
النرويج: غزة تعيش جحيما حقيقيا ويجب محاسبة إسرائيل على جرائمها
وفي مقابلة مع الجزيرة، أكد أوكروست أن الأوضاع في غزة أصبحت أصعب مما كانت عليه في السابق، وأنها تمثل أقصى درجات الانتهاك للقانون الدولي.
وتطالب النرويج منذ فترة بوقف الحرب وإدخال المساعدات، وهي تواصل اليوم العمل مع الدول الأوروبية من أجل تبني موقف أقوى لتحقيق هذا الهدف بكل الطرق، كما قال أوكروست.
وأبدى الوزير النرويجي -الذي كان يتحدث من جنوب أفريقيا- تفاؤله بتزايد الرفض الأوروبي لما تقوم به إسرائيل في القطاع، وقال إن الاجتماع المرتقب في الولايات المتحدة سيكون مهما لأن العالم ينتظر ما سيقوله الأوروبيون في ظل هذه الظروف.
يجب محاسبة إسرائيل
وشدد على ضرورة معرفة العالم أن كل ساعة تمر تمثل خطرا على مزيد من الفلسطينيين الذين يتعرضون لأقصى أنواع الانتهاكات، وقال إن هذا الملف يتصدر أجندة مجموعة العشرين المنعقدة في جنوب أفريقيا.
كما شدد على ضرورة محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات سياسيا وعسكريا، وقال إن هذا الأمر يتوقف على صدور قرار نهائي من محكمة العدل الدولية في لاهاي لتوصيف ما تقوم به إسرائيل في غزة.
وقال أوكروست إن بلاده لا تقبل بالآلية التي طرحتها إسرائيل لإيصال وتوزيع المساعدات، مؤكدا أن النرويج زادت دعم السلطة الفلسطينية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وكل المؤسسات الدولية التي يمكنها إيصال الطعام والشراب والناس.
وأوضح أن إيصال المساعدات يمثل المطلب الأكثر إلحاحا في الوقت الراهن، وأن بلاده لن تتخلى عن الفلسطينيين الذين اعترفت بدولتهم المستقلة، وستواصل العمل معهم بشكل مباشر حتى يتمكنوا من إعادة بناء ما دمرته هذه الحرب الوحشية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 دقائق
- الجزيرة
"إسرائيل" كنموذج للحداثة الوحشية
في بعض الأحيان، يتراءى لنا التاريخ كأنه شاعر ماهر، ينقّح قصائده بعناية ويعكف على تزيين استعاراته وصقل بلاغة كلماته.. ولعل مذبحة "الركبة الجريحة" تجسد هذا الشعور بأبلغ صورة. فبعد قرون من المذابح والقتل الوحشي بكل الطرق والوسائل الممكنة، جاءت النهاية الحزينة لنضال السكان الأصليين لأميركا (الهنود الحمر) في عام 1890 عند غدير "الركبة الجريحة". فهناك، تم قتل "الثور الرابض" (سيتينغ بول)، آخر الزعماء المهمين، ومن بعدها خضعت القبائل للقوانين القاسية التي فرضتها حكومة الولايات المتحدة بهدف تدجين الناس في محميات خاصة، ليُمحى أثرهم تدريجيًّا ويصبحوا أقلية صامتة بلا صوت ولا قيمة، بعد أن كانت الأرض لهم، والماء لهم، والسماء كلها. لم يقتصر الأمر على موتهم الجسدي، بل تجاوز ذلك إلى تشويه سيرتهم ووصمهم بالوحشية، في حين أن الجرائم الفعلية هي تلك التي ارتُكِبت بحقهم.. هكذا شُوِّه وجودهم، وحُرِّف تاريخهم، وسُلب مستقبلهم، باسم الحضارة. جسدت مذبحة "الركبة الجريحة" النهاية المأساوية، وكأن التاريخ قد كتبها بصيغة سينمائية كمشهد نهاية لرواية حزينة، مكثفًا قصة طويلة ومؤلمة في لقطات درامية معدودة، تُلخِّص حكايات كثيرة عن حضارتنا اليوم، وما يخصها من سفك الكثير من الدماء. اليوم، لا يستطيع أحد في العالم الهروب من أصوات الحرب على غزة؛ فهي -ببساطة- قد رفعت تناقضات العالم إلى الواجهة، وأظهرت حقيقة أن تحت مسرح الحضارة اليوم الكثير من الجثث والدماء. فعندما صرّح رئيس إسرائيل إسحاق هرتسوج قائلًا: "هذه الحرب ليست حربًا بين إسرائيل وحماس فقط، إنها حرب تهدف حقًّا إلى إنقاذ الحضارة الغربية وقيمها"، لم يكن بإمكانه أن يكون أكثر وضوحًا، فلطالما شُنت الحروب الغربية لفرض ما يسمى "القيم" الغربية وتطبيقها وحمايتها. ضمنيًّا، هو لم يكذب، فهو يتحدث عن الشكل وقيم الحداثة التي تسوقها دول، مثل الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا وكندا وأستراليا، ودول غربية أخرى تسمي نفسها "ديمقراطيات جمهورية ليبرالية"، تأسست على الإبادات الجماعية والتطهير العرقي والفصل العنصري وسرقة الأراضي والعنصرية البنيوية. ما قصده رئيس الاحتلال هو الدفاع عن استمرار هذا النمط من التفاعل الحضاري الغربي، الذي يتعامل مع الاستعمار كحدث عرضي في الماضي انتهى، مانحًا شرعية للمستوطنين والمستعمرين الذين نهبوا الأراضي بالقوة منذ زمن، وربطوا أنفسهم بها من خلال الإقامة وبناء الشركات والمجتمعات، في محاولة لإضفاء شرعية على وجودهم وكأنه طبيعي لا جدال فيه. وأي محاولة من أصحاب الأرض المقهورين لاستعادة بيت أو أرض مفقودة تُعد رجعية وإرهابية، تسعى لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. فمنذ لحظة إعلانها كدولة، تمارس إسرائيل وجودها كمشروع استعماري استيطاني، يقوم على الإقصاء والعنف والإبادة المنظمة. لم يكن ذلك سرًّا، فالمجازر ليست استثناءً في تاريخها، بل هي بنيته التأسيسية. والطرد، والحصار، والهدم، والسيطرة بالسلاح، ليست أدوات طارئة، بل اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا الكيان. حربها على غزة اليوم ليست نقطة تحوّل، بل هي امتداد متسق لفلسفة قامت منذ البدء على نفي الآخر، خصوصًا إذا كان هذا الآخر عربيًّا وفلسطينيًّا. لكن هذه الحرب، بكل ما فيها من همجية وتجويع وتدمير، تضع العالم أمام صورته الحقيقية: لم يعد الأمر يتعلق بانتهاكات، بل بنموذج جديد من معسكرات الإبادة، حيث تتحول المدينة المحاصرة إلى مختبر لأدوات الدولة الحديثة، حين تدمج بين العسكرة والتكنولوجيا والعنصرية، وتمنح نفسها الحق المطلق في إدارة حياة الناس.. أو إنهائها. غزة، في هذه اللحظة، ليست فقط ساحة حرب، بل معسكر اعتقال بحجم مدينة، بلا ماء، بلا كهرباء، بلا دواء، بلا مفرّ.. تُدار عبر سياسات التجويع والترويع والعقاب الجماعي، تحت غطاء من مصطلحات حداثية: "منطقة آمنة"، "ممر إنساني"، "عملية استباقية".. غير أن هذا كله ليس جديدًا. فالدولة الحديثة، كما كتب زيجمونت باومان، هي التي اخترعت المعسكر، حين قررت أن بعض البشر فائضون عن الحاجة! فمنذ الحرب العالمية الأولى، ظهر مفهوم انعدام الجنسية، ومعه ظهرت معسكرات اللاجئين، لا كحلّ، بل كوسيلة لعزل غير المرغوب فيهم. ثم جاء النازيون وصنعوا من المعسكر ذروة التقنية الحداثية في إدارة البشر. وإسرائيل، في هذا السياق، ليست استثناءً من الحداثة الغربية، بل أحد أكثر تجلياتها نقاءً وافتراسًا.. هي الوريث الأشرس للمخيال الاستعماري، الذي يرى في الأرض أرضًا بلا شعب، وفي السكان الأصليين تهديدًا وجوديًّا يجب إزالته. ولذلك، لا تستطيع هذه الدولة كنتاج للحداثة أن توجد إلا من خلال القتل، ولا أن تستقر إلا عبر الإبادة، ولا أن تتنفس إلا عبر الجدران والأسلاك والحواجز. وفي غزة، تكثّف إسرائيل هذا المنطق، حيث لا تمارس إسرائيل حربًا بالمعنى التقليدي، بل تكثّف منطق الدولة الحديثة حين تتحرر من كل قيد قانوني أو أخلاقي، وتُمنح غطاءً دوليًّا يحصّنها من المساءلة. فهي لا تقدم نفسها كدولة عادية لها حدود وحقوق مواطنة، بل ككيان يحاول أن يستمد شرعيته من الدم والإبادة عن طريق التكنولوجيا والسيطرة المطلقة على الأجساد، دون أن تواجه أي تبعات. فإسرائيل، في جوهرها، ليست انحرافًا عن الحداثة الغربية، بل من أكثر تجلياتها صدقًا وافتراسًا؛ فهي لم تُؤسَّس على عقد اجتماعي يربط السلطة بالشعب، بل على عقد دموي، يقوم على ميثولوجيا خلاص ديني مختلطة بأدوات الدولة الحديثة: الطائرات المسيّرة، وأنظمة المراقبة البيومترية، وهندسة الحصار، وتقنيات المعسكرات المفتوحة.. هي كيان سياسي لا يعمل ضمن منظومة القانون، بل في فضاء ما فوق القانون أو -بالأحرى- ما بعد القانون، كما وصفه ميشيل فوكو بـ"السياسة الحيوية"، حيث لا تُدار الحياة من خلال الحقوق، بل من خلال التحكم الكامل بالجسد، ومن يُسمَح له أن يبقى على قيد الحياة. في هذا السياق، لا تشتق إسرائيل شرعيتها من الشعب أو من مؤسسات تمثيلية، بل من قدرتها على سحق أي مقاومة، وتدمير كل سردية بديلة. وجودها نفسه مشروط بالإبادة المستمرة، والتطهير الرمزي والجسدي للآخر الفلسطيني، الذي يجب أن يُمحى لا من الأرض فقط، بل من اللغة، والتاريخ، والذاكرة. ولذلك فإن إسرائيل ليست استثناءً عن مشروع الدولة الحديثة، بل هي ذروته الأقصى، ونموذجه الأكثر تجريدًا: دولة لا تُعرّف نفسها بما تحكمه، بل بمن تُقصيه وتُفنيه. ومن هنا، فإن كل اعتراف بهذا الكيان بوصفه "دولة كغيرها من الدول" ليس موقفًا بريئًا أو محايدًا، بل هو تواطؤ ضمني مع هذا المنطق الإبادي، واشتراك -ولو بالصمت- في تحويل الفتك اليومي إلى ممارسة قانونية، وتجريد الآخر من حياته إلى مسألة إدارية. لذلك، يجب إدراك أن إسرائيل- ككيان استيطاني- لن تتغيّر؛ فالعنف بالنسبه لها ليس رد فعل، بل هو أيديولوجيا، وهوية، وبنية حكم. لذا، فإن كل محاولة لفهمها خارج هذا الإطار ستنتهي إلى التواطؤ، وكل عملية سلام تُعقد معها هي تثبيت لبنيتها، وكل اعتراف بها هو قبول الخنوع. ولهذا، رأى فرانز فانون أن الاستعمار لا يمكن هزيمته إلا حين توضع السكين على عنقه؛ فالمستعمِر لا يفهم لغة الحقوق، ولا يعترف بالإنسان إلا حين يُنتزع اعترافه بالقوة. من هنا، فإن مقاومة إسرائيل ليست خيارًا إستراتيجيًّا، بل ضرورة وجودية لشعوب المنطقة لانتزاع الحق في الوجود. فالشعوب الأصيلة في هذه المنطقة -من فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق- إذا أرادت سلامًا حقيقيًّا، فعليها أن تدرك أن لا سلام مع كيان وُلد من رحم المجزرة، ويتنفس من رئة الإبادة، ويستمد شرعيته من شلالات الدم. غزة اليوم ليست معسكرًا للجوع فقط، بل هي مرآة تعكس حقيقة عالم مأزوم، فقد كل حسٍّ أخلاقي، وارتضى رؤية أن يباد الأطفال في بث مباشر.. ثم يصمت. وما لم تتحطم هذه المعادلة، وتُكسَر القاعدة التي تسمح بوجود كيان كهذا بلا عقاب، فإن المعسكر سيتوسع.. حتى يبتلعنا جميعًا.


الجزيرة
منذ 18 دقائق
- الجزيرة
إسماعيل هنية: في ذكرى الرحيل
تأتي هذه الإطلالة على شخصية الشهيد إسماعيل هنية، لا كتعريف عادي بقائد سياسي، بل كتأمل في مسيرة رجل حمل على عاتقه هموم وطنه وشعبه في أصعب الظروف، وظل ثابتا في مواجهة التحديات الكبرى التي عصفت بفلسطين وقضيتها؛ ففي زمن يتسم بالاستهداف والتآمر، يبرز هنية كرمز للمقاومة والوحدة، وقائد صنع بصمته في سجل النضال الفلسطيني، متحديا الحصار والعدوان، محافظا على بوصلة القدس والتحرير رغم كل العواصف. هذا المقال يستعرض محطات حياته، ومواقفه، وإرثه الذي شكل إحدى الدعائم الصلبة للمشروع الوطني الفلسطيني. وُلد إسماعيل هنية من رحم المقاومة، من قلب مخيم الشاطئ للاجئين، ونشأ على خط النار وفي أحضان المأساة. قاد حركة حماس خلال عقدين زاخرين بالتعقيدات والتقاطعات والتحديات، ولم يحِد يوما عن منهجه الوطني الأصيل، منطلقا من فهم عميق لانتمائه الإسلامي، ومُرسِخا بصمته الراسخة على قواعد ثابتة لا تتبدل. من معايشته في مختلف المراحل لمست فيه وجها دائم الابتسام، وسلوكا أخلاقيا رفيعا، وتواضعا جما، وحرصا على صلة الرحم. كان قارئا نهما، واسع الاطلاع، دؤوبا في متابعته السياسية، مميزا في قدرته على صياغة المواقف الوحدوية والإقناع، مدعوما بحفظه لكتاب الله، وتخصصه في اللغة العربية، وسرعة بديهته، وذكائه الاجتماعي، وذاكرته الدقيقة، فضلا عن هدوئه وشُوراه الواسعة، والتزامه بالسياسة العامة لحماس، حاملا مشروع مقاومة أصيلة ذات أفق سياسي. لسنا بصدد التعريف به كقائد، فاسمه قد سُطر في سجل الخالدين بإذن الله ﴿ويتَخذ منكم شهداء﴾، وإنما نلقي إطلالة موجزة عليه كقائد أزمات في زمن الاستهداف والحصار، حين أُغلقت الأبواب، وتعاظمت المؤامرات، وتواصل العدوان، ومع كل ذلك ظل ثابتا على درب القدس، لم تضل بوصلة عينه، ولم تزغ خطاه عن المسار الإستراتيجي، بل بقي قائدا رساليا، يتطلع إلى الفنار وسط أمواج المحن. إعلان وفيه حضرت سير من المؤسسين، وعلى رأسهم الشهيد أحمد ياسين، الذي كان أبو العبد غرسه وتلميذه النجيب. وها هو يُختم له بالشهادة في طهران، رغم بُعده عن ميادين القتال، في طهر يشبه مآلات الأنبياء. في ظل قيادته، ارتقت حماس بفضل الله، ودماء الشهداء، وصمود الأسرى وثبات شعبنا، إلى قوة يُحسب لها حساب. غدت أمل الأحرار في الأمة والعالم، ورافعة مشروع التحرير، كالشجرة الباسقة تسر الزرّاع، ويغيظ بها أعداء الله ومن والاهم. قاد الشهيد هنية حركة حماس، وترأس قائمة "الإصلاح والتغيير" التي فازت في انتخابات 2006، حاصدة 74 مقعدا، ليصبح أول رئيس وزراء من حماس، وأول رئيس وزراء من مخيم لاجئين ومن غزة. قاد الحركة لدورتين، بعد أن كان قائدها في غزة في أحلك المراحل، فحمل الأمل المنعقد عليه وعلى أمثاله، وحاز ثقة شعبنا الباحث عن الخلاص في نفق الاحتلال الطويل، في زمن تفككت فيه مفاصل المؤسسات الفلسطينية، وغرقت فيه القضية في فصول التآمر والخذلان، فكان أبو العبد شعاع الأمل، ونموذج القيادة التي تليق بالقضية وتضحياتها. والده من بلدة الجورة قرب عسقلان، وقد استقر في مخيم الشاطئ بعد نكبة 1948. وعندما بلغ والده الكِبر، رزقه الله بولد فأسماه إسماعيل، مستحضرا قول الله تعالى: ﴿الحمد لله الذي وهب لي على الكِبر إسماعيل﴾، فشب الفتى في كنف والده الشيخ عبدالسلام، وتربى على تلاوة القرآن الكريم والمديح النبوي. ثم حظي برعاية إمام المسجد الغربي، الشيخ موسى غبن، الذي عينه خطيبا لمسجد الشاطئ وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره. وهناك التحق بدعوة الشيخ أحمد ياسين في أوائل الثمانينيات، فكان من أوائل تلامذته والمقربين منه. برَز في الجامعة الإسلامية قائدا طلابيا لافتا، وترأس مجلس طلبتها، كما وصفه الشيخ عبدالله نمر درويش بـ"الملسن"، لحضوره القوي. ومع انطلاقة الانتفاضة الأولى، اعتُقل بعد 15 يوما، ثم أُعيد اعتقاله في 1988، ثم في حملة 1989 الكبرى، وقضى ثلاث سنوات في الأسر، غدا خلالها أميرا للقسم، مميزا بأدواره الثقافية والتنظيمية. كما كان من مبعدي مرج الزهور في 1992، فتعمقت تجربته القيادية هناك، لا سيما في لبنان ومخيمات الشتات. كان تحرير الشيخ ياسين عام 1997 محطة فارقة في مسيرته، إذ لازم الشيخ مديرا لمكتبه، ووصف تلك المرحلة بأنها "الأثمن والأغلى" في حياته، حيث نضجت تجربته وترسخ حضوره السياسي. ثم جاءت انتفاضة الأقصى 2000، فكان من رواد المقاومة رغم المطاردة ومحاولات الاغتيال المتكررة: مع الشيخ ياسين، أو عبر طرود مسمومة، أو على معبر رفح. وبقي في وجدان الناس نموذجا للقائد المتواضع، محط إعجاب الجماهير، فحصل على لقب "أفضل حاكم مسلم" في استطلاع "إسلام أون لاين"، وكان الأكثر قبولا عربيا في استفتاء صحيفة القدس. بعد رحيل الشيخ ياسين والرنتيسي، برز أبو العبد باعتباره القائد السياسي الأبرز لحماس، بفضل شعبيته الواسعة، وعلاقاته الوطنية المتينة، وحضوره الاجتماعي الدافئ، وقيادته المتوازنة خلال عقدين من التحولات. قاد حركة حماس في واحدة من أعقد مراحلها، صامدا في غزة وهو يخوض معارك النزال المتتابعة في "الفرقان"، و"حجارة السجيل"، و"العصف المأكول"، وملحمة تحرير الأسرى في "وفاء الأحرار"، مقاوما التفكك في الضفة والقدس، وحافظ على حضور الداخل رغم تغول مشاريع التهويد. لم يكن قائدا لغزة فقط، بل لفلسطين كلها، ساعيا لاستنهاض الشتات الفلسطيني، موحدا الأقاليم الثلاثة، محولا السجون إلى ساحات صمود لا تنكسر. بنى مؤسسات متينة توفق بين جراح الداخل وقدرات الخارج، وارتقى بالحركة عبر البناء التنظيمي الحقيقي، داعيا إلى الاندماج والتكامل لا التنافس، نحو مشروع تحرري جامع، تظل فيه المقاومة الورقة الأقوى. ولم يغفل عن النواة الصلبة للحركة، تلك التي تحمل روحها وعمقها الإيماني والتربوي. رأى أن تحصين هذه النواة هو الحصن الأخير، وأن تهذيبها قيميا وتجديد أدواتها ضرورة لبقاء حماس كطليعة مقاومة واعية. فبين فقه الميثاق ووثيقة السياسة، وبين صعود الشهداء وتراكم التجربة، تبقى حماس بحاجة لنواة صلبة تقود ولا تنكسر. في زمن الانقسام وتعقيدات ما بعد أوسلو، مثّل أبو العبد حاملا لمشروع وطني جامع، حاول تجاوز إرث الشقاق بين فتح وحماس بمقاربة متوازنة، تجمع بين الثوابت والممكنات. وعلى الرغم من الاعتقالات التي طالته، حافظ على علاقات داخلية مرنة، مجسدا خطابا وحدويا، داعيا إلى شراكة وطنية حقيقية، وبناء منظمة تحرير جديدة. كان صوته صوت العقل والمقاومة، لا يغرق في الشعارات، ولا يتنازل عن الثوابت، ممثلا قيادة توازن بين الواقعية والتحرير، وترتقي لتضحيات الشعب وآماله. أما خارجيا، فقد قاد أبو العبد حماس وسط الحصار الدولي والعداء الأميركي، فأسس شبكة علاقات واسعة مع الجاليات والمنظمات، واخترق الجبهات الدبلوماسية في العالم رغم "الفيتو" الغربي، عبر دبلوماسية ذكية تشبه الحفر في الصخر. ساعده في ذلك التحول الشعبي العالمي تجاه فلسطين، خاصة في ظل تقاعس السفارات الرسمية. وأما إقليميا، فواجه بحكمة الحفاظ على البوصلة وصيانة الإرث موجةَ التطبيع والخذلان العربي، لكنه تمسك بخط المقاومة، مدركا أن الاشتباك السياسي لا يقل أهمية عن خنادق القتال. واجهت حماس، بقيادته، أثمانا باهظة من التهجير والملاحقة والاعتقال، لكنها لم تساوم، وبقيت وفية لقضية الإنسان والأرض. وسيسجل التاريخ أن حماس، بقيادة أبو العبد، مثلت صمام الأمان وعمود الخيمة في زمن الارتباك السياسي والانهيار الأخلاقي. ويبقى التحدي اليوم في تثبيت منهجية مدروسة للعلاقات الخارجية، تقوم على فهم عميق لمنظومة الحلفاء والخصوم، دون الانخراط في معارك لا تخدم فلسطين. لقد جسد الشهيد إسماعيل هنية نموذج القائد الوطني الثابت، الذي لم يتنازل عن الحلم رغم محاولات الاغتيال والتشويه، فبقيت قيادته لحركة حماس حصنا منيعا ومعبرا عن نبض شعبنا. إن إرثه ومواقفه ستظل نبراسا لأجيال المقاومة، تؤكد أن الطريق نحو الحرية لا يُبنى إلا بالثبات والوعي والإيمان. وهكذا، تغدو حياته ملحمة مقاومة وكفاح، يكتبها التاريخ بحروف من نور.


الجزيرة
منذ 29 دقائق
- الجزيرة
إسرائيل تبحث احتلال غزة وتحذيرات من خسائر فادحة بصفوف الأسرى والجنود
يبحث المجلس الوزاري المصغر بإسرائيل اليوم الخميس خطة لإعادة احتلال قطاع غزة بالكامل، على وقع خلافات بين القيادتين السياسية والعسكرية، ووسط تحذيرات من خسائر فادحة ستلحق بالأسرى والجنود. ويصرّ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على احتلال القطاع، وعرض مؤخرا موقفه بشأن الطريقة الدقيقة التي يرغب في تنفيذها. ونقلت صحيفة معاريف أن نتنياهو يطالب باحتلال قطاع غزة كاملا تحت ضغط من التيار اليميني المتطرف في حكومته، وعلى رأسه وزراء المالية بتسلئيل سموتريتش ، والاستيطان أوريت ستروك، والأمن القومي إيتمار بن غفير. وأضافت -نقلا عن مصادر- أن الجيش سيعرض اليوم الخميس على القيادة السياسية الثمن الذي ستدفعه إسرائيل إذا قررت احتلال قطاع غزة. وأضافت الصحيفة وفق مصادرها أن التقديرات تشير إلى ان أغلب الأسرى في غزة سيلقون حتفهم على يد آسريهم أو بسبب الغارات إذا وسع جيش الاحتلال عملياته. ووفق هذه المصادر، فإن عددا كبيرا من الجنود قد يقتلون في قطاع غزة إذا وُسّعت العملية العسكرية. وقدرت مصادر عسكرية لصحيفة معاريف أن السعي لاحتلال قطاع غزة قد يستغرق نحو 3 أشهر على الأقل ويشمل تدمير الأنفاق. كما أضافت الصحيفة -وفق تقديرات المصادر ذاتها- أنه بعد إكمال احتلال قطاع غزة سيكون الجيش مضطرا إلى إقامة حكم عسكري والاهتمام بنحو 2.5 مليون فلسطيني. وحذّرت معاريف من أن الحديث يدور عن منطقة مأهولة ومزدحمة بالسكان، وبحسب تقدير الاستخبارات الإسرائيلية فهي بمعظمها مزروعة بالألغام ومفخخة. وذكرت أنه رغم أن خطة نتنياهو هي تنفيذ عملية خاطفة لاحتلال القطاع وحسم المعركة مع حماس ، فإنه لا يعرض حاليا المرحلة التي ستلي الحسم وليس واضحا ما مصير المناطق التي ستُحتل. وقالت "إذا كانت الخطة مدفوعة من قبل وزراء اليمين المتطرف ، فإن احتلال قطاع غزة يهدف إلى إخراج السكان الغزيين من المنطقة وإقامة استيطان إسرائيلي على الأراضي التي سيتم إخلاؤها، وهي خطة لا تعد جزءا من أهداف الحرب الأصلية". إعلان ووفق تسريبات، يعارض رئيس الأركان إيال زامير خطة احتلال غزة ويصفها بالفخ الإستراتيجي، مؤكدا أنها ستنهك الجيش لسنوات وتعرّض حياة الأسرى للخطر. ويطرح رئيس الأركان خطة تطويق تشمل محاور عدة في غزة، بهدف ممارسة ضغط عسكري على حركة حماس لإجبارها على إطلاق الأسرى. وتابعت الصحيفة أن عملية احتلال قطاع غزة ستفرض على المجتمع الإسرائيلي ثمنا ليس هيّنا. وأردفت أن العبء على المجتمع الإسرائيلي، بحسب الجيش، سيتجسد في تعبئة فورية وواسعة لعشرات الآلاف من جنود الاحتياط، واستدعاء جميع الفرق النظامية للعودة إلى القتال في قطاع غزة في الأيام القادمة. وسبق أن احتلت إسرائيل قطاع غزة لمدة 38 عاما بين 1967 و2005. ما وراء التصريحات؟ وإزاء هذه التسريبات، قال الكاتب والخبير في الشؤون الإسرائيلية سليمان بشارات إن تصريح رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي الأخير لا يمكن قراءته خارج 3 أطر متشابكة. أولها، أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تدرك أن استمرار الحرب قد يعرض حياة الأسرى الإسرائيليين للخطر، لذا جاء هذا التحذير كنوع من تحميل المسؤولية للمستوى السياسي، ولحماية الجيش من أي مساءلة مستقبلية إن تعرض الأسرى للأذى. وأوضح أن هذا التحذير يعفي هيئة الأركان من المساءلة المباشرة لدى حدوث ضرر للأسرى، ويشكّل حماية مستقبلية من أي لجان تحقيق قد تُفتح لاحقا. وفي الإطار الثاني، أشار بشارات في تصريح للجزرة نت إلى أن هذا الموقف "يستخدم أداة لتهيئة الشارع الإسرائيلي لتقبل الثمن المحتمل"، في ظل إدراك لدى القيادة السياسية والعسكرية أن حياة الأسرى قد تُصبح جزءا من الكلفة السياسية والعسكرية القادمة. وأضاف أن هذا التحذير ليس رفضا للحرب، بل تأكيدٌ ضمني للاستعداد لتنفيذ أي قرار سياسي، كما أشار زامير نفسه الذي قال إنه سينفذ القرار السياسي في نهاية المطاف، وذلك يعني قبولا ضمنيا من المؤسسة العسكرية بخطة الحكومة. أما عن أهداف الحرب المقبلة، فرأى بشارات أن خطة احتلال مدينة غزة ومخيمات الوسط التي يناقشها "الكابينت" تهدف لتحريك الكتلة السكانية نحو الجنوب، تمهيدا لمرحلة تهجير أوسع نحو سيناء. كما أشار إلى أن هذا الضغط السكاني والإنساني يهدف إلى دفع المقاومة إلى الإذعان لشروط إسرائيل، وعلى رأسها تسليم السلاح وإبعاد القيادات وتسليم الأسرى. ولفت إلى أن هذه المرحلة من الحرب تجري تحت "مظلة أميركية واضحة"، مشيرا إلى تصريحات وزير الخارجية الأميركي روبيو، وتصريحات السفير الأميركي في تل أبيب بشأن مضاعفة مراكز توزيع المساعدات، والتي تهدف -وفق بشارات- إلى "سحب ذريعة المجاعة وتحميل المقاومة مسؤولية تعطل المساعدات، في تكرار للسيناريو الذي سبق اجتياح رفح في مايو/أيار 2024.