logo
"الصحوة" رواية فرنسية تفضح فن التلاعب بالبشر

"الصحوة" رواية فرنسية تفضح فن التلاعب بالبشر

Independent عربيةمنذ 8 ساعات

تتخذ أحداث رواية "الصحوة" مساراً أفقياً لا تنكسر أفقيته، سوى في نهاية الرواية، في نقطة تتحول فيها الأحداث عن مجراها، وأن عدد الشخوص يقتصر على شخصين اثنين، ينخرطان في حوار غير مباشر، عن بعد، يتمحور حول مسائل فكرية راهنة.
وبمعزل عن إشكالية التجنيس، يطرح غونيل في "الصحوة" مسألة على قدر كبير من الأهمية تتعلق بدور الشركات المتعددة الجنسيات في تشكيل العالم وفق مصالحها، وتحويل الإنسان، بالتواطؤ مع السياسيين الذين هم صنيعة هذه الشركات في معظم الأحيان، إلى مجرد رمز مشفر ومزود برقاقة، ورقم مسجل في وزارتي الداخلية والمالية. وبذلك، ينهض غونيل بدور المثقف الذي يختصره نعوم تشومسكي بالبوح بالحقيقة وكشف الأكاذيب، ويقوم بالتكليفين اللذين يصنعان عظمة مهنة الكتابة، على رأي ألبير كامو، وهما "خدمة الحقيقة وخدمة الحرية"، وهو ما يصرح به الكاتب في تذييل الرواية. من هنا، تشكل "الصحوة" صرخة في وجه الشركات المتعددة الجنسيات وصنائعها من السياسيين، من جهة، وانتصاراً لحرية الإنسان، من جهة ثانية.
التلاعب بالحشود
الرواية بالترجمة العربية (دار نوفل)
ذلك أن الشركات المتعددة الجنسيات، كما نرى في المتن الروائي، تتلاعب بالحشود، وتتحكم بغرائز الناس ودوافعهم، وتستغل مخاوفهم، لتسويق منتجاتها. وهي تقتفي في ذلك أثر "لجنة المعلومات العامة" التي شكلها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عام 1917، بهدف إقناع الرأي العام الأميركي بالمشاركة في الحرب العالمية الأولى، وضمت صحافيين ورسامين ومؤثرين محترفين، وكان بينهم إدوارد بيرنيز ابن شقيق فرويد، فوجهت اهتمامها إلى إثارة الغرائز والمشاعر من خلال: اختلاق الأخبار وابتداع القصص وإنتاج الأفلام وطباعة الملصقات وصياغة النشرات اليومية. وهنا، تزخر الرواية بمعلومات شكلت مقدمات تاريخية لنشوء أساليب التلاعب بالحشود التي اتخذتها الشركات الكبرى سلاحاً لتحقيق أهدافها، فراحت تفتعل الأزمات حول العالم، وتجترح الحلول لها، في محاولة منها لمراكمة مزيد من رأس المال وافتتاح الجديد من الأسواق لمنتجاتها، ضاربة عُرض الحائط بصحة الإنسان وسلامة البيئة وحرمة الطبيعة. وذلك، بالتواطؤ مع سياسيين صنَّعتهم، وأسندت إليهم الأدوار القذرة المغلفة بنوازع إنسانية، فأخذوا يسنون القوانين ويصدرون القرارات التي تحقق إستراتيجياتها، مما ترتب عليه تجريد الإنسان من حريته، وتلويث البيئة، وانتهاك حرمة الطبيعة.
في هذا السياق، تقول الرواية إن رئيس دولة غربية لا تصرح باسمها لكنها تلمح إلى أنها الولايات المتحدة الأميركية، يقوم بإعلان خمسة حروب متعاقبة على الموت، متمظهراً بحوادث السير وداء السكري والدفع نقداً والاحتباس الحراري والعنف. وتسخر الشركات الكبرى وسائل الإعلام وتتواصل لتضخيم أخطار هذه التمظهرات، بهدف دفع الناس إلى التهافت على الحلول التي تجترحها، والإقبال على استهلاك منتجاتها، مما يجعل من الإنسان مجرد حيوان مستهلك، تتفرد بتشكيله وفق مصالحها، ودائماً باسم الحرص على مصلحته. ففي مقابل التهويل بالأخطار التي تشكلها حوادث السير ورفد الرأي العام بإحصاءات يومية مبالغ فيها بعدد الضحايا، تخترع الشركات سيارات ذاتية القيادة وتغري الناس باقتنائها. وفي مقابل التهويل بأخطار داء السكري، تخترع المستشعر الحيوي لزرعه في جسم الإنسان وإشعاره بمعدلات السكر فيه. وفي مقابل التهويل بأخطار الدفع نقداً، تخترع البطاقة المصرفية. وفي مقابل التهويل بالاحتباس الحراري، تحدد الحد الأقصى لاستهلاك الطاقة وتفرض الضرائب على المخالفين. وفي مقابل التهويل بالعنف، يتم اختراع الكاميرات التي ترصد ملامح الوجوه وتتنبأ سابقاً بالدوافع الجرمية قبل ارتكاب الجرائم. وتتمكن بالترغيب والترهيب من فرض منتجاتها المختلفة على الناس.
منظوران روائيان
الروائي الفرنسي لوران غونل وروايته (فناك)
إزاء هذه الوقائع، ثمة منظوران روائيان اثنان مختلفان تنطوي عليهما "الصحوة". والمفارق أنهما يصدران عن صديقين، لكل منها مكان إقامته ورؤيته ونمط عيشه المختلف عن الآخر، ومع هذا، يتواصلان ويتبادلان الرأي ويمثلان خطين متوازيين، خلال مجرى الأحداث، حتى إذا ما شارفت الرواية نهايتها، يتقاطعان بأن يتبنى أحدهما وجهة نظر الآخر، وتتحقق الصحوة بعد فوات الأوان.
المنظور الأول يؤيد الإجراءات المتخذة في مواجهة الأخطار المفتعلة، ويعبر عنه المهندس الشاب توم الذي يقيم في الولايات المتحدة، ويلتزم سائر الحلول التي تجترحها الشركات الكبرى، معتبراً أنها تصب في مصلحة الإنسان، فيقتني السيارة الذاتية الدفع، ويدس المستشعر الحيوي في جسده، ويستخدم البطاقة المصرفية، ويستخدم الأدوات الكهربائية المحددة الطاقة، ولا يمانع في تعريض وجهه لكاميرات المراقبة. ويترتب على التزامه هذه الحلول ترديه في الاكتئاب والوحدة واعتزال الناس والشعور أنه موضع مراقبة وافتقاد الحرية. ومع هذا، يصر على صحة خياراته.
المنظور الثاني يشكك في خلفيات الشركات المضمرة وأهدافها المعلنة، ويعبر عنه الشاب اليوناني كريستوس أناستوبولوس المقيم في أثينا الذي درس الفلسفة في المهجر. ويرى في الإجراءات المتخذة في مواجهة الأخطار المفتعلة تنويعاً على الأساليب الشيوعية للاستجواب القسري التي وردت في تقرير العالم الاجتماعي الألماني ألبرت د. بيدرمان، ويطبقها على صديقه توم الراضخ لها، وينحاز إلى الطبيعة والحرية، ويصدر عن الحكمة التاوية في مقاربة الأشياء، معتبراً أن الإمبراطوريات المصطنعة خلافاً للطبيعة تحمل في صميمها بذور انهيارها.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذان المنظوران ينتظمهما مسلكان سرديان، يتعاقبان بالتناوب في النص، ويتوازيان في الرأي، ويختلفان في المنطلقات والنتائج، ويتقاطعان، في الشكل، مرات عدة، من خلال الهاتف والرسائل الإلكترونية. ويتقاطعان، في المضمون، مرة واحدة، في نهاية الرواية، حين يقتنع توم بوجهة نظر صديقه كريستوس، ويترجم قناعته المستجدة إلى فعل هرب من المدينة إلى الطبيعة، وينسى أنه مراقب من خلال الرقاقة المغروسة في جسده والكاميرات التي تترصده، فيتم القبض عليه وإعادته إلى "القفص"، وبذلك، تأتي خطوته بعد فوات الأوان، في إشارة روائية إلى سيطرة الشركات على مسارات الناس ومصائرهم. على أن هذا التحول ما كان له أن يتحقق لولا مراسلات دورية تشتمل على قوائم بأدوات التلاعب بالحشود يرسلها كريستوس إلى صديقه توم، ولولا اكتشافه أن منتجات الشركات قابلة للاختراق ومضرة بالإنسان، فالسيارات الذكية يتحكم بها قراصنة وتودي بسائقيها إلى الموت، والمستشعر الحيوي يرسل بيانات الجسم الصحية إلى جهة معينة، والبطاقة المصرفية تتحول إلى جاسوس على حاملها، والكاميرا تقرأ نوايا الإنسان، مما يجعله يشعر بالاختناق حتى إذا ما خرج في طلب الحرية يكون قد فات الأوان. وهنا ينفتح الفضاء الروائي على الخيال العلمي بعدما انطلق من فضاء تاريخي.
في نهاية الرواية، يهرب توم من كل الأماكن التي تحاصره إلى فضاء طبيعي في حديقة المدينة، فيتعقبه شرطيان ويلقيان القبض عليه في إشارة روائية إلى تأخره في الهرب، والعاقبة الوخيمة للرضوخ لأحكام الشركات، والمآل القاتم لنمط العيش الذي يمثله. وفي المقابل، نرى كريستوس في غمرة السعادة والحرية وهو يفترش رمل الشطآن في واجهة بحرية بعدما "التقى أصدقاءه في العشية، فأكلوا وشربوا وطربوا في مطعم من مطاعم الواجهة البحرية، ثم طاب له قضاء الليل بأسره في الهواء الطلق" (ص 129)، في إشارة روائية إلى أهمية العلاقات الاجتماعية ونمط العيش المختار في تحقيق سعادة الإنسان. وهكذا، ينتصر المنظور الطبيعي على المصطنع، والنقد على الرضوخ، والحرية على القيود، والإنسان على الشركات المتعددة الجنسيات.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"الصحوة" رواية فرنسية تفضح فن التلاعب بالبشر
"الصحوة" رواية فرنسية تفضح فن التلاعب بالبشر

Independent عربية

timeمنذ 8 ساعات

  • Independent عربية

"الصحوة" رواية فرنسية تفضح فن التلاعب بالبشر

تتخذ أحداث رواية "الصحوة" مساراً أفقياً لا تنكسر أفقيته، سوى في نهاية الرواية، في نقطة تتحول فيها الأحداث عن مجراها، وأن عدد الشخوص يقتصر على شخصين اثنين، ينخرطان في حوار غير مباشر، عن بعد، يتمحور حول مسائل فكرية راهنة. وبمعزل عن إشكالية التجنيس، يطرح غونيل في "الصحوة" مسألة على قدر كبير من الأهمية تتعلق بدور الشركات المتعددة الجنسيات في تشكيل العالم وفق مصالحها، وتحويل الإنسان، بالتواطؤ مع السياسيين الذين هم صنيعة هذه الشركات في معظم الأحيان، إلى مجرد رمز مشفر ومزود برقاقة، ورقم مسجل في وزارتي الداخلية والمالية. وبذلك، ينهض غونيل بدور المثقف الذي يختصره نعوم تشومسكي بالبوح بالحقيقة وكشف الأكاذيب، ويقوم بالتكليفين اللذين يصنعان عظمة مهنة الكتابة، على رأي ألبير كامو، وهما "خدمة الحقيقة وخدمة الحرية"، وهو ما يصرح به الكاتب في تذييل الرواية. من هنا، تشكل "الصحوة" صرخة في وجه الشركات المتعددة الجنسيات وصنائعها من السياسيين، من جهة، وانتصاراً لحرية الإنسان، من جهة ثانية. التلاعب بالحشود الرواية بالترجمة العربية (دار نوفل) ذلك أن الشركات المتعددة الجنسيات، كما نرى في المتن الروائي، تتلاعب بالحشود، وتتحكم بغرائز الناس ودوافعهم، وتستغل مخاوفهم، لتسويق منتجاتها. وهي تقتفي في ذلك أثر "لجنة المعلومات العامة" التي شكلها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عام 1917، بهدف إقناع الرأي العام الأميركي بالمشاركة في الحرب العالمية الأولى، وضمت صحافيين ورسامين ومؤثرين محترفين، وكان بينهم إدوارد بيرنيز ابن شقيق فرويد، فوجهت اهتمامها إلى إثارة الغرائز والمشاعر من خلال: اختلاق الأخبار وابتداع القصص وإنتاج الأفلام وطباعة الملصقات وصياغة النشرات اليومية. وهنا، تزخر الرواية بمعلومات شكلت مقدمات تاريخية لنشوء أساليب التلاعب بالحشود التي اتخذتها الشركات الكبرى سلاحاً لتحقيق أهدافها، فراحت تفتعل الأزمات حول العالم، وتجترح الحلول لها، في محاولة منها لمراكمة مزيد من رأس المال وافتتاح الجديد من الأسواق لمنتجاتها، ضاربة عُرض الحائط بصحة الإنسان وسلامة البيئة وحرمة الطبيعة. وذلك، بالتواطؤ مع سياسيين صنَّعتهم، وأسندت إليهم الأدوار القذرة المغلفة بنوازع إنسانية، فأخذوا يسنون القوانين ويصدرون القرارات التي تحقق إستراتيجياتها، مما ترتب عليه تجريد الإنسان من حريته، وتلويث البيئة، وانتهاك حرمة الطبيعة. في هذا السياق، تقول الرواية إن رئيس دولة غربية لا تصرح باسمها لكنها تلمح إلى أنها الولايات المتحدة الأميركية، يقوم بإعلان خمسة حروب متعاقبة على الموت، متمظهراً بحوادث السير وداء السكري والدفع نقداً والاحتباس الحراري والعنف. وتسخر الشركات الكبرى وسائل الإعلام وتتواصل لتضخيم أخطار هذه التمظهرات، بهدف دفع الناس إلى التهافت على الحلول التي تجترحها، والإقبال على استهلاك منتجاتها، مما يجعل من الإنسان مجرد حيوان مستهلك، تتفرد بتشكيله وفق مصالحها، ودائماً باسم الحرص على مصلحته. ففي مقابل التهويل بالأخطار التي تشكلها حوادث السير ورفد الرأي العام بإحصاءات يومية مبالغ فيها بعدد الضحايا، تخترع الشركات سيارات ذاتية القيادة وتغري الناس باقتنائها. وفي مقابل التهويل بأخطار داء السكري، تخترع المستشعر الحيوي لزرعه في جسم الإنسان وإشعاره بمعدلات السكر فيه. وفي مقابل التهويل بأخطار الدفع نقداً، تخترع البطاقة المصرفية. وفي مقابل التهويل بالاحتباس الحراري، تحدد الحد الأقصى لاستهلاك الطاقة وتفرض الضرائب على المخالفين. وفي مقابل التهويل بالعنف، يتم اختراع الكاميرات التي ترصد ملامح الوجوه وتتنبأ سابقاً بالدوافع الجرمية قبل ارتكاب الجرائم. وتتمكن بالترغيب والترهيب من فرض منتجاتها المختلفة على الناس. منظوران روائيان الروائي الفرنسي لوران غونل وروايته (فناك) إزاء هذه الوقائع، ثمة منظوران روائيان اثنان مختلفان تنطوي عليهما "الصحوة". والمفارق أنهما يصدران عن صديقين، لكل منها مكان إقامته ورؤيته ونمط عيشه المختلف عن الآخر، ومع هذا، يتواصلان ويتبادلان الرأي ويمثلان خطين متوازيين، خلال مجرى الأحداث، حتى إذا ما شارفت الرواية نهايتها، يتقاطعان بأن يتبنى أحدهما وجهة نظر الآخر، وتتحقق الصحوة بعد فوات الأوان. المنظور الأول يؤيد الإجراءات المتخذة في مواجهة الأخطار المفتعلة، ويعبر عنه المهندس الشاب توم الذي يقيم في الولايات المتحدة، ويلتزم سائر الحلول التي تجترحها الشركات الكبرى، معتبراً أنها تصب في مصلحة الإنسان، فيقتني السيارة الذاتية الدفع، ويدس المستشعر الحيوي في جسده، ويستخدم البطاقة المصرفية، ويستخدم الأدوات الكهربائية المحددة الطاقة، ولا يمانع في تعريض وجهه لكاميرات المراقبة. ويترتب على التزامه هذه الحلول ترديه في الاكتئاب والوحدة واعتزال الناس والشعور أنه موضع مراقبة وافتقاد الحرية. ومع هذا، يصر على صحة خياراته. المنظور الثاني يشكك في خلفيات الشركات المضمرة وأهدافها المعلنة، ويعبر عنه الشاب اليوناني كريستوس أناستوبولوس المقيم في أثينا الذي درس الفلسفة في المهجر. ويرى في الإجراءات المتخذة في مواجهة الأخطار المفتعلة تنويعاً على الأساليب الشيوعية للاستجواب القسري التي وردت في تقرير العالم الاجتماعي الألماني ألبرت د. بيدرمان، ويطبقها على صديقه توم الراضخ لها، وينحاز إلى الطبيعة والحرية، ويصدر عن الحكمة التاوية في مقاربة الأشياء، معتبراً أن الإمبراطوريات المصطنعة خلافاً للطبيعة تحمل في صميمها بذور انهيارها. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) هذان المنظوران ينتظمهما مسلكان سرديان، يتعاقبان بالتناوب في النص، ويتوازيان في الرأي، ويختلفان في المنطلقات والنتائج، ويتقاطعان، في الشكل، مرات عدة، من خلال الهاتف والرسائل الإلكترونية. ويتقاطعان، في المضمون، مرة واحدة، في نهاية الرواية، حين يقتنع توم بوجهة نظر صديقه كريستوس، ويترجم قناعته المستجدة إلى فعل هرب من المدينة إلى الطبيعة، وينسى أنه مراقب من خلال الرقاقة المغروسة في جسده والكاميرات التي تترصده، فيتم القبض عليه وإعادته إلى "القفص"، وبذلك، تأتي خطوته بعد فوات الأوان، في إشارة روائية إلى سيطرة الشركات على مسارات الناس ومصائرهم. على أن هذا التحول ما كان له أن يتحقق لولا مراسلات دورية تشتمل على قوائم بأدوات التلاعب بالحشود يرسلها كريستوس إلى صديقه توم، ولولا اكتشافه أن منتجات الشركات قابلة للاختراق ومضرة بالإنسان، فالسيارات الذكية يتحكم بها قراصنة وتودي بسائقيها إلى الموت، والمستشعر الحيوي يرسل بيانات الجسم الصحية إلى جهة معينة، والبطاقة المصرفية تتحول إلى جاسوس على حاملها، والكاميرا تقرأ نوايا الإنسان، مما يجعله يشعر بالاختناق حتى إذا ما خرج في طلب الحرية يكون قد فات الأوان. وهنا ينفتح الفضاء الروائي على الخيال العلمي بعدما انطلق من فضاء تاريخي. في نهاية الرواية، يهرب توم من كل الأماكن التي تحاصره إلى فضاء طبيعي في حديقة المدينة، فيتعقبه شرطيان ويلقيان القبض عليه في إشارة روائية إلى تأخره في الهرب، والعاقبة الوخيمة للرضوخ لأحكام الشركات، والمآل القاتم لنمط العيش الذي يمثله. وفي المقابل، نرى كريستوس في غمرة السعادة والحرية وهو يفترش رمل الشطآن في واجهة بحرية بعدما "التقى أصدقاءه في العشية، فأكلوا وشربوا وطربوا في مطعم من مطاعم الواجهة البحرية، ثم طاب له قضاء الليل بأسره في الهواء الطلق" (ص 129)، في إشارة روائية إلى أهمية العلاقات الاجتماعية ونمط العيش المختار في تحقيق سعادة الإنسان. وهكذا، ينتصر المنظور الطبيعي على المصطنع، والنقد على الرضوخ، والحرية على القيود، والإنسان على الشركات المتعددة الجنسيات.

من هانيبال إلى الأسد... حروب أسقطت قادة
من هانيبال إلى الأسد... حروب أسقطت قادة

Independent عربية

timeمنذ 9 ساعات

  • Independent عربية

من هانيبال إلى الأسد... حروب أسقطت قادة

تزخر سجلات التاريخ بوقائع سقوط قادة جروا بلادهم إلى حروب خاسرة، وبين الحسابات الخاطئة واختلال موازين القوى دفع كثير من الزعماء ثمن قراراتهم، إما بالعزل أو النفي، وأحياناً القتل. تبدو المعادلة بسيطة على مدى التاريخ، فالصراعات التي كثيراً ما حملت طابع الثأر الشخصي أو السعي وراء مجد تاريخي، لا تكون عواقبها خسارة معركة، بل قد تؤدي إلى نهاية حكم أسرة أو سقوط دولة بأكملها. سم الخلاص منذ ما قبل الميلاد بدأت حكاية الحروب التي أسقطت القادة، إذ تشير كتب التاريخ إلى معركة زاما عام 202 قبل الميلاد، التي كانت بداية النهاية لأسطورة قائد قرطاجة هانيبال، أحد أشجع وأشهر القادة العسكريين تاريخياً. في خضم الحرب البونيقية الثانية بين الرومان والقرطاجيين، خاض الجيشان كثيراً من المعارك لحسم السيطرة على البحر المتوسط، لكن المحطة الأهم كانت في منطقة زاما الواقعة حالياً في تونس، حيث كانت الغلبة لقائد الجيش الروماني سكيبيو، الذي لقب بالأفريقي لاحقاً. وبعد هزيمة قرطاجة، نفي هانيبال إلى سوريا، حيث واصل مناوأة روما، وحين وجد أنه مهدد بالتسليم لأعدائه الرومان اختار الانتحار بتجرع السم. السم أيضاً كان السبيل للفرار من تبعات الهزيمة في حرب أخرى دارت رحاها قبل الميلاد في حوض البحر المتوسط، فمعركة أكتيوم البحرية عام 31 قبل الميلاد كانت حداً فاصلاً في الصراع على حكم روما بعد يوليوس قيصر، بين أوكتافيوس (الإمبراطور أغسطس قيصر لاحقاً) ومن ناحية أخرى مارك أنطوني الذي تحالف مع كليوباترا ملكة مصر، اللذين كتبا في التاريخ كقصة حب انتهت بصورة مأسوية. استعانة ماركوس أنطونيوس بكليوباترا، التي كان لها ولد من يوليوس قيصر، فتح باب حرب أهلية طاحنة في الدولة الرومانية، دارت رحاها على جانبي البحر المتوسط، إلى أن حسمت قوات أوكتافيوس معركة أكتيوم، لتبدأ مرحلة تقهقر حلف كليوباترا ومارك أنطوني، حيث تفرق جنودهما وتراجعا إلى الإسكندرية عاصمة الدولة البطلمية. وبعدما أشاع أوكتافيوس أن كليوباترا قتلت، انتحر مارك أنطوني، ثم لحقت ملكة مصر بحبيبها وحليفها منتحرة أيضاً بعد عام من معركة أكتيوم. حروب عالمية كثيراً ما قضت الصراعات في القارة الأوروبية على زعامات كانت توصف بالحنكة السياسية والبراعة العسكرية، ولا أدل على ذلك من إمبراطور فرنسا، نابليون بونابرت، الذي أخضع أجزاء واسعة من أوروبا ووصلت جيوشه إلى مصر. لكن معركة واترلو وضعت حداً لأسطورته العسكرية، بعدما هزم أمام تحالف من جيوش المقاطعات التي تشكل ألمانيا حالياً والجيشين الهولندي والبريطاني، في منطقة تقع في بلجيكا حالياً، وذلك بعد إعلان القوى الأوروبية الكبرى أن نابليون شخص خارج عن القانون، وسعت إلى عزله عن حكم فرنسا. بعد المعركة وتدمير معظم جيشه، حاول نابليون الهرب إلا أن القوات البريطانية ألقت القبض عليه، وقضى بقية عمره منفياً في جزيرة هيلانة بالمحيط الأطلسي. كانت تلك المعارك الأوروبية صورة مصغرة لحرب عالمية شكلت طابعاً للنصف الأول من القرن الـ20، وكغيرها قضت على زعماء. في روسيا كان تسجيل خسائر بشرية كبيرة في الحرب العالمية الأولى مقدمة لعزل القيصر نيكولاس الثاني عام 1917، على يد الثوار البلاشفة، الذين لم يكتفوا بإنهاء إمبراطورية عائلة رومانوف التي استمرت 300 عام، وتحديد إقامة القيصر وعائلته، لكنهم أيضاً قرروا إعدامهم بالرصاص في يوليو (تموز) 1918. ومثلما كتب الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر فصل البداية في الحرب العالمية الثانية، فإن تلك الحرب سطرت نهايته، فبعد ستة أعوام أرهقت العالم، وأزهقت أرواح الملايين، وغيرت خرائط العالم، حسمت قوات الحلفاء الحرب لصالحها، وأصبحت على بعد مئات الأمتار من مقر مستشارية الرايخ، لم يجد هتلر بداً من الانتحار بالرصاص خوفاً من الوقوع في يد أعدائه ومواجهة الإعدام كحليفه السابق حاكم إيطاليا، بينيتو موسوليني. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) عزل سياسي الموت لم يكن النتيجة الحتمية لكل الزعماء الذين فقدوا مكانتهم نتيجة الحروب، فالعواقب غالباً كانت سياسية في العقود الأخيرة. في إسرائيل، دفعت رئيسة الوزراء غولدا مائير حياتها السياسية ضريبة للهزيمة في حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، التي شنتها مصر وسوريا. وأعقب الحرب اتهامات لحكومة غولدا مائير بضعف الاستعداد للحرب التي مكنت الجيش المصري من عبور قناة السويس إلى سيناء للمرة الأولى منذ هزيمة يونيو (حزيران) 1967. وعلى رغم تبرئة لجنة أغرانات للتحقيق في وقائع الحرب مائير من المسؤولية المباشرة عن الحرب، فإن خسارة حزبها الغالبية في انتخابات ديسمبر (كانون الأول) 1973، دفعها إلى الاستقالة في أبريل (نيسان) 1974، كما تنازلت لاحقاً عن مقعدها في الكنيست (البرلمان) ليكون ذلك نهاية مسيرة أحد أشهر الساسة في تاريخ إسرائيل. المغامرات العسكرية وأطماع التوسع كثيراً ما تؤدي إلى القضاء على أصحابها، وهو ما حدث مع الرئيس العراقي صدام حسين حين غزا الكويت في أغسطس (آب) 1990، في إعادة لمزاعم عراقية قديمة بتبعية الكويت تاريخياً لسيادة العراق. لكن الرئيس العراقي قوبل بإدانة عربية ودولية شديدة، تحولت إلى تحرك لتشكيل تحالف عسكري لتحرير الكويت قادته الولايات المتحدة وشاركت به مصر والسعودية وسوريا إلى جانب دول أخرى. ومثلت تلك الحرب بداية لضعف نظام صدام، إذ دفعت بغداد عشرات المليارات من الدولارات تعويضاً للمتضررين من الحرب، وفرضت عقوبات دولية تسببت في تقويض الاقتصاد وتراجع مستوى الصحة والتعليم بالعراق، وأدى ذلك لاحقاً إلى هزيمة سريعة لصدام من الولايات المتحدة التي احتلت العراق عام 2003، منهية حكم صدام حسين الذي ألقي القبض عليه وأُعدم عام 2006. مغامرة أخرى سبقت حرب الكويت لكن بعيداً من المنطقة العربية، تحديداً في الأرجنتين، حين أعلن رئيس الأرجنتين ليوبولدو غالتييري الحرب على بريطانيا عام 1982 لتحرير جزر فوكلاند الواقعة جنوب الدولة الواقعة بأميركا الجنوبية، لكن نتيجة الحرب كانت متوقعة بالنظر إلى الفارق الكبير بين إمكانات جيشي البلدين، إذ استسلمت الأرجنتين بعد 74 يوماً فقط من المعارك، وهو ما أدى إلى اضطراب داخل المجلس العسكري الحاكم أدى إلى عزل غالتييري بعد أيام من سيطرة بريطانيا على ستانلي عاصمة جزر فوكلاند. اعتقل غالتييري في العام التالي بعد عودة الديمقراطية للأرجنتين، ووجهت له تهم انتهاك حقوق الإنسان، ثم عفي عنه عام 1989، وعاش حياة متواضعة حتى وجهت له اتهامات أخرى عام 2002 إلا أنه توفي في مطلع عام 2003. سقوط تدريجي أحياناً لا يقع الزعماء ضحية معركة واحدة في الحرب، بل تضمحل سلطاتهم تدريجاً عبر أعوام مثلما حدث مع الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الذي واجه ثورة شعبية بدأت عام 2011 ضمن الربيع العربي الذي اجتاح المنطقة. وبعد مواجهة الثورة بالسلاح ظهرت انشقاقات في الجيش السوري، إضافة إلى ظهور عناصر مسلحة كردية وأخرى مدعومة من تركيا وثالثة ذات خلفية إسلامية سيطرت على أجزاء واسعة من البلاد، بينما ظل الأسد رئيساً لـ"بعض سوريا" بفضل الدعم العسكري من حليفيه روسيا وإيران. غير أن 14 عاماً من الصراع والعقوبات الاقتصادية دفعت إلى سقوط مفاجئ لم يستغرق سوى أيام لنظام دمشق أمام قوات معارضة تسمى "هيئة تحرير الشام" ارتبطت في السابق بتنظيم "القاعدة" المصنف إرهابياً، ولم يجد بشار أمامه سوى الهرب إلى الحليف موسكو، لينتهي عصر آل الأسد الذي استمر 54 عاماً في سوريا، بينما حل رئيس هيئة تحرير الشام أحمد الشرع محله في قصر الشعب في دمشق.

الشرق الأوسط، المنطقة الملعونة
الشرق الأوسط، المنطقة الملعونة

صحيفة مكة

timeمنذ 17 ساعات

  • صحيفة مكة

الشرق الأوسط، المنطقة الملعونة

منذ فجر التاريخ، شكل الشرق الأوسط مركزا للصراعات الدينية، العرقية، والسياسية، حتى بات يُشار إليه في بعض الأدبيات باسم "المنطقة الملعونة"، ليس بالمعنى الديني أو الغيبي، بل لوصف تكرار المآسي فيه وتداخل المصالح والقوى المتنازعة. هذا المقال يحلل الجذور التاريخية والاجتماعية والسياسية للصراع في هذه المنطقة الممتدة من وادي الرافدين إلى وادي النيل، ومن جبال الأناضول إلى صحراء شبه الجزيرة العربية، محاولا فهم لماذا لم يجد هذا الصراع حلا منذ آلاف السنين، منذ زمن الأنبياء وحتى يومنا هذا. تقع منطقة الشرق الأوسط عند تقاطع ثلاث قارات: آسيا، أفريقيا، وأوروبا، وتحتضن عددا من أقدم الحضارات في العالم مثل حضارة ما بين النهرين، مصر القديمة، وفينيقيا. هذا الموقع الاستراتيجي، إلى جانب وفرة الموارد الطبيعية، وأبرزها النفط والغاز، جعل المنطقة مطمعا للقوى العالمية منذ العصور القديمة وحتى الاستعمار الحديث والمعاصر. لكن هذه الوفرة لم تكن سببا في الازدهار فحسب، بل كانت دافعا للغزو والنهب والهيمنة. من الفرس إلى الإغريق، ومن الرومان إلى العثمانيين، ثم القوى الأوروبية الحديثة، تتابعت موجات السيطرة على المنطقة، مما خلق واقعا دائم التغير من التبعية والانقسام. الشرق الأوسط هو مهد الديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية، المسيحية، والإسلام. بينما كان من المفترض أن تكون الرسالات السماوية منبعا للسلام والوحدة، تحولت، نتيجة السياسة والتأويلات البشرية، إلى مصدر توتر دائم. الاختلافات العقائدية بين الطوائف، مثل السنة والشيعة، واليهود الأرثوذكس والعلمانيين، والمسيحيين بمذاهبهم المتعددة، غذت صراعات أهلية وداخلية متكررة. كما أن التداخل بين الدين والسياسة، خاصة في ظل غياب نظم علمانية مستقرة، جعل من الدين أداة للشرعنة والتعبئة السياسية، لا وسيلة للتقارب والتسامح. الحقبة الاستعمارية، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، تركت جراحا عميقة في الشرق الأوسط. اتفاقية سايكس - بيكو (1916) قسمت المنطقة بين فرنسا وبريطانيا وفقا لمصالحها، دون مراعاة للهويات الثقافية أو القبلية أو الدينية. هذا التقسيم أدى إلى خلق دول قومية حديثة بحدود مصطنعة، ضمت في داخلها جماعات متناحرة، أو فصلت بين شعوب موحدة. الصراع العربي - الإسرائيلي، الذي بدأ بوعد بلفور (1917) وبلغ ذروته بقيام دولة إسرائيل عام 1948، يُعد المثال الأبرز على كيفية تدخل القوى الاستعمارية في صناعة نزاع طويل الأمد. وما تزال القضية الفلسطينية عنوانا للظلم والاحتلال في نظر كثيرين، وسببا دائما للتوتر في الإقليم. منذ منتصف القرن العشرين، شهدت معظم دول الشرق الأوسط انقلابات عسكرية أو نظما شمولية حكمت شعوبها بالحديد والنار. غابت الديمقراطية، وازدادت الفجوة بين الحاكم والمحكوم. الأنظمة استثمرت في القمع، لا في التنمية، وخلقت أجهزة أمنية تفوقت على المؤسسات المنتخبة، مما ساهم في تهميش المواطن وزيادة الشعور بالظلم. هذا التراكم أدى إلى انفجارات داخلية، مثل ما رأيناه في الربيع العربي، حيث انتفضت الشعوب ضد الفساد والاستبداد، لكن الانتفاضات انتهت في كثير من الأحيان إما بحروب أهلية دامية (كما في سوريا واليمن) أو بعودة أنظمة عسكرية أكثر قسوة. لم تكن شعوب المنطقة وحدها في الميدان. التدخلات الخارجية، سواء من الولايات المتحدة، روسيا، أو إيران وتركيا، ساهمت في تغذية الصراعات، كلٌ حسب مصالحه. فالصراع في سوريا، على سبيل المثال، ليس فقط نزاعا داخليا، بل ساحة حرب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية. الشيء نفسه يُقال عن العراق، حيث أدى الغزو الأمريكي في 2003 إلى تفكيك الدولة، وتصاعد الطائفية، وظهور جماعات إرهابية مثل "داعش". التدخلات الأجنبية تزرع عدم الاستقرار، وتطيل أمد النزاعات، لأنها غالبا لا تهدف لحلول عادلة، بل لحماية مصالح آنية. رغم كل هذا، لا يمكن اعتبار الشرق الأوسط "ملعونا" بالمعنى الحتمي. فالمنطقة ما تزال تملك طاقات بشرية هائلة، وثقافات غنية، وتراثا مشتركا يمكن أن يكون أساسا للتعايش. لكن شرط الحل يبدأ بتفكيك الأسباب الحقيقية للصراع. السلام في الشرق الأوسط لا يمكن أن يُفرض من الخارج، ولا يمكن أن يقوم على تجاهل المظالم. هو مشروع طويل ومعقد، لكنه ليس مستحيلا. وما دامت الشعوب تتوق إلى الحرية والكرامة، فستبقى هناك فرصة، ولو ضئيلة، لإنهاء هذه اللعنة التاريخية التي أثقلت كاهلها منذ آلاف السنين.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store