فولكر يظهر مجدّدًا بتصريحات مثيرة عن السودان
بعد مرور حوالي سنتين على تركه منصبه الأممي في السودان، لا يزال متابعا لتفاصيل المعارك والتغير في خطوط التماس. ويقول: "جميع هذه المؤشرات تدل على تفكك الدولة". صحيح أن فولكر قلق من "تقسيم السودان"، لكنه يستدرك ليقول: "النتيجة المرجحة: مزيج من التفتت والجمود".
وأعلن يوم الثلثاء ان "قوات الدعم السريع" قتلت عشرات المدنيين في هجوم على قرية أم قرفة في ولاية شمال كردفان. وشنّ الجيش السوداني عدة هجمات في الأسابيع الأخيرة للسيطرة على بارا، وهي منطقة استراتيجية رئيسية في شمال كردفان.
وقد أدى النزاع الذي دخل عامه الثالث إلى مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص ونزوح ملايين السودانيين، وتسبب في ما وصفته الأمم المتحدة بأنها أكبر أزمة نزوح وجوع في العالم.
ويرفض بيرتس "تماما" أن حرب السودان هي "حرب بالوكالة"، ويوضح: "هذا صراع داخلي على السيطرة على السودان وموارده. لكن، ما إن تبدأ حرب كهذه، حتى تبدأ القوى الإقليمية والدولية في السعي لتعزيز مصالحها وسط أتون الصراع، وهو ما نراه يحدث بالفعل بشكل واضح".
وعندما طلبت منه أن يوسع دائرة النظرة ويضع السودان في السياق الإقليمي، قال: "نعم، هناك درجة معينة من الترابط بين هذه الأزمات الإقليمية، لكن لا ينبغي الخلط بينها وبين تحالفات منسقة أو اصطفافات متجانسة". ويقول الخبير الألماني: "التطور الأكثر إثارة للاهتمام بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو في الوقت نفسه نتيجة لها، هو الهزيمة الاستراتيجية التي اضطرت إيران للإذعان لها، وتفكك محور المقاومة. حيث استطاعت إيران أن تحشد وكلاءها وداعميها، إلا أنها لم تتمكن من الدفاع عنهم". كما توقف عند الوضع في الخليج العربي، قائلا: "ما أراه أن الشرق الأوسط، بقيادة قوى الخليج، لا يعيد تعريف نفسه بالمعنى الاقتصادي أو السياسي، أو الجغرافي الاقتصادي فقط، وإنما بالمعنى السياسي الاستراتيجي أيضا".
* بعد أن ابتعدتَ عن السودان ولم تعد تتابع التفاصيل عن كثب، كيف ترى الوضع هناك حاليا؟
– المشهد العسكري يشهد تحولات. رأينا أن الحكومة، أو بالأحرى الجيش بوصفه الجهة العسكرية الحاكمة، أحرز بعض التقدم، إذ استعاد السيطرة على الخرطوم ، أو حررها. وأعتقد أن معظم سكان الخرطوم سيصفون ذلك بالتحرير. لكن في الصورة الأوسع، فإن الانتصارات الموضعية هنا أو هناك لا تمثل جوهر المسألة.
ما نشهده الآن هو تحقق التحذيرات التي أطلقناها منذ اندلاع الصراع قبل عامين. لم يعد الأمر يتعلق بمواجهة بين جيشين تنتهي بسرعة. فلنتذكر أن الجيش و"قوات الدعم السريع" على السواء ادعيا في البداية أن القتال سيستغرق أياما أو أسابيع. غير أننا حذرنا من أنه في حال طال أمد النزاع، فسيتحول إلى حرب أهلية حقيقية، تستقطب مجموعات قبلية وإثنية متعددة، وقد تقود إلى تفكك شامل للبلاد.
وفي الوقت الحاضر، لا تبدو الحرب في طريقها إلى النهاية. كلا الطرفين– الجيش و"قوات الدعم السريع"– يمتلك الموارد اللازمة لمواصلة القتال، ولا تلوح في الأفق بوادر نية حقيقية لإيقافه. في المقابل، نجد البلاد ماضية نحو التفكك. وأخشى أننا سنشهد مستقبلا وجود أكثر من حكومة داخل السودان.
الجنرال عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، عيّن رئيسا للوزراء، بينما اتجه المعسكر المناهض، "قوات الدعم السريع"، إلى جانب عدد من الأحزاب السياسية، لتشكيل حكومة مقابلة ربما تحت وصاية أو حماية "قوات الدعم السريع". وعمليا، ستكون تلك الحكومة تابعة ل"قوات الدعم السريع"، أيا كان الاسم الذي تُطلقه على نفسها.
وفي الوقت ذاته، هناك مناطق أخرى تقع تحت سيطرة قادة ميليشيات أو أمراء حرب أو حركات متمردة، سمّها ما شئت. نلاحظ أن كلّا من الجيش و"قوات الدعم السريع" يعتمدان على ميليشيات متنوعة، بعضها لا يعدو أن يكون عصابات مستعدة للانقلاب على الطرف الآخر إذا تلقت عرضا ماليا أفضل.
جميع هذه المؤشرات تدل على تفكك الدولة، في ظل غياب شبه تام لأي اهتمام جدي من المجتمع الدولي أو الإقليمي، سواء على المستوى الدبلوماسي أو العسكري، لاحتواء النزاع. أما الشعب، فهو الضحية الكبرى، وهذه أصبحت واحدة من أعظم الكوارث الإنسانية في العالم.
* سنتحدث لاحقا أكثر عن مسألة التفتت والحكومتين. لكن إذا عدنا إلى الوضع العسكري، هناك انطباع في الأسابيع الأخيرة على الأقل، أن الجيش يمتلك اليد العليا. هل هو قادر على استعادة السيطرة على كامل السودان؟
– بصراحة، لا يبدو ذلك واردا في الوقت الراهن. يتمتع الجيش أساسا بقاعدة دعم أوسع في شرق البلاد ووسطها، بخلاف غرب السودان، حيث تحظى "قوات الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف ب"حميدتي"، بدعم قبلي كبير، خصوصا بين القبائل العربية في دارفور. لذلك، فإن المقاتلين التابعين ل"قوات الدعم السريع"– وليس بالضرورة قيادتهم السياسية التي كانت موجودة في الخرطوم بوصفها شريكا في الحكم بعد الثورة ثم الانقلاب– لم يكن لديهم ما يدافعون عنه في العاصمة. على سبيل المثال، نهبوا كل ما يمكن نهبه، لكن عائلاتهم وقبائلهم متمركزة في الغرب، في دارفور. ومع سقوط الخرطوم ، انسحبوا إلى كردفان ودارفور، حيث جذورهم الاجتماعية وقواعدهم القتالية– وهناك ما يستحق الدفاع عنه.
لذا، يبدو أن "قوات الدعم السريع" تحتفظ الآن بقبضتها على ما لا يقل عن أربع ولايات من ولايات دارفور الخمس، بينما يسيطر الجيش على الشرق والوسط، وربما على شمال دارفور أو على الأقل مدينة الفاشر وأجزاء منها.
المشهد العام يوحي بتقسيم فعلي للبلاد، حيث لا يبدو أن أيا من الطرفين قادر على إلحاق هزيمة نهائية بالآخر. بإمكان كل منهما تحقيق مكاسب موضعية، أو اختراق أراضي الطرف الآخر. يمكنهم القصف أو إطلاق الطائرات المسيّرة لإرباك السلطات في المناطق الواقعة تحت سيطرة الخصم– وبالطبع، لتعذيب المواطنين. لكن لا يمكن السيطرة على أراضٍ بالبراميل المتفجرة أو الطائرات المسيّرة. أقصى ما يمكن فعله هو تدمير البنية التحتية ومصادر العيش.
* إذن، أنت تقول إنه لا يوجد انتصار لأي من الطرفين؟ ولن يتمكن أي منهما من السيطرة على البلد بأكمله؟
– لا يوجد انتصار حاسم، ولا انتصار حقيقي. نحن أمام مشهد سياسي معقد. فجميع الحروب، في نهاية المطاف، تُخاض من أجل أهداف سياسية. وإذا استمر الوضع الحالي وتحوّل إلى حالة من الجمود، سيُعيد الطرفان تعريف مفهوم النصر بطريقة تبريرية. فمثلا، إذا نجح الجيش في إحكام قبضته على الوسط والشرق، فسيعلن أن ذلك نصر. وقد أدى استعادته للخرطوم إلى تغيّر نسبي في الخطاب الدولي، إذ أصبح يُنظر إليه على أنه الحكومة الشرعية في السودان، وهو ما لم يكن الحال عليه خلال العامين الأولين من الحرب. في المقابل، بات يُنظر إلى "قوات الدعم السريع" كمجرد جماعة متمردة.
وبالتالي، يبدو الأمر من زاوية الخرطوم أشبه بما كان عليه الوضع قبيل انفصال جنوب السودان في عام 2011– عندما كان هناك مركز مستقر إلى حد ما، وكانت الحياة ممكنة في العاصمة، التي كانت تُعتبر آنذاك مدينة قابلة للزيارة، ضمن بلد يبدو موحدا نسبيا. الفرق الآن هو أن حربا أهلية طاحنة تدور في أطراف البلاد. وهذا ما ستسعى بعض القوى السياسية الداعمة للجيش– كالحركة الإسلامية وغيرها– إلى الترويج له بادعاء مفاده "لقد انتصرنا في الحرب، وما يجري ليس سوى تمرد محدود في الأطراف ونزاع مسلح في مناطق نائية".
* هل تعتقد أننا نتجه نحو الجمود، أم التفتت، أم الانقسام الصريح؟
– حسنا، دعني أقلْ إني لا أملك بالطبع كرة سحرية أتنبأ من خلالها بالمستقبل. ومع ذلك، أرى أن احتمال حدوث انقسام واضح على غرار ما جرى بين السودان وجنوب السودان يبدو ضعيفا في الوقت الحالي، نظرا للطبيعة المعقدة لتكوين القوى المتصارعة. فالمشهد يضم ميليشيات متعددة، لكل منها أهدافها المحلية وأجنداتها الخاصة، ما يجعل فكرة الانقسام الرسمي أكثر صعوبة. لذلك، النتيجة المرجحة أقرب إلى ما ذكرتَ: مزيج من التفتت والجمود.
ومع ذلك، لا يمكنني الجزم. حين نبدأ بتصور مثل هذه السيناريوهات، علينا أن نُبقي في الحسبان ثبات السياق الخارجي، وأن لا يشهد تغيّرات جذرية. وقد رأينا من قبل مدى تأثير هذا السياق. فعندما تلقى الجيش السوداني دعما خارجيا، خصوصا من إيران وروسيا ، على شكل معدات عسكرية وطائرات مسيرة وصواريخ، تمكن من تعديل توازنات الحرب والانتقال من الدفاع إلى الهجوم. فإذا استمرت الظروف على ما هي عليه، أو شهدت تغيّرات طفيفة فقط، فإنني أرى– بكل أسف– أن سيناريو التفتت والجمود، أو ربما جمود متشظٍ، هو الأكثر احتمالا.
* كما ذكرتَ سابقا، نعلم الآن أن "قوات الدعم السريع" شكلت حكومة، بينما عيّن المجلس السيادي برئاسة البرهان رئيسا جديدا للوزراء. كيف تفسر هذا التحول، حيث يبدو أن الطرفين المتحاربين ينتقلان من المواجهة العسكرية إلى بناء هياكل سياسية؟ وما أهمية هذا التطور؟
– يبدو أن كلا الطرفين يسعى إلى ترسيخ هيمنته على المناطق التي يسيطر عليها حاليا، وهو ما يشكل بحد ذاته نوعا من أشكال التقسيم. غير أنني لا أعتقد أن هذا التقسيم سيأخذ طابعا مستقرا كما حدث مثلا في انفصال التشيك وسلوفاكيا. فكل من الجيش و"قوات الدعم السريع"، وبالأخص هذه الأخيرة، يعانيان من انقسامات داخلية عميقة. لا أرى في "قوات الدعم السريع" جيشا منظما بمفهومه المؤسسي، بل هي في جوهرها ميليشيا عائلية ترتكز على نفوذ عائلة "حميدتي" وتنتمي إلى قاعدة اجتماعية ضيقة ذات طابع عرقي. وقد سعت هذه المجموعة إلى مد نفوذها إلى الأقليات والمجتمعات الطرفية الأخرى في أنحاء البلاد، وحققت بعض النجاح المحدود. إلا أن الجماعات المسلحة ذات الخلفيات العرقية والقبلية المختلفة، ما خلا الرزيقات، لها أهدافها الخاصة، ومن غير المرجح أن تبقى تحت قيادة "حميدتي" إلى أجل غير مسمى. ومن الأرجح أن تعمل على تعزيز سيطرتها على مناطق نفوذها دون الانصياع الكامل له.
نشهد في الوقت الحالي تحالفا بين عبد العزيز الحلو في جبال النوبة وحميدتي، غير أنني أرى هذا التحالف مؤقتا بطبيعته. يجمعهما عدو مشترك، هو القيادة العسكرية في الخرطوم ، لكن لا تربطهما رؤية موحدة لإدارة الحكم. وأتوقع انهيار هذا التحالف عاجلا أم آجلا. لدينا كذلك عبد الواحد النور في جبل مرة، الذي لا يعد بأي حال من الأحوال حليفا ل"قوات الدعم السريع". فقد كان في مواجهة مستمرة مع المقاتلين القبليين العرب منذ أوائل الألفية، ومن المؤكد أنه سيعمل على الحفاظ على سيطرته الذاتية في جبل مرة.
لذا، لا أرى ما يشير إلى ترسيخ فعلي لسلطة "قوات الدعم السريع" على المناطق التي تُعرف الآن بأنها خاضعة لها. ثمة حالة من التفتت الواضح، وكلا الطرفين يحتفظ بمصلحة في استمرار القتال. سبق ل"قوات الدعم السريع" أن حاولت، وقد تحاول مجددا، التقدم نحو البحر الأحمر أو الوصول إلى حدود دولة مجاورة مثل إثيوبيا. وقد اقتربوا من تحقيق ذلك الهدف من قبل، لكنهم أخفقوا. في المقابل، يحتاج الجيش السوداني إلى تعزيز قبضته على مدينة الفاشر، وربما يسعى لاحقا إلى التوسع باتجاه ولايات دارفور الأخرى.
من اللافت أن الجنرال البرهان طرح مؤخرا فكرة وقف إطلاق النار المحتمل. فقد وجّه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة يقترح فيها وقف القتال في حال انسحبت "قوات الدعم السريع" بالكامل من ولاية الخرطوم. وبعد طردهم من العاصمة، أضاف شرطا جديدا يتمثل في انسحابهم أيضا من الفاشر وعودتهم إلى مناطقهم القبلية في ولايات دارفور الأربع الأخرى، معتبرا أن مثل هذا الانسحاب قد يفتح الباب أمام وقف إطلاق نار محتمل. أعتقد أن شخصية عسكرية مثل البرهان قد ترى أنه في ظل غياب فرصة لتحقيق نصر شامل، فإن تقليل الخسائر وقبول تسوية مشروطة يبدو خيارا عقلانيا.
لكن هناك أيضا قوى سياسية تقف خلف الحكومة العسكرية، وعلى رأسها الحركة الإسلامية. وهي قوة تتغذى على أجواء الحرب، وتزدهر في ظلها، ولذلك دعمت الحرب منذ بدايتها، ولا تزال مصلحتها قائمة في استمرارها.
* عندما ذهبت إلى الخرطوم ، هل توقعت اندلاع الحرب؟ وهل كنت تعتقد أنها ستطول إلى هذا الحد؟
– رأينا التوترات، وحاولنا جاهدين منع التشكيلين العسكريين من الانزلاق نحو الحرب. وعلى مدار نحو أربعة أسابيع قبل 15 أبريل/نيسان 2023، كان هذا هو شغلنا الشاغل: محاولة تخفيف التصعيد أو مساعدة القادة العسكريين على تهدئة التوتر بينهم. وبالطبع لم نكن الوحيدين في ذلك. فقد شارك دبلوماسيون دوليون، وكان للمجتمع المدني السوداني دور محوري على نحو خاص. لذا نعم، كنا نعي الخطر القادم. ومع ذلك، ظللنا- إلى جانب آخرين- مقتنعين بأن القادة العسكريين لن يذهبوا إلى حد إطلاق النار على بعضهم. ففي نهاية المطاف، استمر كلا الطرفين في طمأنتنا بأن ما يجري لا يتعدى كونه إجراءات ردعية. قالوا لنا: "نحن نتحلى بالحذر. ونثمّن جهودكم لخفض التوتر"، وهكذا.
لذا، نعم، رأينا الخطر وفهمنا حجمه. وحاولنا منعه، لكننا لم ننجح. وفي الأيام التالية، سعينا للتوسط لوقف إطلاق النار. وفي البداية، أكد لنا التشكيلان العسكريان أن ما يحدث مجرد اشتباكات محدودة ستنتهي خلال أيام. ولذلك اقترحنا التوقف فورا.
* هل صدقتم تلك التطمينات؟
– ليس تماما. لكننا مع ذلك حاولنا دفعهم نحو التهدئة. وحين استمر القتال لأكثر من أسبوع تقريبا، بدأت أُحذر من أن النزاع قد يتحول إلى حرب طويلة لن تظل حكرا على اشتباكات بين تشكيلين عسكريين. وللأسف، إذا عدت إلى إحاطاتي الأخيرة أمام مجلس الأمن، تجد أن كل ما حذرت منه قد تحقق بالفعل.
* هل توقعت أن تستمر كل هذه المدة؟
– في مرحلة معينة، نعم. لكن ليس خلال الأيام والأسابيع الأولى.
* لنعد إلى وقف إطلاق النار. كما ذكرت، ألمح البرهان إليه، ويتحدث بعض الوسطاء عن إمكانية تحقيقه. لكن هل وقف إطلاق النار ممكن أصلا في السودان، في ظل الانقسامات الإقليمية والدولية؟
– وقف إطلاق النار دائما ممكن، ولكن وقف إطلاق النار لا يعني السلام. إنه قرار يمكن للقادة العسكريين اتخاذه وتنفيذه. أما السلام، فمسؤولية تتجاوز العسكريين. إنه يتطلب مشاركة المدنيين السودانيين: المجتمع المدني، الحركات الشعبية، الأحزاب السياسية، المثقفين، زعماء القبائل، وكل الفاعلين في المجتمع. إنه بحاجة إلى حوار اجتماعي واسع لتشكيل رؤية مشتركة لمستقبل السودان.
لكن وقف إطلاق النار، نسبيا، أقرب منالا، ولا سيما الآن بعد أن جرى طرد "قوات الدعم السريع" من الخرطوم. فلم يعد هناك اتصال مباشر بين التشكيلين العسكريين، "قوات الدعم السريع" تتركز أساسا في دارفور وأجزاء من كردفان، بينما يسيطر الجيش على المدن الرئيسة ووسط السودان والشرق.
هذا التحول يعني أن معظم الضحايا في الآونة الأخيرة نتجوا عن الضربات الجوية والمدفعية والطائرات المسيّرة، وليس من القتال المباشر في الأحياء السكنية. ومن هذه الزاوية، فإن تنفيذ وقف إطلاق النار بات أكثر قابلية للتحقق.
كل هذا يعود إلى إرادة الطرفين، وربما إلى دور الأطراف الخارجية ذات النفوذ عليهما. كما ذكرت، روسيا ، والولايات المتحدة ، ومصر، والإمارات ، وإيران. ثم هناك الدول المجاورة، مثل جنوب السودان، وإثيوبيا، وتشاد، التي تعاني من تبعات الحرب أكثر من غيرها. لا أحد يعارض وقف إطلاق النار بصورة علنية. لكن، في الوقت نفسه، لا أحد يبذل جهدا حقيقيا لتحقيقه.
* لدي سؤال سريع عن رئيس الوزراء الجديد الذي عيّنه البرهان، كامل إدريس. هو في الأساس يملك السيرة الذاتية ذاتها لعبد الله حمدوك، أليس كذلك؟
– لا أوافق على هذا الرأي.
* أعني أنه شخصية تكنوقراطية، لا يعرف السودان من الداخل. هل يمكن لشخص بهذه المواصفات أن ينجح في بلد غارق بالحرب؟
– في الواقع، الوضع مختلف تماما. حين عُيّن حمدوك، جاء بتوافق واسع من مختلف مكونات المجتمع السوداني، وكان يحظى بدعم دولي كبير لإعادة بناء الدولة وتحقيق أهداف الثورة: الحرية، والعدالة، والديمقراطية.
أما الآن، وكما ذكرتَ، فنحن أمام بلد يعيش حالة حرب. وصلاحيات رئيس الوزراء في مثل هذا السياق شديدة المحدودية. آنذاك، جاءت التسوية السياسية نتيجة مفاوضات بين المدنيين والعسكريين، أفضت إلى اتفاق لتقاسم السلطة، بحيث مثّل حمدوك الطرف المدني، بينما مثّل البرهان والمؤسسة العسكرية الطرف الآخر. وكان من الضروري التوصل إلى صيغة للتعاون بين الجانبين، وقد نجحت تلك الصيغة لفترة وجيزة قبل أن تنهار.
أما اليوم، فالوضع مختلف كليّا. لا وجود لتقاسم سلطة. لدينا رئيس وزراء يعمل تحت سلطة مجلس سيادة يقوده العسكريون. دعني أقولها بوضوح: الذين عيّنوا رئيس الوزراء الجديد سيقيسون نجاحه بمدى التزامه بتنفيذ توجيهاتهم. الأمر لا يتعلق بقيادة السودان نحو حكم مدني ديمقراطي، بل إن هامش الحركة المتاح لهذا المنصب الآن أضيق بكثير مما كان متاحا لحمدوك.
* هل ترى أن ما يحدث في السودان هو حرب بالوكالة بين أطراف إقليمية ودولية؟
– أرفض تماما فكرة أن ما يجري هو حرب بالوكالة. هذا صراع داخلي على السيطرة على السودان وموارده. لكن، ما إن تبدأ حرب كهذه، حتى تبدأ القوى الإقليمية والدولية في السعي لتعزيز مصالحها وسط أتون الصراع، وهو ما نراه يحدث بالفعل بشكل واضح.
* التقدّم الأخير الذي أحرزه الجيش، والانكسارات التي مُنيت بها "قوات الدعم السريع" هل يعود ذلك، ولو جزئيا، إلى تحولات في مواقف القوى الإقليمية؟ ثمة من يرى أن تراجع الدعم الروسي والإيراني ل"حميدتي" يفسّر هذه الخسائر؟
– لا شكّ أن ميزان القوى العسكري يتأثر بشكل مباشر بمستوى ونوعية الدعم الخارجي الذي تتلقاه الأطراف المتحاربة، ولا سيما ما يتعلق بجودة التسليح، وهو ما يتجلّى بوضوح على أرض الميدان. روسيا ، على سبيل المثال، وهي من بين الأطراف التي ذكرتَها، قدمت دعما للطرفين، متبعة نهجا تقليديا في السياسة الروسية: فعبر دعم الجانبين، تضمن موسكو تموضعا إلى جانب المنتصر في نهاية المطاف.
غير أن الكفّة الروسية مالت، مع مرور الوقت، لصالح الجيش السوداني المتمركز في الخرطوم ، وذلك لعدة اعتبارات، من بينها سيطرة الجيش على سواحل البحر الأحمر، في وقت تسعى فيه روسيا إلى إنشاء قاعدة بحرية هناك، وهو ما لا يمكن لحميدتي أن يقدّمه ببساطة.
أما الإمارات ، فقد وجدت نفسها تحت ضغوط متزايدة– لا سيما من قبل الولايات المتحدة– لتقليص دعمها ل"قوات الدعم السريع". في المقابل، دخلت إيران على الخط، وقدّمت دعما ل"قوات الدعم السريع" وبخاصة الطائرات المسيّرة. ومن هذه الزاوية، لا شك أن الأطراف الإقليمية والدولية قادرة على التأثير في موازين القوى من خلال تزويد حلفائها بأنظمة تسليح أكثر تطورا.
ومع ذلك، يبقى الفيصل الحقيقي في نهاية المطاف بيد الفاعلين المحليين أنفسهم: هم من يملكون قرار استخدام السلاح، وهم من يقع على عاتقهم حشد الموارد البشرية. وحين تتراجع وتيرة الاشتباكات المباشرة والقتال داخل المدن، وتُستبدل بالهجمات عن بُعد باستخدام المسيّرات والمدفعية والصواريخ، تزداد أهمية العامل الخارجي في ترجيح كفّة طرف على آخر.
ومع ذلك، تنبغي الإشارة إلى أن الطرفين، في واقع الأمر، يتعاملان مع عدد من الجهات الخارجية نفسها. فكلاهما يصدّر الذهب إلى نفس الدولة، وكلاهما يحصل من خلالها على الموارد اللازمة لشراء السلاح والذخائر والوقود.
ولو كان العامل الخارجي وحده هو المحدِّد، لما شهدنا هذا التحوّل السريع في ميزان القوى. وإذا نظرنا إلى خريطة الدول المحيطة بالسودان، سنجد أن معظمها يميل– ربما بدرجات متفاوتة ومن دون دعم مطلق– إلى "قوات الدعم السريع". فباستثناء مصر، وربما إريتريا، اللتين تدعمان الجيش السوداني بشكل واضح، فإن دولا مثل إثيوبيا، وجنوب السودان، وتشاد، وكينيا، وأوغندا، تُظهر قدرا من التعاطف أو الميل نحو "حميدتي" ومعسكره.
ومع ذلك، لا يمكن القول إن هذا هو ما سيحسم نتيجة الحرب، لا لمصلحة "حميدتي" ولا لمصلحة الجيش. الأهم، كما أشرنا سابقا، هو أن الجيش السوداني لا يزال يُمثل مؤسسة قائمة، وإن لجأ في الفترة الأخيرة إلى تجنيد ميليشيات قبلية. أما "قوات الدعم السريع"، فهي في جوهرها ميليشيا خاصة، لم تُبدِ أي محاولة فعلية لتقديم نموذج للحكم في المناطق التي سيطرت عليها، ولم تسعَ إلى كسب ثقة المجتمعات المحلية.
بل إن ما سُجّل كان على العكس من ذلك تماما: عمليات نهب واسعة، واغتصاب، وارتكاب جرائم قتل. ومع تدهور الوضع العسكري في الخرطوم ، لم يجد مقاتلو "الدعم السريع" ما يدفعهم لمواصلة القتال. فالمناطق التي دافعوا عنها لم تكن أرضهم في الأساس، ولذا فربما كانوا مستعدين للعودة إلى ديارهم، وسعيدين بذلك.
* الجغرافيا تُعد عاملا حاسما إلى حد كبير. فالسيطرة العسكرية على مناطق قريبة من البحر الأحمر تمنح الجيش أفضلية استراتيجية، خاصة في ظل الاهتمام المتزايد من القوى الدولية. كيف تقرأ ما يجري في السودان في سياق تطورات ليبيا وسوريا؟ هل ترى روابط بينها؟
– انظر، كل شيء متصل بكل شيء: هذه قاعدة مفهومة في المشهد الإقليمي.
* ساعدنا على فهم طبيعة هذه الروابط: أين تتقاطع المسارات؟
– من المهم أن لا نُفرط في تضخيم هذه الروابط. نعم، هي قائمة بلا شك. على سبيل المثال، حصول "قوات الدعم السريع" على الوقود من قوات حفتر في ليبيا يُعد أمرا ذا دلالة. لكنه في الوقت ذاته امتداد لشبكات قديمة، إذ لطالما انخرطت الجماعات المسلحة في دارفور في تجارة مشروعة وغير مشروعة مع ليبيا وتشاد ومناطق أخرى. وبالتالي، فإن هذا البُعد ليس بجديد تماما.
ما يتبدى بوضوح من منظور جيوسياسي، هو تنامي الترابط بين شبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي، والسودان يشكّل جزءا متزايد الأهمية في هذه الديناميكية، على نحوٍ مماثل للصومال. للسعودية والإمارات مصالح استراتيجية راسخة في السودان تعود إلى ما قبل اندلاع الحرب، وتتشابك هذه المصالح مع علاقات قبلية عابرة للبحر الأحمر، كما تتقاطع مع مصالح اقتصادية وتجارية، من بينها تعاملات "حميدتي" المالية في الإمارات. فالدعم الإماراتي ، سواء كان سياسيا أم ماديا، لعب دورا بارزا في تمكين "قوات الدعم السريع".
هناك نفي أبوظبي تزويد "الدعم السريع" بالسلاح، إلا أن ثمة أشكالا أخرى من الدعم متاحة، ونعلم أن بعضها قد تحقق بالفعل. إلى جانب ذلك، نشهد اليوم تزايدا في الروابط بين الإسلاميين السودانيين والحوثيين في اليمن، كما تتزايد الصلات بين حركة الشباب في الصومال والحوثيين. ما يعني أن هذين المجالين العربي والأفريقي، اللذين كانا يعتبران فضاءين منفصلين، باتا أكثر تشابكا من أي وقت مضى.
أما بالنسبة لسوريا ، فتبدو الروابط أضعف بكثير. صحيح أن هناك بعض أوجه الشبه– كاهتمام روسيا المتجدد بتوسيع وجودها البحري– إلا أن هذه الروابط تظل غير مباشرة. بخلاف ليبيا، لا تطل السودان على البحر المتوسط، مما يقلّل من أهميتها الاستراتيجية لروسيا في هذا السياق. ومن منظور عسكري، تبدو ليبيا خيارا أكثر واقعية لاستضافة قاعدة بحرية روسية مقارنة ببورتسودان. ومن الناحية المثالية، قد تطمح موسكو للوصول إلى كلا الميناءين، لكن في ظل انشغالها المتواصل بالحرب في أوكرانيا ، قد تفتقر ببساطة إلى القدرة على تحقيق مثل هذه الطموحات في الوقت الراهن.
نعم، هناك درجة معينة من الترابط بين هذه الأزمات الإقليمية، لكن لا ينبغي الخلط بينها وبين تحالفات منسقة أو اصطفافات متجانسة.
* هل تتفق مع القول إن الروس خسروا استراتيجيا في سوريا ، على الأقل في الوقت الراهن، وهم اليوم يحاولون التعويض أو بذل جهود مضاعفة في أفريقيا، سواء في ليبيا أو في السودان؟
– في الحقيقة، لا أراهم يبذلون جهودا كبيرة هنا، لانشغالهم بأوكرانيا. فالوضع في أوكرانيا لا يسير على ما يرام بالنسبة لهم. إنهم يخسرون الكثير من المعدات والجنود، كما أن الاقتصاد الروسي يعاني. لذا نعم، على المستوى الاستراتيجي، ونظرا لانشغالهم بالشؤون الجيوسياسية، سيحاول الروس إيجاد بديل محتمل لطرطوس. وفي الوقت نفسه، ما زالوا يتفاوضون مع الحكومة السورية الجديدة، ويريدون الحفاظ على موطئ قدم لهم في طرطوس كحد أدنى. ويبدو أن المسؤولين الجدد في دمشق منفتحون على هذا الأمر على الأقل، طالما بقيت روسيا بعيدة عن السياسة الداخلية السورية. وقد يكون ذلك مفيدا لحكومة الشرع، بأن تواصل روسيا إجراء الإصلاحات والاستثمار في السدود ومحطات الطاقة، التي بنيت في عهد الاتحاد السوفياتي، وتستخدم تكنولوجيا سوفياتية وروسية على سبيل المثال، فالجميع يحاولون موازنة رهاناتهم وتحقيق أقصى فائدة من وضع قد يرضيهم كليا.
* لقد عملت على شؤون الشرق الأوسط لفترة طويلة. إذا حاولت النظر إلى الصورة الكبيرة وتأملت في هيكل الشرق الأوسط بأكمله، كيف تراه؟ وإلى أين نتجه؟
– أعتقد أن هذا هو التطور الأكثر إثارة للاهتمام بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو في الوقت نفسه نتيجة لها. إن التطور الجيوسياسي الأكثر إثارة للاهتمام هنا هو الهزيمة الاستراتيجية التي اضطرت إيران للإذعان لها، وتفكك "محور المقاومة". حيث استطاعت إيران أن تحشد وكلاءها وداعميها، إلا أنها لم تتمكن من الدفاع عنهم. فهي لم تتمكن من الدفاع عن "حزب الله"، ولم تتمكن من الدفاع عن الأسد. وهذه خسارة استراتيجية كبيرة بالطبع، إلا أنها قد تكون جيدة للبلاد في نهاية المطاف، فهي تعني أن إيران ستهتم بشؤونها الخاصة، وستتمكن من التركيز على بناء اقتصادها، وبناء علاقات جيدة مع جيرانها، الذين يسعون منذ فترة للتعاون مع السعودية والإمارات من أجل العمل على تهدئة التوتر، والاهتمام الفعلي بمستقبلهم الاقتصادي والاجتماعي. وأعتقد أن هذا ما يريده الرئيس المنتخب بيزشكيان. إن الضعف العسكري والاهتمام بتطوير إيران ، يفسران المفاوضات الجارية بين إدارة ترمب والإيرانيين ، والتي تقدم فرصة استراتيجية للمنطقة بأكملها في الواقع.
اللافت للنظر في إدارة ترمب، كما هو الحال مع كل إدارة أميركية جديدة تقريبا، هو أنها تقول: "لا نريد التورط في الشرق الأوسط"، ثم تبدأ حربا أو مفاوضات، وأحيانا كلتيهما. لذا، فهي منغمسة بالفعل في ديناميكيات الشرق الأوسط بكوادر قليلة للغاية، بل بمجرد حفنة من الأشخاص، وفي كثير من الأحيان الجهات الفاعلة هي ذاتها التي تتدخل: إيران وإسرائيل وغزة وغيرها، وحتى روسيا.
وعلى الرغم من صعوبة إطلاق أحكام مسبقة على خطوات الرئيس ترمب التالية، يبدو جليا أن رؤيته ليست شرق أوسطية. إنها رؤية أميركية، أو بالأحرى رؤية تهتم بالأعمال الأميركية، تتمحور حول أين يمكن لأميركا الحصول على أفضل الصفقات. وهذا الأمر يعني إلى حد ما قبول فكرة أن جميع الدول، تلك القوية تحديدا، والمعتبرة لاعبا أساسيا في قضايا الشرق الأوسط، يمكنها أن تفعل ما تشاء. لذا يحظى الرئيس ترمب بعلاقات ممتازة مع دول الخليج العربي، ويتفاوض مع إيران ، لأنه ربما يدرك أن إيران أكبر من أن تختفي بين ليلة وضحاها، ولا يريد الدخول في حرب معها، كما أنه لا يريد حربا إقليمية بين إسرائيل وإيران ، وبالتالي يُقدم على أمور هنا وهناك قد لا تروق للحكومة الإسرائيلية على الإطلاق، فعلى سبيل المثال نجد أنه توصل لاتفاق وقف إطلاق نار مع الحوثيين. وفي الوقت نفسه، يسمح لإسرائيل بفعل ما تشاء في قطاع غزة ولا يتدخل فيه. لذا، فمن الواضح أنه يرى قطاع غزة جزءا من منطقة النفوذ الإسرائيلي، ويتركهم يفعلون ما يحلو لهم. إلا أنه يخبر الإسرائيليين أيضا بأن إيران ، وحتى سوريا ، ليست لهم أو ضمن مجال نفوذهم. فهو يفضل أن يسير مع رؤية دول الخليج للمنطقة، وينسجم مع السعودية في سوريا ، ويثق بالاجتماع بين الإمارات والسعودية وإيران.
* الشرق الأوسط الذي عرفه كلانا منذ عشرين أو ثلاثين عاما، هل يتغير أم إننا نشهد نهايته؟ إذا تسنى لك أن تكتب سيناريو الشرق الأوسط الجديد، فكيف تراه؟
– أعتقد أن هناك عددا كبيرا من الكتب التي نشرت تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد" ليس فقط على مدار العشرين عاما الماضية، ولكن ربما على مدار الأربعين أو الخمسين عاما الماضية، من قِبل مؤلفين عرب وإسرائيليين ودوليين. وكتابي الأخير الذي أظن أنه نشر 2014/2015، باللغة الألمانية، يحمل عنوان "نهاية الشرق الأوسط كما نعرفه". أي مرة أخرى، منذ أكثر من عشر سنوات. وبالطبع، جاء الكتاب تحت تأثير صعود "داعش"، الذي بدا وكأنه دمر دولا بأكملها مثل العراق وسوريا. اليوم عاد العراق أضعف من ذي قبل، ولكن ربما في وضع أفضل مما كان عليه، كجار مسالم للآخرين، وقد تغيرت سوريا بشكل هائل، ولا يزال تنظيم "داعش" موجودا ولكن ربما لم يعد يشكل التهديد الذي كان عليه.
أعتقد أن ثمة سؤالا يطرح نفسه علينا جميعا كمراقبين لمنطقة الشرق الأوسط، سواء كنا نعيش فيها أم لا، عندما نصف منطقة ونكتب تاريخها، نعتقد أحيانا أننا نعرفها، إلا أن التطورات اللاحقة تطرح السؤال الأكثر أهمية عما إذا كنا نعرف حق المعرفة الشرق الأوسط الذي اعتقدنا أننا نعرفه وما إذا كنا تجاهلنا الكثير من التيارات الاجتماعية والسياسية العميقة التي ظهرت هناك.
تلك كانت الحال مع "الربيع العربي". فبالنسبة لك كصحافي كنت، بالحدود الدنيا، منخرطا عاطفيا. وقع ذلك في عام 2011 بعد أن أكدت الأبحاث مرونة الأنظمة الاستبدادية العربية وصمودها الدائم، ومن ثم جرى تطوير النظريات عن أسباب صمود تلك الأنظمة الاستبدادية العربية، وغيرها من الأنظمة الاستبدادية في أجزاء أخرى من العالم. وفي لحظة لم يتوقعها أحد جاء "الربيع العربي". وكان الجميع مسرورا واعتقدوا أن هذا الربيع يتشابه مع بعض الانتفاضات السياسية التي أطاحت بالإمبراطورية الشيوعية. وقارن الباحثون والمحللون بين "حركة التضامن" البولندية وحركات المجتمع المدني في العالم العربي. غير أن رياح التغيير في العالم العربي لم تسر في الاتجاه الصحيح، والسبب، مرة أخرى، وجود تيارات خفية أعمق، وبالطبع، كانت هناك قوى مهتمة بالاستقرار الاستبدادي بدلا من الديمقراطية الفوضوية الحتمية. وشهدنا رد الفعل العنيف، وما نراه في هذه المرحلة الحساسة هو على الأرجح شكل من الجدلية التاريخية، ما يعني أننا نشهد تحولا هائلا في موازين القوة في العالم العربي والشرق الأوسط نحو دول تتمتع بحكم أفضل من بعض الأنظمة التي سقطت، ولكنها ليست ديمقراطية بالتأكيد. لنأخذ بعض الدول العربية على سبيل المثال. لا أحد يفترض أنها ديمقراطية، لكنها بالتأكيد تتمتع بأنظمة حكم وإدارة اقتصادية وسياسية أفضل بكثير من القوى القديمة في الشرق الأوسط، كالبعثيين في سوريا والعراق ، والناصريين وما بعد الناصريين في مصر، وغير ذلك.
* انتهت الحرب الباردة منذ سنوات، وكذلك انتهى النظام العالمي بقيادة أميركا. يبدو أننا نشهد تحولا نحو نظام عالمي جديد. كيف تراه؟ وأين الشرق الأوسط فيه؟
– في الواقع إن ما نراه اليوم هو نظام متعدد الأقطاب لم تُكتب قواعده بعد. في الوقت الحالي، ستلتزم القوى المسيطرة، على الصعيد العالمي والإقليمي بالقانون الدولي كما هو مقرر ومتفق عليه، بشكل أو بآخر، وبالنظام العالمي الذي عرفناه، أو ظننا أننا نعرفه، بعد الحرب العالمية الثانية. لكن وبطبيعة الحال، كلما زادت قوتها، زاد انتهاكها لقواعد اللعبة. أما القوى الأصغر، أو تلك التي تتبنى عقلية التعددية بدلا من السيطرة القطبية، والتي تشمل الاتحاد الأوروبي، وبعض الدول المنفردة في الشرق الأوسط أو أفريقيا أو آسيا، فستحاول تثبيت قواعد اللعبة، التي ما تزال قائمة. وهنا، أعتقد أن الشرق الأوسط ليس في المنتصف، بل بين هذين الجانبين. فهو لا يؤمن بالقيم الليبرالية للولايات المتحدة قبل ترمب أو الاتحاد الأوروبي، غير أنه يؤمن ببعض قواعد اللعبة الراسخة، وبخلاف ذلك سيكون من الصعوبة بمكان على القوى المتوسطة والصغيرة الصمود والنجاة، كما هو الحال في الشرق الأوسط. وبالتالي، فهم يحتاجون إلى قدر من الموثوقية فيما يتعلق بالقواعد، وأنماط الترتيبات الدولية والتعاون الدولي.
ما أراه أن الشرق الأوسط، بقيادة قوى الخليج، لا يعيد تعريف نفسه بالمعنى الاقتصادي أو السياسي، أو الجغرافي الاقتصادي فقط، وإنما بالمعنى السياسي الاستراتيجي أيضا. فمن الناحية الجيواقتصادية يحاول الشرق الأوسط، بقيادة دول الخليج العربية، الاستعداد لمستقبل ما بعد النفط والكربون. سوف تستخدم هذه الدول الدخل النفطي لأطول فترة ممكنة، لكنها تدرك أن النفط سينضب في مرحلة ما. وعند النظر إلى خطاب السعوديين والإماراتيين ، نرى أن الخطاب يتركز على تقنيات المستقبل، والذكاء الاصطناعي، وحول التواصل أيضا، وليس حول تصدير السلع وحسب.
أما من الناحية السياسية، فالكل يريد أن ينتهي الصراع القديم في الشرق الأوسط، الصراع العربي الإسرائيلي، الذي يُشكل المنطقة بأسرها. بالنسبة لدول الخليج فقد وطنت نفسها على أن الأمر انتهى بالنسبة لها. حتى أحمد الشرع يبدو مستعدا للسلام مع إسرائيل. لدينا حكومة إسلامية هنا نأت بنفسها عن كل الخطاب البعثي القديم حول "الكيان الصهيوني" وما إلى ذلك، وهي مستعدة للحديث عن إسرائيل والسلام معها. بالطبع، لديهم بعض الشروط. فهم يقولون: نريد استعادة بلدنا أو أراضينا. لذا، كان الجميع مستعدا للموافقة، أو جاهزا للقول إن الصراع انتهى لولا القضية الفلسطينية. ويبدو أن نية بعض أطراف الحكومة الإسرائيلية الحالية على الأقل هي طرد الفلسطينيين من وطنهم، بدلا من السعي لحل الدولتين. وهذا، بطريقة ما، يشكل عقبة أمام أي شيء يمكن أن نسميه نظاما في الشرق الأوسط، أو نظاما لما بعد الصراع وما بعد السابع من أكتوبر في الشرق الأوسط. ومن جهة ثانية، ثمة عدد من الدول التي كنا نعتبرها في الماضي جزءا من الشرق الأوسط، وخاصة دول شمال أفريقيا والمغرب وتونس، لم تعد تكترث لما يحدث شرق السويس ، بل أصبحت تصب كل اهتمامها على علاقاتها مع أوروبا، والإنتاج للسوق الأوروبية، والفرص التي تراها في أفريقيا، فالمغرب على سبيل المثال، وبشكل استباقي، يعمل الآن على بناء جسور عبر الساحل والصحراء، بدلا من أن يكرس، كما كان يفعل في الماضي، وقتا طويلا للقدس أو القضايا الإسرائيلية الفلسطينية.
نقلاً عن المجلّة

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

سعورس
منذ 4 ساعات
- سعورس
رئيس الوزراء السوداني: الخرطوم ستعود عاصمة قومية شامخة
وفي جولة تفقدية شملت مطار المدينة المدمر وجسورها ومحطات مياه، عرض رئيس الوزراء الجديد مشاريع الإصلاح الشاملة تحسباً لعودة البعض على الأقل من ملايين السكان الذين فروا من العنف. وقال إدريس إن " الخرطوم ستعود عاصمة قومية شامخة"، وفق ما نقلت عنه وكالة أنباء السودان الرسمية. ووصل رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبدالفتاح البرهان السبت إلى مطار الخرطوم الذي استعاده الجيش في مارس/ آذار/ بعد سيطرة قوات الدعم السريع عليه لمدة عامين تقريباً. بدأت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في قلب العاصمة في أبريل/ نيسان/2023، مما أدى إلى تمزيق المدينة. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عشرات الآلاف قتلوا في العاصمة التي كانت تعج بالحركة قبل أن يفر منها 3,5 ملايين من سكانها. وبحسب مكتب الإعلام بولاية الخرطوم ، فقد زار كامل إدريس السبت مقر قيادة الجيش ومطار المدينة ، وهما رمزان وطنيان عززت استعادتهما مع القصر الرئاسي في وقت سابق من هذا العام انتصار الجيش في العاصمة. لكن من المتوقع أن تكون إعادة الإعمار مهمة جبارة، إذ تقدّر الحكومة تكلفتها بنحو 700 مليار دولار على مستوى السودان، نصفها تقريبا للخرطوم وحدها. وبدأت الحكومة الموالية للجيش التي انتقلت إلى بورتسودان على البحر الأحمر في وقت مبكر من الحرب ولا تزال تعمل منها، في التخطيط لعودة الوزارات إلى الخرطوم حتى مع استمرار القتال في أجزاء أخرى من البلاد. وانطلقت السلطات في عملياتها في العاصمة لدفن الجثث بشكل لائق، وإزالة آلاف الذخائر غير المنفجرة، واستئناف الخدمات الإدارية. وفي زيارة لمصفاة الجيلي في شمال الخرطوم ، وهي أكبر مصفاة للنفط في السودان، وعد إدريس بأن "المنشآت القومية سوف ترجع أحلى مما كانت عليه". تمت استعادة المصفاة المدمرة في يناير/كانون الثاني/، لكن إعادة تأهيل المنشأة التي كانت تعالج في السابق 100 ألف برميل يوميا ستستغرق سنوات وتكلف ما لا يقل عن 1,3 مليار دولار، بحسب ما أفاد مسؤولون وكالة فرانس برس. عمل كامل إدريس في الدبلوماسية، وهو مسؤول سابق في الأمم المتحدة عيّنه في مايو/أيار/ البرهان، الزعيم الفعلي للسودان، لتشكيل إدارة أطلق عليها "حكومة الأمل". وتسببت الحرب في أكبر أزمة جوع ونزوح في العالم، إذ يعاني ما يقرب من 25 مليون سوداني انعدام الأمن الغذائي الشديد، كما أجبرت أكثر من 10 ملايين سوداني على النزوح داخليا في أنحاء البلاد. وفرّ أربعة ملايين سوداني آخرين عبر الحدود. في الأثناء، لا تظهر أي مؤشرات الى تراجع القتال في جنوب كردفان وإقليم دارفور في غرب السودان، حيث اتهمت قوات الدعم السريع بقتل المئات في الأيام الأخيرة في محاولات لتوسيع مناطق سيطرتها.


قاسيون
منذ 13 ساعات
- قاسيون
مشاركة السوريين في القرار: شرط أساسي لمحاربة الفقر في سورية
بينما تتجه الأنظار نحو القضاء على الفقر في سورية، تظهر نقاشات حادة في الأوساط الإعلامية والاقتصادية حول الطريق الأمثل لتحقيق التعافي. تتلخص هذه النقاشات في تباين جوهري بين تيارين: أحدهما ينادي بـ«فتح الاقتصاد» وتطبيق مبادئ السوق الحرة، والآخر يرى الحل في سياسات موجهة تتطلب تدخلاً واسعاً من الدولة. يدعو فريق من الاقتصاديين والمسؤولين، بما في ذلك العديد من المسؤولين الاقتصاديين في السلطة الحالية، إلى تبني «نظام سوق حر تنافسي». وتُقدم هذه الرؤية بوصفها تحولاً ضرورياً عن السياسات «الاشتراكية» السابقة المزعومة، مع دعوات واضحة لخصخصة واسعة للأصول العامة وتخفيض الضرائب على المستثمرين. في المقابل، يبرز في المجتمع السوري رأي معاكس قوي يستند إلى النتائج الكارثية لسياسات «التحرير الاقتصادي» التي طُبقت في سورية سابقاً، حيث أسهم التوجه القوي للأسد نحو سياسات السوق المفتوح في أوائل الألفية الجديدة في تفاقم الأوضاع الاجتماعية بشكل كبير، مما كان له دور رئيسي في انفجار الأزمة عام 2011. الفقر في سورية: حقائق وأرقام اليوم يعكس الواقع الاقتصادي والإنساني في سورية اليوم صورة واضحة للفقر المدقع وتبعاته المباشرة، حيث تشير جميع تقارير الأمم المتحدة إلى تدهور غير مسبوق في مستويات المعيشة: اعتباراً من عام 2024، يعيش 90% من السكان، أي نحو 20.7 مليون إنسان، تحت خط الفقر. وتمثل هذه النسبة زيادة كارثية عن 33% قبل عام 2011. ويعيش جزء كبير من السكان (نحو 15.8 مليون إنسان)، في فقر مدقع. وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، انكمش الناتج المحلي الإجمالي في سورية بشكل حاد، حيث انخفض إلى أقل من نصف قيمته في عام 2010. ويبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حالياً 25% فقط من مستواه في عام 2010. ويقدر إجمالي «الناتج المحلي الإجمالي المفقود» من عام 2011 إلى عام 2024 بنحو 800 مليار دولار أمريكي (بأسعار عام 2010)، وهو مبلغ يعادل 35 عاماً من الناتج المحلي الإجمالي للفرد بالمستويات الحالية. فقدت الليرة السورية نحو 99% من قيمتها منذ عام 2011. وبلغ الحد الأدنى الشهري لتكاليف معيشة أسرة سورية مكونة من خمسة أفراد خلال الربع الأول من العام الجاري نحو 8,051,604 ليرة سورية (نحو 895 دولار أمريكي)، بينما لا يزال الحد الأدنى الرسمي للأجور ثابتاً حتى الآن عند 278,910 ليرة سورية شهرياً (نحو 30 دولار). وصلت البطالة في صفوف الشباب إلى نحو 60% بحلول عام 2022. وفُقدت أكثر من 3 ملايين وظيفة خلال السنوات الخمس الأولى من انفجار الأزمة (2011-2016)، مع تقديرات بفقدان 500,000 إلى 600,000 وظيفة سنوياً خلال ذروة سنوات القتال العسكري. ولا تتمكن دخول الأسر السورية حتى اليوم، من مواكبةارتفاع الأسعار سواء من العمل أو التحويلات الخارجية. فوق ذلك، يواجه 89% من السكان انعدام الأمن الغذائي، مع معاناة 60% من انعدام الأمن الغذائي الشديد. ويعتمد 70% على الأقل من السوريين على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية. وبشكل عام، يقدر أن 16.7 مليون شخص (أي ثلاثة أرباع السكان) بحاجة إلى مساعدة إنسانية. وعلى هذا النحو، ارتفعت حالات سوء التغذية الحاد بين الأطفال السوريين بنسبة 48% بين عامي 2021 و2022. ويعاني أكثر من 500,000 طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الذي يهدد حياتهم، مع وجود مليونين آخرين على وشك أن يصبحوا مصابين بسوء التغذية. أما الآثار السلبية القطاعية طويلة الأمد فتعكس صورة أكثر شمولاً، حيث وُلد أكثر من 75% من أطفال سورية البالغ عددهم 10.5 ملايين طفل في ظل الحرب. وتلجأ العديد من الأسر إلى آليات يائسة للتكيف، بما في ذلك عمالة الأطفال والزواج المبكر للفتيات الصغيرات. ولا يزال أكثر من 40% من إجمالي نحو 20,000 مدرسة في البلاد مغلقاً، ما يترك أكثر من 2.4 مليوني طفل خارج الفصول الدراسية وأكثر من مليون طفل معرضين لخطر التسرب. كما دُمر ثلث المراكز والعيادات الصحية بالكامل أو جزئياً، وباتت نصف خدمات الإسعاف غير عاملة. ويفتقر أكثر من نصف السكان (نحو 14 مليون سوري) إلى الوصول الكافي لخدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الأساسية. وتعرض أكثر من 50% من محطات معالجة المياه وشبكات الصرف الصحي لأضرار أو أصبحت خارج الخدمة. وباتت القدرة التشغيلية لتوفير المياه النظيفة في محافظات البلاد الأربع عشرة تقل عن 50%، وتنخفض إلى 23% عند انقطاع الكهرباء. أبعاد الفقر السوري: هل الحرب هي السبب الوحيد؟ المستويات الحالية للفقر في سورية ليست مجرد نتيجة للصراع المسلح الذي شهدته البلاد، بل نتاج لعوامل مركبة منها السياسات الاقتصادية المتبعة، والتراجع المتعمد لدور الدولة، وعوامل خارجية مثل العقوبات الاقتصادية، التي تفاعلت معاً لتخلق واقعاً مأساوياً. عندما سرّع الأسد الابن من التوجه النيوليبرالي منذ بداية حكمه، حاملاً شعار الدفع القوي نحو اقتصاد السوق الحر، شهدت البلاد «ثورة مراسيم» تضمنت أكثر من 1200 قانون جديد بهدف «دمج الاقتصاد السوري في التدفقات الاقتصادية العالمية». ونتيجة مباشرة لذلك، انخفضت حصة القطاع العام من الناتج المحلي الإجمالي في سورية إلى الثلث فقط. والأهم من ذلك، أن هذا التحرير الاقتصادي جاء على حساب التصنيع، مفضلاً الأنشطة ذات العائد المرتفع في قطاع الخدمات، مع ذهاب الفوائد إلى النخب الأكثر ثراءً وفساداً في البلاد. بطبيعة الحال، كانت العواقب الاجتماعية لهذا التوجه كارثية - الذي يحاول البعض تصويره اليوم على أنه «حديث وعصري» - كارثية. وعلى وجه التحديد، ارتفعت نسبة السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى (دولار واحد في اليوم) من 13.8% في عام 2005 إلى 24% في عام 2010، بينما ارتفعت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر الأعلى (2.15 دولار في اليوم) من 30% في 2005 إلى 44% في 2010. وكان خلق فرص العمل ضئيلاً، بمتوسط نمو 0.5% فقط سنوياً بين عامي 2004 و2008، وهو أقل بكثير من 3-4% التي كانت لازمة لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل. وكان هذا «الإصلاح» المزعوم بمثابة برنامج اقتصادي نيوليبرالي ضيق أعطى الأولوية لمعدلات النمو على التوزيع العادل. ومن السمات البارزة للسياسات النيوليبرالية التي اتبعت في سورية قبل الحرب وأثناءها كان تخفيض الدعم الحكومي للسلع الأساسية وتقليص الإنفاق الاجتماعي. ففي عام 2008 مثلاً، أقدمت الحكومة على رفع الدعم عن المشتقات النفطية بشكل حاد، ما أدى إلى زيادة سعر وقود الديزل بنسبة 257% دفعة واحدة. وترتب على ذلك ارتفاع كبير في تكاليف الإنتاج الزراعي والصناعي، حيث وجدت شريحة واسعة من المزارعين والصناعيين نفسها عاجزة عن تحمل تكاليف الوقود اللازمة لتشغيل معداتها. وانعكس هذا القرار سريعاً على أسعار السلع الأساسية التي قفزت إلى مستويات غير مسبوقة، مما أدى إلى موجة غلاء أثقلت كاهل المواطنين وبخاصة الفقراء. وبالمثل، شهدت الخدمات العامة تراجعاً ملحوظاً في مستواها وتغطيتها نتيجة «تقشف» الدولة في الإنفاق الاجتماعي. فقد انخفض الإنفاق الحكومي على الصحة مثلاً إلى نحو 0.4% فقط من الناتج المحلي قبل عام 2010، وهو رقم متدنٍ للغاية مقارنة بالمعدلات العالمية (التي تتراوح عادة بين 5% و12%). وينطبق الأمر نفسه على قطاع التعليم الذي شهد ازدحاماً في المدارس الحكومية وضعفاً في جودتها، في وقت لم يكن معظم السوريين قادرين على تحمل كلفة التعليم الخاص. هذه السياسات - التي جاءت بإيحاء من توجهات اقتصاد السوق والرغبة في تقليص دور الدولة - أسهمت بشكل مباشر في زيادة معدلات الفقر قبل الحرب، رغم ما أظهرته الأرقام الكلية من نمو اقتصادي في تلك الفترة. وهذا يدل على أن ثمار ذلك النمو لم تصل إلى معظم الشعب، بل تركزت في يد نخبة اقتصادية ضيقة استفادت من الخصخصة والانخراط في شبكات الفساد. وهكذا أسهمت هذه السياسات في تفكيك كثير من مقومات شبكة الأمان الاجتماعي التي كانت تحمي السوريين. خطوات عملية لمحاربة الفقر في ضوء ما ذكرناه، يبدو واضحاً أن القضاء على الفقر في سورية لن يتحقق بمجرد نمو اقتصادي عابر أو وعود نظرية، بل يحتاج إلى رؤية وطنية شاملة تعالج جذور المشكلة وتتبنى نموذجاً سورياً خاصاً يضع مصلحة السوريين في صدارة الأولويات. حيث أثبتت التجربة السورية خلال العقود الماضية أن ترك الأمور لقوى السوق والاعتماد على جهاز دولة مترهل دون إصلاح، كلاهما طريقان مسدودان. وعليه، فإن المقاربة العملية للقضاء على الفقر يجب أن تقوم على دور قوي وفعال للدولة من جهة، وعلى إعادة توجيه دفة الاقتصاد نحو تلبية احتياجات المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية من جهة أخرى. لا غنى عن دور محوري للدولة في المرحلة المقبلة لضمان توجيه الموارد نحو أولويات إعادة الإعمار والتنمية البشرية. وهذا لا يعني العودة إلى اقتصاد مغلق مزعوم، بل المقصود أن تكون الدولة مخططاً ومنظماً رئيسياً يحدد القطاعات الاستراتيجية التي يجب النهوض بها ويحفز الاستثمار فيها دون التفريط بها، ويعيد بناء البنية التحتية المدمرة. الدولة القوية والعادلة هي وحدها التي تستطيع وقف الاحتكارات وضبط الأسواق ومكافحة الفساد وتبديد الموارد. وفي الحالة السورية، ينبغي على الدولة استعادة دورها في التخطيط الاقتصادي طويل المدى لضمان تنويع الاقتصاد وإيجاد فرص عمل منتجة، بدلاً من تركز النشاط في التجارة والأنشطة الريعية. ومن أجل تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية والتخفيف الفوري من معاناة السوريين الأكثر فقراً، لا بد من اعتماد سياسات صريحة لإعادة توزيع الدخل والثروة داخل المجتمع السوري. لقد أدت سنوات الحرب والفساد إلى تراكم الثروة لدى فئة ضيقة من المنتفعين الفاسدين، فيما انزلقت الغالبية العظمى إلى ما دون خط الفقر. وعليه، ينبغي أن تتضمن الرؤية لسورية الجديدة إجراءات مثل إصلاح النظام الضريبي ليصبح تصاعدياً بحق، يفرض ضرائب أعلى على الشركات الكبرى وأصحاب الدخل المرتفع، مقابل تخفيف العبء عن الفقراء ومحدودي الدخل. كما يتعين مكافحة التهرب الضريبي الذي حرم الخزينة من موارد كانت كفيلة بتمويل برامج اجتماعية مهمة، والوقف الفوري لجميع عمليات تبديد مصادر إيرادات الدولة التي تصاعدت مؤخراً. لا يمكن كسر حلقة الفقر السوري دون رفع فعلي لمستويات دخل الأسر السورية، وبخاصة شريحة العاملين بأجر. فالأجور الحالية - حتى بعد الزيادات المتتالية التي أعلنت خلال السنوات الماضية - تلتهمها ارتفاعات الأسعار السريعة التي لا يوجد من يضبطها اليوم. الطريق نحو القضاء على الفقر في سورية يتطلب نهجاً متكاملاً ومدروساً يضع العدالة الاجتماعية في صلب أولوياته. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال دور قوي وفعال للدولة، ليس كجهة تتخلى عن المسؤولية الاقتصادية، بل كمهندس لإعادة بناء الاقتصاد وحماية مواطنيها. من يريد أن ينتشل المواطنين حقاً من الفقر، فهو محكوم بأن يركز جهوده على إعادة توزيع الثروة لصالح الغالبية المنهوبة، ورفع القوة الشرائية الفعلية للأجور، ودعم الإنتاج المحلي السوري وتطويره لحماية الصناعات الوطنية واستعادة عوامل الاكتفاء الذاتي. كما أن بناء الثقة بين الدولة والمواطنين، لا يمكن أن ينجز دون ضمان مستوى عال من الرقابة الشعبية والمشاركة المجتمعية الواسعة في صنع القرار الاقتصادي. وفي حين أن رفع العقوبات الاقتصادية الدولية يمكن أن يساهم نظرياً في تسهيل حياة السوريين، إلا أن النجاح في النهاية يعتمد بشكل أساسي على التغيير الداخلي الجذري، والقطع تماماً مع سياسات السلطة السابقة التي جرّفت جهاز الدولة السوري. سورية بحاجة ماسة إلى التحول من نموذج اقتصادي يخدم النخب إلى نموذج يعزز النمو الشامل، حيث تقاس الإنجازات الاقتصادية بمدى تحسينها لمعيشة السوريين. والفشل في تبني هذا النهج الشامل والموجه نحو العدالة الاجتماعية سيؤدي إلى استمرار دورة الفقر وعدم الاستقرار، مع تداعيات كارثية على الأجيال القادمة.


Independent عربية
منذ 18 ساعات
- Independent عربية
أوروبا تعتزم استئناف محادثات مع إيران بعد التهديد بـ"الزناد"
تنوي كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا عقد محادثات جديدة مع إيران في شأن برنامجها النووي خلال الأيام المقبلة، بحسب ما أفاد مصدر دبلوماسي ألماني وكالة الصحافة الفرنسية اليوم الأحد. وقال المصدر إن الدول الأوروبية الثلاث "على اتصال مع إيران لتحديد موعد لإجراء مزيد من المحادثات خلال الأسبوع المقبل" بعد تحذيرات من القوى الأوروبية من إمكان إعادة تفعيل العقوبات الدولية على إيران ما لم تستأنف المفاوضات. الجمعة الماضي أعلنت باريس أن وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا وألمانيا والاتحاد الأوروبي أبلغوا نظيرهم الإيراني عزمهم على إعادة تفعيل عقوبات الأمم المتحدة على بلاده، إذا لم تحرز تقدماً على صعيد التوصل إلى اتفاق في شأن برنامجها النووي. وقالت وزارة الخارجية الفرنسية إن الوزراء الأوروبيين أكدوا للوزير الإيراني عباس عراقجي "تصميمهم على استخدام آلية (سناب باك)، التي تسمح بإعادة فرض كل العقوبات الدولية على إيران، في حال عدم إحراز تقدم ملموس" على طريق التوصل "بحلول نهاية الصيف" إلى اتفاق في شأن برنامج طهران النووي. ويضغط الأوروبيون على طهران في محاولة لإقناعها "بضرورة استئناف الجهود الدبلوماسية من دون تأخير، بهدف التوصل إلى اتفاق متين وقابل للتحقق منه ودائم في شأن البرنامج النووي الإيراني"، الذي بات مصيره موضع تكهنات كثيرة منذ استهدفته ضربات عسكرية إسرائيلية وأميركية في يونيو (حزيران). اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) والاتفاق النووي المبرم بين القوى الكبرى وإيران في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة)، الذي انسحبت منه الولايات المتحدة، وبالتالي لم تعد طرفاً فيه خلافاً للأطراف الأخرى (إيران، ومجموعة الدول الأوروبية الثلاث، والصين، وروسيا)، يتضمن بنداً يتيح إعادة فرض العقوبات الأممية على طهران في حال عدم وفائها بالتزاماتها. وهذه الآلية المسماة "سناب باك" (آلية الزناد) ينبغي تفعيلها قبل انتهاء صلاحية خطة العمل الشاملة المشتركة في أكتوبر (تشرين الأول)، ومن هنا يسعى الأوروبيون إلى تحقيق تقدم دبلوماسي مع إيران قبل نهاية أغسطس (آب)، وكانت طهران حذرت الأسبوع الماضي من أن إعادة تفعيل هذه العقوبات ستعني "نهاية دور أوروبا في القضية النووية الإيرانية". وعقد عراقجي والمبعوث الأميركي ستيف ويتكوف خمس جولات من المحادثات منذ أبريل (نيسان) بوساطة عمانية، قبل أن تشن إسرائيل في الـ13 من يونيو حرباً ضد إيران استمرت 12 يوماً، وشاركت فيها الولايات المتحدة بقصف ثلاث منشآت نووية إيرانية.