثة. ويرى ويلمر أن ما بعد الحداثة شكلٌ من أشكال الحداثة أكثر حكمةً وتواضعًا، يتميز بتجارب الحرب والقومية والحركات الشمولية. إنها استمرارٌ لإرث عصر التنوير، ولكن مع قدرٍ أقل من الطوباوية والإيمان بالعلم. ويرى منظرون آخرون، كما سنشير في انتقادات ما بعد الحداثة، أن المجتمع الغربي ليس ما بعد حداثي، بل حداثي، أو على الأكثر، حداثي متأخر. للفكر ما بعد الحداثي صلةٌ بالدين. فمعظم الأديان والنصوص المقدسة تدّعي وجود حقيقةٍ مطلقةٍ عن الواقع من خلال تقديم سردياتٍ شاملة. تُقدّم هذه السرديات مفاهيم حول طبيعة الواقع، والعالم، والبشر، والمستقبل، والآخرة، والله، وغيرها، يعتقد أتباع هذا التيار أنها صحيحة تمامًا لا تقبل الشك. يرى العديد من أتباع ما بعد الحداثة في ذلك طرحًا لأساطير وسرديات ومعارف حصرية تُنفّر بعض الأشخاص. لذا، لا تُرفض ادعاءات العلماء فحسب، بل تُرفض أيضًا الادعاءات المطلقة العديدة التي تطرحها الأديان والنصوص المقدسة وأتباعها. لذا، فإن الادعاء بأن يسوع المسيح هو المخلص والوسيلة الوحيدة للخلاص من الخطيئة والاغتراب عن الله هو ادعاء عقائدي وغير مقبول، وخاصةً لدى أتباع ما بعد الحداثة الذين يُفضّلون روحانيةً أطلق عليها البعض "لاهوت الكافيتريا"، حيث يختار صاحبها ما يشاء من مختلف الأديان والفلسفات ويدمجها في نظام انتقائي ذاتي الصنع. كلما كان هذا النظام أكثر شمولًا، كان أفضل؛ وكلما كان أكثر حصرية، كان أسوأ. فما العمل في ظل تزعزع اليقينيات وتصدع الذات بسبب موجة مابعد الحداثة؟ تحديد المسؤوليات وعالم ما بعد الحقيقة نُشرت في القرن الحادي والعشرين مقالاتٌ عديدة تُحمّل ما بعد الحداثة مسؤولية جميع مشاكلنا: الركود الاقتصادي، والنسبية الثقافية، وتراجع الديمقراطية، والتفكك الاجتماعي، وضعف الأسرة، وتدهور الأخلاق، ووجود حقائق بديلة، وانتخاب دونالد ترامب. تطورت ما بعد الحداثة كنقدٍ للسلطة، لا كأداةٍ لتعزيز نفوذ الأقوياء أصلًا. عندما يدّعي صاحب السلطة السياسية أن آرائه الخاصة عن العالم "حقيقة بديلة"، وبالتالي لا تقل شرعيةً عن أي حقيقة أخرى، فإنه يستخدم أداةً قديمةً جدًا للتمسك بالسلطة؛ إنه يستخدم الشك، لا التفكيك ما بعد الحداثي. لطالما استخدم أصحاب السلطة أدوات الشك ضد ادعاءات الآخرين. في أوائل القرن السابع عشر، شككت الكنيسة (الكاثوليكية والبروتستانتية) في ادعاءات غاليليو بأن الأرض كوكبٌ يدور حول الشمس. في أواخر القرن العشرين، كان معظم العلماء متشككين في نموذج داروين التطوري. إن حقيقة أن فيزياء الكم ترى أن الأسس النهائية للعالم المادي غير قابلة للمعرفة في بعض الأحيان، لا تقوض الجدول الدوري لعلم الكيمياء أو أساسيات الرياضيات. ما بعد الحداثة ليس ما بعد الحقيقة. ما يميز النظرة العالمية لما بعد الحداثة عن الأشكال القديمة من الشك هو المحاولة الجذرية لفتح الحوار ليشمل أولئك الذين تم استبعادهم بشكل منهجي: النساء، والأشخاص الملونين، والفقراء، والأشخاص الذين يرفضون الهويات الجنسية القياسية. ومع ذلك، من خلال فتح هذا النقاش، يتم إفساح المجال للأقوياء بالفعل لفرض أجنداتهم الخاصة. عندما يستخدم الأشخاص الأقوياء أدوات متشككة للتقليل من شأن قوى ما بعد الحداثة التي تشكك في شرعيتهم، فإنهم ليسوا ما بعد حداثيين. إنهم يعملون ضمن أطر السلطة التقليدية (المتشككة الحديثة). من خلال محاولة إلقاء اللوم على ما بعد الحداثيين الذين يعملون على تقويض أصحاب السلطة التقليديين (أي الذكور، البيض، الأوروبيين الأميركيين، والمعياريين بين الجنسين)، فإن أصحاب السلطة المعاصرين يعملون على الحفاظ على سلطتهم ويلقون اللوم في المشاكل التي خلقوها بأنفسهم على أولئك الذين يفتقرون إلى السلطة؛ وهذا معروف في الدوائر السياسية باسم "إلقاء اللوم على الضحية". فلماذا يقاوم الكثيرون ما بعد الحداثة؟ دعونا نفهم ما بعد الحداثة على أنها لحظتنا الراهنة التي يسودها تشكيك كبير في السرديات الكبرى (مثل التقدم والمسيحية والرأسمالية)، وهي مزيج من الأساليب الفنية، حيث تكون محاكاتنا واقعية لدرجة أنها غالبًا ما تُقبل كواقع، ومحاولة مستمرة لتفكيك السلطة، وتراجع سلطة الرجال البيض. دعونا نفهم أيضًا أن الكثير من الناس (وخاصة، وليس حصرًا، كبار السن من الرجال البيض ذوي الامتيازات) يشعرون بعدم الارتياح في هذه البيئة، ويفتقدون "الأيام الخوالي" التي كانت فيها سلطتهم بلا منازع، وكان العالم الذي يعيشون فيه منطقيًا. لا ينبغي أن نستغرب أن العديد من هؤلاء الناس يقاومون بنشاط عصر ما بعد الحداثة الذي يعيشون فيه. فالأشخاص الذين كانوا، خلال العصر الحديث، يُعتبرون "عاديين" و"أقوياء بحق"، يُجبرون على العيش مع أشخاص لا يشبهونهم. عندما تُطرح مسألة الامتيازات التقليدية وتنهار الحدود بيننا، يفرض "الآخر" وجوده علينا. على الرجال التعامل مع النساء في السلطة؛ وعلى البيض التكيف مع وجود السود في السلطة؛ وعلى المغايرين جنسياً التعامل مع المتحوليين في أحيائهم وعائلاتهم. لا عجب أن يواجه الكثيرون صعوبات في التكيف مع هذا الواقع المتغير. انتقادات لما بعد الحداثة تعرضت ما بعد الحداثة لانتقادات كثيرة، ولم تكن حركة شعبية في الفلسفة وفي معظم مجالات الفكر الأخرى. وقد أشار البعض إلى حدودها الجغرافية والاجتماعية. ويزعم هؤلاء الباحثون أن ما بعد الحداثة ظاهرة نخبوية مقيدة بالطبقة الاجتماعية، وتنتشر بين الفنانين والصحفيين على سبيل المثال أكثر من المزارعين والمتقاعدين. ويرجع ذلك إلى أن منطق ما بعد الحداثة في معظم المجالات يخالف البديهة، ولا فائدة منه عمليًا. ووفقًا لستيف بروس، لا تزال المؤسسات الاجتماعية المهيمنة، مثل الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة، خاضعة لسيطرة العقلانية الحديثة أكثر من منطق ما بعد الحداثة. انه "ليس من قبيل الصدفة أن يكتسب مفهوم ما بعد الحداثة شعبية أكبر بين علماء اجتماع الثقافة والإعلام منه بين علماء الاجتماع الاقتصادي والسياسي". انه من الخطأ الادعاء بأن الغربيين يعيشون في ثقافة ما بعد الحداثة: "معظم الناس لا يعتقدون ولو للحظة أنه لا توجد معايير موضوعية للحقيقة والعقلانية والمنطق". على سبيل المثال، يميل معظم الناس إلى الاتفاق على أنه إذا أطلق شخص ما على شيء معين اسم دائرة، بينما هو في الواقع مربع، فقد أخطأ في استدلاله، وفقًا لقانون الهوية المنطقية. فالمربع دائمًا مربع، ولا يمكن في أي وقت اعتباره دائرة. يذهب البعض الى أن ثقافة ما بعد الحداثة مستحيلة وغير قابلة للعيش لأن فكرة أننا نعيش في ثقافة ما بعد الحداثة هي مجرد خرافة. علاوة على ذلك، فإن معظم الغربيين يتبنون منطق الحداثة في أمور أخرى، مثل تبني هوية ثابتة. "سواء كانت "الأنا" وشخصية الفرد، بالنسبة للبعض، قد "انفصلت" نظريًا أو انحلت، فإنها لا تزال جزءًا من معرفتنا اليومية العملية التي نؤديها كأفراد. وقد يكون الأمر كذلك بالنسبة للعديد من ما بعد الحداثيين عندما يغادرون القاعة أو يعودون إلى منازلهم من المقهى. بشكل عام، لدى الناس علاقة أقل إشكالية باللغة والذات مقارنةً بالعلم الأدبي. لا تزال العديد من المبررات الاجتماعية والتقنية للحداثة مفيدة في الحياة اليومية، بما في ذلك تصور الإنسان كمتحكم وسيد وخالق في علاقته بالطبيعة، وسعيه نحو الثروة والرفاهية. لذلك، إذا اضطررنا إلى استخدام تسميات محددة لعصرنا، فسنفضل الحداثة المتأخرة على ما بعد الحداثة". لقد وجّه الفلاسفة انتقادات لاذعة لما بعد الحداثة في أماكن أخرى، ولعلّ أشدّها فتكًا المواقف المُحبطة التي تبناها العديد من أنصارها. على سبيل المثال، أليس هجوم ما بعد الحداثي على السرديات الشاملة أو المنتصرة للحداثة يُقدّم هو نفسه مجموعة من السرديات المنتصرة؟ إذا كانت الإجابة بنعم (وهو كذلك بالتأكيد لأنه يرى سردياته الخاصة متفوقة على سرديات الآخرين الذين يختلف معهم، وخاصة الحداثيين)، فإنه يُقدّم سردية منتصرة، وبالتالي يفشل في التفكير وفقًا لمعاييره الخاصة. وكما يقول المثل الشهير: "لا يمكنك أن تجمع كعكتك وتأكلها أيضًا". أما إذا أجاب بالنفي، فإنه يفشل في تأكيد أن آراءه ما بعد الحداثية الخاصة متفوقة على آراء أي شخص آخر، بمن فيهم الحداثيون، وبالتالي لا أحد مُجبر عقلانيًا على تبنيها. علاوة على ذلك، أليست العديد من ادعاءات ما بعد الحداثية مُطلقة، وبالتالي حصرية؟ إذا كان ما بعد الحداثي مستعدًا لرفض المعرفة العلمية استنادًا إلى السياقات التاريخية وعلاقات القوة داخل المجتمعات، أفلا يكون ملزمًا أيضًا برفض آرائه ما بعد الحداثية التي تشكلت هي الأخرى في خضم السياق التاريخي وعلاقات القوة؟ إذا كانت اللغة مجرد مرجعية ذاتية وإشكالية لأنها لا تمثل الواقع بشكل مباشر، ألا ينطبق هذا أيضًا على كتابات ما بعد الحداثي نفسه (أي الأعمال المنشورة والكتب والمقالات الصحفية والعروض التقديمية، إلخ) وحججه التي تُنقل جميعها عبر اللغة. إذا لم تُشر اللغة إلى الواقع بشكل مباشر، فإلى ماذا تشير لغة ما بعد الحداثي، ولماذا يجب على أي شخص أن يأخذها على محمل الجد؟ خاتمة لهذه الأسباب وغيرها الكثير، لم تُقدم ثقافة ما بعد الحداثة بعد حجة مقنعة تجذب معظم الفلاسفة وعلماء الاجتماع. نقطة أخيرة مهمة يجب مراعاتها هي أن مجالات التركيز في زمن ما بعد الحداثة، والتي عادةً ما تدور حول علاقات القوة، والتي تشمل بالتالي موضوعي النوع الاجتماعي والاستعمار، ليست بطبيعتها مُحبطة أو غير عقلانية أو غير عملية كما هو الحال في معظم نظريات المعرفة في ما بعد الحداثة. ويمكن القول بثقة إن الباحثين العاملين في هذه المجالات يُنتجون أعمالًا قيّمة تسعى إلى إدراج وجهات نظر وأصوات مهملة تاريخيًا في النقاش الفكري. هناك محاولات في مجال دراساتي الدينية، على سبيل المثال، لإدراج أصوات مهمشة سابقًا، مثل أصوات النساء، والأفراد غير التقليديين، والعبيد، والأشخاص الذين خضعوا لسيطرة الأنظمة الاستعمارية، وغيرهم من الفئات المهمشة، وما إلى ذلك. فماهو الزمن الذي يأتي بعد مابعد الحداثة؟ هل هو زمن الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية وفق نموذج الأنثربوسين؟


Independent عربية
٢٧-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- Independent عربية
عن مشروعية الإيمان في زمن الشك
في زمن تسوده العلمانية والنزعات الفردية، ويصعد فيه نجم العقل والتفسير العلمي للوجود، يطرح كتاب "فلسفة الاعتقاد الديني"، الصادر حديثاً عن دار "استفهام" للنشر للدكتور المغربي المهدي مستقيم، سؤالاً ملحاً: ما مشروعية الإيمان في زمن تراجعت المؤسسات الدينية وانفلتت القيم والسرديات الكبرى؟ في هذا العمل، يواصل الكاتب ما بدأه في مؤلفاته السابقة من حفر في قضايا العقل والوجود والمعنى، ويقدم رحلة فكرية أنيقة، تتوزع على فصول متسلسلة من تعريف الاعتقاد الديني وطبيعته، إلى علاقته بالفلسفة، من نقد أدلة وجود الله إلى تشخيص أزمة المعنى في العالم المعاصر. في الفصل الأول، يوضح الكاتب أن الاعتقاد الديني ليس انفعالاً عابراً أو قناعة ذهنية، بل هو "نمط وجودي" يحمل معنى حياتياً للإنسان، يشكل رؤيته للعالم وموقعه فيه. وفي مواطن عديدة، يتأمل الكاتب في الفرق بين الإيمان كمنظومة معرفية والإيمان كحاجة وجودية داخلية. في فصل العلاقة بين الفلسفة والدين، يفند الدكتور مستقيم الرؤية السائدة التي تنظر إلى الفلسفة كنقيض للإيمان، ويراها بدل ذلك شريكاً نقدياً وأداة لتوسيع الفهم للدين. ويعرض مواقف فلاسفة مثل ديكارت وكانط وباسكال، لتفكيك الخيط الرفيع بين التسليم والتساؤل. الاعتقاد الديني: من الفكرة إلى الوجود يضع الدكتور مستقيم سؤال "ما هو الاعتقاد؟" في مقدمة كتابه، لا باعتباره تمهيداً مفاهيمياً فحسب، بل كمدخل ضروري لفهم طبيعة الإيمان الديني. والاعتقاد، من منظور الكاتب، ليس مجرد رأي نقتنع به ولا هو مجرد شعور ذاتي خافت، بل حال مركبة يتداخل فيها العقلي والوجداني، ويتجسد فيها الإنسان بكامل وجوده. وفي مقاربة دقيقة، يميز المؤلف بين الاعتقاد بمعناه العام، كنوع من التمثل أو الميل نحو فكرة ما، والاعتقاد الديني الذي لا يكتفي بمخاطبة الذهن، بل يصوغ رؤية متكاملة للعالم، ولما بعد العالم. يقول "الاعتقاد الديني ليس مجرد فكرة نقتنع بها، بل هو رؤية للعالم تحدد تموضعنا فيه وتضفي عليه معنى". من هنا يتضح أن الإيمان، بحسب هذا التصور، ليس مجرد ترف فكري، بل حاجة وجودية تنبع من عمق الكينونة الإنسانية، وتشكل أفقاً يعاش أكثر مما يستدل عليه. ويدافع الكاتب عن فكرة أن الاعتقاد الديني لا ينبغي أن يختزل في ثنائية "البرهان أو الوهم"، بل يجب التعامل معه كأحد أنماط الاستجابة الوجودية لأسئلة المعنى والحدود والمطلق. وهو بهذا يقارب الإيمان كحال أنطولوجية بقدر ما هي معرفية، تعيد تعريف الإنسان في علاقته بنفسه وبالآخر وبالعالم. بين العقل والوحي: عندما تتبادل الفلسفة والدين الأدوار في الفصل الثاني من كتابه، يتوقف الدكتور مستقيم عند العلاقة الملتبسة والخصبة في آن، بين الفلسفة والدين. علاقة طالما صورت في الوعي العام كصراع مزمن، لكن المؤلف يسعى إلى تفكيك هذه الثنائية الجاهزة، مشيراً إلى أن الفلسفة لم تكن دوماً خصماً للدين، بل كثيراً ما كانت مرآته النقدية، أو حتى أداته لتجديد خطابه. "ليست الفلسفة بالضرورة معادية للدين، بل قد تكون أداة لفهمه وتبريره، متى ما كف كل طرف عن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة"، يقول الدكتور مستقيم في عبارة تختصر روح هذا الفصل. وهنا، لا يسعى الكاتب إلى التوفيق الساذج بين العقل والوحي، بل إلى كشف الطابع الديناميكي لهذا التوتر، بما هو جزء من مغامرة الفكر الإنساني ذاته. ينطلق الكاتب مستقيم من تحليل تاريخي ونظري، يتتبع فيه كيف تموضعت الفلسفة تجاه الدين عبر العصور، مستعرضاً مواقف فلاسفة كبار مثل ديكارت الذي راهن على "الوضوح والتميز" في إثبات وجود الله، وباسكال الذي أقام إيمانه على رهانه الشهير بين القلب والعقل، وكانط الذي فصل بين الدين الأخلاقي والدين التاريخي، مؤكداً أن "العقل لا يستطيع إثبات وجود الله، لكنه يحتاج إلى الإيمان به ليكتمل القانون الأخلاقي". ما يميز هذا الفصل ليس فقط تنوع المراجع، بل الطريقة التي تُحلل بها هذه المواقف في ضوء سؤال مركزي: هل يستطيع العقل أن يبرر الإيمان، من دون أن يلغيه أو يخنقه؟ وهل الدين، من جهته، قادر على الإصغاء للفلسفة من دون أن يشعر بالتهديد؟ في هذا السياق، يتحول الصراع بين الفلسفة والدين إلى شكل من "الجدل الخلاق"، إذ يسائل كل منهما الآخر ويغنيه. فالدين يذكر الفلسفة بحدودها أمام المطلق، فيما تنبه الفلسفة الدين إلى خطر الجمود والادعاء المطلق للمعرفة. وما بين التحذير والتذكير، تتشكل مساحة حوار هي الأهم، لا لأنها تحسم الخلاف، بل لأنها تؤكد استمراريته وضرورته. الإيمان كبحث عن المعنى: قراءة وجودية في معالجة الكاتب لمفهوم الاعتقاد الديني، تتضح جذور وجودية عميقة، تجعل من الإيمان ليس مجرد مسألة معرفية، بل استجابة أنطولوجية لقلق المعنى. هنا، يستحضر السياق الفلسفي شخصيات مثل الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد، الذي رأى في الإيمان قفزة وجودية تتجاوز حدود العقل، تتأسس في لحظة مفارقة تقف فيها الذات أمام الله بكل توترها وضعفها ورجائها. بالنسبة لـكيركيغارد، لا يكون الإيمان ثمرة برهان، بل تجربة ذاتية مشبعة بالقلق والخطر، لا تهرب من الشك بل تسكنه وتتجاوره. ومن الضفة الكاثوليكية، يلتقي هذا التصور بما يقدمه غابرييل مارسيل الذي لا يرى في الإيمان مجرد تصديق، بل تواطؤاً داخلياً مع الوجود. ويميز مارسيل بين "المشكلة" و"السر"، بين ما يمكن حله بالعقل، وما لا يمكن الإحاطة به إلا بالانخراط فيه. والإيمان بالنسبة إليه ينتمي إلى منطقة "السر"، لأنه لا يفهم من الخارج بل يُعاش. وفي هذا الأفق، يصبح الاعتقاد استجابة لحاجة الإنسان إلى أن يكون "مقبولاً" و"مسموعاً"، أن يشعر بأن وجوده ليس عبثاً، بل يحمل مغزى متجاوزاً. ومن خلال ربطه بين الاعتقاد والمعنى، يلتقي الدكتور مستقيم مع هذه النزعة الوجودية من دون أن يصرح بها صراحة. فحين يرفض اختزال الإيمان في "البرهان أو الوهم"، ويؤكد طبيعته المعنوية والكينونية، فإنه يضعنا في قلب المعضلة الوجودية التي عالجها هؤلاء المفكرون: هل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا أفق متعال؟ وما الذي يتبقى من الإنسان إذا اختفى الإيمان من خريطته الوجودية؟ الإنسان في مواجهة الفراغ: أزمة المعنى بعد غياب المقدس في فصل عميق من الكتاب، يتوقف الدكتور مستقيم عند أزمة المعنى في العالم المعاصر، رابطاً بين تراجع حضور الدين في الحياة العامة وفراغ روحي لم تنجح الفلسفة ولا الفنون في ملئه. فمع الانسحاب التدريجي للمقدس، وبخاصة منذ القرن الـ19، حاولت الفلسفة أن تقدم بديلاً عقلانياً، وحاول الفن والأدب أن يصوغا معنى جديداً للوجود. غير أن هذه البدائل، وإن أغنت التجربة الإنسانية، لم تستطع أن تسد الحاجة الوجودية العميقة إلى المطلق والانتماء. يتساءل الكاتب، ضمنياً، ما إذا كانت محاولة إحلال الفلسفة أو الفن محل الدين كُتب لها الفشل منذ البداية، لأنهما يشتغلان على مستويات مختلفة من الوعي والكينونة. وهل يستطيع الإنسان أن يعيش بلا "مقدس"؟ يبدو أن الجواب الذي يلمح إليه الكاتب هو النفي، لا استناداً إلى نوستالجيا دينية، بل انطلاقاً من فهم عميق لحاجة الإنسان إلى ما يتجاوز اليومي والعابر. ويقول الكاتب في جملة كاشفة "حين غاب الإله لم يمت السؤال عنه، بل عاد بأقنعة جديدة: في الروحانية، وفي الحداثات الزائفة، وفي الذات المتورمة". هنا، يكشف الدكتور مستقيم كيف أن السؤال عن الله لم يمح من الوعي المعاصر، بل أعاد تشكيل نفسه في صور جديدة، أحياناً مشوهة أو سطحية، لكنها تعبر عن نفس الجوع الروحي العتيق. في مجتمع يطفح بالخيارات ويغيب عنه اليقين، تتحول الذات المعاصرة إلى ساحة صراع، تطلب المعنى لكنها لا تجد له مقاماً ثابتاً. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) تأمل هادئ في زمن مضطرب ما يميز أسلوب الدكتور مستقيم في هذا العمل هو قدرته على المزج بين الدقة الفلسفية والعمق التأملي. لا يكتفي بالتنظير المفاهيمي، بل يضفي على كتابته نبرة أدبية هادئة تجعل من القراءة تجربة فكرية وإنسانية في آن. لغته متوازنة، تتجنب التعقيد المفرط من دون أن تفرط في المعنى، وتجنح إلى الإيضاح من دون السقوط في التبسيط. لا يبحث عن بهرجة الأسلوب، بل عن صفاء الفكرة. وفي زمن تتنازعه العدمية والنسبية والعلمنة الجافة، يأتي هذا الكتاب كـصوت متزن يبحث عن مسار ثالث بين الإقصاء والتقديس. لا يدعو إلى العودة الساذجة للدين، ولا إلى إقصائه من المشهد، بل إلى تأمل حضاري في موقعه ودلالاته في الوعي المعاصر. ومن خلال تتبعه لتطور الاعتقاد الديني، وللعلاقة المعقدة بين العقل والإيمان، يفتح لنا أفقاً لفهم أعمق للتحولات التي طرأت على تجربة الإيمان في العصر الحديث. في ظل صعود الروحانيات الفردية، وتراجع الأطر التقليدية للانتماء، يظل هذا العمل وثيق الصلة بقلق الإنسان اليوم، ويعيد بعناية طرح السؤال الذي لا يزال يؤرقنا، على رغم كل الضجيج: لماذا نؤمن؟


بوابة الفجر
٢٣-٠٤-٢٠٢٥
- علوم
- بوابة الفجر
خالد الجندي: "السؤال هو سر الحضارة.. وعدم السؤال مصيبة"
أكد الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، أن السؤال هو مفتاح العلم وسبب الحضارة الإنسانية، مشيرًا إلى أن الله عز وجل استخدم تعبير "ليتساءلوا بينهم" في القرآن الكريم ليُرسي ثقافة التفكير والتدبر، لا التلقي الأعمى. وقال عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، خلال حلقة خاصة بعنوان "حوار الأجيال"، ببرنامج "لعلهم يفقهون"، المذاع على قناة "dmc"، اليوم الأربعاء: "التشكيك أصل إننا نطلع بفكرة أو بمعتقد، لازم إننا نشكّ ونتساءل الأول، وبعد كده ندخل في حوار، وبعد كده نطلع بأفكار.. الشك مطلوب، وبيسمّوه الشك العلمي، اللي كانوا بيدّعوا إن ديكارت هو اللي رسّخ هذا المبدأ، واللي قامت عليه النهضة الصناعية والعلمية في أوروبا، والتخلّص من عصور الظلام". وأكد: "السؤال هو مفتاح العلم، وهو سرّ الحضارة الإنسانية، السؤال هو السبب اللي بيخلّي الإنسان يبدع ويفكّر، وده الفرق بين الذكي وغير الذكي، إن الذكي بيسأل، وغير الذكي بيصدّق ويسلّم وخلاص، ودى كده مصيبة". وتابع: "أنا هضرب لكم مثال نقدر نفهمه مع بعض. انت شوفت حاجة وقعت على الأرض قبل كده؟ أكيد، طب التفاحة وقعت ليه؟ وليه وقعت لتحت مش لفوق؟ وإيه سرعة وقوعها؟ وإيه القانون اللي بينظّم ده؟ هو ده السؤال اللي وصل بنيوتن لقوانين الفيزياء اللي قامت عليها كل العلوم، هو كان ممكن ياكلها وخلاص. بس إحنا لما بتقع تفاحة قدامنا، ناكلها ونطلب غيرها".